فِي عِزَّةِ الْمَنَالِ لِأَنَّ الشَّيْءَ النَّفِيسَ عَزِيزٌ عَلَى أَهْلِهِ فَمِنَ الْعَادَةِ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ صَوْنًا لَهُ عَنِ الدُّرُوسِ وَتَنَاوُلِ كَثْرَةِ الْأَيْدِي وَالِابْتِذَالِ، فَالْكِتَابُ هُنَا لَمَّا ذُكِرَ فِي مَقَامِ التَّحَدِّي بِمُعَارَضَتِهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي الم [الْبَقَرَة: ١] كَانَ كَالشَّيْءِ الْعَزِيزِ الْمَنَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَنَاوُلِهِمْ إِيَّاهُ بِالْمُعَارَضَةِ أَوْ لِأَنَّهُ لِصِدْقِ مَعَانِيهِ وَنَفْعِ إِرْشَادِهِ بِعِيدٌ عَمَّنْ يَتَنَاوَلُهُ بِهُجْرِ الْقَوْلِ كَقَوْلِهِم: افْتَراهُ [يُونُس: ٣٨] وَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام:
٢٥]. وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ [الْأَنْعَام: ٩٢] فَذَلِكَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابٍ بَيْنَ يَدَيْ أَهْلِهِ لِتَرْغِيبِهِمْ فِي الْعُكُوفِ عَلَيْهِ وَالِاتِّعَاظِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ. وَلَعَلَّ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» بَنَى عَلَى مِثْلِ مَا بَنَى عَلَيْهِ الرَّضِيُّ فَلَمْ يَعُدَّ: ذلِكَ الْكِتابُ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْظِيمِ أَوِ الِاعْتِبَارِ، فَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» إِذْ لَمْ يُغْفِلْ ذَلِكَ فَقَالَ فِي مُقْتَضَيَاتِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ: أَوْ أَنْ يَقْصِدَ بِبُعْدِهِ تَعْظِيمَهُ كَمَا تَقُولُ فِي مَقَامِ التَّعْظِيمِ ذَلِكَ الْفَاضِلُ وَأُولَئِكَ الْفُحُولُ وَكَقَوْلِهِ عَزَّ وَعَلَا: الم ذلِكَ الْكِتابُ ذَهَابًا إِلَى بُعْدِهِ دَرَجَةً.
وَقَوْلُهُ: الْكِتابُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِقَصْدِ بَيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ إِذَنْ لِلْعَهْدِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ هُوَ جُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (الْكِتَابُ) خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ قَصْرَ حَقِيقَةِ الْكِتَابِ عَلَى الْقُرْآنِ بِسَبَب تَعْرِيف الجزءين فَهُوَ إِذَنْ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌ وَمَعْنَاهُ ذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْجَامِعُ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فِي جِنْسِ الْكُتُبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ إِذَا نُسِبَتْ إِلَيْهِ كَانَتْ كَالْمَفْقُودِ مِنْهَا وَصْفَ الْكِتَابِ لِعَدَمِ اسْتِكْمَالِهَا جَمِيعِ كَمَالَاتِ الْكُتُبِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ قَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُ النُّحَاةُ فِي تَعْدَادِ مَعَانِي لَامِ التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ كَيْفَ يُحْصَرُ الْكِتَابُ فِي أَنَّهُ الم أَوْ فِي السُّورَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامَ الْحَصْرِ وَإِنَّمَا هُوَ مَقَامُ التَّعْرِيفِ لَا غَيْرَ، فَفَائِدَةُ التَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ ظَاهِرِيَّةٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَغْوًا بِحَالٍ وَإِنْ سَبَقَ لِبَعْضِ الْأَوْهَامِ عَلَى بعض احْتِمَال.
و (الْكتاب) فِعَالٌ بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ إِمَّا مَصْدَرُ كَاتَبَ الْمَصُوغُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّ الْمَصْدَرَ يَجِيءُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ، وَإِمَّا فِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَلِبَاسٍ بِمَعْنَى مَلْبُوسٍ وَعِمَادٍ بِمَعْنَى مَعْمُودٍ بِهِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ كَتَبَ بِمَعْنَى جَمَعَ وَضَمَّ لِأَنَّ الْكِتَابَ تُجْمَعُ أَوْرَاقُهُ وَحُرُوفُهُ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكِتَابَةِ كُلِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ وَجَعَلَ لِلْوَحْيِ كِتَابًا، وَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ كِتَابًا إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ كِتَابَتِهِ لِحِفْظِهِ. وَكِتَابَةُ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ دَلِيلًا لِحُكْمِ الْعُمْرَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِهَا: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَخَّصَ فِي تَرْكِهَا وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَابِرِ ابْن عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالنَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى وُجُوبِهِمَا، وَبِه قَالَ عَمْرو ابْن عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَة وَعَطَاء، وطاووس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ، وَمَسْرُوقٌ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
وَدَلِيلُنَا
حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ مِثْلَ الْحَجِّ فَقَالَ:
لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرُوا فَهُوَ أَفْضَلُ»
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
، لِأَن عِبَادَةً مِثْلَ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا بِتَلْفِيقَاتٍ ضَعِيفَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
لَوْلَا التَّحَرُّجُ وَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَقُلْتُ: الْعمرَة وَاجِبَة اهـ مَحَلُّ الِاحْتِجَاجِ قَوْلُهُ: لَمْ أَسْمَعْ إِلَخْ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧] وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عِبَادَتَانِ وَاجَبَتَانِ هُمَا مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ. وَلِأَنَّ شَأْنَ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا أَيْضًا
بِحَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»
وَحَدِيثِ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلم يذكر فيهمَا الْعُمْرَةَ،
وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «لَا أَزْيَدُ وَلَا أَنْقُصُ: فَقَالَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»
وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ وَلَمْ يَحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ قُرِنَتْ فِيهَا مَعَ الْحَجِّ، وَبِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَبِالِاحْتِيَاطِ.
وَاحْتَجَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَنْعِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ الْحِلِّ مِنْهَا فِي مُدَّةِ الْحَجِّ ثُمَّ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ ذَلِكَ قَبْلَ الرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ،
فَفِي الْبُخَارِيِّ أَخْرَجَ حَدِيثَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ فَجِئْتُ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ (عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ فَقُلْتُ: أَهْلَلْتُ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ قَالَ: أَحْسَنْتَ هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ! قُلْتُ: لَا، فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وبالصفا والمروة ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَّطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهَلَلْتُ بِالْحَجِّ فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِهِ حَتَّى خِلَافَةِ عُمَرَ فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ تَعَالَى:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ
، يُرِيدُ عُمَرُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ أَبَا مُوسَى أَهَّلَ بِإِهْلَالٍ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ
وَالتُّكْلَةِ والتؤدة وَالتُّخْمَةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِإِبْدَالِ الْفَاءِ تَاءً فِي مِثْلِ تُقَاةٍ إِلَّا هَذَا. وَشَذَّ تُرَاثٌ. يَدُلُّ لِهَذَا الْمَقْصِدِ قَوْلُ الْجَوْهَرِيِّ: «وَقَوْلُهُمْ تُجَاهَكَ بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِمُ اتَّجَهَ لَهُمْ رَأْيٌ». وَفِي «اللِّسَانِ» فِي تُخْمَةٍ، «لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا التَّاءَ أَصْلِيَّةً لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ». وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا قَرْنُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَ أَفْعَالِهَا فِي نَحْوِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَحْوِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمرَان: ١٠٢] وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ مُشَدَّدَةً بِوَزْنِ فَعِيلَةٍ.
وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ بِالْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ هُنَا: الْإِشَارَةُ إِلَى تَحَقُّقِ كَوْنِ الْحَالَةِ حَالَةَ تَقِيَّةٍ، وَهَذِهِ التَّقِيَّةُ مِثْلُ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْهِجْرَةِ، قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦] وَمِثْلُ الْحَالَةِ الَّتِي لَقِيَهَا مُسْلِمُو الْأَنْدَلُسِ حِينَ أَكْرَهَهُمُ النَّصَارَى عَلَى الْكُفْرِ فَتَظَاهَرُوا بِهِ إِلَى أَنْ تَمَكَّنَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، وَطَوَائِفُ مِنِ اسْتِئْذَانِ الْكُفَّارِ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَأَذِنَ لَهُمُ الْعَدُوُّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ التُّقَاةُ غَيْرَ دَائِمَةٍ لِأَنَّهَا إِذَا طَالَتْ دَخَلَ الْكُفْرُ فِي الذَّرَارِي.
وَقَوْلُهُ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَمِنَ التَّسَاهُلِ فِي دَعْوَى التَّقِيَّةِ وَاسْتِمْرَارِهَا أَوْ طُولِ زَمَانِهَا.
وَانْتِصَابُ نَفْسَهُ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَأَصْلُهُ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا النَّزْعُ هُوَ أَصْلُ انْتِصَابِ الِاسْمَيْنِ فِي بَابِ التَّحْذِيرِ فِي قَوْلِهِمْ إِيَّاكَ الْأَسَدَ، وَأَصْلُهُ أُحَذِّرُكَ مِنَ الْأَسَدِ.
وَقَدْ جُعِلَ التَّحْذِيرُ هُنَا مِنْ نَفْسِ اللَّهِ أَيْ ذَاتِهِ لِيَكُونَ أَعَمَّ فِي الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ غَضَبَهُ لَتُوُهِّمَ أَنَّ لِلَّهِ رِضًا لَا يَضُرُّ مَعَهُ، تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَالْعَرَبُ إِذَا أَرَادَتْ تَعْمِيمَ أَحْوَالِ الذَّاتِ عَلَّقَتِ الْحُكْمَ بِالذَّاتِ: كَقَوْلِهِمْ لَوْلَا فُلَانٌ لَهَلَكَ فُلَانٌ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح: ٢٥] وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَعْلِيقُ شَرْطِ لَوْلَا عَلَى الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الَّذِي سَوَّغَ حَذْفَ الْخَبَرِ بَعْدَ لَوْلَا.
وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ النَّفْسِ مُضَافًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعُقُودِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَة: ١١٦].
وَهَذَا إِعْذَارٌ وَمَوْعِظَةٌ وَتَهْدِيدٌ بِالْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.
وَتَتْرُكُوا الْحَلَالَ أَيْ لَوِ اهْتَمَمْتُمْ بِإِنْتَاجِ أَمْوَالِكُمْ وَتَوْفِيرِهَا بِالْعَمَلِ وَالتَّجْرِ لَكَانَ لَكُمْ مِنْ خِلَالِهَا مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنِ الْحَرَامِ، فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُنَا هُوَ ضِدُّ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ قَبْلُ تَأْكِيدًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنَّ النَّهْيَ بَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الشَّنَاعَةِ إِذَا لَمْ يُمْتَثَلِ الْأَمْرُ، وَهَذَا الْوَجْه ينبىء عَن جعل التبدّل مَجَازًا وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الِاسْتِعْمَالِ. وَعَنِ السُّدِّيِّ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ نَهْيٌ ثَالِثٌ عَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَضَمِّهَا إِلَى أَمْوَالِ أَوْلِيَائِهِمْ، فَيَنْتَسِقُ فِي الْآيَةِ أَمْرٌ وَنَهْيَانِ: أُمِرُوا أَنْ لَا يَمْنَعُوا الْيَتَامَى مِنْ مَوَارِيثِهِمْ ثُمَّ نُهُوا عَنِ اكْتِسَابِ الْحَرَامِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ أَوْ بَعْضِهَا، وَالنَّهْيُ وَالْأَمْرُ الْأَخِيرُ تَأْكِيدَانِ لِلْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَالْأَكْلُ اسْتِعَارَةٌ لِلِانْتِفَاعِ الْمَانِعِ مِنَ انْتِفَاعِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمِلْكُ التَّامُّ، لِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ أَقْوَى أَحْوَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُهُ فِي دَاخِلِ جَسَدِهِ، وَلَا مَطْمَعَ فِي إِرْجَاعِهِ، وَضَمَّنَ تَأْكُلُوا مَعْنَى تَضُمُّوا فَلذَلِك عدي بإلى أَيْ: لَا تَأْكُلُوهَا بِأَنْ تَضُمُّوهَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ.
وَلَيْسَ قَيْدُ إِلى أَمْوالِكُمْ مَحَطَّ النَّهْيِ، بَلِ النَّهْي وَاقع على أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِلْآكِلِ مَالٌ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَالَ يَتِيمِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ وُجُودَ أَمْوَالٍ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى التَّكَثُّرَ، ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ رَعْيًا لِلْغَالِبِ، وَلِأَنَّهُ أُدْخِلَ فِي النَّهْيِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يَأْكُلُونَ حُقُوقَ النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ عَلَى أَنَّ التَّضْمِينَ لَيْسَ مِنَ التَّقْيِيدِ بَلْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ نَهْيَيْنِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَجَنَّبُوا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالَطَةَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى فَنَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ [٢٢٠] : وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ
فَقَدْ فَهِمُوا أَنَّ ضَمَّ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَى مَالِ الْوَصِيِّ حَرَامٌ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَشْمُولًا لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَكْلِ وَلَكِنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الضَّمِّ. وَهُمَا فِي فَهْمِ الْعَرَبِ نَهْيَانِ، وَلَيْسَ هُوَ نَهْيًا عَنْ أَكْلِ الْأَغْنِيَاءِ أَمْوَالَ الْيَتَامَى حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْفُقَرَاءِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ لَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِذْ لَيْسَ الْأَدْوَنُ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ.
وَالْحُوبُ- بِضَمِّ الْحَاءِ- لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبِفَتْحِهَا- لُغَةُ تَمِيمٍ، وَقِيلَ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ،
وَمَعْنَاهُ الْإِثْمُ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ: لِمَوْقِعِ إِنَّ مِنْهَا، أَيْ نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا، أَتَى بهَا تميهدا لِقَوْلِهِ: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فَهِيَ مُرَادٌ بِهَا مَعْنَاهَا الْكِنَائِيُّ الَّذِي هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ، وَلِذَلِكَ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَكِيلًا. فَقَدْ تَكَرَّرَتْ جُمْلَةُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هُنَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَتَالِيَاتٍ مُتَّحِدَةً لَفْظًا وَمَعْنًى أَصْلِيًّا، وَمُخْتَلِفَةَ الْأَغْرَاضِ الْكِنَائِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهَا، وَسَبَقَتْهَا جُمْلَةٌ نَظِيرَتُهُنَّ: وَهِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً [النِّسَاء: ١٢٦]. فَحَصَلَ تَكْرَارُهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كَلَامٍ مُتَنَاسِقٍ.
فَأَمَّا الْأُولَى السَّابِقَةُ فَهِيَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ١١٦]، وَلِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً [النِّسَاء: ١١٦]، وَالتَّذْيِيلِ لَهُمَا، وَالِاحْتِرَاسِ لِجُمْلَةِ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النِّسَاء: ١٢٥]، كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَوَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَهِيَ عِلَّةٌ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَقْوَاكُمْ وَإِيمَانِكُمْ فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ وَلَا يَزَالُ غَنِيًّا حَمِيدًا. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ الَّتِي تَلِيهَا فَعَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ وَكَيْلٌ عَلَيْكُمْ وَوَكِيلٌ عَنْ رَسُولِهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا.
وَجُمْلَةُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفْرِيعِ عَنْ قَوْلِهِ: غَنِيًّا حَمِيداً. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ لِلنَّاسِ كُلِّهِمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْخِطَابَ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِهَذَا النِّدَاءِ. وَمَعْنَى يَأْتِ بِآخَرِينَ يُوجِدُ نَاسًا آخَرِينَ يَكُونُونَ خَيْرًا مِنْكُمْ فِي تَلَقِّي الدِّينِ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ بقوله: بِآخَرِينَ أَنَّ الْمَعْنَى بِنَاسٍ آخَرِينَ غَيْرِ كَافِرِينَ، عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ فِي الْوَصْفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ أَوْ أُخْرَى، بَعْدَ ذِكْرِ مُقَابِلٍ
لِلْمَوْصُوفِ، أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِكَلِمَةِ آخَرَ بَعْضًا مِنْ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا جَعَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ جِنْسًا فِي كَلَامِهِ، بِالتَّصْرِيحِ أَوِ التَّقْدِيرِ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ إِلَى لُزُومِ ذَلِكَ، وَاحْتَفَلَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحَرِيرِيُّ فِي «دُرَّةِ الْغَوَّاصِ». وَحَاصِلُهَا: أَنَّ الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ، وَالْحَرِيرِيَّ، وَالرَّضِيَّ، وَابْنَ يَسْعُونَ، وَالصِّقِلِّيَّ، وَأَبَا حَيَّانَ، ذَهَبُوا إِلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَوْصُوفِ بِكَلِمَةِ آخَرَ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا مَعَ جِنْسِ مَا عُطِفَ هُوَ
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مَوْقِعَ التَّخَلُّصِ الْمَقْصُودِ، فَجَاءَتِ الْآيَاتُ كُلُّهَا مُنْتَظِمَةً مُتَنَاسِقَةً عَلَى أَبْدَعِ وَجْهٍ.
وَالْكِتَابُ الْأَوَّلُ الْقُرْآنُ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْعَهْدِ. وَالْكِتَابُ الثَّانِي جِنْسٌ يَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، فَتَعْرِيفُهُ لِلْجِنْسِ. وَالْمُصَدِّقُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَالْمُهَيْمِنُ الْأَظْهَرُ أَنَّ هَاءَهُ أَصْلِيَّةٌ وَأَنَّ فِعْلَهُ بِوَزْنِ فَيْعَلَ كَسَيْطَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ فَلَمْ يُسْمَعْ هَمَنَ.
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ لَا نَظِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ إِلَّا هَيْنَمَ إِذَا دَعَا أَوْ قَرَأَ، وَبَيْقَرَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، وَسَيْطَرَ إِذَا قَهَرَ. وَلَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي وَزْنِ مُفَيْعِلٍ إِلَّا اسْمُ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَزَادُوا مُبَيْطِرٌ اسْمُ طَبِيبِ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُسْمَعْ بَيْطَرَ وَلَكِنْ بَطَرَ، وَمُجَيْمِرٌ اسْمُ جَبَلٍ، ذَكَرَهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي قَوْلِهِ:

كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ الْمُجَيْمِرِ غَدْوَةً مِنَ السَّيْلِ وَالْغُثَاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
وَفُسِّرَ الْمُهَيْمِنُ بِالْعَالِي وَالرَّقِيبِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُهَيْمِنُ.
وَقِيلَ: الْمُهَيْمِنُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَمِنَ، وَأَصْلُهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ آمَنَهُ عَلَيْهِ بِمَعْنَى اسْتَحْفَظَهُ بِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الرَّقَابَةُ، فَأَصْلُهُ مُؤَأْمِنٌ، فَكَأَنَّهُمْ رَامُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ آمَنَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ وَبِمَعْنَى آمَنُهُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ صَارَ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ يَاءً وَقَلَبُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى هَاءً، كَمَا قَالُوا فِي أَرَاقَ هَرَاقَ، فَقَالُوا: هَيْمَنَ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى حَالَتَيِ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مُؤَيِّدٌ لِبَعْضِ مَا
فِي الشَّرَائِعِ مُقَرِّرٌ لَهُ مِنْ كُلِّ حُكْمٍ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ كُلِّيَّةً لَمْ تَخْتَلِفْ مَصْلَحَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالْأَزْمَانِ، وَهُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ مُصَدِّقٌ، أَيْ مُحَقِّقٌ وَمُقَرِّرٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُبْطِلٌ لِبَعْضِ مَا فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَنَاسِخٌ لِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كُلِّ مَا كَانَتْ مَصَالِحُهُ جُزْئِيَّةً مُؤَقَّتَةً مُرَاعًى فِيهَا أَحْوَالُ أَقْوَامٍ خَاصَّةٍ.
(٤١)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يَتَضَمَّنُ تَهْدِيدًا بِالْوَعِيدِ طَرْدًا لِلْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ، وَتَخَلَّلَهُ تَعْرِيضٌ بِالْحَثِّ عَلَى خَلْعِ الشِّرْكِ إِذْ لَيْسَ لِشُرَكَائِهِمْ نَفْعٌ بِأَيْدِيهِمْ، فَذُكِّرُوا بِأَحْوَالٍ قَدْ تعرض لَهُم يلجأون فِيهَا إِلَى اللَّهِ. وَأُلْقِي عَلَيْهِم سَأَلَ أَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَهَلْ
يَسْتَمِرُّونَ مِنَ الْآنَ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أَوْ تَأْتِيَهُمُ الْقِيَامَة حِين يلجأون إِلَى الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَلَاتَ حِينَ إِيمَانٍ.
وَافْتَتَحَ هَذَا التَّهْدِيدَ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ اهْتِمَامًا بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ مُعْظَمَ مَا فِي الْقُرْآنِ مَأْمُورٌ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ. وَقَدْ تَتَابَعَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ بَعْدَ هَذِهِ إِلَى قَوْلِهِ: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الْأَنْعَام: ٦٧] اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَوَرَدَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَقَوْلُهُ: أَرَأَيْتَكُمْ تَرْكِيبٌ شَهِيرُ الِاسْتِعْمَالِ، يُفْتَتَحُ بِمِثْلِهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ. وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ.
وَ (رَأَى) فِيهِ بِمَعْنَى الظَّنِّ. يُسْنَدُ إِلَى تَاءِ خِطَابٍ تُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً مُلَازِمَةً حَرَكَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْفُتْحَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَدَدِ الْمُخَاطَبِ وَصِنْفِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُفْرَدًا أَوْ غَيْرَهُ، مُذَكَّرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيُجْعَلُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ غَالِبًا ضَمِيرَ خِطَابٍ عَائِدًا إِلَى فَاعِلِ الرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ وَمُسْتَغْنًى بِهِ لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ نَفْسَهُ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، فَالْمُخَاطَبُ فَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ أَفْعَالِ بَابِ الظَّنِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا وَمَفْعُولُهَا وَاحِدًا (وَأُلْحِقَ بِأَفْعَالِ الْعِلْمِ فِعْلَانِ: فَقَدَ، وَعَدِمَ فِي الدُّعَاءِ نَحْوَ فَقَدْتُنِي)، وَتَقَعُ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ مَفْعُولِهِ الثَّانِي، وَقَدْ يَجِيءُ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ مَا يُعَلِّقُ فِعْلَ الرُّؤْيَةِ عَنِ الْعَمَلِ.
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَحْلِيلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. وَبَعْضُ النُّحَاةِ يَجْعَلُ تِلْكَ الْجُمْلَةَ سَادَّةً مسدّ المفعولين تفصّيا مِنْ جَعْلِ ضَمَائِرِ الْخِطَابِ مَفَاعِيلَ إِذْ يَجْعَلُونَهَا مُجَرَّدَ عَلَامَاتِ خِطَابٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، وَذَلِكَ حِفَاظًا عَلَى مُتَعَارَفِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْأَصْلِيِّ الْمُتَعَارَفِ مَعَ أَنَّ لِغَرَائِبَ الِاسْتِعْمَالِ أَحْوَالًا خَاصَّةً لَا يَنْبَغِي غَضُّ النَّظَرِ عَنْهَا إِلَّا إِذَا قُصِدَ بَيَانُ أَصْلِ الْكَلَامِ أَوْ عَدَمُ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ هُوَ أَشَدُّ
يَتَعَلَّقُ بِالْجِبَالِ لِأَنَّ النَّحْتَ يَتَعَلَّقُ بِحِجَارَةِ الْجِبَالِ، وَانْتَصَبَ بُيُوتاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْجِبَالِ، أَيْ صَائِرَةً بَعْدَ النَّحْتِ بُيُوتًا، كَمَا يُقَالُ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ قَمِيصًا، وَابْرِ هَذِهِ الْقَصَبَةَ قَلَمًا، لِأَنَّ الْجَبَلَ لَا يَكُونُ حَالُهُ حَالَ الْبُيُوتِ وَقْتَ النَّحْتِ، وَلَكِنْ يَصِيرُ بُيُوتًا بَعْدَ النَّحْتِ.
وَمَحَلُّ الِامْتِنَانِ هُوَ أَنْ جَعَلَ مَنَازِلَهُمْ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ صَالِحٌ لِلْبِنَاءِ فِيهِ، وَقِسْمٌ صَالِحٌ لِنَحْتِ الْبُيُوتِ، قِيلَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ فِي الصَّيْفِ الْقُصُورَ، وَفِي الشِّتَاءِ الْبُيُوتَ الْمَنْحُوتَةَ فِي الْجِبَالِ.
وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ تَفْرِيعُ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ نِعْمَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِذِكْرِ جَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي لَا يُحْصُونَهَا، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التّذييل.
وَفعل: فَاذْكُرُوا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَصْدَرِ، الَّذِي هُوَ بِضَمِّ الذَّالِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ بِالْعَقْلِ وَالنَّظَرِ النَّفْسَانِيِّ، وَتَذَكُّرُ الْآلَاءِ يَبْعَثُ عَلَى الشُّكْرِ وَالطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْفَسَادِ، فَلِذَلِكَ عَطَفَ نَهْيَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عَلَى الْأَمْرِ بِذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ.
وَلا تَعْثَوْا مَعْنَاهُ وَلَا تُفْسِدُوا، يُقَالُ: عَثِيَ كَرَضِيَ، وَهَذَا الْأَفْصَحُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْآيَةِ- بِفَتْحِ الثَّاءِ- حِينَ أُسْنِدَ إِلَى وَاوِ الْجَمَاعَةِ، وَيُقَالُ عَثَا يَعْثُو- مِنْ بَابِ سَمَا- عَثْوًا وَهِيَ لُغَةٌ دُونَ الْأُولَى، وَقَالَ كُرَاعٌ، كَأَنَّهُ مَقْلُوبُ عَاثَ. وَالْعَثْيُ وَالْعَثْوُ كُلُّهُ بِمَعْنَى أَفْسَدَ أَشَدَّ الْإِفْسَادِ.
ومفسدين حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى تَعْثَوْا وَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنَ الْمُؤَكَّدِ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ يَحْصُلُ بِبَعْضِ معنى المؤكّد.
[٧٥، ٧٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٧٥ إِلَى ٧٦]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ
لِجُمْلَةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٩٣] أَيْ لِأَنَّهُمْ عِبَادٌ أَيْ مَخْلُوقُونَ.
وَ (الْعَبْدُ) أَصْلُهُ الْمَمْلُوكُ، ضِدَّ الْحُرِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [الْبَقَرَة: ١٧٨] وَقَدْ أُطْلِقَ فِي اللِّسَانِ عَلَى الْمَخْلُوقِ: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَم: ٩٣] وَلذَلِك يُطلق العَبْد عَلَى النَّاسِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ فَيَكُونُ إِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَى الْأَصْنَامِ كَإِطْلَاقِ ضَمِيرِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الشَّائِعِ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْإِطْلَاقِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِطْلَاقَ تَهَكُّمٍ وَاسْتِهْزَاءٍ بِالْمُشْرِكِينَ، يَعْنِي أَنَّ قصارى أَمرهم أَن يَكُونُوا أَحْيَاءً عُقَلَاءَ فَلَوْ بَلَغُوا تِلْكَ الْحَالَةَ لَمَا كَانُوا إِلَّا مَخْلُوقِينَ مِثْلَكُمْ، قَالَ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا بِقَوْلِهِ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ [الْأَعْرَاف: ١٩٥] إِلَى آخِرِهِ.
وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ رُوعِيَ فِي حُسْنِهِ الْمُشَاكَلَةُ التَّقْدِيرِيَّةُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاثَلَهُمْ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ وَكَانَ الْمُخَاطَبُونَ عِبَادَ اللَّهِ أَطْلَقَ الْعِبَادَ عَلَى مُمَاثَلِيهِمْ مُشَاكَلَةً.
وَفَرَّعَ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ أَمْرَ التَّعْجِيزِ بِقَوْلِهِ فَادْعُوهُمْ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ بِاعْتِبَارِ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ المضمن إِجَابَةَ الْأَصْنَامِ إِيَّاهُمْ، لِأَنَّ نَفْسَ الدُّعَاءِ مُمْكِنٌ وَلَكِنَّ اسْتِجَابَتَهُ لَهُمْ لَيْسَتْ مُمْكِنَةً، فَإِذَا دَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ تَبَيَّنَ عَجْزُ الْآلِهَةِ عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لَهُمْ، وَعَجْزُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ تَحْصِيلِهَا مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِهَا لانهاض حجتهم، فئال ظُهُورُ عَجْزِ الْأَصْنَامِ عَنْ الِاسْتِجَابَةِ لِعِبَادِهَا إِلَى إِثْبَاتِ عَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ نُهُوضِ حُجَّتِهِمْ لِتَلَازُمِ الْعَجْزَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ [فاطر: ١٤].
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّعْوَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا الدَّعْوَةُ لِلنَّصْرِ وَالنَّجْدَةِ كَمَا قَالَ وَذَاكَ الْمَازِنِيُّ إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَمْرَ التَّعْجِيزِ كِنَايَةٌ عَنْ ثُبُوتِ عَجْزِ الْأَصْنَامِ عَنْ إِجَابَتِهِمْ، وَعَجْزِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ إِظْهَارِ دُعَاءٍ لِلْأَصْنَامِ تَعْقُبُهُ الِاسْتِجَابَةُ.
وَالْأَمْرُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَسْتَجِيبُوا أَمْرَ تَعْجِيزٍ لِلْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَمْرُ الْغَائِبِ فَإِنَّ طَرِيقَ أَمْرِ الْغَائِبِ هُوَ الْأَمْرُ.
أَنِّي مُسْتَهْتَرٌ بِالنِّسَاءِ فَإِنِّي إِذَا رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ افْتَتَنْتُ بِهِنَّ فَأْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلَا تَفْتِنِّي وَأَنَا أُعِينُكَ بِمَالِي، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَلَعَلَّ كُلَّ ذَلِكَ كَانَ.
وَالْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي جُمْلَةِ أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ عَجِيبِ حَالِهِمْ إِذْ عَامَلَهُمُ اللَّهُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِمْ فَهُمُ احْتَرَزُوا عَنْ فِتْنَةٍ فَوَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ إِذْ لَا مَعْهُودَ هُنَا، وَلَكِنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُؤْذِنُ بِكَمَالِ الْمُعَرَّفِ فِي جِنْسِهِ، أَيْ فِي الْفِتْنَةِ الْعَظِيمَةِ سَقَطُوا، فَأَيُّ وَجْهٍ فُرِضَ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْفِتْنَةِ حِينَ قَالَ قَائِلُهُمْ وَلا تَفْتِنِّي كَانَ مَا وَقَعَ فِيهِ أَشَدَّ مِمَّا تَفَصَّى مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ الدِّينِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي أَعْظَمِ الْفِتْنَةِ بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ، وَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ سُوءِ السُّمْعَةِ بِالتَّخَلُّفِ فَقَدْ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ بِافْتِضَاحِ أَمْرِ نِفَاقِهِمْ، وَإِنْ أَرَادَ فِتْنَةَ النَّكَدِ بِفِرَاقِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ فَقَدْ وَقَعَ فِي أَعْظَمِ نَكَدٍ بِكَوْنِهِ مَلْعُونًا مَبْغُوضًا لِلنَّاسِ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ الْفِتْنَةِ قَرِيبًا.
وَالسُّقُوطُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْكَوْنِ فَجْأَةً عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ: شُبِّهَ ذَلِكَ الْكَوْنُ بِالسُّقُوطِ فِي عَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَفِي الْمُفَاجَأَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي الْفِتْنَةِ فِي حَالِ أَمْنِهِمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، فَهُمْ كَالسَّاقِطِ فِي هُوَّةٍ عَلَى حِينِ ظَنَّ أَنَّهُ مَاشٍ فِي طَرِيقٍ سَهْلٍ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ».
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ، لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَسِيرُ مَسْرَى الْمَثَلِ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ مُعْتَرِضَةٌ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَيْ وَقَعُوا فِي الْفِتْنَةِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الْكُفْرِ. وَالْكُفْرُ يَسْتَحِقُّ جَهَنَّمَ.
وَإِحَاطَةُ جَهَنَّمَ مُرَادٌ مِنْهَا عَدَمُ إِفْلَاتِهِمْ مِنْهَا، فَالْإِحَاطَةُ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِفْلَاتِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: جَمِيعُ الْكَافِرِينَ فَيَشْمَلُ الْمُتَحَدِّثَ عَنْهُمْ لِثُبُوتِ كُفْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ٤٥].
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِهِمْ إِلَى الْإِتْيَانِ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ إِثْبَاتُ إِحَاطَةِ جَهَنَّمَ بِهِمْ بِطَرِيقٍ شَبِيهٍ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ شُمُولَ الِاسْمِ الْكُلِّيِّ لِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ أَشْهَرُ أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال.
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعْطَفَ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ دَفْعَ هَذَا الْحُزْنِ يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ النَّفْيِ وَلَكِنْ عُدِلَ إِلَى الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِيُعْطِيَ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ اسْتِقْلَالًا بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ فَيَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ مَعْنَى التَّفْرِيعِ لِظُهُورِهِ مِنَ السِّيَاقِ. وَالْحُزْنُ الْمَنْهِيُّ عَنْ تَطَرُّقِهِ هُوَ الْحُزْنُ النَّاشِئُ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْوَالِهِمُ الْبَذِيئَةِ وَتَهْدِيدَاتِهِمْ. وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى دَحْضِهِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْقَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَحْزَنًا إِلَّا أَذَى القَوْل الْبَذِيء.
وَصِيغَةُ لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ خِطَابٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَظَاهِرُ صِيغَتِهِ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ أَنْ يُحْزِنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ أَنَّ شَأْنَ النَّهْيِ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ بِهِ إِلَى مَنْ فَعَلَ الْفِعْلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ نَهْيُ النَّبِيءِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ أَنْ يَتَأَثَّرَ بِمَا شَأْنُهُ أَنْ يُحْزِنَ النَّاسَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ، فَلَمَّا وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ عَمَلٍ هُوَ
مِنْ عَمَلِ غَيْرِهِ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْكِنَايَةُ عَنْ نَهْيِهِ هُوَ عَنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْحُزْنِ فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ عَنْ نَفْسِهِ أَسبَابه وملزوماته فيؤول إِلَى مَعْنَى لَا تَتْرُكْ أَقْوَالَهُمْ تُحْزِنْكَ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُونَ: لَا أَرَيَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، وَلَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلْ كَذَا، فَالْمُتَكَلِّمُ يَنْهَى الْمُخَاطَبَ عَنْ أَنْ يَرَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَاعِلًا كَذَا. وَالْمُرَادُ نَهْيُهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَرَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ. وَالْمَعْنَى: لَا تَفْعَلَنَّ كَذَا فَأَرَاكَ تَفْعَلُهُ. وَمَعْنَى لَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ لَا تَحْزَنْ لِقَوْلِهِمْ فَيُحْزِنَكَ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ الَّتِي تُحْزِنُ النَّبِيءَ هِيَ أَقْوَالُ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، فَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ الْقَوْلِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَصْدَرِ الْفِعْلِ اللَّازِمِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً تَعْلِيلٌ لِدَفْعِ الْحُزْنِ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ كَأَنَّ النَّبِيءَ يَقُولُ: كَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَالْمُشْرِكُونَ يَتَطَاوَلُونَ عَلَيْنَا وَيَتَوَعَّدُونَنَا وَهُمْ أَهْلُ عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ عِزَّتَهُمْ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهَا مَحْدُودَةٌ وَزَائِلَةٌ وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَكَ.
وَهِيَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ اسْتِئْنَافٍ بَيَانِيٍّ. وَكُلُّ جُمْلَةٍ كَانَ مَضْمُونُهَا عِلَّةً لِلَّتِي قَبْلَهَا تَكُونُ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، فَالِاسْتِئْنَافُ الْبَيَانِيُّ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيلِ.
وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخَاهُ أَحَبُّ إِلَى يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى بَاطِلَةً أَثَارَ اعْتِقَادُهَا فِي نُفُوسِهِمْ شِدَّةَ الْغَيْرَةِ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ عَلَيْهِمْ فِي الْكَمَالَاتِ وَرُبَّمَا سَمِعُوا ثَنَاءَ أَبِيهِمْ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ فِي أَعْمَالٍ تَصْدُرُ مِنْهُمَا أَوْ شَاهَدُوهُ يَأْخُذُ بِإِشَارَتِهِمَا أَوْ رَأَوْا مِنْهُ شَفَقَةً عَلَيْهِمَا لِصِغَرِهِمَا وَوَفَاةِ أُمِّهِمَا فَتَوَهَّمُوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَشَدُّ حُبًّا إِيَّاهُمَا مِنْهُمْ تَوَهُّمًا بَاطِلًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ دَعْوَاهُمْ مُطَابِقَةً لِلْوَاقِعِ وَتَكُونَ زِيَادَةُ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَمْرًا لَا يَمْلِكُ صَرْفَهُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ وِجْدَانٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤْثِرُهُمَا عَلَيْهِمْ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأُمُورِ الظَّاهِرِيَّةِ وَيَكُونُ أَبْنَاؤُهُ قَدْ عَلِمُوا فَرْطَ مَحَبَّةِ أَبِيهِمْ إِيَّاهُمَا مِنَ التَّوَسُّمِ وَالْقَرَائِنِ لَا مِنْ تَفْضِيلِهِمَا فِي الْمُعَامَلَةِ فَلَا يَكُونُ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُؤَاخَذًا بِشَيْءٍ يُفْضِي إِلَى التَّبَاغُضِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ.
وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَحَبُّ، أَيْ وَنَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَالِ التَّعَجُّبُ مِنْ تَفْضِيلِهِمَا فِي الْحُبِّ فِي حَالِ أَنَّ رَجَاءَ انْتِفَاعِهِ مِنْ
إِخْوَتِهِمَا أَشَدُّ مِنْ رَجَائِهِ مِنْهُمَا، بِنَاءً عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْبَدْوِ مِنَ الِاعْتِزَازِ بِالْكَثْرَةِ، فَظَنُّوا مَدَارِكَ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مُسَاوِيَةً لِمَدَارِكِ الدَّهْمَاءِ، وَالْعُقُولُ قَلَّمَا تُدْرِكُ مَرَاقِي مَا فَوْقَهَا، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكَمَالِ مِنْ أَسْبَابِ التَّفْضِيلِ غَيْرُ مَا يَنْظُرُهُ مَنْ دُونَهُمْ.
وَتَكُونُ جُمْلَةُ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ تَعْلِيلًا لِلتَّعَجُّبِ وَتَفْرِيعًا عَلَيْهِ، وَضَمِيرُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ لِجَمِيعِ الْإِخْوَةِ عَدَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخَاهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا. وَالْمَقْصُودُ لَازِمُ الْخَبَرِ وَهُوَ تَجْرِئَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَنْ إِتْيَانِ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُغْرِيهِمْ بِهِ فِي قَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا يُوسُفَ [سُورَة يُوسُفَ: ٩]، أَيْ إِنَّا لَا يُعْجِزُنَا الْكَيْدُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَأَخِيهِ فَإِنَّا عُصْبَةُ وَالْعُصْبَةُ يَهُونُ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُهُ الْعَدَدُ الْقَلِيلُ كَقَوْلِهِ:
هُوَ الْقِيَاسُ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ سَنَدُ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ. وَقَدْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَسَبَقَهُمَا فِي ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَخْفَشُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ النَّحَّاسِ وَلَمْ يَطَّلِعِ الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى نِسْبَةِ ذَلِكَ الْبَيْتِ لِلْأَغْلَبِ الْعجلِيّ.
وَالَّذِي يظْهر لِي أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ قَرَأَ بِهَا بَنُو يَرْبُوعٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَبَنُو عِجْلِ بْنِ لُجَيْمٍ مِنْ بَكْرِ بن وَائِل، فقرأوا بِلَهْجَتِهِمْ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ للقبائل أَن يقرأوا الْقُرْآنَ بِلَهَجَاتِهِمْ وَهِيَ الرُّخْصَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَة أحرف فاقرأوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّادِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الرُّخْصَةُ بِقِرَاءَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْوَامِ الْأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِ الْمُبَارَكَةِ وَلم يثبت مِمَّا يَنْسَخُهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى قَبُولِ كُلِّ قِرَاءَةٍ صَحَّ سَنَدُهَا وَوَافَقَتْ وَجْهًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ تُخَالِفْ رَسْمَ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُتَوَفِّرَةٌ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ هَذِهِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا فَقُصَارَى أَمْرِهَا أَنَّهَا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا يَنْطِقُ بِهِ أَحَدُ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ على لُغَة بعض قَبَائِلِهَا بِحَيْثُ لَو قرىء بِهَا فِي الصَّلَاةِ لَصَحَّتْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ اسْتِئْنَافُ تَنَصُّلٍ آخَرَ مِنْ تَبِعَاتِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ قُصِدَ مِنْهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُ
شدَّة التبري مِنْ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ مُضِيِّ كَفَرْتُ مُضِيَّ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، أَيْ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ أَظْهَرَ بِهِ التَّذَلُّلَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْشَاءَ عَدَمِ الرِّضَى بِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فَهُوَ نَدَامَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ حَيْثُ لَا يُقْبَلُ مَتَابٌ.
ومِنْ قَبْلُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَشْرَكْتُمُونِ.
وَالْإِشْرَاكُ الَّذِي كَفَرَ بِهِ إِشْرَاكُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ بِأَنْ عَبَدُوهُ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، فَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ جِنْسَ الشَّيْطَانِ مُبَاشَرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةِ آلِهَتِهِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ فِي يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ مُحَسِّنٌ بديع الطباق.
[٧٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٣]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَتَيِ التَّوْبِيخِ وَهُوَ مَزِيدٌ مِنَ التَّوْبِيخِ فَإِنَّ الجملتين الْمَعْطُوف عَلَيْهِمَا أفادتا تَوْبِيخًا عَلَى إِيمَانِهِمْ بالآلهة الْبَاطِل وكفرهم بِنِعْمَةِ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ أَفَادَتْ التَّوْبِيخَ عَلَى شُكْرِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ شُكْرٌ، فَهُمْ عَبَدُوا مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَلَا بِيَدِهِ نِعْمَةٌ، وَهُوَ الْأَصْنَامُ، لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَا يَأْتِيهِمْ مِنَ الرِّزْقِ لِاحْتِيَاجِهَا، وَلَا تَسْتَطِيعُ رِزْقَهُمْ لِعَجْزِهَا. فَمُفَادُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُؤَكِّدٌ لِمُفَادِ مَا قَبْلَهَا مَعَ اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ بِمُوجِبِ التَّوْبِيخِ فِي كِلْتَيْهِمَا.
وَمِلْكُ الرِّزْقِ الْقُدْرَةُ عَلَى إِعْطَائِهِ. وَالْمِلْكُ يُطْلَقُ عَلَى الْقُدْرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
وَالرِّزْقُ هُنَا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أَيْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ.
ومِنْ فِي مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ رِزْقًا مَوْصُوفًا بِوُرُودِهِ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وشَيْئاً مُبَالَغَةٌ فِي الْمَنْفِيِّ، أَيْ وَلَا يملكُونَ جُزْءا قَلِيلًا مِنَ الرِّزْقِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ رِزْقاً. فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَفْعُولُ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ.
ذَنَبِ كُلِّ شَخْصٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ مُمَاثِلٌ لِجَسَدِهِ كَمَا تَنْبُتُ مِنَ النَّوَاةِ شَجَرَةٌ مُمَاثِلَةٌ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي أَثْمَرَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ النَّوَاةِ.
وَوَصْفُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ، وَكَوْنُهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوَلَمْ يَرَوْا لِتَأْوِيلِهَا بِمَعْنَى قَدْ رَأَوْا ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُمْ عُقُولٌ، أَيْ تَحَقَّقُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَقَدْ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَالْأَجْلُ: الزَّمَانُ الْمَجْعُولُ غَايَةً يُبْلَغُ إِلَيْهَا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى امْتِدَادِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُقَدَّرَةُ لِكُلِّ حَيٍّ بِحَسَبِ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ سَلَامَةِ آلَاتِ الْجِسْمِ، وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَتَخْرِمُ بَعْضَ تِلْكَ السَّلَامَةِ أَوْ تُقَوِّيهَا.
وَالْأَجَلُ هُنَا مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جُعِلَ لِوُقُوعِ الْبَعْثِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْجَعْلِ لَهُمْ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُبْعَثُ حِينَئِذٍ، فَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَالْمَعْنَى: وَجَعَلَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَجَلًا.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْأَجَلِ لَا رَيْبَ فِيهِ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي فِيهِ: رَيْبٌ، وَأَنَّ رَيْبَ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ مُكَابَرَةٌ أَوْ إِعْرَاضٌ عَنِ النَّظَرِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة:
٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ أَجْلَ الْحَيَاةِ، أَيْ وَجُعِلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا، فَيَكُونَ اسْتِدْلَالًا ثَانِيًا عَلَى الْبَعْثِ، أَيْ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لِحَيَاتِهِمْ، فَمَا أَوَجَدَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَ لِحَيَاتِهِمْ أَجَلًا إِلَّا لِأَنَّهُ سَيُعِيدُهُمْ إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى،
إِلَى قَوْلِهِ: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يَا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الْقَصَص: ١٨- ٢١].
وَذِكْرُ الْفُتُونِ بَيْنَ تِعْدَادِ الْمِنَنِ إِدْمَاجٌ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُهْمِلْ دَمَ الْقِبْطِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مُوسَى، فَإِنَّهُ نَفْسٌ مَعْصُومَةُ الدَّمِ إِذْ لَمْ يَحْصُلْ مَا يُوجِبُ قَتْلَهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ تَرِدْ إِلَيْهِمْ دَعْوَةٌ إِلَهِيَّةٌ حِينَئِذٍ. فَحِينَ أَنْجَى اللَّهُ مُوسَى مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِدَمِهِ فِي شَرْعِ فِرْعَوْنَ ابتلى مُوسَى بالخوف وَالْغُرْبَةِ عِتَابًا لَهُ عَلَى إِقْدَامِهِ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [الْقَصَص: ١٥- ١٦]. وَعِبَادُ اللَّهِ الَّذِينَ أَرَادَ بِهِمْ خَيْرًا وَرَعَاهُمْ بِعِنَايَتِهِ يَجْعَلُ لَهُمْ مِنْ كُلِّ حَالَةٍ كَمَالًا يَكْسِبُونَهُ، وَيُسَمَّى مِثْلُ ذَلِكَ بِالِابْتِلَاءِ، فَكَانَ مِنْ فُتُونِ مُوسَى بِقَضِيَّةِ الْقِبْطِيِّ أَنْ قَدَّرَ لَهُ الْخُرُوجَ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ لِيَكْتَسِبَ رِيَاضَةَ نَفْسٍ وَتَهْيِئَةَ ضَمِيرٍ لِتَحَمُّلِ الْمَصَاعِبَ، وَيَتَلَقَّى التَّهْذِيبَ مِنْ صِهْرِهِ الرَّسُولِ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَلِهَذَا الْمَعْنَى عَقَّبَ ذِكْرَ الْفُتُونِ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يَا مُوسى فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْفُتُونِ.
أَوْ يَكُونُ الْفُتُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَحْمُودِ الْعَاقِبَةِ وَضِدِّهِ مِثْلَ الِابْتِلَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الْأَعْرَاف: ١٦٨]، أَيْ وَاخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا، وَالِاخْتِبَارُ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ تَكْلِيفِهِ بِأَمْرِ التَّبْلِيغِ بِحَالِ مَنْ يُخْتَبَرُ، وَلِهَذَا اخْتِيرَ هُنَا دُونَ الْفِتْنَةِ.
وَأَهْلُ مَدْيَنَ: قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَمَدِينُ: اسْمُ أَحَدِ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَكَنَتْ ذُريَّته فِي مَوَاطِن تسمى الأيكة على شاطىء الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ جَنُوبَ عَقَبَةِ أَيْلَةَ، وَغَلَبَ اسْمُ الْقَبِيلَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَصَارَ عَلَمًا لِلْمَكَانِ فَمِنْ ثَمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ (أَهْلُ). وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالسَّبَبُ: الْحَبْلُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ١٦٦].
وَالْقَطْعُ: قِيلَ يُطْلَقُ عَلَى الِاخْتِنَاقِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْأَنْفَاسَ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ غَيْظَهُ.
وَالِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ إِنْكَارِيٌّ، وَهُوَ مُعَلِّقٌ فِعْلَ فَلْيَنْظُرْ عَنِ الْعَمَلِ، وَالنَّظَرُ قَلْبِيٌّ، وَسُمِّيَ الْفِعْلُ كَيْدًا لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَيْدَ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَنْ يَكِيدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكِيدُ بِهِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَضُرُّ بِهِ نَفْسَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثُمَّ لْيَقْطَعْ- بِسُكُونِ لَامِ- لِيَقْطَعْ وَهُوَ لَامُ الْأَمْرِ. فَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلِمَةِ كَانَ مَكْسُورًا، وَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ عَاطِفٍ غَيْرِ (ثُمَّ) كَانَ سَاكِنًا مِثْلَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ [آل عمرَان: ١٠٤]. فَإِذَا وَقَعَ بَعْدَ (ثُمَّ) جَازَ فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ- بِكَسْر اللَّام-.
[١٦]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١٦]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
لَمَّا تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ تَبْيِينَ أَحْوَالِ النَّاسِ تُجَاهَ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا يَبْقَى بَعْدَهُ الْتِبَاسٌ عُقِّبَتْ بِالتَّنْوِيهِ بِتَبْيِينِهَا، بِأَنْ شُبِّهَ ذَلِكَ التَّبْيِينُ بِنَفْسِهِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِهِ الْغَايَةَ فِي جِنْسِهِ بِحَيْثُ لَا يُلْحَقُ بِأَوْضَحَ مِنْهُ، أَيْ مِثْلَ هَذَا الْإِنْزَالِ أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ. وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، فَهِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَعُطِفَ عَلَى التَّنْوِيهِ
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [الْبَقَرَة: ٢٣٧] فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ فِي مَحْمَلِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ. أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِإِعَانَةِ الْمُكَاتَبِينَ.
وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى الْوُجُوبِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ الْقَاضِي: وَجَعَلَ الشَّافِعِيُّ الْكِتَابَةَ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَجَعَلَ الْأَمْرَ بِالْإِعْطَاءِ لِلْوُجُوبِ فَجَعَلَ الْأَصْلَ غَيْرَ وَاجِبٍ وَالْفَرْعَ وَاجِبًا وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَإِضَافَةُ الْمَالِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ مُيَسِّرُ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهِ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شُكْرٌ وَالْإِمْسَاكَ جَحْدٌ لِلنِّعْمَةِ قَدْ يَتَعَرَّضُ بِهِ الْمُمْسِكُ لِتَسَلُّبِ النِّعْمَةِ عَنْهُ.
وَالْمَوْصُولُ فِي قَوْلِهِ الَّذِي آتاكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِ مالِ اللَّهِ وَيَكُونُ الْعَائِدُ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: آتَاكُمُوهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونُ امْتِنَانًا وَحَثًّا عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ وَيَكُونَ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم عَلَى الِامْتِثَالِ بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ وَلِيُّ النِّعْمَةِ. وَيَكُونُ مَفْعُولُ آتاكُمْ مَحْذُوفًا للْعُمُوم، أَي ءاتاكم نِعَمًا كَثِيرَةً كَقَوْلِهِ: وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إِبْرَاهِيم: ٣٤].
وَأَحْكَامُ الْكِتَابَةِ وَعَجْزُ الْمُكَاتَبِ عَنْ أَدَاءِ نُجُومِهِ وَرُجُوعِهِ مَمْلُوكًا وَمَوْتُ الْمَكَاتِبِ وَمِيرَاثُ الْكِتَابَةِ وَأَدَاءُ أَبْنَاءِ الْمُكَاتِبِ نُجُومَ كِتَابَتِهِ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
إِلَى الْخَيْرِ حَتَّى إِذَا لَاحَ لَهُمَا تَقَبَّلَاهُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ «مَا زَالَ أَبُو بَكْرٍ بِعَيْنِ الرِّضَى مِنَ الرَّحْمَنِ».
وَقَدْ أَوْمَأَ جَعْلُ صِلَةِ الْمَوْصُولِ مُضَارِعًا إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْإِيمَانِ، وَأَوْمَأَ جَعْلُ الْخَبَرِ مَاضِيًا فِي قَوْلِهِ: زَيَّنَّا إِلَى أَنَّ هَذَا التَّزْيِينَ حُكْمٌ سَبَقَ وَتَقَرَّرَ مِنْ قَبْلُ، وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ التَّكْوِينِ بِحَسَبِ مَا طَرَأَ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الْأَطْوَارِ.
فَإِسْنَادُ تَزْيِينِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِثْلُ قَوْلِهِ: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨] لَا يُنَافِي إِسْنَادَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ الْآتِي وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النَّمْل: ٢٤] فَإِنَّ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ تَجِدُ فِي نُفُوسِ أُولَئِكَ مَرْتَعًا خِصْبًا وَمَنْبَتًا لَا يَقْحَلُ فَاللَّهُ تَعَالَى مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِسَبَبِ تَطَوُّرِ جِبِلَّةِ نُفُوسِهِمْ مِنْ أَثَرِ ضَعْفِ سَلَامَةِ الْفِطَرِ عِنْدَهُمْ، وَالشَّيْطَانُ مُزَيِّنٌ لَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تَجِدُ قُبُولًا فِي نُفُوسِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: ٨٢، ٨٣] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤٢] وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَفُرِّعَ عَلَى تَزْيِينِ أَعْمَالِهِمْ لَهُمْ أَنَّهُمْ فِي عَمَهٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُمْ بِصَوْغِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ. وَأَفَادَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ أَنَّ الْعَمَهَ متجدد مُسْتَمر فيهم، أَيْ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى اهْتِدَاءٍ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ.
وَالْعَمَهُ: الضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ بِدُونِ اهْتِدَاءٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥]. وَفِعْلُهُ كَمَنَعَ وَفَرِحَ.
فَضَمِيرُ هُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْعُنْوَانِ لَا بِذَوَاتِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِمْرَارَ مُتَفَاوِتُ الِامْتِدَادِ فَمِنْهُ أَشَدُّهُ وَهُوَ الَّذِي يَمْتَدُّ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْمَوْتِ، وَمِنْهُ دُونُ ذَلِكَ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ تَزْيِينِ الْكُفْرِ فِي نُفُوسِهِمْ تَزْيِينًا
يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا كَذِبٌ صَرِيحٌ، فَكَانَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَضْمُونُ جُمْلَةِ وَما هُمْ بِحامِلِينَ. وَلَيْسَ مَضْمُونُ الثَّانِيَةِ عَيْنَ مَضْمُونِ الْأُولَى بَلِ الثَّانِيةُ أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ كَذِبَهُمْ مُحَقَّقٌ وَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُمْ فِي خَبَرِهُمْ هَذَا وَفِي غَيْرِهِ، وَوِزَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وِزَانُ بَيْتِ عِلْمِ الْمَعَانِي:
أَقُولُ لَهُ ارْحَلْ لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا إِذْ جعل الْأَئِمَّة جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا) بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ (ارْحَلْ) لِأَنَّ جُمْلَةَ (لَا تُقِيمَنَّ) أَوْفَى بِالدَّلَالَةِ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ وَطَلَبِ ارْتِحَالِهِ، وَلِهَذَا لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لِكَمَالِ الِاتِّصَالِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ.
[١٣]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٣]
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
بَعْدَ أَنْ كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] وَكَشَفَ كَيْدَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أَفَادَ أَنَّهُمْ غَيْرُ نَاجِينَ مِنْ حَمْلِ تَبِعَاتٍ لِأَقْوَامٍ آخَرِينَ وَهُمُ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ وَسَوَّلُوا لَهُمُ الشِّرْكَ وَالْبُهْتَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ بِحَمْلِهِمْ ذَلِكَ. فَذِكْرُ الْحَمْلِ تَمْثِيلٌ. وَالْأَثْقَالُ مَجَازٌ عَنِ الذُّنُوبِ وَالتَّبِعَاتِ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِلشَّقَاءِ وَالْعَنَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَالِ الَّذِي يَحْمِلُ مَتَاعَهُ وَهُوَ مُوقَرٌ بِهِ فَيُزَادُ حَمْلُ أَمْتِعَةِ أُنَاسٍ آخَرِينَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ مَقَامِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ هَذَا حَمْلُ تَثْقِيلٍ وَزِيَادَةٍ فِي الْعَذَابِ وَلَيْسَ حَمْلًا يَدْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ الْمَحْمُولِ عَنْهُ، وَأَنَّ الْأَثْقَالَ الْمَحْمُولَةَ مَعَ أَثْقَالِهِمْ هِيَ ذُنُوبُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ
وَلَيْسَ مَنْ بَيْنِهَا شَيْءٌ مِنْ ذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَالِمُونَ مِنْ تَضْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ بهتانهم.
وَجُمْلَة وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمُؤَاخَذَتِهِمْ بِجَمِيعِ مَا اخْتَلَقُوهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالتَّضْلِيلِ سَوَاءٌ مَا أَضَلُّوا بِهِ أَتْبَاعَهُمْ وَمَا حَاوَلُوا بِهِ بِتَضْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَقَعُوا فِي أَشْرَاكِهِمْ، وَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ لَفْظُ الِافْتِرَاءِ، كَمَا عَبَّرَ عَنْ مُحَاوَلَتِهِمْ تَغْرِيرَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُمْ فِيهِ كاذبون.
اللَّهُ لَهَا، وَلَمْ يَرِدِ اسْمُ عِزْرَائِيلَ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الْجِنْسُ فَتَكُونُ كَقَوْلِهِ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الْأَنْعَام: ٦١].
[١٢]
[سُورَة السجده (٣٢) : آيَة ١٢]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢)
أَرْدَفَ ذِكْرَ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ بِتَصْوِيرِ حَالِ الْمُنْكِرِينَ أَثَرَ الْبَعْثِ وَذَلِكَ عِنْدَ حَشْرِهِمْ إِلَى الْحِسَابِ، وَجِيءَ فِي تَصْوِيرِ حَالِهِمْ بِطَرِيقَةِ حَذْفِ جَوَابِ لَوْ حَذْفًا يُرَادِفُهُ أَنْ تَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ تَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ وَهَوْلِ مَوْقِفِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ، وَبِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِإِفَادَةِ تَنَاهِي حَالِهِمْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهِ مُخَاطَبٌ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي لَرَأَيْتَ أَمْرًا عَظِيمًا.
والْمُجْرِمُونَ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة:
١٠]، فَهُوَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ التَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ مُجْرِمُونَ، أَيْ آتُونَ بِجُرْمٍ وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ.
وَالنَّاكِسُ: الَّذِي يَجْعَلُ أَعْلَى شَيْءٍ إِلَى أَسْفَلَ، يُقَالُ: نَكَّسَ رَأْسَهُ، إِذَا طَأْطَأَهُ لِأَنَّهُ كَمَنْ جَعَلَ أَعْلَى الشَّيْءِ إِلَى أَسْفَل. ونكس الرؤوس عَلَامَةُ الذُّلِّ وَالنَّدَامَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُلَاقُونَ مِنَ التَّقْرِيعِ وَالْإِهَانَةِ.
وَالْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ السُّلْطَةِ، أَيْ وَهُمْ فِي حُكْمِ رَبِّهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ مَحِيدًا عَنْهُ، فَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالْكَوْنِ فِي مَكَانٍ مُخْتَصٍّ بِرَبِّهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَي ناكسو رؤوسهم يَقُولُونَ أَوْ قَائِلِينَ: أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا، وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ نَدَامَةً وَإِقْرَارًا بِأَنَّ مَا تَوَعَّدَهُمُ الْقُرْآنُ بِهِ حَقٌّ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ أَبْصَرْنا وَمَفْعُولِ سَمِعْنا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ أَبْصَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُبْصَرَةِ مَا يُصَدِّقُ مَا أَخْبَرَنَا بِهِ- فَقَدْ رَأَوُا الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ وَرَأَوْا مَا يُعَامَلُ بِهِ الْمُكَذِّبُونَ-، وَسَمِعْنَا مِنْ أَقْوَالِ الْمَلَائِكَةِ مَا فِيهِ تَصْدِيقُ الْوَعِيدِ الَّذِي تَوَعَّدَنَا
وَالْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَصْرِ الدِّينِ.
رَوَى مَالِكٌ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا ابْن آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»
. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَدْ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ أَوْ أَزْيَدَ، وَقَدْ يُعَوَّضُ ثَوَابًا، وَقَدْ يُدَّخَرُ لَهُ وَهُوَ كَالدُّعَاءِ فِي وَعْدِ الْإِجَابَةِ» اهـ. قُلْتُ: وَقَدْ يُعَوَّضُ صِحَّةً وَقَدْ يُعَوَّضُ تَعْمِيرًا. وَلِلَّهِ فِي خلقه أسرار.
[٤٠، ٤١]
[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٤٠ إِلَى ٤١]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سبأ: ٣١] الْآيَةَ اسْتِكْمَالًا لِتَصْوِيرِ فَظَاعَةِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْوَعْدِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ تَبَعًا لِمَا وَصَفَ مِنْ حَالِ مُرَاجَعَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْهُمْ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فَوَصَفَ هُنَا افْتِضَاحَهُمْ بِتَبَرُّؤِ الْمَلَائِكَةِ مِنْهُمْ وَشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ مِنْ نَحْشُرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: ٣٥] الَّذِي هُوَ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: ٣١]. وَالْكَلَامُ كُلُّهُ مُنْتَظِمٌ فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَمِيعُ: فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَجْمُوعٍ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ وَصْفًا لِإِفَادَةِ شُمُولِ أَفْرَادِ مَا أُجْرِيَ هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ذَوَاتٍ وَأَحْوَالٍ، أَيْ يَجْمَعُهُمُ الْمُتَكَلِّمُ، قَالَ لَبِيدٌ:
عَرِيَتْ وَكَانَ بهَا الْجَمِيع فأبكروا مِنْهَا وَغُودِرَ نُؤْيُهَا وَثِمَامُهَا
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٥٥].
فَلَفْظُ جَمِيعاً يَعُمُّ أَصْنَافَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى اخْتِلَافِ نِحَلِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ فَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ نِحَلًا شَتَّى يَأْخُذُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمَا كَانُوا يُحَقِّقُونَ مَذْهَبًا مُنْتَظِمَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِمَا يُنَافِي بَعْضُهُ بَعْضًا.
وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ إِبْطَالُ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْناهُمْ كَمَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٢٠]. وَكَانُوا يَخْلِطُونَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَيَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ نَسَبًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرْوَاتِ الْجِنِّ.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَتَأَيَّدُ بِمُطَابَقَةِ التَّارِيخِ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ الْمَعْنِيَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ (مِنْفِتَاحُ الثَّانِي) الَّذِي خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ فِي زَمَنِهِ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي تَرْتِيبِ الْأُسَرِ الَّتِي تَدَاوَلَتْ مُلْكَ مِصْرَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْعَائِلَةُ مُشْتَهِرَةً بِوَفْرَةِ الْمَبَانِي الَّتِي بَنَاهَا مُلُوكُهَا مِنْ مَعَابِدَ وَمَقَابِرَ وَكَانَتْ مُدَّةُ حُكْمِهِمْ مِائَةً وَأَرْبَعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ سَنَةِ (١٤٦٢) قَبْلَ الْمَسِيحِ إِلَى سَنَةِ (١٢٨٨) ق. م.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ مُحَمَّدٌ عَبْدُهْ فِي «تَفْسِيرِهِ» لِلْجُزْءِ الثَلَاثِينَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ:
وَمَا أَجْمَلَ التَّعْبِيرَ عَمَّا تَرَكَ الْمِصْرِيُّونَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ الْبَاقِيَةِ بِالْأَوْتَادِ فَإِنَّهَا هِيَ الْأَهْرَامُ وَمَنْظَرُهَا فِي عَيْنِ الرَّائِي مَنْظَرُ الْوَتَدِ الضَّخْمِ الْمَغْرُوزِ فِي الأَرْض ا. هـ. وَأَكْثَرُ الْأَهْرَامِ بُنِيَتْ قَبْلَ زَمَنِ فِرْعَوْنَ مُوسَى مِنْفِتَاحَ الثَّانِي فَكَانَ مِنْفِتَاحُ هَذَا مَالِكَ تِلْكَ الْأَهْرَامِ فَإِنَّهُ يَفْتَخِرُ بِعَظَمَتِهَا وَلَيْسَ يُفِيدُ قَوْلُهُ: ذُو الْأَوْتادِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى إِذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْبَانِيَ تِلْكَ الْأَهْرَامِ. وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: ذُو النِّيلِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١].
وَأَمَّا ثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ فَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ غَيْرَ مرّة. وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ أَهْلُ مَدْيَنَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَبَرُهُمْ وَتَحْقِيقُ أَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ مَعَ مَدْيَنَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَتَقْدِيمُ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ عَلَى ثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ لَيْكَةَ مَعَ أَنَّ قِصَّتَهُ حَدَثَتْ بَعْدَ قَصَصِهِمْ لِأَنَّ حَالَهُ مَعَ مُوسَى أَشْبَهُ بِحَالِ زُعَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ قاوم موس بِجَيْشٍ كَمَا قَاوَمَ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ بِجُيُوشٍ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ الْأَحْزابُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وَجُمْلَةِ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْظِيمِ، أَيْ تَعْظِيمِ الْقُوَّةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَحْزابِ اسْتِغْرَاقٌ ادِّعَائِيٌّ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ مِثْلَ: هُمُ الْقَوْمُ وَأَنْتَ الرَّجُلُ. وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، قُصِرَتْ صِفَةُ
فَالَّذِينَ (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) هُمُ (الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، وَهُمُ الَّذِينَ (حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، وَالَّذِينَ رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ، فَمَا بِنَا إِلَّا أَنْ نُبَيِّنَ مَعْنَى فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
فَالْفَرَحُ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ آثَارِهِ وَهِيَ الِازْدِهَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ [الْقَصَص: ٧٦] أَيْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مُكَنًّى بِهِ هُنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَادَلُوا الرُّسُلَ وَكَابَرُوا الْأَدِلَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ. وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ مُعْتَقَدَاتُهُمُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ أَسْلَافِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لِرُسُلِهِمْ: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ اهـ. وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ تَهَكُّمٌ وَجَرْيٌ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهْلِهِمْ يَعْنِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: ١٤٨].
وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ، يُقَالُ: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا، إِذَا أَحَاطَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَّةِ الَّتِي لَا تَنْفِيسَ بِهَا لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِشَيْءٍ لَا يَدْعُ لَهُ مَفْرَجًا.
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَالْعَذَابُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رُسُلَهُمْ أوعدوهم بِالْعَذَابِ فاستهزؤوا بِالْعَذَابِ، أَيْ بِوُقُوعِهِ وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِوَعِيدِ الرُّسُلِ كَانَ شِنْشَنَةً لَهُمْ، وَفِي الْإِتْيَان ب يَسْتَهْزِؤُنَ مُضَارِعًا إِفَادَةٌ لِتَكَرُّرِ اسْتِهْزَائِهِمْ.
[٨٤- ٨٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨٤ الى ٨٥]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا
مَوْقِعُ جُمْلَةِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِر:
٨٣] كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ [غَافِر: ٨٢] لِأَنَّ إِفَادَةَ (لَمَّا) مَعْنَى التَّوْقِيتِ يُثِيرُ مَعْنَى تَوْقِيتِ انْتِهَاءِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ دَامَ دُعَاءُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ وَدَامَ
الْمَعْدُودِ أَبْلَغَ كَلَامٍ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الْإِيجَازِ إِذْ وَقَفَ، وَاسْتَوْقَفَ، وَبَكَى وَاسْتَبْكَى.
وَذَكَرَ الْحَبِيبَ، وَالْمَنْزِلَ فِي مِصْرَاعٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَتَجَاوَزُ مِقْدَارَ ذَلِكَ الْمِصْرَاعِ وَعِدَّةُ مَعَانِيهَا عَشَرَةٌ فِي حِينَ كَانَتْ مَعَانِي مِصْرَاعِ امْرِئِ الْقَيْسِ سِتَّةً مَعَ مَا تَزِيدُ بِهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ، وَهِيَ التَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ وَالْكِنَايَةِ وَمُحَسِّنِ التَّوْجِيهِ.
وَالذِّكْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرَ الْعَقْلِ، أَيِ اهْتِدَاءَهُ لِمَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ، فَشُبِّهَ بِتَذَكُّرِ الشَّيْءِ الْمَنْسِيِّ وَهُوَ مَا فُسِّرَ بِهِ كَثِيرُ الذِّكْرِ بِالتَّذْكِيرِ، أَيِ الْمَوْعِظَةِ. وَيَحْتَمِلُ ذِكْرَ اللِّسَانِ، أَيْ أَنَّهُ يُكْسِبُكَ وَقَوْمَكَ ذِكْرًا، وَالذِّكْرُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَالِبٌ فِي الذِّكْرِ بِخَبَرِهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ سَبَبُ الذِّكْرِ لِأَنَّهُ يُكْسِبُ قَوْمَهُ شَرَفًا يُذْكَرُونَ بِسَبَبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ يَعْنِي الْقُرْآنُ شَرَفٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَاحْتَاجَ أَهْلُ اللُّغَاتِ كُلِّهَا إِلَى لِسَانِهِمْ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِذَلِكَ فَشَرُفُوا بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أهل اللّغات».
وَيُقَال ابْنُ عَطِيَّةَ «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فَإِذَا قَالُوا لَهُ: فَلِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ بَعْدَكَ؟ سَكَتَ حَتَّى إِذَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: لِقُرَيْشٍ»
. وَدَرَجَ عَلَيْهِ كَلَامُ «الْكَشَّافِ».
فَفِي لَفْظِ ذِكْرٌ مُحَسِّنُ التَّوْجِيهِ فَإِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ أَنَّ ذِكْرَهُ وَقَوْمَهُ بِالثَّنَاءِ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ مَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُعْرِضِينَ عَنْهُ. وَقَومه هُمْ قُرَيْشٌ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ أَوْ جَمِيعُ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ شَرُفُوا بِكَوْنِ الرّسول الْأَعْظَم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ الشَّرَفُ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْأَعْصُرِ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَوْلَاهُ مَا كَانَ لِلْعَرَبِ مَنْ يَشْعُرُ بِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْعَظِيمَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْأَرْضِ.
وَهَذَا ثَنَاءٌ سَابِعٌ عَلَى الْقُرْآنِ.
وَالسُّؤَالُ فِي قَوْله: وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ سُؤَالُ تَقْرِيرٍ. فَسُؤَالُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ
وَاللَّامُ فِي لَهُ لِتَعْدِيَةِ تَجْهَرُوا لِأَنَّ تَجْهَرُوا فِي مَعْنَى: تَقُولُوا، فَدَلَّتِ اللَّامُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَهْرَ يَتَعَلَّقُ بِمُخَاطَبَتِهِ، وَزَادَهُ وُضُوحًا التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ.
وَفِي هَذَا النَّهْيِ مَا يَشْمَلُ صَنِيعَ الَّذِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ فَيَكُونُ تَخَلُّصًا مِنَ الْمُقَدِّمَةِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، وَيَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات: ٤].
وأَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ فِي مَحَلِّ نَصَبٍ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ لَامُ التَّعْلِيلِ وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا لِلنَّهْيِ، أَيْ أَنَّ الْجَهْرَ لَهُ بِالْقَوْلِ يُفْضِي بِكُمْ إِنْ لَمْ تَكُفُّوا عَنْهُ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، فَحَبْطُ الْأَعْمَال بذلك مَا يُحْذَرُ مِنْهُ فَجَعَلَهُ مَدْخُولًا للام التَّعْلِيل مَصْرُوف عَنْ ظَاهِرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: خَشْيَةَ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ، كَذَا يُقَدِّرُ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ.
وَالْكُوفِيُّونَ يَجْعَلُونَهُ بِتَقْدِيرِ (لَا) النَّافِيَةِ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَنْ لَا تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ عَلَى حَسَبِ الظَّاهِرِ.
وَالْحَبْطُ: تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِسَبَبِ مَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنَ الْكُفْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ حَبِطَتِ الْإِبِلُ إِذَا أَكَلَتِ الْخُضْرَ فَنَفَخَ بُطُونَهَا وَتَعْتَلُّ وَرُبَّمَا هَلَكَتْ.
وَفِي الْحَدِيثِ
«وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ لَمَا يَقْتُلُ حَبْطًا أَوْ يُلِمُّ»
. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [الْمَائِدَة: ٥].
وَظَاهِرُ الْآيَةِ التَّحْذِيرُ مِنْ حَبْطِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُضَافَ مِنْ صِيغِ الْعُمُومِ وَلَا يَكُونُ حَبْطُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ إِلَّا فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْأَعْمَالِ الْإِيمَانَ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ عَدَمَ الِاحْتِرَازِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ قَدْ يُفْضِي بِفَاعِلِهِ إِلَى إِثْمٍ عَظِيمٍ يَأْتِي عَلَى عَظِيمٍ مِنْ صَالِحَاتِهِ أَوْ يُفْضِي بِهِ إِلَى الْكُفْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى الْوَحْشَةِ فِي نُفُوسِكُمْ فَلَا تَزَالُ مُعْتَقَدَاتُكُمْ تَتَدَرَّجُ الْقَهْقَرَى حَتَّى يؤول ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ فَحَبْطِ الْأَعْمَالِ. وَأَقُولُ: لِأَنَّ عَدَمَ الِانْتِهَاءِ عَنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّدُ النَّفْسَ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ فَلَا تَزَالُ تَزْدَادُ مِنْهُ وَينْقص توفير الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّفْسِ وتتولى من سيّىء إِلَى أَشَدَّ مِنْهُ حَتَّى يؤول إِلَى عَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِالتَّأَدُّبِ مَعَهُ وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَهَذَا مَعْنَى وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: ٦] فَكُلُّ خَلْقٍ مِنْهَا يَحْصُلُ بِكَلِمِةٍ وَاحِدَةٍ كَلَمْحِ الْبَصَرِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ تَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَشْيَاءُ وَآثَارٌ فَيُعْتَبَرُ تَكْوِينُهُ عِنْدَ إِيجَادِ أَوَّلِهِ.
وَصَحَّ الْإِخْبَارُ عَنْ (أَمْرٍ) وَهُوَ مُذَكَّرٌ بِ واحِدَةٌ وَهُوَ مُؤَنَّثٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا صَدَّقَ الْأَمْرَ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّسْخِيرَ وَهُوَ الْكَلِمَةُ، أَيْ كَلِمَةِ (كُنْ).
وَقَوْلُهُ: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ أَمْرُنا بِاعْتِبَارِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، أَيْ حُصُولُ مُرَادُنَا بِأَمْرِنَا كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي سُرْعَةِ الْحُصُولِ، أَيْ مَا أَمْرُنَا إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ سَرِيعَةُ التَّأْثِيرِ فِي الْمُتَعَلِّقَةِ هِيَ بِهِ كَسُرْعَةِ لَمْحِ الْبَصَرِ.
وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي تَقْرِيبِ الزَّمَانِ أَبْلَغُ مَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَهُنَّ وَوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٧٧] وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ فَزِيدَ هُنَالِكَ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ مُفَاجَأَةِ النَّاسِ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيبِ، بِخِلَافِ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ لِتَمْثِيلِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ التَّنْبِيهِ إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ السَّامِعُ فِي التَّصْدِيقِ بِهِ.
وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِحَاطَةَ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَإِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ بِحِكْمَةٍ، وَصُدُورِهَا عَنْ إِرَادَةٍ وَقُدْرَةٍ.
وَاللَّمْحُ: النّظر السَّرِيع وإخلاس النَّظَرُ، يُقَالُ: لَمَحَ الْبَصَرَ، وَيُقَالُ: لَمَحَ الْبَرْقَ كَمَا يُقَالُ: لَمَعَ الْبَرْقُ. وَلَمَّا كَانَ لَمْحُ الْبَصَرِ أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الْبَرْقِ قَالَ تَعَالَى: كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٧٧] إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ.
مَسْجِدِ جُؤَاثَاءَ (١) مِنْ بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَهِيَ مَدِينَةُ الْخَطِّ قَرْيَةٌ لِعَبْدِ الْقَيْسِ. وَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ أَهْلُ جُؤَاثَاءَ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَتَقَرَّرَ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَرُوبَةَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَلَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: مَعْنَى الْعَرُوبَةِ الرَّاحَةُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ اه. قُلْتُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَهُوَ قَبْلَ يَوْمِ السَّبْتِ وَقَدْ كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ عِيدَ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ. وَقَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الرَّاحَةُ فِيهِ عَنِ الشُّغْلِ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَبْتَدِئُونَ عَدَدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ وَهُوَ الْمُوَالِي لِلسَّبْتِ وَتَبِعَهُمُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ وَلِذَلِكَ سَمَّى الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ يَوْمَ الْأَحَدِ أَوَّلَ.
فَأَيَّامُ الْأُسْبُوعِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْقَدِيمِ هِيَ: أَوَّلُ، أَهْوَنُ جُبَارٌ، (كَغُرَابٍ وَكِتَابٍ)، دُبَارٌ (كَذَلِكَ)، مُؤْيِسٌ (مَهْمُوزًا)، عَرُوبَةُ، شِيَارٌ (بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مُخَفَّفَةٌ).
ثُمَّ أَحْدَثُوا أَسْمَاءً لِهَذِهِ الْأَيَّامِ هِيَ: الْأَحَدُ، الِاثْنَيْنُ، الثُّلَاثَاءُ- بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ الْأُولَى وَبِضَمِّهَا-، الْإِرْبِعَاءُ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ-، الْخَمِيسُ، عَرُوبَةُ أَوِ الْجُمُعَةُ- فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ- السَّبْتُ.- وَأَصْلُ السَّبْتِ: الْقَطْعُ، سُمِّيَ سَبْتًا عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ فِيهِ الْعَمَلَ، وَشَاعَ ذَلِكَ الِاسْمُ عِنْدَ الْعَرَبِ-.
وَسَمَّوُا الْأَيَّامَ الْأَرْبَعَةَ بَعْدَهُ بِأَسْمَاءٍ مُشْتَقَّةٍ عَنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ عَلَى تَرْتِيبِهَا وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرُ أَسْمَاءٍ لِلْأَيَّامِ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنْهَا «ذُكِرَتْ أَيَّامُ بَدْءِ الْخَلْقِ بِأَعْدَادِهَا أَوَّلُ
وَثَانٍ»
إِلَخْ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَ الْيَوْمِ
_________
(١) جؤاثاء بِضَم الْجِيم وهمزة مَفْتُوحَة بعْدهَا ألف وَفِي آخِره ألف ممدودة وَقد تقصر. مَدِينَة بِلَاد الْخط من الْبَحْرين (الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الرماح الخطيّة لِأَنَّهَا تجلب إِلَيْهِ من بِلَاد الْهِنْد والخطّ السَّاحِل) وَهَذَا الْخط يسمّى سيف عمان لِأَنَّهُ يَمْتَد إِلَى عمان. وَمن مدنه قطر والقطيف (بِفَتْح الْقَاف وَكسر الطّاء) وَالْفَقِير مُصَغرًا (وَهَذِه الْبِلَاد تعرف فِي زَمَاننَا سنة ١٣٨٥ بَعْضهَا بِبِلَاد الكويت، وَبَعضهَا بجزائر الْبَحْرين، وَبَعضهَا بِبِلَاد عمان، وَبَعضهَا من الْبِلَاد السعودية مثل القطيف وهجرا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: ٨].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (أَنَّ) لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِهِ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ فَأَتَوْا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا يُفِيدُ تَحْقِيقَ مَا قَالُوهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْ مِثْلِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِحَرْفِ (إِنَّ).
وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَبِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْمَعْنَى، أَيْ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بَدِيعٌ فَائِقٌ فِي مُفَادِهِ.
وَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَزَايَا الْقُرْآنِ بِانْكِشَافٍ وَهَبَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «لَا بُدَّ لِمَنْ آمَنَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ وَشُرُوطَ الْمُعْجِزَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ عَلِمُوا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيءُ الْأُمِّيُّ الصَّادِقُ الْمُبَشَّرُ بِهِ» اهـ.
وَأَنَا أَقُولُ: حَصَلَ لِلْجِنِّ عِلْمٌ جَدِيدٌ بِذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِأَدِلَّةٍ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ بِهَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُطَالَبِينَ بِمَعْرِفَتِهَا، وَأَنَّ فَهْمَهُمْ لِلْقُرْآنِ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ كَرَامَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْقُرْآنِ.
وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَبِمَنْ أَنْزَلَهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً.
وَقَدْ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ شَرَفُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصِدْقِ الْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ فَصَارُوا مِنْ خِيرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُكْرِمُوا بِالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ ذَرَأَ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَمُتَعَلِّقُ اسْتَمَعَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً.
والرُّشْدِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ (أَوْ يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ) هُوَ الْخَيْرُ وَالصَّوَابُ وَالْهُدَى. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ.
وَقَوْلُهُمْ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، أَيْ يَنْتَفِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا نَفْيَ الْإِشْرَاكِ بِحَرْفِ التَّأْبِيدِ فَكَمَا أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِ (إِنَّ) أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ ب لَنْ.
الْجَوَابِ. وَرَدَّهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُقْحِمُ الْوَاوَ إِلَّا إِذَا كَانَتْ إِذا بَعْدَ (حَتَّى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] أَوْ بَعْدَ (لَمَّا) كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يَا إِبْراهِيمُ [الصافات: ١٠٣، ١٠٤] الْآيَةَ.
وَقِيلَ: الْجَوَابُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق: ٧]، وَنُسِبَ إِلَى الْكِسَائِيِّ وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ.
وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ النَّاسِ فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: الْإِنْسانُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ
كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إِلَى قَوْلِهِ: كانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق: ١٥].
وَالْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا وَعِيدُ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْبَعْثِ. فَالْخِطَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ زِيَادَةٌ لِلْإِنْذَارِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ تَذْكِيرٌ وَتَبْشِيرٌ. وَقِيلَ: أُرِيدَ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ فَقِيلَ: هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ (بِالسِّينِ الْمُهْمِلَةِ فِي «الِاسْتِيعَاب» و «الْإِصَابَة» وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ كَمَا ضَبَطَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ هُوَ فِي «جَامِعِ الْأُصُولِ» بِالْمُهْمَلَةِ)، وَقِيلَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا سَبَبَ النُّزُولِ أَوْ هُوَ مَلْحُوظٌ ابْتِدَاءً.
وَالْكَدْحُ: يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ لَا نَتَحَقَّقُ أَيُّهَا الْحَقِيقَةُ، وَقَدْ أَهْمَلَ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِي «الْأَسَاسِ» فَلَعَلَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّاغِبِ أَنَّ حَقِيقَتَهُ: إِتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْعَمَلِ وَالْكَدِّ. وَتَعْلِيقُ مَجْرُورِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَرْفِ (إِلَى) تُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَمَلٌ يَنْتَهِي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى سَاعٍ لِأَنَّ كَدْحَ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ يَتَطَلَّبُونَ بِعَمَلِ الْيَوْمِ عَمَلًا لغد وَهَكَذَا، وَذَلِكَ يَتَقَضَّى بِهِ زَمَنُ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ أَجَلُ حَيَاةِ كُلِّ إِنْسَانٍ وَيَعْقُبُهُ الْمَوْتُ الَّذِي هُوَ رُجُوعُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ إِلَى مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ، فَلَمَّا آلَ سَعْيُهُ وَكَدْحُهُ إِلَى الْمَوْتِ جُعِلَ كَدْحُهُ إِلَى رَبِّهِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّكَ كَادِحٌ تَسْعَى إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ لِقَاءُ رَبِّكَ، وَعَلَيْهِ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ حَرْفِ (إِنَّ)، وَيَجُوزُ أَنْ يُضَمَّنَ كادِحٌ مَعْنَى مَاشٍ فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ ظَرْفًا لَغْوًا.
وكَدْحاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلِقَةِ لِتَأْكِيدِ كادِحٌ الْمُضَمَّنِ مَعْنَى سَاعٍ إِلَى رَبِّكَ، أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ لَا مَحَالَةَ وَلَا مَفَرَّ.


الصفحة التالية