وَالْفَلَاحُ: الْفَوْزُ وَصَلَاحُ الْحَالِ، فَيَكُونُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي اصْطِلَاحِ الدِّينِ الْفَوْزُ بِالنَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَفْلَحَ أَيْ صَارَ ذَا فَلَاحٍ، وَإِنَّمَا اشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ بِوَاسِطَةِ الْهَمْزَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّيْرُورَةِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ حَدَثًا قَائِمًا
بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ جِنْسٌ تَحُفُّ أَفْرَادُهُ بِمَنْ قُدِّرَتْ لَهُ، قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : انْظُرْ كَيْفَ كَرَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التَّنْبِيهَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمُتَّقِينَ بِنَيْلِ مَا لَا يَنَالُهُ أَحَدٌ عَلَى طُرُقٍ شَتَّى وَهِيَ ذِكْرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَتَكْرِيرُهُ وَتَعْرِيفُ الْمُفْلِحِينَ، وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولئِكَ لِيُبَصِّرَكَ مَرَاتِبَهُمْ وَيُرَغِّبَكَ فِي طَلَبِ مَا طَلَبُوا وَيُنَشِّطَكَ لِتَقْدِيمِ مَا قدمُوا.
[٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.
هَذَا انْتِقَالٌ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ وَمُتَقَلِّدِيهِ وَوَصْفِ هَدْيِهِ وَأَثَرِ ذَلِكَ الْهَدْيِ فِي الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ الرَّاجِعِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى الْكِتَابِ لَمَّا كَانَ الثَّنَاءُ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا تَحَقَّقَتْ آثَارُ الصِّفَةِ الَّتِي اسْتُحِقَّ بِهَا الثَّنَاءُ، وَلَمَّا كَانَ الشَّيْءُ قَدْ يُقَدَّرُ بِضِدِّهِ انْتَقَلَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَسَجَّلَ أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ خُبْثِ أَنْفُسِهِمْ إِذْ نَبَوْا بِهَا عَنْ ذَلِكَ، فَمَا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ فِي عَاقِبَةِ أُمُورِهِمْ وَيَحْذَرُونَ مِنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَكَانَ سَوَاءً عِنْدَهُمُ الْإِنْذَارُ وَعَدَمُهُ فَلَمْ يَتَلَقَّوُا الْإِنْذَارَ بِالتَّأَمُّلِ بَلْ كَانَ سَوَاءً وَالْعَدَمُ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ قَرَنَتِ الْآيَاتُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أَضْمَرَ الْكُفْرَ وَأَعْلَنَهُ وَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَفَرِيقًا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ وَهُوَ مُخَادِعٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [الْبَقَرَة: ٨]. وَإِنَّمَا قُطِعَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا كَمَالَ الِانْقِطَاعِ إِذِ الْجُمَلُ السَّابِقَةُ لِذِكْرِ الْهُدَى وَالْمُهْتَدِينَ، وَهَذِهِ لِذِكْرِ الضَّالِّينَ فَبَيْنَهُمَا الِانْقِطَاعُ لِأَجْلِ التَّضَادِّ، وَيُعْلَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ قِسْمٌ مُضَادٌّ لِلْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ مِنْ سِيَاقِ الْمُقَابَلَةِ.
وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَغَرَابَتِهِ دُونَ رَدِّ الْإِنْكَارِ أَوِ الشَّكِّ لِأَن الْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْأُمَّةِ وَهُوَ خِطَابُ أُنُفٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ شَكٌّ فِي وُقُوعِهِ، وَمَجِيءُ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. وَقَدْ تَكُونُ (إِنَّ) هُنَا لِرَدِّ الشَّكِّ تَخْرِيجًا لِلْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حِرْصَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هِدَايَةِ الْكَافِرِينَ تَجْعَلُهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ
فِي «تَفْسِيرِهِ» «وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ طَوِيلَةٌ عَوِيصَةٌ مَا رَأَيْتُ مَنْ يَفْهَمُهَا مِنَ الشُّيُوخِ إِلَّا ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنَ الْحُبَابِ وَمَا قَصَّرَ الطَّيْبِيُّ فِيهَا وَهُوَ الَّذِي كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْهَا هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي [سُورَةِ النِّسَاءِ: ٧٧] يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَكَلَامُهُ فِي تِلْكَ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي حَمَلَ التُّونِسِيِّينَ عَلَى نَسْخِهِ لِأَنِّي كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لَمَّا قَدِمَ الْوَاصِلُ بِكِتَابِ الطَّيْبِيِّ فَقُلْتُ لَهُ: نَنْظُرُ مَا قَالَ: فِي أَشَدَّ خَشْيَةً فَنَظَّرْنَاهُ فَوَجَدْنَا فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مَا قَالَ النَّاسُ فَحَضَّ الشَّيْخُ إِذْ ذَاكَ على نسخهَا اهـ».
وَقَوْلُهُ: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِلَخ، الْفَاء للتفصيل لِأَن مَا بعْدهَا تَقْسِيم لفريقين من النَّاس المخاطبين بقوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ إِلَخْ فَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُونَ أَنَّ الذِّكْرَ يَشْمَلُ الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَخَاصَّةً فِي مَظَانِّ الْإِجَابَةِ مِنَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، لِأَنَّ الْقَاصِدِينَ لِتِلْكَ الْبِقَاعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَقْصِدُونَ إِلَّا تَيَمُّنًا وَرَجَاءً فَكَانَ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيرٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا وَادْعُوهُ، ثُمَّ أُرِيدُ تَفْصِيلُ الدَّاعِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَفَاوُتِ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ تِلْكَ الْمَنَاسِكُ، وَإِنَّمَا لم يفعل الذِّكْرَ الْأَعَمَّ مِنَ الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي لَيْسَ بِدُعَاءٍ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَمْجِيدُ اللَّهِ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى
تَفْصِيلِهِ تَفْصِيلًا يُنَبِّهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، وَالْمُقَسَّمُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْجِيرِ الْحَجِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِآيَةِ بَرَاءَةَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ لَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُهْمِلُونَ الدُّعَاءَ لِخَيْرِ الْآخِرَةِ مَا بَلَغَتْ بِهِمُ الْغَفْلَةُ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّعْرِيضُ بِذَمِّ حَالَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ الْآخِرَةِ.
وَقَوْلُهُ: آتِنا تَرَكَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِتَنْزِيلِ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهِ أَيْ أَعْطِنَا عَطَاءً فِي الدُّنْيَا، أَوْ يُقَدَّرُ الْمَفْعُولُ بِأَنَّهُ الْإِنْعَامُ أَوِ الْجَائِزَةُ أَوْ مَحْذُوفٌ لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: حَسَنَةً فِيمَا بَعْدُ، أَيْ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً.
و «الخلاق» بِفَتْحِ الْخَاءِ الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَالنَّفِيسُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَاقَةِ وَهِيَ الْجَدَارَةُ، يُقَالُ خَلُقَ بِالشَّيْءِ بِضَمِّ اللَّامِ إِذَا كَانَ جَدِيرًا بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مَعْنَى الْجَدَارَةِ مُسْتَلْزِمًا نَفَاسَةَ مَا بِهِ الْجَدَارَةُ دَلَّ مَا اشْتُقَّ مِنْ مُرَادِفِهَا عَلَى النَّفَاسَةِ سَوَاءٌ قُيِّدَ بِالْمَجْرُورِ كَمَا هُنَا أَمْ أُطْلِقَ كَمَا
فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ خَلَاقَ لَهُ»
أَي من الْخَيْرِ وَقَوْلُ الْبُعَيْثِ بْنِ حُرَيْثٍ:


الشَّائِعَةِ فَيُقَالُ:
وَجْهُ النَّهَارِ لِأَوَّلِ النَّهَارِ قَالَ تَعَالَى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمرَان: ٧٢] وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيُّ:
وَلَسْتُ وَإِنْ قُرِّبْتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ خَلَاقِي وَلَا دِينِي ابْتِغَاءَ التَّحَبُّبِ
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
وَقَالَ الْأَعْشَى:
وَلَاحَ لَهُمْ وَجْهُ الْعَشِيَّاتِ سَمْلَقُ وَيَقُولُونَ: هُوَ وَجْهُ الْقَوْمِ أَيْ سَيِّدُهُمْ وَالْمُقَدَّمُ بَيْنَهُمْ. وَاشْتُقَّ مِنْ هَذَا الِاسْمِ فِعْلُ وَجُهَ بِضَمِّ الْجِيمِ كَكَرُمَ فَجَاءَ مِنْهُ وَجِيهٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، فَوَجِيهُ النَّاسِ الْمُكَرَّمُ بَيْنَهُمْ، وَمَقْبُولُ الْكَلِمَةِ فِيهِمْ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.
والْمَهْدُ شِبْهُ الصُّنْدُوقِ مِنْ خَشَبٍ لَا غِطَاءَ لَهُ يُمَهَّدُ فِيهِ مَضْجَعٌ لِلصَّبِيِّ مُدَّةَ رِضَاعِهِ يُوضَعُ فِيهِ لِحِفْظِهِ مِنَ السُّقُوطِ.
وَخُصَّ تَكْلِيمُهُ بِحَالَيْنِ: حَالِ كَوْنِهِ فِي الْمَهْدِ، وَحَالِ كَوْنِهِ كَهْلًا، مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّ لِذَيْنِكَ الْحَالَيْنِ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ بِتَشْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ فَأَمَّا تَكْلِيمُهُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَلِأَنَّهُ خَارِقُ عَادَةٍ إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ. وَأَمَّا تَكْلِيمُهُمْ كَهْلًا فَمُرَادٌ بِهِ دَعْوَتُهُ النَّاسَ إِلَى الشَّرِيعَةِ.
فَالتَّكْلِيمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَفِي كِنَايَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهِيَ مَا تَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ مِنَ الْمَجْرُورَيْنِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَمِنَ الصَّالِحِينَ فَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَالصَّالِحُونَ الَّذِينَ صِفَتُهُمُ الصَّلَاحُ لَا تُفَارِقُهُمْ، وَالصَّلَاحُ اسْتِقَامَةُ الْأَعْمَالِ وَطَهَارَةُ النَّفْسِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١٠٠].
وَالْكَهْلُ مَنْ دَخَلَ فِي عَشَرَةِ الْأَرْبَعِينَ وَهُوَ الَّذِي فَارَقَ عَصْرَ الشَّبَابِ، وَالْمَرْأَةُ شَهْلَةٌ بِالشِّينِ، وَلَا يُقَالُ كَهْلَةٌ كَمَا لَا يُقَالُ شَهْلٌ لِلرَّجُلِ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ قَدِيمًا سَمَّوْا شَهْلًا مِثْلَ شَهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الْمُلَقَّبِ الْفِنْدُ الزِّمَانِيُّ فَدَلَّنَا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ أُمِيتَ. وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ بُعِثَ ابْنَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ.
لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ، وَإِنْ لُوحِظَ مَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنْ رفع التهارج وَقع الْخُصُومَاتِ، كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٢] وَلِلشَّرِيعَةِ اهْتِمَامٌ بِتَوْثِيقِ الْحُقُوقِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَمُ لنظام الْمُعَامَلَات. وأياما كَانَ فقد جعل الله الْوَصِيُّ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الدَّفْعِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَوْلَا أَنَّهُ يَضْمَنُ إِذَا أَنْكَرَهُ الْمَحْجُورُ لَمْ يكن لِلْأَمْرِ بالتوثّق فَائِدَةٌ، وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُوَافَقَةَ قَوْلِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّ الْفَخْرَ احْتَجَّ بِأَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ احْتِجَاجٌ وَاهٍ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِكَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ فِي تَرَتُّبِ حُكْمِ الضَّمَانِ، إِذِ الضَّمَانُ مِنْ آثَارِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَبَبُهُ هُوَ انْتِفَاءُ الْإِشْهَادِ، وَأَمَّا الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ فَمِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَأَثَرُهُمَا الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُصَدَّقٌ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ عَدَّهُ أَمِينًا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رَأَى الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَحْمَلَ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ. وَجَاءَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً تَذْيِيلًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا وَصِيَّاتٌ وَتَحْرِيضَاتٌ فَوَكَلَ
الْأَمْرَ فِيهَا إِلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَسِيبُ: الْمُحَاسِبُ. وَالْبَاءُ زَائِدَة للتوكيد.
[٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَهُوَ جَارٍ مَجْرَى النَّتِيجَةِ لِحُكْمِ إِيتَاءِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَمَجْرَى الْمُقَدِّمَةِ لِأَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النِّسَاء: ١١].
وَمُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ الْآيِ السَّابِقَةِ بِهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوا إِيثَارَ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَشِدَّاءِ بِالْأَمْوَالِ، وَحِرْمَانَ الضُّعَفَاءِ، وَإِبْقَاءَهُمْ عَالَةً عَلَى أَشِدَّائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي مَقَادَتِهِمْ، فَكَانَ الْأَوْلِيَاءُ يَمْنَعُونَ عَنْ مَحَاجِيرِهِمْ أَمْوَالَهُمْ، وَكَانَ أَكْبَرُ الْعَائِلَةِ يَحْرِمُ إِخْوَتَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَعَهُ فَكَانَ أُولَئِكَ لِضَعْفِهِمْ يَصْبِرُونَ عَلَى الْحِرْمَانِ، وَيَقْنَعُونَ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِ أَقَارِبِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِنْ نَازَعُوهُمْ أَطْرَدُوهُمْ وَحَرَمُوهُمْ، فَصَارُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ.
وَأَخَصُّ النَّاسِ بِذَلِكَ النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ يَجِدْنَ ضَعْفًا مِنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَيَخْشَيْنَ عَارَ الضَّيْعَةِ،
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ هُنَا تَعْيِيرُ الْيَهُودِ الْمُجَادِلِينَ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَسَاوِي أَسْلَافِهِمْ إِبْكَاتًا لَهُمْ عَنِ التَّطَاوُلِ. عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ تِلْكَ شَنْشَنَتَهُمْ أَزْمَانَ قيام الرُّسُل والنبيئين بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فَهُمْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَجْدَرُ بِكَوْنِهِمْ شَرًّا، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ ذَمِّ الْقَبِيلِ كُلِّهِ. عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مُوجِبَاتِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ وَالْمَسْخِ قَدِ ارْتَكَبَتْهَا الْأَخْلَافُ، عَلَى أَنَّهُمْ شَتَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا زَعَمُوا أَنَّهُ دِينُهُمْ فَيَحِقُّ شَتْمُهُمْ بِمَا نعتقده فيهم.
[٦١- ٦٣]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٦١ إِلَى ٦٣]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
عطف وَإِذا جاؤُكُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً [الْمَائِدَة:
٥٨] الْآيَةَ، وَخُصَّ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُنَافِقُونَ مِنَ الْيَهُودِ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ اتّخذوا الدّين هزوءا وَلَعِبًا، فَاسْتُكْمِلَ بِذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُمُ الْمُعْلِنِينَ مِنْهُمْ وَالْمُنَافِقِينَ. وَلَا يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَى صِفَاتِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ [الْمَائِدَة: ٦٠] لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمَعْنَى، وَبِذَلِكَ يُسْتَغْنَى عَنْ تَكَلُّفِ وَجْهٍ لِهَذَا الْعَطْفِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يُخَالِطْ قُلُوبَهُمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَيْ هُمْ دَخَلُوا كَافِرِينَ وَخَرَجُوا كَذَلِكَ، لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، فَالْمَقْصُودُ اسْتِغْرَاقُ الزَّمَنَيْنِ وَمَا بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ، إِذِ الْحَالَةُ إِذَا تَبَدَّلَتِ اسْتَمَرَّ تَبَدُّلُهَا، فَفِي ذَلِكَ تَسْجِيلُ الْكَذِبِ فِي قَوْلِهِمْ: آمَنَّا، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي دَخَلَ بِهِ.
سَرَائِرِهِمْ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُظْهِرَ اسْتِغْنَاءَ دِينِهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الِاعْتِزَازِ بِأُولَئِكَ الطُّغَاةِ الْقُسَاةِ، وَلِيُظْهِرَ لَهُمْ أَنَّ أُولَئِكَ الضُّعَفَاءَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّ الْحِرْصَ عَلَى قُرْبِهِمْ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنَ الْحِرْصِ عَلَى قُرْبِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ الدِّينَ يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ وَلَيْسَ هُوَ يَرْغَبُ فِي النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الحجرات:
١٧].
وَمَعْنَى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يُعْلِنُونَ إِيمَانَهُمْ بِهِ دُونَ الْأَصْنَامِ إِعْلَانًا بِالْقَوْلِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ الْقَائِلِ بِمَا يَقُولُهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ نِفَاقٌ وَإِنَّمَا ظَهَرَ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ.
وَالْغَدَاةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْعَشِيُّ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الصَّبَاحِ. وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَالتَّعْرِيفُ فِيهِمَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ الْيَوْمَ كُلَّهُ. فَالْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ قُصِدَ بِهِمَا اسْتِيعَابُ الزَّمَانِ وَالْأَيَّامِ كَمَا يُقْصَدُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اسْتِيعَابُ الْأَمْكِنَةِ. وَكَمَا يُقَالُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالدُّعَاءِ الصَّلَاةُ. وَبِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ عُمُومُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَالْمَعْنَى وَلَا تَطْرُدِ الْمُصَلِّينَ، أَيِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْغَداةِ- بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَبِأَلِفٍ بَعْدَ الدَّالِّ-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ- بِضَمِّ
الْغَيْنِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَبِوَاوٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ الدَّالِّ- وَهِيَ لُغَةٌ فِي الْغَدَاةِ.
وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يَدْعُونَ، أَيْ يَدْعُونَ مُخْلِصِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، أَيْ لَا يُرِيدُونَ حَظًّا دُنْيَوِيًّا.
وَالْوَجْهُ حَقِيقَةُ الْجُزْءِ مِنَ الرَّأْسِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ. وَيُطْلَقُ الْوَجْهُ عَلَى الذَّاتِ كُلِّهَا مَجَازًا مُرْسَلًا.
وَالْوَجْهُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلذَّاتِ عَلَى اعْتِبَارِ مُضَافٍ، أَيْ يُرِيدُونَ رِضَى اللَّهِ، أَي لَا يُرِيدُونَ إِرْضَاءَ غَيْرِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً [الْإِنْسَان: ٩]، وَقَوْلُهُ: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١١٥]. فَمَعْنَى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَدَعَوُا اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا طَعَنُوا فِي إِيمَانِ الضُّعَفَاءِ وَنَسَبُوهُمْ إِلَى النِّفَاقِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ صَحِيحٌ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ
وَ (مَنْ آمَنَ) يَتَنَازَعُهُ كُلُّ مِنْ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: مَنْ آمَنَ بِهِ عِوَضًا عَنِ الْمُضَارِعِ، حَيْثُ الْمُرَادُ بِمَنْ آمَنَ قَاصِدُ الْإِيمَانِ، فَالتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ عَزْمِ الْقَاصِدِ عَلَى الْإِيمَانِ فَهُوَ لَوْلَا أَنَّهُمْ يَصُدُّونَهُ لَكَانَ قَدْ آمَنَ.
وسَبِيلِ اللَّهِ الدِّينُ لِأَنَّهُ مثل الطَّرِيق الْموصل إِلَى اللَّهِ، أَيْ إِلَى الْقُرْبِ مِنْ مَرْضَاتِهِ.
وَمَعْنَى تَبْغُونَها عِوَجاً تَبْغُونَ لِسَبِيلِ اللَّهِ عِوَجًا إِذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ شُعَيْبٌ بَاطِلٌ، يُقَالُ: بَغَاهُ بِمَعْنَى طَلَبَ لَهُ، فَأَصْلُهُ بَغَى لَهُ فَحَذَفُوا حَرْفَ الْجَرِّ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لِتَضْمِينِ بَغَى مَعْنَى أَعْطَى.
وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ- عَدَمُ الِاسْتِقَامَةِ فِي الْمَعَانِي، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ: عَدَمُ اسْتِقَامَةِ الذَّاتِ، وَالْمَعْنَى: تُحَاوِلُونَ أَنْ تَصِفُوا دَعْوَةَ شُعَيْبٍ الْمُسْتَقِيمَةَ بِأَنَّهَا بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، كَمَنْ يُحَاوِلُ اعْوِجَاجَ عُودٍ مُسْتَقِيمٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي ذِكْرِ نِدَاءِ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ.
وَإِنَّمَا أَخَّرَ النَّهْيَ عَنِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، بَعْدَ جُمْلَةِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ فِي نَسَقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمَاضِيَةِ ثُمَّ يُعَقِّبْهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ رَتَّبَ الْكَلَامَ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، ثُمَّ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْجَمِيعَ فِيهِ صَلَاحُ الْمُخَاطَبِينَ، فَأَعْقَبَهَا بِبَيَانِ أَنَّهَا خَيْرٌ لَهُمْ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَأَعَادَ تَنْبِيهَهُمْ
إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صَلَاحِ الْأَعْمَالِ، وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ عَادَ إِلَى النَّهْيِ عَنْ صَدِّ الرَّاغِبِينَ فِيهِ، فَهَذَا مِثْلُ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَأَنِّي لَمْ أَرْكَبْ جَوَادًا لِلَذَّةٍ وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خُلْخَالِ
وَلَمْ أَسْبَأِ الرَّاحَ الْكُمَيْتَ وَلَمْ أَقُلْ لِخَيْلِي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إِجْفَالِ
رَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي «شَرْحِ دِيوَانِ الْمُتَنَبِّي» أَنَّ الْمُتَنَبِّي لَمَّا أَنْشَدَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَوْلَهُ فِيهِ:
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
ابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ أَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ الْغَنَائِمُ وَقِسْمَتُهَا وَمَصَارِفُهَا.
وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ.
وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي أَمْرِ الْغَنَائِمِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ مَعْنَى الْإِيمَانِ الْكَامِلِ.
وَذِكْرِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ وَبِخَوْفِهِمْ مِنْ قُوَّةِ عَدَدِهِمْ وَمَا لَقُوا فِيهَا مِنْ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ مِنَ اللَّهِ وَلُطْفِهِ بِهِمْ.
وَامْتِنَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعْلَهُمْ أَقْوِيَاءَ.
وَوَعدهمْ بالنصر والهواية إِنِ اتَّقَوْا بِالثَّبَاتِ لِلْعَدُوِّ، وَالصَّبْرِ.
وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ.
وَالْأَمْرِ بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنَازُعِ.
وَالْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ قَصْدُ النُّصْرَةِ لِلدِّينِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ.
وَوَصْفِ السَّبَبِ الَّذِي أَخْرَجَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ.
وَذِكْرِ مَوَاقِعِ الْجَيْشَيْنِ، وَصِفَاتِ مَا جَرَى مِنَ الْقِتَالِ.
وَتَذْكِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ أَنْجَاهُ مِنْ مَكْرِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ بِمَكَّةَ وَخَلَّصَهُ مِنْ عِنَادِهِمْ، وَأَنَّ مَقَامَهُ بِمَكَّةَ كَانَ أَمَانًا لِأَهْلِهَا فَلَمَّا فَارَقَهُمْ فَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا بِمَا اقْتَرَفُوا مِنَ الصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَدَعْوَةِ الْمُشْرِكِينَ لِلِانْتِهَاءِ عَنْ مُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ وَإِيذَانِهِمْ بِالْقِتَالِ.
وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ.
وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي عَانَدَتْ رُسُلَ اللَّهِ وَلَمْ يشكروا نعْمَة لله.
وَأَحْكَامِ الْعَهْدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَقْضِهِمُ الْعَهْدَ، وَمَتَى يَحْسُنُ السِّلْمُ.
وَأَحْكَامِ الْأَسْرَى.
وَأَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَوِلَايَتِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تِلْكَ الْوِلَايَةِ
وَأُعِيدَتْ (َأَنَّ) فِي الْجَوَابِ لِتَوْكِيدِ أَنَّ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ الشَّرْطِ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا، فَإِنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَكَانَتْ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ تَفْسِيرًا لِضَمِيرِ الشَّأْنِ، كَانَ حُكْمُ أَنْ سَارِيًا فِي الْجُمْلَتَيْنِ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ تُذْكَرْ فِي الْجَوَابِ لَعُلِمَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَاهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ كَانَ ذِكْرُهَا تَوْكِيدًا لَهَا، وَلَا ضَيْرَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُؤَكَّدِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ فَاءِ الْجَوَابِ وَمَدْخُولِهَا بِحَرْفٍ، إِذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النَّحْل: ١١٩] وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَعْرَاب:
وإنّ امْرأ دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّهُ لَكَرِيمُ
وجَهَنَّمَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٦].
وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ إِلَى ضَمِيرِ الشَّأْنِ بِاعْتِبَارِ تَفْسِيرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِشَارَةِ: تَمْيِيزُهُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَاهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ.
والْخِزْيُ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٨٥].
[٦٤]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٦٤]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (٦٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِذِكْرِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ [التَّوْبَة: ٦٢] وَهُوَ إِظْهَارُهُمُ الْإِيمَانَ بِالْمُعْجِزَاتِ وَإِخْبَارُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُغَيَّبَاتِ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّ الْحَذَرَ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَهَذَا الظَّاهِرُ يُنَافِي كَوْنَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ خَبَرَهُ صِدْقٌ فَلِذَلِكَ تَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ «هُوَ حَذَرٌ يُظْهِرُهُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى
وَهُوَ مَعَ تَفَوُّقِهِ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ قَدِ امْتَازَ بِكَوْنِهِ تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ الْمُطَّلِعِ عَلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ، الْمُرِيدِ إِقْرَارَ الصَّالِحِ وَإِزَالَةَ الْفَاسِدِ.
وَجَعَلَ مُوسَى وَهَارُونَ مَبْعُوثَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ طَلَبَ مُوسَى أَنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ مُؤَيِّدًا وَمُعْرِبًا عَنْ مَقَاصِدَ مُوسَى فَكَانَ بِذَلِكَ مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ سُورَةُ الْقَصَصِ، فَالْمَبْعُوثُ أَصَالَةً هُوَ مُوسَى وَأَمَّا هَارُونُ فَبُعِثَ مُعِينًا لَهُ وَنَاصِرًا، لِأَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَةَ كَانَتْ أَوَّلُ رِسَالَةٍ يَصْحَبُهَا تَكْوِينُ أُمَّةٍ.
وَفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٣]، وَعَلَى صِفَةِ إِرْسَالِ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ مِنِفْطَاحُ الثَّانِي أَحَدُ فَرَاعِنَةِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الْأُسَرِ الَّتِي مَلَكَتْ بِلَادَ الْقِبْطِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَلَأِ خَاصَةُ النَّاسِ وَسَادَتُهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى بُعِثَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبُعِثَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَهْلِ دَوْلتِهِ لِيُطْلِقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالسَّينُ والتّاء فِي فَاسْتَكْبَرُوا لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكَبُّرِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ مِنْ مُوسَى، لِأَنَّهُمْ احْتَقَرُوهُ وَأَحَالُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مِنْ اللهِ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ مُسْتَعْبَدِينَ اسْتَعْبَدَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَهَذَا وَجْهُ اخْتِيَارِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِعْراَضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالِاسْتِكْبَارِ كَمَا حَكَى اللهُ عَنْهُمْ فَقَالُوا: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧]. وتفريع فَاسْتَكْبَرُوا عَلَى جُمْلَةِ بَعَثْنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ إِعْرَاضٍ مِنْهُمْ وَإِنْكَارٍ فِي مُدَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْبَعْثَةِ هُوَ اسْتِكْبَارٌ.
وَجُمْلَةُ: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ وَقَدْ كَانَ الْإِجْرَامُ دَأْبَهُمْ وَخُلُقَهُمْ فَكَانَ اسْتِكْبَارُهُمْ عَلَى مُوسَى مِنْ جُمْلَةِ إِجْرَامِهِمْ.
الْإِسْرَاعِ بِانْتِشَالِهِ مِنَ الْجُبِّ، أَيْ مَكَّنَا لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَمْكِينًا مِنْ صُنْعِنَا، مِثْلَ ذَلِكَ الْإِنْجَاءِ الَّذِي نَجَّيْنَاهُ، فَتَكُونُ الْكَافُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ مَكَّنَّا. وَنَظِيرُهُ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٨].
وَالتَّمْكِينُ فِي الْأَرْضِ هَنَا مُرَادٌ بِهِ ابْتِدَاؤُهُ وَتَقْدِيرُ أَوَّلِ أَجْزَائِهِ، فَيُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِحُلُولِهِ مَحَلَّ الْعِنَايَةِ مِنْ عَزِيزِ مِصْرَ قَدْ خَطَّ لَهُ مُسْتَقْبَلَ تَمْكِينِهِ مِنَ الْأَرْضِ بِالْوَجْهِ الْأَتَمِّ الَّذِي أُشِيرَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدُ: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [سُورَة يُوسُف: ٥٦]، فَمَا ذُكِرَ هُنَالِكَ هُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ مِمَّا هُنَا، وَهُوَ تَمَامُهُ.
وَعَطَفَ عَلَى وَكَذلِكَ عِلَّةً لِمَعْنًى مُسْتَفَادٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْإِيتَاءُ، تِلْكَ الْعِلَّةُ هِيَ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ لِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَدَّرَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنْ يَجْعَلَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَالِمًا بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَن يَجعله نبيئا أَنْجَاهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَمَكَّنَ لَهُ فِي الْأَرْضِ تَهْيِئَةً لِأَسْبَابِ مُرَادِ اللَّهِ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ آنِفًا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِ أَبِيهِ لَهُ: وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [سُورَة يُوسُف: ٦] أَيْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، وَتَذْيِيلٌ، لِأَنَّ مَفْهُومَهَا عَامٌّ يَشْمَلُ غَلَبَ اللَّهِ إِخْوَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِإِبْطَالِ كَيْدِهِمْ، وَضَمِيرُ أَمْرِهِ عَائِدٌ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ.
وَحَرْفُ عَلى بَعْدَ مَادَّةِ الْغَلَبِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ فِيهِ النِّزَاعُ، كَقَوْلِهِمْ: غَلَبْنَاهُمْ عَلَى الْمَاءِ.
وَأمر اللَّهِ هُوَ مَا قَدَّرَهُ وَأَرَادَهُ، فَمَنْ سَعَى إِلَى عَمَلٍ يُخَالِفُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ فَحَالُهُ كَحَالِ الْمُنَازِعِ عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ الْأَمْرَ الَّذِي أَرَادَهُ وَيَمْنَعَ حُصُولَ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَشَأْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَحَالِ الْغَالِبِ لِمُنَازِعِهِ. وَالْمَعْنَى وَاللَّهُ مُتَمِّمٌ مَا قَدَّرَهُ، وَلِذَلِكَ
وَجُمْلَةُ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْضًا. وَالطَّرْفُ: تَحَرُّكُ جَفْنِ الْعَيْنِ.
وَمَعْنَى لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، أَيْ لَا يَعُودُ إِلَى مُعْتَادِهِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَحْوِيلَهُ. فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلِ مَا شَاهَدُوهُ بِحَيْثُ يَبْقُونَ نَاظِرِينَ إِلَيْهِ لَا تُطْرَفُ أَعْيُنُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، إِذْ هِيَ كَالْهَوَاءِ فِي الْخُلُوِّ مِنَ الْإِدْرَاكِ لِشِدَّةِ الْهَوْلِ.
وَالْهَوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْخَلَاءُ. وَلَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الطِّبِّ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ.
[٤٤، ٥٥]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٤ الى ٤٥]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢]، أَيْ تَسَلَّ عَنْهُمْ وَلَا تَمْلَلْ مِنْ دَعْوَتِهِمْ وَأَنْذِرْهُمْ.
وَالنَّاسُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَشَرِ. وَالْمَقْصُودُ: الْكَافِرُونَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ النَّاسَ نَاسًا مَعْهُودِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
ويَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ. مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ أَنْذِرِ، وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ. وَفِعْلُ الْإِنْذَارِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ عَلَى التَّوَسُّعِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى التَّحْذِيرِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَنْذَرَ قَوْمَهُ الدَّجَّالَ»
. وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى وُقُوعِهِ مَجَازًا مُرْسَلًا.
وَالْعَذَابُ: عَذَابُ الْآخِرَةِ، أَوْ عَذَابُ الدُّنْيَا الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ. والَّذِينَ ظَلَمُوا: الْمُشْرِكُونَ.
الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ هُنَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ [سُورَة النَّحْل: ٨٥].
فَالْإِشْرَاكُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ إِشْرَاكُهُمُ الْأَصْنَامَ فِي صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ الْأَصْنَامَ، أَيِ الشُّرَكَاءَ لِلَّهِ حَسَبَ اعْتِقَادِهِمْ. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُضِيفَ لَفْظُ «شُرَكَاءَ» إِلَى ضَمِيرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: شُرَكاءَهُمْ، كَقَوْلِ خَالِدِ بْنِ
الصَّقْعَبِ النَّهْدِيِّ لعَمْرو بن معديكرب وَقَدْ تَحَدَّثَ عَمْرٌو فِي مَجْلِسِ قَوْمٍ بِأَنَّهُ أَغَارَ عَلَى بَنِي نَهْدٍ وَقَتَلَ خَالِدًا، وَكَانَ خَالِدٌ حَاضِرًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَنَادَاهُ: مَهْلًا أَبَا ثَوْرٍ قَتِيلُكُ يَسْمَعُ، أَيْ قَتِيلُكُ الْمَزْعُومُ، فَالْإِضَافَةُ لِلتَّهَكُّمِ. وَالْمَعْنَى: إِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا الشُّرَكَاءَ عِنْدَهُمْ، أَيْ فِي ظَنِّهِمْ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ لَفْظَ «شُرَكَاءَ» لَقَبًا زَالَ مِنْهُ مَعْنَى الْوَصْفِ بِالشَّرِكَةِ وَصَارَ لَقَبًا لِلْأَصْنَامِ، فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ عَلَى أَصْلِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْأَصْنَامَ حِينَ تُقْذَفُ مَعَهُمْ فِي النَّارِ، قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٤].
وَقَوْلُهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا إِمَّا مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَافِ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ فَضْحًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ [سُورَة النُّور: ٢٤]، وَإِمَّا مِنْ قَبِيلِ التَّنَصُّلِ وَإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى الْمَعْبُودَاتِ كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ أَغْرَوْنَا بِعِبَادَتِهِمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا [سُورَة الْبَقَرَة: ١٦٧].
وَالْفَاءُ فِي فَأَلْقَوْا لِلتَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِتَكْذِيبِ مَا تَضَمَّنَهُ مَقَالُهُمْ، أَنْطَقَ اللَّهُ تِلْكَ الْأَصْنَامَ فَكَذَّبَتْ مَا تَضَمَّنَهُ مَقَالُهُمْ مِنْ كَوْنِ الْأَصْنَامِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ، أَوْ مِنْ كَوْنِ عِبَادَتِهِمْ بِإِغْرَاءٍ مِنْهَا تَفْضِيحًا لَهُمْ وَحَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
وَالْجَمْعُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَاسْمِ الْمَوْصُولِ جَمْعُ الْعُقَلَاءِ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ.
وَذكر النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ تَقْرِيبٌ لِمَنْزِلَتِهِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ بِمَا فِي إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مِنْ رِفْعَةِ قَدْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الْفرْقَان: ١].
وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. فَكُلُّ مِقْدَارٍ مُنَزَّلٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْكِتابَ. فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ هُنَا مَا وَقَعَ إِنْزَالُهُ مِنْ يَوْمِ الْبَعْثَةِ فِي غَارِ حِرَاءٍ إِلَى يَوْمِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يَنْزِلُ
بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَيُزَادُ بِهِ مِقْدَارُهُ.
وَجُمْلَةُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْكِتابَ وَبَيْنَ الْحَالِ مِنْهُ وَهُوَ قَيِّماً. وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَيَجُوزُ كَوْنُ الْجُمْلَةِ حَالًا وَالْوَاوِ حَالِيَّةً.
وَالْعِوَجُ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَبِفَتْحِ الْوَاوِ- حَقِيقَتُهُ: انْحِرَافُ جِسْمٍ مَا عَنِ الشَّكْلِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ. وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الِانْحِرَافِ عَنِ الصَّوَابِ وَالْمَعَانِي الْمَقْبُولَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ مَكْسُورَ الْعَيْنِ وَمَفْتُوحَهَا سَوَاءٌ فِي الْإِطْلَاقَيْنِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ. وَقِيلَ: الْمَكْسُورُ الْعَيْنِ يَخْتَصُّ بِالْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي «الْكَشَّافِ». وَيُبْطِلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ نَسْفَ الْجِبَالِ فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٦- ١٠٧] حَيْثُ اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَتِهِ- بِكَسْرِ الْعَيْنِ-. وَعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أَنَّ الْمَكْسُورَ أَعَمُّ يَجِيءُ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَأَنَّ الْمَفْتُوحَ خَاصٌّ بِالْمَجَازِيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالْعِوَجِ هُنَا عِوَجُ مَدْلُولَاتِ كَلَامِهِ بِمُخَالَفَتِهَا لِلصَّوَابِ وَتَنَاقُضِهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْحِكْمَةِ وَإِصَابَةِ الْمُرَادِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ أَوِ الْحَالِيَّةِ إِبْطَالُ مَا يَرْمِيهِ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْلِهِمُ: «افْتَرَاهُ، وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَقَوْلُ كَاهِنٍ»، لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ لَا تَخْلُو مِنْ عِوَجٍ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء:
٨٢].
حُلُولِ الشَّمْسِ فِي بُرْجِ الْمِيزَانِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَيْ قَبْلَ فَصْلِ الْخَرِيفِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَهُوَ يُوَافِقُ الْيَوْمَ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ تِشْرِينَ (سِبْتَمْبِرَ). وَأَوَّلَ أَيَّامِ شَهْرِ (تُوتَ) هُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ عِنْدَ الْفُرْسِ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِسَابِ انْتِهَاءِ زِيَادَةِ النِّيلِ لَا عَلَى حِسَابِ بُرُوجِ الشَّمْسِ.
وَاخْتَارَ مُوسَى هَذَا الْوَقْتَ وَهَذَا الْمَكَانَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ سَيَكُونُ الْفَلَجُ لَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مُشَاهِدًا وأوضح رُؤْيَة.
[٦٠- ٦١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٦٠ إِلَى ٦١]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
تَفْرِيعُ التَّوَلِّي وَجَمْعُ الْكَيْدِ عَلَى تَعْيِينِ مُوسَى لِلْمَوْعِدِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ بَادَرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِهَذَا الْمَوْعِدِ وَلَمْ يُضِعِ الْوَقْتَ لِلتَّهْيِئَةِ لَهُ.
وَالتَّوَلِّي: الِانْصِرَافُ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته، أَيِ انْصَرَفَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى حَيْثُ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إِلَى الْمَدَائِنِ لِجَمْعِ مَنْ عُرِفُوا بِعِلْمِ السِّحْرِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [٢٢، ٢٣] ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى.
وَمَعْنَى جَمْعُ الْكَيْدِ: تَدْبِيرُ أُسْلُوبِ مُنَاظَرَةِ مُوسَى، وَإِعْدَادُ الْحِيَلِ لِإِظْهَارِ غَلَبَةِ السَّحَرَةِ عَلَيْهِ، وَإِقْنَاعِ الْحَاضِرِينَ بِأَنَّ مُوسَى لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ.
وَهَذَا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ: أَنْ يَسْعَى الْمُنَاظِرُ جُهْدَهُ لِلتَّشْهِيرِ بِبُطْلَانِ حُجَّةِ خَصْمِهِ بِكُلِّ وَسَائِلِ التَّلْبِيسِ وَالتَّشْنِيعِ وَالتَّشْهِيرِ، وَمُبَادَأَتِهِ بِمَا يَفُتُّ فِي عَضُدِهِ وَيُشَوِّشُ رَأْيَهُ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ تَدْبِيرُهُ.
فَالْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرَ وُجُوبٍ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ فَكُلُوا لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ.
وَقَدْ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي ضَمَائِرِ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، إِلَى الْخِطَابِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِي حِكَايَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْأَكْلَ مِنَ الْهَدَايَا.
ثُمَّ عَادَ الْأُسْلُوبُ إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الْحَج: ٢٩].
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَكُلُوا مِنْها إِلَخْ مُعْتَرِضَةً مُفَرَّعَةً عَلَى خِطَابِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ تَفْرِيعَ الْخَبَرِ عَلَى الْخَبَرِ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يُمْنَعَ الْأَكْلُ مِنْ بَعْضِهَا.
وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أُجْمِلَتْ هُنَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِهَا إِذْ غَرَضُ الْكَلَامِ ذِكْرُ حَجِّ الْبَيْتِ وَقَدْ بَيَّنْتُ عِنْدَ التَّعَرُّضِ لِأَعْمَالِ الْحَجِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [الْبَقَرَة: ٢٠٣].
وَالْبَائِسُ: الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْسُ، وَهُوَ ضِيقُ الْمَالِ، وَهُوَ الْفَقِيرُ، هَذَا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي «الْمُوَطَّأِ» : فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ مِنْ أَكْلِ الدَّوَابِّ، قَالَ مَالِكٌ: سَمِعْتُ أَنَّ الْبَائِسَ هُوَ الْفَقِيرُ اه. وَقُلْتُ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ كَالْبَيَانِ لَهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْبَائِسُ مَعَ أَنَّ الْفَقِيرَ مُغْنٍ عَنْهُ لِتَرْقِيقِ أَفْئِدَةِ النَّاسِ عَلَى الْفَقِيرِ بِتَذْكِيرِهِمْ أَنَّهُ فِي بُؤْسٍ لِأَنَّ وَصْفَ فَقِيرٍ لِشُيُوعِ تَدَاوُلِهِ عَلَى الْأَلْسُنِ صَارَ كَاللَّقَبِ
وَقَالَ أَيْضًا:
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحُ رَاهِبٍ آمَالَ السَّلِيطِ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ
السليط: الزَّيْتُ. أَيْ صَبُّ الزَّيْتِ عَلَى الذُّبَالِ فَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَكْثَرُ إِضَاءَةً.
وَكَانُوا يَهْتَدُونَ بِهَا فِي أَسْفَارِهِمْ لَيْلًا. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
سَمَوْتُ إِلَيْهَا وَالنُّجُومُ كَأَنَّهَا مَصَابِيحُ رُهْبَانٍ تُشَبُّ لِقُفَّالِ
الْقُفَّالُ: جَمْعُ قَافِلٍ وَهُمُ الرَّاجِعُونَ مِنْ أَسْفَارِهِمْ.
وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالرَّفْعِ الرَّفْعُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّنْزِيهُ عَنِ النَّقَائِصِ. فَالْإِذْنُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَمْرِ.
وَبَعْدُ فَهَذَا يَبْعُدُ عَنْ أَغْرَاضِ الْقُرْآنِ وَخَاصَّةً الْمَدَنِيَّ مِنْهُ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ ثَنَاءٌ جَمٌّ وَمُعَقَّبٌ بِقَوْلِهِ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي بُيُوتٍ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ هُوَ حَال من لِنُورِهِ فِي قَوْلِهِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [النُّور: ٣٥] إِلَخْ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ «نُورِ» فِي قَوْلِهِ: مَثَلُ نُورِهِ مُرَادٌ مِنْهُ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَالُ تَجْرِيدًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ بِذِكْرِ مَا يُنَاسِبُ الْهَيْئَةَ الْمُشَبَّهَةَ أَعْنِي هَيْئَةَ تَلَقِّي الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَدَبُّرِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
(١)، فَكَانَ هَذَا التَّجْرِيدُ رُجُوعًا إِلَى حَقِيقَةِ التَّرْكِيبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ كَقَوْلِ طَرَفَةَ:
وَفِي الْحَيِّ أَحَوَى يَنْفُضُ الْمُرْدَ شَادِفٌ مَظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
مَعَ مَا فِي الْآيَةُ من بَيَان مَا أجمل فِي لفظ: مَثَلُ نُورِهِ وَبِذَلِك كَانَت الْآيَة أَبْلَغَ مِنْ بَيْتِ طَرَفَةَ لِأَنَّ الْآيَةَ جَمَعَتْ بَيْنَ تَجْرِيدٍ وَبَيَانٍ وَبَيْتَ طَرَفَةَ تَجْرِيدٌ فَقَطْ.
_________
(١) رَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ إِلَى أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي «الرِّسَالَةِ» : وَلَا بَأْسَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَتْلِ النَّمْلِ إِذَا آذَتْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا. فَقَوْلُ سُلَيْمَانَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً شَرِيعَةٌ مَنْسُوخَةٌ.
أَمَّا الْعِقَابُ الْخَفِيفُ لِلْحَيَوَانِ لِتَرْبِيَتِهِ وَتَأْدِيبِهِ كَضَرْبِ الْخَيْلِ لِتَعْلِيمِ السَّيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ، وَكَذَلِكَ السَّبَقُ بَيْنَ الْخَيْلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِهَا لِمَصْلَحَةِ السَّيْرِ عَلَيْهَا فِي الْجُيُوشِ.
وأَوْ تُفِيدُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ فَقَوْلُهُ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ جَعَلَهُ ثَالِثَ الْأُمُورِ الَّتِي جَعَلَهَا جَزَاءً لِغَيْبَتِهِ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الْعِقَابَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ عُذْرٍ فِي التَّخَلُّفِ مَقْبُولٍ.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ. والمبين: الْمظهر لحق الْمُحْتَجُّ بِهَا. وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ النَّبِيءِ سُلَيْمَانَ اسْتِقْصَاءٌ لِلْهُدْهُدِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّ الْغَائِبَ حُجَّتُهُ مَعَهُ.
وَأَكَّدَ عَزْمَهُ عَلَى عِقَابِهِ بِتَأْكِيدِ الْجُمْلَتَيْنِ لَأُعَذِّبَنَّهُ- لَأَذْبَحَنَّهُ بِاللَّامِ الموكدة الَّتِي تُسَمَّى لَامُ الْقَسَمِ وَبِنُونِ التَّوْكِيدِ لِيَعْلَمَ الْجُنْدُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا فُقِدَ الْهُدْهُدُ وَلَمْ يَرْجِعْ يَكُونُ ذَلِكَ التَّأْكِيدُ زَاجِرًا لِبَاقِي الْجُنْدِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ فِعْلَتِهِ فَيَنَالُهُمُ الْعِقَابُ.
وَأَمَّا تَأْكِيدُ جُمْلَةِ: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَلِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ أَنَّهُ لَا مَنْجَى لَهُ مِنَ الْعِقَابِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِحُجَّةٍ تُبَرِّرُ تَغَيُّبَهُ، لِأَنَّ سِيَاقَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَهَا عَدِيلُ الْعُقُوبَةِ. فَلَمَّا كَانَ الْعِقَابُ مُؤَكَّدًا مُحَقَّقًا فَقَدِ اقْتَضَى تَأْكِيدَ الْمُخْرِجِ مِنْهُ لِئَلَّا يُبَرِّئَهُ مِنْهُ إِلَّا تَحَقُّقُ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ لِئَلَّا تُتَوَهَّمَ هَوَادَةٌ فِي الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَّةِ فَكَانَ تَأْكِيدُ الْعَدِيلِ كَتَأْكِيدِ مُعَادِلِهِ. وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ الْأُولَى لِلتَّخْيِيرِ وأَوْ الثَّانِيَةَ لِلتَّقْسِيمِ. وَقِيلَ جِيءَ بِتَوْكِيدِ جُمْلَةِ: لَيَأْتِيَنِّي مُشَاكَلَةً لِلْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَتَغْلِيبًا. وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ وَلَيْسَ مِنَ التَّحْقِيقِ.
وَكُتِبَ فِي الْمَصَاحِف لَأَذْبَحَنَّهُ بِلَامِ أَلِفٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ حَتَّى يُخَالَ أَنَّهُ نَفْيُ الذَّبْحِ وَلَيْسَ بِنَفْيٍ، لِأَنَّ وُقُوعَ نُونِ التَّوْكِيدِ بَعْدَهُ يُؤْذِنُ بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ إِذْ لَا يُؤَكَّدُ الْمَنْفِيُّ بِنُونِ التَّأْكِيدِ إِلَّا نَادِرًا فِي كَلَامِهِمْ، وَلِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى حَارِسٌ مِنْ تَطَرُّقِ

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَةً ٣٦]

وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦)
عَطْفٌ على وَلُوطاً [العنكبوت: ٢٨] الْمَعْطُوفِ على نُوحاً [العنكبوت: ١٤] الْمَعْمُولِ ل أَرْسَلْنا [العنكبوت: ١٤]. فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.
وَالْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ إِلَى قِصَّةِ مَدْيَنَ وَرَسُولِهِمْ أَنَّ مَدْيَنَ كَانَ
مِنْ أَبْنَاءِ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْجَاهُ مِنَ الْعَذَابِ كَمَا أَنْجَى لُوطًا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ إِلى مَدْيَنَ لِيَتَأَتَّى الْإِيجَازُ فِي وَصْفِ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُمْ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى كَوْنِهِ أَخًا لَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وَقَوْلُهُ فَقالَ عَطْفٌ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، أَيْ أَرْسَلْنَاهُ فَعُقِّبَ إِرْسَالُهُ بِأَنْ قَالَ.
وَالرَّجَاءُ: التَّرَقُّبُ وَاعْتِقَادُ الْوُقُوعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِتَرَقُّبِ الْيَوْمِ الْآخِرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ قَوْلِهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٠]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي سُورَة هود.
[٣٧]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٣٧]
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧)
الْأَخْذُ: الْإِعْدَامُ وَالْإِهْلَاكُ شَبَّهُ الْإِعْدَامَ بِالْأَخْذِ بِجَامِعِ الْإِزَالَةِ.
والرَّجْفَةُ: الزِّلْزَالُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَرْتَجِفُ مِنْهُ الْأَرْضُ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ سُمِّيَتْ بِالصَّيْحَةِ لِأَنَّ لِتِلْكَ الرَّجْفَةِ صَوْتًا شَدِيدًا كَالصَّيْحَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُشِيرَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ إِلَى مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْغَرَضِ الْمَسُوقِ فِيهِ، وَهُوَ الْمُصَابَرَةُ عَلَى إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْكَافِرِينَ، وَنصر الله إيَّاهُمَا، وَتَعْذِيبُ الْكَافِرِينَ وَإِنْجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ إِلَى قَوْله تَبْدِيلًا [الْأَحْزَاب: ٢٣]. وَافْتَقَدَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخَرِ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَوَجَدَهُمَا عِنْدَ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ أَوْسٍ- الْمُشْتَهِرِ بِكُنْيَتِهِ-.
وَبَعْدُ فَخَبَرُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ خَبَرٌ غَرِيبٌ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ فَنُوقِنُ بِأَنَّهُ دَخَلَهُ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ. وَهُوَ أَيْضًا خَبَرُ آحَادٍ لَا يَنْتَقِضُ بِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْمَوْجُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مُتَوَاتِرًا. وَفِي «الْكَشَّافِ» : وَأَمَّا مَا يُحْكَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ عَائِشَةَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً فِي صَحِيفَةٍ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ فَأَكَلَتْهَا الدَّاجِنُ، أَيِ الشَّاةُ، فَمِنْ تَأْلِيفَاتِ الْمَلَاحِدَةِ وَالرَّوَافِضِ اهـ.
وَوَضْعُ هَذَا الْخَبَرِ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ فَإِنَّهُ لَوْ صَدَقَ هَذَا لَكَانَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ قَدْ هَلَكَتْ
فِي زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَهُ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ وَحُفَّاظُ الْقُرْآنِ كَثِيرُونَ فَلَوْ تَلِفَتْ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ لَمْ يُتْلَفْ مَا فِيهَا مِنْ صُدُورِ الْحُفَّاظِ. وَكَوْنُ الْقُرْآنِ قَدْ تَلَاشَى مِنْهُ كَثِيرٌ هُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الرَّوَافِضِ لِيَطْعَنُوا بِهِ فِي الْخُلَفَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَوْدَعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ فَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالْقُرْآنِ وِقْرَ بَعِيرٍ. وَقَدِ اسْتَوْعَبَ قَوْلُهُمْ وَاسْتَوْفَى إِبْطَالَهَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَوَاصِمِ مِنَ الْقَوَاصِمِ».
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
لِكَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ أَسْبَابٌ لِنُزُولِهَا، وَأَكْثَرُهَا نَزَلَ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَقْوَالًا قَصَدُوا بِهَا أَذَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَهَمُّ أَغْرَاضِهَا: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالُوا: تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأَةَ ابْنِهِ وَهُوَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْطَالَ التَّبَنِّي. وَأَنَّ الْحَقَّ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الْخَبِيرُ بِالْأَعْمَالِ وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ الْحَقَّ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٥- سُورَةُ فَاطِرٍ
سُمِّيَتْ «سُورَةَ فَاطِرٍ» فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَفِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ. وَسُمِّيَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ» لَا غَيْرَ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهَا كِلَا الِاسْمَيْنِ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ».
فَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ فَاطِرٍ» أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ وَقَعَ فِي طَالِعَةِ السُّورَةِ وَلَمْ يَقَعْ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أُخْرَى. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ الْمَلَائِكَةِ» أَنَّهُ ذُكِرَ فِي أَوَّلِهَا صِفَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلَمْ يَقَعْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحَكَى الْأَلُوسِيُّ عَنِ الطَّبَرْسِيِّ أَنَّ الْحَسَنَ اسْتَثْنَى آيَتَيْنِ: آيَةَ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: ٢٩] الْآيَةَ، وَآيَةَ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢] الْآيَةَ، وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِهِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ سُورَةِ مَرْيَمَ.
وَقَدْ عُدَّتْ آيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ، وَفِي عَدِّ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِثْبَاتِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَافْتُتِحَتْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ الْحَمْدَ عَلَى مَا أَبْدَعَ مِنَ الْكَائِنَاتِ الدَّالِّ إِبْدَاعُهَا عَلَى تَفَرُّدِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ.
نَظَرٍ عَلَى أَنَّهُ نِظَامٌ عَلَى غَايَةِ الْإِحْكَامِ إِحْكَامًا مُطَّرِدًا، وَهُوَ مَا نَبَّهَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا.
وَمَصَبُّ النَّفْيِ الْحَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ: باطِلًا فَهُوَ عَامٌّ لِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَبُعْدُ النَّظَرِ يُعْلِمُ النَّاظِرَ أَنَّ خَالِقَهَا حَكِيمٌ عَادِلٌ وَأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفَاعِلِ يُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا عَلَى الْخَفي، فَكَانَ حَقًا عَلَى الَّذِينَ اعْتَادُوا بِتَحْكِيمِ الْمُشَاهَدَاتِ وَعَدَمِ تَجَاوُزِهَا أَنْ ينْظرُوا بِقِيَاس من خَفِيَ عَنْهُمْ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَنَّ نِظَامَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَكَامِلِ النِّظَامِ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَبَّرُوا فِيمَا خَفِيَ عَنْهُمْ مِنْ
وُقُوعِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ جَارٍ عَلَى نِظَامٍ بَدِيعٍ إِلَّا أَعْمَالَ الْإِنْسَانِ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْمُشَاهَدَةِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ صَالِحِينَ نَافِعِينَ، وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ إِلَى صِنْفِ الْمُجْرِمِينَ الْمُفْسِدِينَ، وَأَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ كَثِيرًا لَمْ يَنَالُوا مِنْ حُظُوظِ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ شَيْئًا أَوْ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ صَلَاحُهُ وَمَا جَاهَدَهُ مِنَ الِارْتِقَاءِ بِنَفْسِهِ إِلَى مَعَارِجِ الْكَمَالِ. وَمِنَ الْمُفْسِدِينَ مَنْ هُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ.
وَالْفَسَادُ: اخْتِلَالٌ اجْتَلَبَهُ الْإِنْسَانُ إِلَى نَفْسِهِ بِاتِّبَاعِهِ شَهَوَاتِهِ بِاخْتِيَارِهِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ، وَبِقُوَاهُ الْبَاطِنِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التِّين: ٤، ٦] وَفِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ يَدْنُو النَّاسُ دُنُوًّا مُتَدَرِّجًا إِلَى مَرَاتِبِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ دُنُوًّا مُتَدَلِّيًا إِلَى أَحْضِيَةِ الشَّيَاطِينِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَلْتَحِقَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَشْبَاهِهِ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ أَوِ الْجَحِيمِ السَّرْمَدِيِّ.
وَلَوْلَا أَنَّ حِكْمَةَ نِظَامِ خَلْقِ الْعَوَالِمِ اقْتَضَتْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَ الْعَوَالِمِ الزَّائِلَةِ وَالْعَوَالِمِ السَّرْمَدِيَّةِ فِي الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْأَخِيرَةِ لَأَطَارَ اللَّهُ الصَّالِحِينَ إِلَى أَوْجِ النَّعِيمِ الْخَالِدِ، وَلَدَسَّ الْمُجْرِمِينَ فِي دَرَكَاتِ السَّعِيرِ الْمُؤَبَّدِ، لِعِلَلٍ كَثِيرَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ جُمَاعُهَا رَعْيَ الْإِبْقَاءِ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى تُؤَدِّيَ وَظَائِفَهَا الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا، وَهِيَ خَصَائِصُ قَدْ تَتَعَارَضُ فَلَوْ أُوثِرَ بَعْضُهَا عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْقَاءِ لَأَفْضَى إِلَى زَوَالِ الْآخَرِ، فَمَكَّنَ اللَّهُ كُلَّ نَوْعٍ وَكُلَّ صِنْفٍ مِنَ الْكَدَحِ لِنَوَالِ مُلَائِمِهِ وَأَرْشَدَ الْجَمِيعَ إِلَى الْخَيْرِ وَأَمَرَ وَنَهَى وَبَيَّنَ وَحَدَّدَ.
مُرَادٍ لِأَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَأْتِيَا، وَلَا يُتَصَوَّرَ مِنْهُمَا طَوَاعِيَةٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ إِذْ لَيْسَتَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالْإِدْرَاكَاتِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ اللَّهَ يُكْرِهُهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي خُرُوجَهُمَا عَن قدرته بادىء ذِي بَدْءٍ تَعَيَّنَ الصَّرْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لَهُمَا مِنَ
الْبَلَاغَةِ الْمَكَانَةُ الْعُلْيَا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ مُسْتَعَارًا لِقَبُولِ التَّكْوِينِ كَمَا اسْتُعِيرَ لِلْعِصْيَانِ الْإِدْبَارُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى [النازعات: ٢٢]،
وَقَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُسَيْلِمَةَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي وَفْدِ قَوْمِهِ بَنِي حَنِيفَةَ «لَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ»
، وَكَمَا يُسْتَعَارُ النُّفُورُ وَالْفِرَارُ لِلْعِصْيَانِ. فَمَعْنَى ائْتِيا امْتَثِلَا أَمْرَ التَّكْوِينِ. وَهَذَا الِامْتِثَالُ مُسْتَعَارٌ لِلْقَبُولِ وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ وَلَهُ مَكَانَةٌ فِي الْبَلَاغَةِ، وَالْقَوْلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: ٨٢].
وَقَوْلُهُ: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْبُدِّ مِنْ قَبُولِ الْأَمْرِ وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِتَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ مِنْ إِيجَادِهِمَا عَلَى وَفْقِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَلِمَةُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَمْثَالِ. وطَوْعاً أَوْ كَرْهاً مَصْدَرَانِ وَقَعَا حَالَيْنِ مِنْ ضَمِيرِ ائْتِيا أَيْ طَائِعَيْنِ أَوْ كَارِهَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مُسْتَعْمَلَةً تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ تَعَلُّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَكْوِينِ السَّمَاءِ وَالْأَرْض لِعَظَمَة خلقهما بِهَيْئَةِ صُدُورِ الْأَمْرِ مِنْ آمِرٍ مُطَاعٍ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْحُضُورِ لِعَمَلٍ شَاقٍّ أَنْ يَقُولَ لَهُ: ائْتِ لِهَذَا الْعَمَلِ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، لِتَوَقُّعِ إِبَائِهِ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، وَهَذَا مِنْ دُونِ مُرَاعَاةِ مُشَابَهَةِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِأَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَلَا قَوْلَ وَلَا مَقُولَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ، وَيَكُونُ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً عَلَى هَذَا مِنْ تَمام الْهَيْئَة الْمُشبه بهَا وَلَيْسَ لَهُ مُقَابل فِي الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ.
وَالْمَقْصُودُ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ تَصْوِيرُ عَظَمَةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنُفُوذِهَا فِي الْمَقْدُورَاتِ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٩].
وَقَدْ جَاءَ عِيسَى بِتَعْلِيمِهِمْ حَقَائِقَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالْمَوَاعِظِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ، عُطِفَ عَلَى بِالْحِكْمَةِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ جِئْتُكُمْ. وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. وَالتَّبْيِينُ: تَجْلِيَةُ الْمَعَانِي الْخَفِيَّةِ لِغُمُوضٍ أَوْ سُوءِ تَأْوِيلٍ، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَهُ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْيَهُودِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ التَّوْرَاةِ أَوْ بِتَعْيِينِ الْأَحْكَامِ لِلْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَهُ الْمَحْكِيَّ فِي آيَة سُورَة آل عمرَان [٥٠] وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ قَالَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ حِكَايَةُ مَا قَالَهُ لَهُمْ مِمَّا لَيْسَ شَأْنُهُ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ قَوْمَهُ بِالتَّكْذِيبِ فَهُمْ كَذَّبُوهُ فِي وَقْتٍ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَيْ كَذَّبُوهُ فِي حَالِ ظُهُورِ آيَاتِ صِدْقِهِ بِالْمُعْجِزَاتِ وَفِي حَالِ انْتِفَاءِ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ عَلَيْهِ شَكًّا. وَإِنَّمَا قَالَ:
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، إِمَّا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِبَيَانِ كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعْضِ ثُمَّ يَكْمُلُ بَيَانُ الْبَاقِي عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ
يُبَيِّنُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. وَإِمَّا لِأَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْبَيَانِ غَيْرُ شَامِلٍ لِجَمِيعِ مَا هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِهِ وَهُوَ يَنْتَظِرُ بَيَانَهُ مِنْ بَعْدُ تَدْرِيجًا فِي التَّشْرِيعِ كَمَا وَقَعَ فِي تَدْرِيجِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ مَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ رَاجِعًا إِلَى أَحْكَامِ الدِّينِ دُونَ مَا كَانَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَفِي قَوْلِهِ: بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَهْيِئَةٌ لَهُمْ لِقَبُولِ مَا سَيُبَيَّنُ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَوْ مِنْ بَعْدُ.
وَالسَّخْرُ، وَيُقَالُ السُّخْرِيَةُ: الِاسْتِهْزَاءُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٧٩]، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَعْدِيَتِهِ بِ (مِنْ).
وَالْقَوْمُ: اسْمُ جَمْعٍ: جَمَاعَةُ الرِّجَالِ خَاصَّةً دُونَ النِّسَاءِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ أَخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ؟
وَتَنْكِيرُ قَوْمٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ الشِّيَاعِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نَهْيُ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ سَخِرُوا مِنْ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ. وَإِنَّمَا أَسْنَدَ يَسْخَرْ إِلَى قَوْمٌ دُونَ أَنْ يَقُولَ: لَا يَسْخَرْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات: ١٢] لِلنَّهْيِ عَمَّا كَانَ شَائِعًا بَيْنَ الْعَرَبِ مِنْ
سُخْرِيَةِ الْقَبَائِلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ فَوَجَّهَ النَّهْيَ إِلَى الْأَقْوَامِ. وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَقُلْ: لَا يَسْخَرْ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٌ مِنِ امْرَأَةٍ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَسْخَرَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ بِطَرِيقِ لَحْنِ الْخِطَابِ. وَهَذَا النَّهْيُ صَرِيحٌ فِي التَّحْرِيمِ.
وَخَصَّ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْقَوْمَ يَشْمَلُهُمْ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ الْعُرْفِيِّ فِي الْكَلَامِ، كَمَا يَشْمَلُ لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّشْرِيعِ، فَإِنَّ أَصْلَهُ التَّسَاوِي فِي الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا اقْتَضَى الدَّلِيلُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ بِهِ دَفَعًا لِتَوَهُّمِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِسُخْرِيَةِ الرِّجَالِ إِذْ كَانَ الِاسْتِسْخَارُ مُتَأَصِّلًا فِي النِّسَاءِ، فَلِأَجَلِ دَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ هَذَيْنِ السَّيِّئَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آيَةِ الْقِصَاصِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فِي سُورَة الْعُقُود [١٧٨].
وَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ بِذِكْرِ حَالَةٍ يَكْثُرُ وُجُودُهَا فِي الْمَسْخُورِيَّةِ، فَتَكُونُ سُخْرِيَةُ السَّاخِرِ أَفْظَعَ مِنَ السَّاخِرِ، وَلِأَنَّهُ يُثِيرُ انْفِعَالَ الْحَيَاءِ فِي نَفْسِ السَّاخِرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَلَيْسَتْ جُمْلَةُ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ صِفَةً لقوم من قومه: مِنْ قَوْمٍ وَإِلَّا لَصَارَ النَّهْيُ عَنِ السُّخْرِيَةِ خَاصًّا بِمَا إِذَا كَانَ الْمَسْخُورُ بِهِ مَظِنَّةَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ السَّاخِرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَيْسَتْ صِفَةً لِ نِساءٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ نِساءٍ.
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي نَظَائِرَ قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الْمَذْكُورِ هُنَا إِلَى مَا فِي آخر السُّورَة.
[١٧]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ١٧]
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)
استنئاف ابْتِدَائِيٌّ فِيهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ [الرَّحْمَن: ٥] وَعَطَفَ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ لِأَجْلِ مَا ذَكَرْتُهُ آنِفًا مِنْ مُرَاعَاةِ الْمُزَاوَجَةِ.
وَحَذَفَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي سَمَّاهَا السَّكَّاكِيُّ بِإِتِّبَاعِ الْاِسْتِعْمَالِ الْوَارِدِ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ تَرْكِ نَظَائِرِهِ وَتَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ.
وَالْمَشْرِقُ: جِهَةُ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَالْمَغْرِبُ: جِهَةُ غُرُوبِهَا. وَتَثْنِيَةُ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ فِي فَصْلَيِ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ مِنْ سَمْتٍ وَفِي فَصْلَيِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ مِنْ سَمْتٍ آخَرَ وَبِمُرَاعَاةِ وَقْتِ الطُّولِ وَوَقْتِ الْقِصَرِ وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا وَهِيَ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ يَنْتَقِلُ طُلُوعُهَا وَغُرُوبُهَا فِي دَرَجَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ فَقَدْ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فَيُقَالُ:
الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ [٤٠].
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ تَثْنِيَةَ الْمَشْرِقَيْنِ لِمُرَاعَاةِ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَكَذَلِكَ تَثْنِيَةُ الْمَغْرِبَيْنِ لَمْ يَغَصُّ عَلَى مَعْنًى كَبِيرٍ.
وَعَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ الْمَشْرِقَيْنِ والْمَغْرِبَيْنِ بِمَشْرِقَيِ الشَّمْسِ وَمَغْرِبَيْهَا فَالْمُرَادُ بِ الْمَشْرِقَيْنِ النِّصْفُ الشَّرْقِيُّ مِنَ الْأَرْضِ، وَبِ الْمَغْرِبَيْنِ النِّصْفُ الْغَرْبِيُّ مِنْهَا.
وَرُبُوبِيَّةُ الله تَعَالَى للمشرقين وَالْمَغْرِبَيْنِ بِمَعْنَى الْخلق وَالتَّصَرُّف.
[١٨]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ١٨]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨)
تَكْرِيرٌ كَمَا علمت آنِفا.
الْمُنَافِقِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ إِذَا كَانُوا قَالُوا ذَلِكَ جَهْرًا فِي مَلَأِ الْمُسْلِمِينَ إِذْ هُمْ يَتَظَاهَرُونَ سَاعَتَئِذٍ بِالْإِسْلَامِ.
وحَتَّى مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ مَعْنَى حَتَّى انْتِهَاءُ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا وَغَايَةُ الْفِعْلِ يَنْتَهِي الْفَاعِلُ عَنِ الْفِعْلِ إِذَا بَلَغَهَا، فَهِيَ سَبَبٌ لِلِانْتِهَاءِ وَعِلَّةٌ لَهُ، وَلَيْسَ المُرَاد فَإِذا نفضوا فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِمْ.
وَالِانْفِضَاضُ: التَّفَرُّقُ وَالِابْتِعَادُ.
وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إبِْطَال لِمَكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِيمَا قَصَدُوهُ مِنْ قَوْلِهِمُ الْمُتَظَاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ نُصْحَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَوْ تَمَشَّتْ حِيلَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَمْسَكُوا هُمْ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ إِنْفَاقِ الْأَعْرَابِ وَمَنْ يَأْوُونَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعُفَاةِ، فَإِن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَقْطَعُ عَنْهُمُ الْإِنْفَاقَ وَذَلِكَ دَأْبُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنِ ابْتَعْ عَلَيَّ فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَلَّفَكَ اللَّهُ مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فكره النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ عُمَرَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفِقْ وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِفَ فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ لِقَوْلِ الْأَنْصَارِيِّ ثُمَّ قَالَ: بِهَذَا أُمِرْتُ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ «الشَّمَائِلِ»
. وَهَذَا جَوَابٌ مِنْ بَابِ طَرِيقَةِ النَّقْضِ لِكَلَامِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ آدَابِ الْبَحْثِ.
وخَزائِنُ جَمْعُ خِزَانَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ. وَهِيَ الْبَيْتُ الَّذِي تُخَزِّنُ فِيهِ الطَّعَامُ قَالَ تَعَالَى:
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٥٥]. وَتُطْلَقُ عَلَى الصُّنْدُوقِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ وَعَلَى بُيُوتِ الْكُتُبِ
فَجُمْلَةُ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمُ الْمُقَدَّرِ.
وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ وَأَصْلُهُ فِي الْأَمْكِنَةِ. وَمِنْهُ
قَوْلُ ابْنِ عُمَرٍ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» :«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَجَعَلَ أَمَدَهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ»
(أَيْ غَايَةَ الْمُسَابَقَةِ). وَيُسْتَعَارُ الْأَمَدُ لِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنَةٍ قَالَ تَعَالَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ [الْحَدِيد:
١٦] وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. وَمُقَابَلَتُهُ بِ «قَرِيبٍ» يُفِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْ يَجْعَلُ لَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.
وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةَ.
وعالِمُ الْغَيْبِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ رَبِّي. وَهَذَا الْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَذْفًا اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ».
والْغَيْبِ: مَصْدَرُ غَابَ إِذَا اسْتَتَرَ وَخَفِيَ عَنِ الْأَنْظَارِ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَإِضَافَةُ صِفَةِ عالِمُ إِلَى الْغَيْبِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِكُلِّ الْحَقَائِقِ الْمُغَيَّبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاهِيَّاتٍ أَوْ أَفْرَادًا فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ لِلْغَيْبِ مِثْلَ عِلْمِ اللَّهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَشْمَلُ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ بِذَاتِهَا مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ. وَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ الْمُغَيَّبَةِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ مِثْلَ الْوَقَائِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي يُخْبَرُ عَنْهَا أَوِ الَّتِي لَا يُخْبَرُ عَنْهَا، فَإِيثَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا لِأَنَّهُ أشمل لِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣].
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ مَعَ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُقَدَّرِ يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ لَا أَنَا.
وَفُرِّعَ عَلَى مَعْنَى تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ جُمْلَةُ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ وَالْحُكْمُ الْمُفَرَّعِ إِتْمَامٌ لِلتَّعْلِيلِ وَتَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى غيبه.
وَمعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً: لَا يطلع وَلَا ينبىء بِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِعَذَابِ الْحَرِيقِ حَرِيقٌ بِغَيْرِ جَهَنَّمَ وَهُوَ مَا يُضْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنْ نَارِ تَعْذِيبٍ قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الْقَبْرُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ جَهَنَّمَ أَوْ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «سُنَنِهِ» عَنِ ابْن عمر
. [١١]
[سُورَة البروج (٨٥) : آيَة ١١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا الْمُقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنْ تَابُوا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَيَتَشَوَّفُ السَّامِعُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَالِهِمْ أَمَقْصُورَةٌ عَلَى السَّلَامَةِ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ أَوْ هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ، فَأُخْبِرَ بِأَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ فَإِنَّ التَّوْبَةَ الْإِيمَانُ، فَلِذَلِكَ جِيءَ بِصِلَةِ آمَنُوا دُونَ: تَابُوا: لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ هُوَ التَّوْبَةُ مِنَ الشِّرْكِ الْبَاعِثِ عَلَى فَتْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ وَقَعَ مُعْتَرِضًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: ١٠] وَجُمْلَةِ:
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: ١٢] اعْتِرَاضًا بِالْبِشَارَةِ فِي خِلَالِ الْإِنْذَارِ لِتَرْغِيبِ الْمُنْذَرِينَ فِي الْإِيمَانِ، وَلِتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا يُلَاقُونَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِرْدَافِ الْإِرْهَابِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالْجَنَّاتِ وَالْأَنْهَارِ.
والْكَبِيرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشَّدِيدِ فِي بَابِهِ، والفوز: مصدر.
[١٢]
[سُورَة البروج (٨٥) : آيَة ١٢]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)
جملَة: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ عِلَّةٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: ١٠]، أَيْ لِأَنَّ بَطْشَ اللَّهِ شَدِيدٌ عَلَى الَّذِينَ فَتَنُوا الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ. فَمَوْقِعُ إِنَّ فِي التَّعْلِيلِ يُغْنِي عَنْ فَاءِ التَّسَبُّبِ.


الصفحة التالية
Icon