وَالتَّقْوَى فَهُمْ فِي صُورَةِ الْمَرْجُوِّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّقُوا لِيَتَرَجَّحَ أَمْرُهُمْ وَهُمْ مُخْتَارُونَ بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ كَمَا تَرَجَّحَتْ حَالُ الْمُرْتَجِي بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ وَمِصْدَاقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: ٧] وَإِنَّمَا يُبْلَى وَيُخْتَبَرُ مَنْ تَخْفَى عَنْهُ الْعَوَاقِبُ وَلَكِنْ شَبَّهَ بِالِاخْتِبَارِ بِنَاءَ أَمْرِهِمْ عَلَى الِاخْتِيَارِ فَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَجْعَلُ لَعَلَّ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى اسْتِعَارَةً تَمْثِيلِيَّةً لِأَنَّهُ جَعَلَهَا تَشْبِيهَ هَيْئَةٍ مُرَكَّبَةٍ من شَأْن الْمَزِيد وَالْمُرَادِ مِنْهُ وَالْإِرَادَةِ بِحَالٍ مُرَكَّبَةٍ مِنَ الرَّاجِي وَالْمَرْجُوِّ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فَاسْتُعِيرَ الْمُرَكَّبُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّجَاءِ لِمَعْنَى الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْإِرَادَةِ.
وَعِنْدِي وَجْهٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ وَهُوَ: «أَنَّ لَعَلَّ الْوَاقِعَةَ فِي مَقَامِ تَعْلِيلِ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ لَهَا اسْتِعْمَالٌ يُغَايِرُ اسْتِعْمَالَ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةَ فِي الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْتَ افْتَقِدْ فُلَانًا لَعَلَّكَ تَنْصَحُهُ كَانَ إِخْبَارًا بِاقْتِرَابِ وُقُوعِ الشَّيْءِ وَأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْإِمْكَانِ إِنْ تَمَّ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ فَأَمَّا اقْتِضَاؤُهُ عَدَمَ جَزْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحُصُولِ فَذَلِكَ مَعْنًى الْتِزَامِيٌّ أَغْلَبِيٌّ قَدْ
يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ بِالْقَرِينَةِ وَذَلِكَ الِانْتِفَاءُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوَقَعُ، فَاعْتِقَادُنَا بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَمْ يَقَعْ أَوْ لَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الْقَرِينَةُ عَلَى تَعْطِيلِ هَذَا الْمَعْنَى الِالْتِزَامِيِّ دُونَ احْتِيَاجٍ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي تُفِيدُهُ لَعَلَّ حَتَّى يَكُونَ مَجَازًا أَوِ اسْتِعَارَةً لِأَنَّ لَعَلَّ إِنَّمَا أُتِيَ بِهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي مَعْنَى الرَّجَاءِ فَالْتِزَامُ تَأْوِيلِ هَذِهِ الدِّلَالَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فِي الْقُرْآنِ تَعْطِيلٌ لِمَعْنَى الرَّجَاءِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمقَام وَالْجَمَاعَة لجأوا إِلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى لَعَلَّ بِنَظَرٍ مُتَّحِدٍ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا بِخِلَافِ لَعَلَّ الْمُسْتَأْنَفَةِ فَإِنَّهَا أَقْرَبُ إِلَى إِنْشَاءِ الرَّجَاءِ مِنْهَا إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ. وَعَلَى كُلٍّ فَمَعْنَى لَعَلَّ غَيْرُ مَعْنَى أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ.
وَالتَّقْوَى هِيَ الْحَذَرُ مِمَّا يُكْرَهُ، وَشَاعَتْ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْمُتَدَيِّنِينَ فِي أَسْبَابِهَا، وَهُوَ حُصُولُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَجْمَعُهَا التَّدَيُّنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢]. وَلَمَّا كَانَتِ التَّقْوَى نَتِيجَةَ الْعِبَادَةِ جُعِلَ رَجَاؤُهَا أَثَرًا لِلْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فَالْمَعْنَى اعْبُدُوا رَبَّكُمْ رَجَاءَ أَنْ تَتَّقُوا فَتُصْبِحُوا كَامِلِينَ مُتَّقِينَ، فَإِنَّ التَّقْوَى هِيَ الْغَايَةُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَرَجَاءُ حُصُولِهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْعِبَادَةِ وَعِنْدَ عِبَادَةِ الْعَابِدِ أَوْ عِنْدَ إِرَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَاضِحُ الْفَائِدَةِ
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: ٥] فَلَيْسَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ إِلَّا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَلِذَلِكَ قَدَّمَ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ثَنَّى بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ لِيُفَادَ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ بَعْدَ أَنْ دَلَّ عَلَيْهِ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، ثُمَّ عَدَّ عَلَيْهِمُ الصَّدَّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ إِخْرَاجَ أَهْلِهِ مِنْهُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ «وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْكُفْرَ يَتَعَدَّى إِلَى مَا يُعْبَدُ وَمَا هُوَ دِينٌ وَمَا يَتَضَمَّنُ دِينًا، عَلَى أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ فِيهِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ يُتَكَلَّفَ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْكُفْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَيْ إِخْرَاجُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِأَنَّ فِي إِخْرَاجِهِمْ مَظَالِمَ كَثِيرَةً فَقَدْ مَرِضَ الْمُهَاجِرُونَ فِي خُرُوجِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مَنْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى حَتَّى رُفِعَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى
أَنَّ التَّفْضِيلَ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِوُقُوعِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ لَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَإِنَّ لَهُ حُكْمًا يَخُصُّهُ.
وَالْأَهْلُ: الْفَرِيقُ الَّذِينَ لَهُمْ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمَا يُضَافُ إِلَيْهِ اللَّفْظُ، فَمِنْهُ أَهْلُ الرَّجُلِ عَشِيرَتُهُ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطِنُونَ بِهِ، وَأَهْلُ الْكَرَمِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ، أَرَادَ بِهِ هُنَا الْمُسْتَوْطِنِينَ بِمَكَّةَ وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّةَ مَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قَالَ تَعَالَى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الْأَنْفَال: ٣٤] وَقَوْلُهُ: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تَذْيِيلٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّعْلِيلِ، لِقَوْلِهِ: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وَإِذْ قَدْ كَانَ إِخْرَاجُ أَهْلِ الْحَرَمِ مِنْهُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْلِ كَانَ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنَ الصَّدِّ عَنِ الدِّينِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَكْبَرَ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، لِأَنَّ تِلْكَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ جَرِيمَةِ إِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَكَّةَ.
وَالْفِتْنَةُ: التَّشْغِيبُ وَالْإِيقَاعُ فِي الْحِيرَةِ وَاضْطِرَابُ الْعَيْشِ فَهِيَ اسْمٌ شَامِلٌ لِمَا يُعَظِّمُ مِنَ الْأَذَى الدَّاخِلِ عَلَى أَحَدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَصَائِبِ فِي الدِّينِ بِالتَّعَرُّضِ لَهُمْ بِالْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَمَنْعِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ، وَقَطِيعَتِهِمْ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالسُّخْرِيَةِ بِهِمْ وَالضَّرْبِ الْمُدْمِي وَالتَّمَالُؤِ عَلَى قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ مَكَّةَ وَمَنْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَجْمُوعَ ذَلِكَ أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدًا مِنْ رِجَالِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ عَمْرٌو الْحَضْرَمِيُّ وَأَسْرِهِمْ رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٨١]

وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَكَيْفَ أَخافُ عَلَى جُمْلَةِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام: ٨٠] لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ عَدَمَ خَوْفِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ أَقَلُّ عَجَبًا مِنْ عَدَمِ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُؤْذِنُ بِأَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ غَيْرَهُ فَلِذَلِكَ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِرَبِّهِمُ الْمُعْتَرِفِ بِهِ دُونَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا بِذَلِكَ.
وكَيْفَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ دَعَوْهُ إِلَى أَنْ يَخَافَ بَأْسَ الْآلِهَةِ فَأَنْكَرَ هُوَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَلَبَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا اللَّهَ حِينَ أَشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ بِدُونِ دَلِيلٍ نَصَبَهُ لَهُمْ فَجَمَعَتْ (كَيْفَ) الْإِنْكَارَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ.
قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ:
أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ فَيَدْخُلُ كِلْتَاهُمَا فِي حُكْمِ الْإِنْكَارِ، فَخَوْفُهُ مِنْ آلِهَتِهِمْ مُنْكَرٌ، وَعَدَمُ خَوْفِهِمْ مِنَ اللَّهِ مُنْكَرٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْحَالِ فَيَكُونَ مَحَلُّ الْإِنْكَارِ هُوَ دَعْوَتُهُمْ إِيَّاهُ إِلَى الْخَوْفِ مِنْ آلِهَتِهِمْ فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِمَّنْ هُوَ أَعْظَمُ سُلْطَانًا وَأَشَدُّ بَطْشًا، فَتُفِيدُ (كَيْفَ) مَعَ الْإِنْكَارِ مَعْنَى التَّعْجِيبِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٤٤]. وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ تَخْوِيفَهُمْ إِيَّاهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي حَالِ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَلَى هَذَا إِنْكَارُ تَحْمِيقٍ وَمُقَابَلَةِ حَالٍ بِحَالٍ، لَا بَيَانُ مَا هُوَ مُنْكَرٌ وَمَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ أَبْلَغُ.
وَمَا أَشْرَكْتُمْ مَوْصُولَةٌ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَا أَشْرَكْتُمْ بِهِ. حُذِفَ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ:
وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الْأَنْعَام:] عَلَيْهِ، وَالْمَوْصُولُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ (بِهِ)، لِ مَا أَشْرَكْتُمْ.
وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ تُتَرْجَمُ لِلْعَرَبِ بِاللِّسَانِ وَيَسْتَظْهِرُهَا قُصَّاصُهُمْ وَأَصْحَابُ النَّوَادِرِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ تِلْكَ الْأَخْبَارَ كَانَتْ مَكْتُوبَةً بِالْعَرَبِيَّةِ، فِيمَا أَحْسَبُ، إِلَّا مَا وَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ جَاءَ بِنُسْخَةٍ مِنْ خَبَرِ (رُسْتُمَ) وَ (إِسْفَنْدِيَاذَ) وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَخْبَارِ
مَكْتُوبًا بِالْعَرَبِيَّةِ كَتَبَهَا الْقَصَّاصُونَ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَالْأَنْبَارِ تَذْكِرَةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ أَخْبَارٌ لَا حِكْمَةَ فِيهَا وَلَا مَوْعِظَةَ، وَقَدْ أَطَالَ فِيهَا الْفِرْدَوْسِيُّ فِي كِتَابِ «الشَّاهْنَامِهْ» تَطْوِيلًا مُمِلًّا عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْقَصَصِ، وَقَالَ الْفَخْرُ: اشْتَرَى النَّضْرُ مِنَ الْحِيرَةَ أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكَانَ يَقْعُدُ مَعَ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ وَهُوَ مِنْهُمْ فَيَقْرَأُ عَلَيْهِمْ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ، فَإِسْنَادُ قَوْلِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤَيِّدُونَهُ وَيَحْكُونَهُ وَيُحَاكُونَهُ، وَيَحْسَبُونَ فِيهِ مَعْذِرَةٌ لَهُمْ عَنِ الْعَجْزِ الَّذِي تَلَبَّسُوا بِهِ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ نَفَّسَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْأُغْلُوطَةِ، فَإِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَكَرَهُ هُوَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَصْدُرَ أَمْثَالُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَمْثَالِهِ وَأَتْبَاعِهِ، فَمِنْ ضِمْنَهُمْ مَجْلِسُهُ الَّذِي جَاءَ فِيهِ بِهَذِهِ النزاقة.
وَقَوْلُهُمْ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا إِيهَامٌ بِأَنَّهُمْ تَرَفَّعُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ شَاءُوا لَنَقَلُوا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ مَا يُوَازِي قَصَصَ الْقُرْآنِ وَهَذِهِ وَقَاحَةٌ، وَإِلَّا فَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَشَاءُوا مُعَارَضَةَ مَنْ تَحَدَّاهُمْ وَقَرَّعَهُمْ بِالْعَجْزِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [الْبَقَرَة:
٢٤] مَعَ تَحَيُّزِهِمْ وَتَأَمُّرِهِمْ فِي إِيجَادِ مَعْذِرَةٍ يَعْتَذِرُونَ بِهَا عَنِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ إِيَّاهُمْ وَتَحَدِّيهِ لَهُمْ، وَمَا قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فِي أَمر الْقُرْآن.
وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُجَادِلُونَ النَّبِيءَ قَصْدًا لِإِفْحَامِهِ، وَتَمْوِيهًا لِتَغْلِيطِهِ نَبَّهَ اللَّهُ عَلَى أُسْلُوبِ مُجَادَلَةِ النَّبِيءِ إِيَّاهُمْ اسْتِكْمَالًا لِآدَابِ وَسَائِلِ الدَّعْوَةِ كُلِّهَا. فَالضَّمِيرُ فِي وَجادِلْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ لِظُهُورِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجَادِلُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ تَلَقِّيَ الْمُسْتَفِيدِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَهَذَا مُوجِبُ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجَادَلَةِ إِذْ لَمْ يَقُلْ: وَالْمُجَادَلَةُ الْحَسَنَةُ، بَلْ قَالَ: وَجادِلْهُمْ، وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سُورَة العنكبوت: ٤٦].
وَيَنْدَرِجُ فِي «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» رَدُّ تَكْذِيبِهِمْ بِكَلَامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سُورَة سبأ: ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سُورَة الْحَج: ٦٨].
وَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا النَّاسَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ خُطَبِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَإِرْشَادِهِ يَسْلُكُ مَعَهُمْ هَذِهِ الطُّرُقَ الثَّلَاثَةَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ وَمِنْ أَحْوَالِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ لُزُومُ كَوْنِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ مُشْتَمِلًا عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ حِكْمَةً مُشْتَمِلًا عَلَى غِلْظَةٍ وَوَعِيدٍ وَخَالِيًا عَنِ الْمُجَادَلَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مُجَادَلَةً غَيْرَ مَوْعِظَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ.
وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّكَ لَتَأْكُلُ الْمِرْبَاعَ وَهُوَ حَرَامٌ فِي دِينِكَ»
، قَالَهُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
وَالتَّمْيِيزُ تَمْيِيزُ نِسْبَةِ الْخَيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَ «الْعُقُبُ» بِضَمَّتَيْنِ وَبِسُكُونِ الْقَافِ بِمَعْنَى الْعَاقِبَةِ، أَيْ آخِرَةُ الْأَمْرِ. وَهِيَ مَا يَرْجُوهُ الْمَرْءُ مِنْ سَعْيِهِ وَعِمْلِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عُقْباً بِضَمَّتَيْنِ وَبِالتَّنْوِينِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَخَلَفٌ بِإِسْكَانِ الْقَافِ وَبِالتَّنْوِينِ.
فَكَأَنَّ مَا نَالَهُ ذَلِكَ الْمُشْرِكُ الْجَبَّارُ مِنْ عَطَاءٍ إِنَّمَا نَالَهُ بِمَسَاعٍ وَأَسْبَابٍ ظَاهِرِيَّةٍ وَلَمْ يَنَلْهُ بِعِنَايَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَةٍ فَلَمْ يَكُنْ خَيْرًا وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ شرا عَلَيْهِ.
[٤٥]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
كَانَ أَعْظَمَ حَائِلٍ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَيْنَ النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْإِسْلَامِ انْهِمَاكُهُمْ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّائِلَةِ وَنَعِيمِهَا، وَالْغُرُورُ الَّذِي غَرَّ طُغَاةَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١١]، وَقَالَ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: ١٤- ١٥].
وَكَانُوا يَحْسَبُونَ هَذَا الْعَالَمَ غَيْرَ آيِلٍ إِلَى الْفَنَاءِ وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: ٢٤]. وَمَا كَانَ أحد الرجلَيْن اللَّذين تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُمَا إِلَّا وَاحِدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذْ قَالَ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: ٣٦].
فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِأَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الَّتِي غَرَّتْهُمْ بَهْجَتُهَا.
وَالْحَيَاةُ الدُّنْيَا: تُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ بَقَاءِ الْأَنْوَاعِ الْحَيَّةِ عَلَى الْأَرْضِ وَبَقَاءِ الْأَرْضِ عَلَى حَالَتِهَا. فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحَياةِ الدُّنْيا عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَيَاةِ النَّاقِصَةِ غَيْرِ الْأَبَدِيَّةِ لِأَنَّهَا مُقَدَّرٌ زَوَالُهَا، فَهِيَ دُنْيَا.
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا الشَّيْطَانَ لِلْإِسْلَامِ وَلَا دَعَا الشَّيَاطِينَ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، قَالُوا:
وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِيَّايَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي فَأَسْلَمَ»

. فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ دَعَاهُ لِلْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ قَرِينَهُ إِلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَرِينِ: شَيْطَانٌ قَرِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى: الْإِرْشَادُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وِصَايَةُ اللَّهِ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ بِاتِّبَاعِ رُسُلِ اللَّهِ وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ طَلَبَ الْهُدَى مَرْكُوزٌ فِي الْجِبِلَّةِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ: إِنَّ مَعْرِفَةَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ كَائِنَةٌ فِي الْعُقُولِ أَوْ شَائِعَةٌ فِي الْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَإِنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ أَهْلُ الشِّرْكِ فِي مُدَدِ الْفِتَرِ الَّتِي لم تجىء فِيهَا رُسُلٌ لِلْأُمَمِ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَقَدِ اسْتَوْعَبَهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، وَحَرَّرْنَاهَا فِي «رِسَالَةِ النَّسَبِ النَّبَوِيِّ».
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ الْجُمْلَتَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلا يَضِلُّ فَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّبَعَ الْهُدَى الْوَارِدَ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ سَلِمَ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهُ شَيْءٌ مِنْ ضَلَالٍ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ دَلَالَةِ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ عَلَى الْعُمُومِ كَعُمُومِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ فَلَا يَعْتَرِيَهُ ضَلَالٌ فِي الدُّنْيَا، بِخِلَافِ مَنِ اتَّبَعَ مَا فِيهِ هُدًى وَارِدٌ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ وَإِنِ اسْتَفَادَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى. وَهَذَا حَالُ مُتَّبِعِي الشَّرَائِعِ غَيْرِ الْإِلَهِيَّةِ وَهِيَ الشَّرَائِعُ الْوَضْعِيَّةُ فَإِنَّ وَاضِعِيهَا وَإِنْ أَفْرَغُوا جُهُودَهُمْ فِي تَطَلُّبِ الْحَقِّ لَا يَسْلَمُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ضَلَالَاتٍ بِسَبَبِ غَفَلَاتٍ، أَوْ تَعَارُضِ أَدِلَّةٍ، أَوِ انْفِعَالٍ بِعَادَاتٍ مُسْتَقِرَّةٍ، أَوْ مُصَانَعَةٍ لِرُؤَسَاءٍ أَوْ أُمَمٍ رَأَوْا أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ طَلَبَ مَرْضَاتِهِمْ. وَهَذَا سُقْرَاطُ وَهُوَ سَيِّدُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ قَدْ كَانَ يَتَذَرَّعُ لِإِلْقَاءِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَثِينَا بِأَنْ يُفْرِغَهُ فِي قَوَالِبِ حِكَايَاتٍ عَلَى أَلْسِنَةِ الْحَيَوَانِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْخُنُوعِ لِمُصَانَعَةِ اللَّفِيفِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَرَى تَأْلِيهَ آلِهَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ تَعْلِيلٌ لِلدَّوَامِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ فَاءِ التَّعْلِيلِ لَا لِرَدِّ الشَّكِّ. وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى.
وَوَصْفُ الْهُدَى بِالْمُسْتَقِيمِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ شُبِّهَ الْهُدَى بِالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِالْمُسْتَقِيمِ لِأَنَّ الْمُسْتَقِيمَ أَسْرَعُ إِيصَالًا، فَدِينُ الْإِسْلَامِ أَيْسَرُ الشَّرَائِعِ فِي الْإِيصَالِ
إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الْأَدْيَانِ. وَفِي هَذَا الْخَبَرِ تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَجْدِيدٌ لِنَشَاطِهِ فِي الِاضْطِلَاعِ بأعباء الدعْوَة.
[٦٨، ٦٩]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : الْآيَات ٦٨ إِلَى ٦٩]
وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: ٦٧]. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَبَيَّنَ عَدَمُ اقْتِنَاعِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْمُنَازَعَةَ وَأَبَوْا إِلَّا دَوَامَ الْمُجَادَلَةِ تَشْغِيبًا وَاسْتِهْزَاءً فَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ تَفْوِيضُ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ مَعَهُمْ، وَإِدْمَاجٌ بِتَعْرِيضٍ بِالْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ صَالِحٍ لِمَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ مَنْ تَطَلُّبِ الْحُجَّةِ: وَلِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِبْطَالِ الْعِنَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [السَّجْدَة: ٣٠].
وَالْمرَاد بِما تَعْمَلُونَ مَا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْبَاطِلِ لِيَدْحَضُوا بِهِ الْحَقَّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: انْظُرْ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْعِلْمِ تَشْبِيهًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ بِالْأَمْرِ الْمَرْئِيِّ لِشِدَّةِ وُضُوحِهِ.
وَ (كَيْفَ) اسْمٌ لِلْكَيْفِيَّةِ وَالْحَالَةِ مُجَرَّدٌ هُنَا عَنْ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّعْجِيبِ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي تَلْفِيقِ الْمَطَاعِنِ فِي رِسَالَةِ الرَّسُولِ فَسَلَكُوا طَرَائِقَ لَا تَصِلُ بِهِمْ إِلَى دَلِيلٍ مُقْنِعٍ عَلَى مُرَادِهِمْ، فَفِعْلُ ضَلُّوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ الْمَجَازِيَّيْنِ هُمَا: مَعْنَى عَدَمِ التَّوَفُّقِ فِي الْحُجَّةِ، وَمَعْنَى عَدَمِ الْوُصُولِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، وَهُوَ هُنَا تَعْجِيبٌ مِنْ خَطَلِهِمْ وَإِعْرَاضٌ عَن مجاوبتهم.
[١٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١٠]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠)
ابْتُدِئَتِ السُّورَةُ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ عَلَى أَنْ أَنْزَلَ الْفَرْقَانَ عَلَى رَسُولِهِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا تَلَقَّى بِهِ الْمُشْرِكُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ مِنَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ النَّاشِئِ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا اتَّخَذُوهُ مِنْ آلِهَةٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ مَا يُنَافِي الْإِلَهِيَّةَ، ثُمَّ طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ بِمَا هُوَ كُفْرَانٌ لِلنِّعْمَةِ وَمَنْ جَاءَ بِهَا.
فَلَمَّا أُرِيدَ الْإِعْرَاضُ عَنْ بَاطِلِهِمْ وَالْإِقْبَالُ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ بِتَثْبِيتِهِ وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ أُعِيدَ اللَّفْظُ الَّذِي ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ عَلَى طَرِيقَةِ وَصْلِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ.
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ [الْفرْقَان: ٨] إِلَخْ، أَيْ إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ، أَيْ أَفْضَلَ مِنْهُ، أَيْ إِنْ شَاءَ عَجَّلَهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّاتِ وَالْقُصُورِ جَنَّاتٍ فِي الدُّنْيَا وَقُصُورًا فِيهَا، أَيْ خَيْرًا مِنَ الَّذِي اقْتَرَحُوهُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِكَ فِي زَعْمِهِمْ بِأَنْ تَكُونَ عِدَّةَ جَنَّاتٍ وَفِيهَا قُصُورٌ. وَبِهَذَا فَسَّرَ

[٤٢، ٤٣]

[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [٤٢] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
هَذَا شَيْءٌ حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حِكَايَةُ قَوْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُرْوَ خَبَرٌ عَنِ السَّلَفِ يُعَيِّنُ صُدُورَ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ، وَلَا قَائِلَهَا سِوَى كَلَامٍ أُثِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ هُوَ أَشْبَهُ بِتَفْسِيرِ الضَّمِيرِ مِنْ أَقْسَمُوا، وَتَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ سَبَبُ نُزُولٍ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَالَّذِي يَلُوحُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي مَجَارِي الْمُحَاوَرَةِ أَوِ الْمُفَاخَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ، أَوْ يَقْدَمُونَ هُمْ عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ أَوْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، فَرُبَّمَا كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ وَيُصَغِّرُونَ الشِّرْكَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ الْمُشْركُونَ لَا يجرأون عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَرْمُوقِينَ عِنْدَهُمْ بِعَيْنِ الْوَقَارِ إِذْ كَانُوا يُفَضِّلُونَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الدِّيَانَةِ وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أُمِّيِّينَ وَهُمْ يَأْبَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَ الشِّرْكِ فَكَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ رَسُولَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الْعَرَبِ وَلَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧]. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعُونَ لَهُمْ هُمُ النَّصَارَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عِيسَى أَوْصَاهُمْ أَنْ يُرْشِدُوا بَنِي الْإِنْسَانِ إِلَى الْحَقِّ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَأشبه فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَنَصَّرَتْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ تَغْلِبَ، وَلَخْمٍ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنْ صَحَّ إِيصَاءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا دَعْوَةَ إِرْشَادٍ إِلَى التَّوْحِيدِ لَا دَعْوَةَ تَشْرِيعٍ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ فَمَا أَرَاهَا إِلَّا تَوْطِئَةً لِدِينٍ يَجِيءُ تَعُمُّ دَعْوَتُهُ سَائِرَ الْبَشَرِ، فَكَانَتْ وَصِيتُهُ وَسَطًا بَيْنَ أَحْوَالِ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ إِذْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ خَاصَّةً وَبَيْنَ حَالَةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكَافَّةِ النَّاسِ عَزْمًا.
وَالْأَجَلُ هُوَ أَجَلُ فَنَائِهِمَا فَإِنَّ جَرْيَهُمَا لَمَّا كَانَ فِيهِ تَقْرِيبُ فَنَائِهِمَا جُعِلَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ
لِأَجْلِ الْأَجَلِ أَيْ لِأَجْلِ مَا يَطْلُبُهُ وَيَقْتَضِيهِ أَجَلُ الْبَقَاءِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨]، فَالتَّنْكِيرُ فِي (أَجَلٍ) لِلْإِفْرَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَجَلِ أَجْلَ حَيَاةِ النَّاسِ الَّذِي يَنْتَهِي بَانْتِهَاءِ الْأَعْمَارِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَلَيْسَ الْعُمْرُ إِلَّا أَوْقَاتًا مَحْدُودَةً وَأَنْفَاسًا مَعْدُودَةً. وَجَرْيُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ تُحْسَبُ بِهِ تِلْكَ الْأَوْقَاتُ وَالْأَنْفَاسُ، فَصَارَ جَرْيُهُمَا كَأَنَّهُ لِأَجَلٍ.
قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ:
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي
وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
فَالتَّنْكِيرُ فِي أَجَلٍ لِلنَّوْعِيَّةِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى لِآجَالٍ مُسَمَّاةٍ. وَلَعَلَّ تَعْقِيبَهُ بِوَصْفِ الْغَفَّارُ يُرَجِّحُ هَذَا الْمَحْمَلَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَالْمُسَمَّى: الْمَجْعُولُ لَهُ وَسْمٌ، أَيْ مَا بِهِ يُعَيَّنُ وَهُوَ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ لِأَنْ يَبْلُغَ إِلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ [لُقْمَان: ٢٩] بِحَرْفِ انْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَلَامُ الْعِلَّةِ وَحَرْفُ الْغَايَةِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَأَحْسَبُ أَنَّ اخْتِلَافَ التَّعْبِيرِ بِهِمَا مُجَرَّدُ تَفَنُّنٍ فِي الْكَلَامِ.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ.
اسْتِئْنَاف ابتدائي هُوَ فِي مَعْنَى الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَإِنَّ وَصْفَ الْعَزِيزُ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا غَالِبَ لَهُ فَلَا تُجْدِي الْمُشْرِكِينَ عِبَادَةُ أَوْلِيَائِهِمْ، وَوَصْفُ الْغَفَّارُ مُؤْذِنٌ بِاسْتِدْعَائِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَفِي وَصْفِ الْغَفَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِذِكْرِ الْأَجَلِ لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ يَظْهَرُ أَثَرُهَا بَعْدَ الْبَعْثِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَانْتِهَاءِ الْأَجَلِ تَحْرِيضًا عَلَى الْبِدَارِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ. وَفِي افْتِتَاحِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ إِيذَانٌ بِأَهَمِّيَّةِ مَدْلُولِهَا الصَّرِيحِ وَالْكِنَائِيِّ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله:
الْكِتابِ [الجاثية: ٢] أَيْ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةُ فِي الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ فِعْلِ نَتْلُوها فِي حَقِيقَتِهِ.
وَإِسْنَادُ التِّلَاوَةِ إِلَى اللَّهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّهَ مُوجِدُ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ الدَّالِّ عَلَى تِلْكَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ، وبَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى (دُونَ).
فَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ دُونَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٤٤]، وَفِي الْأَعْرَافِ [١٨٥] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّأْيِيسِ وَالتَّعْجِيبِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَمِنْ أَيِّ مَا تَأْتِي الْحَوَادِثُ أَفْرَقُ وَإِضَافَةُ بَعْدَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَعْدَ حَدِيثِ اللَّهِ، أَيْ بَعْدَ سَمَاعِهِ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي عَلَى وَعْلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلُ
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعْلٍ.
وَاسْمُ بَعْدَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: الْكَلَامُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:
٢٣] وَكَمَا وَقَعَ إِضَافَةُ حَدِيثٍ إِلَى ضَمِيرِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ [١٨٥] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ وَفِي آخِرِ الْمُرْسَلَاتِ [٥٠] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ.
وَعَطَفَ وآياتِهِ عَلَى حَدِيثٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْآيَاتُ غَيْرُ الْقُرْآنِ من دَلَائِل السَّمَوَات وَالْأَرْضِ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: ٣].
الْقِيَامَةِ. وَفِي ذَلِكَ تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ «يَا مُعَاذُ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ ثُمَّ حَدَّثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ»
. وَلَمْ أَرَ مَنْ سَبْقَهُ إِلَى هَذَا وَهُوَ مَحْمَلٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ.
وَاللَّائِقُ بِالْجَرْيِ عَلَى الْمَحَامِلِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنْ يكون يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مُبْتَدَأً وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ اسْمُ زَمَانٍ أُضِيفَ إِلَى جُمْلَةٍ فَيَجُوزُ فِيهِ الْإِعْرَابُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الْفَتْحِ، وَلَا يُنَاكِدُهُ أَنَّ فِعْلَ الْجُمْلَةِ مُضَارِعٌ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ وَهُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَابْنِ مَالِكٍ وَلَا رِيبَةَ فِي أَنَّهُ الْأَصْوَبُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [الْمَائِدَة: ١١٩] فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ بِفَتْحِ يَوْمَ.
وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بَدَلٌ مُطَابَقٌ من يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ وَقَوْلُهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مَفْعُولًا فِيهِ لِ اسْتَمِعْ وَإِعْرَابُ مَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ.
وَلَكَ أَنْ تجْعَل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ظَرْفًا فِي مَوْقِعِ الْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ وَتَجْعَلَ الْمُبْتَدَأَ قَوْلَهُ: ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ وَيَكُونُ تَقْدِيرُ النَّظْمِ: وَاسْتَمِعْ ذَلِكَ يَوْمَ الْخُرُوجِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي إِلَخْ، وَيَكُونُ اسْمُ الْإِشَارَةِ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ، أَوْ رَاجِعًا إِلَى يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْهُ فِي الْمَعْنَى وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يَكْتَفِي بِالتَّقَدُّمِ اللَّفْظِيِّ بَلْ يَكْتَفِي بِمُجَرَّدِ الْخُطُورِ فِي الذِّهْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ النَّسَفِيِّ» أَنَّ يَعْقُوبَ أَيِ الْحَضْرَمِيَّ أَحَدَ أَصْحَابِ الْقِرَاءَاتِ الْعَشْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ وَاسْتَمِعْ.
وتعريف الْمُنادِ تَعْرِيف الْجِنْسِ، أَيْ يَوْمَ يُنَادِي مُنَادٍ، أَيْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمَلَكُ الَّذِي يَنْفُخُ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فَتَتَكَوَّنُ الْأَجْسَادُ وَتَحِلُّ فِيهَا أَرْوَاحُ النَّاسِ لِلْحَشْرِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨].
وَتَنْوِينُ مَكانٍ قَرِيبٍ لِلنَّوْعِيَّةِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِتَعْيِينِهِ، وَوَصْفُهُ بِ قَرِيبٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى سُرْعَةِ حُضُورِ الْمُنَادَيْنَ، وَهُوَ الَّذِي فَسَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ
الْقَسَمِ مُنَاسَبَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصِيدِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ لَهُ النَّسِيبَ تَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الْبَوْنُ فِي النَّظْمِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ بَيت زُهَيْر.
وفَلا أُقْسِمُ بِمَعْنَى: أُقْسِمُ، وَ (لَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَصْلُهَا نَافِيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَسَمِ بِمَا أَقْسَمَ بِهِ خَشْيَةَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكَذِبِ فِي الْقَسَمِ.
وَبِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَسَمِ لِأَنَّ الْأَمْرَ وَاضح الثُّبُوت، ثمَّ كَثُرَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فَصَارَ مُرَادًا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ فَسَاوَى الْقَسَمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَا وَقَعَ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ مَا لَوْ كَانَ مُقْسِمًا لَأَقْسَمَ بِهِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ قَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ بِمَعْنَى: وَإِنَّ الْمَذْكُورَ لَشَيْءٌ عَظِيمٌ يُقْسِمُ بِهِ الْمُقْسِمُونَ، فَإِطْلَاقُ قَسَمٌ عَلَيْهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا (لَا) حَرْفًا مُسْتَقِلًّا عَنْ فِعْلِ
أُقْسِمُ وَاقِعًا جَوَابًا لِكَلَامٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ رَدًّا عَلَى أَقْوَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ شِعْرٌ، أَوْ سِحْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ قَوْلُ كَاهِنٍ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ:
أُقْسِمُ اسْتِئْنَافًا. وَعَلَيْهِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ مَعَ فَاء التَّفْرِيع أَنه تفرع على مَا سطح مِنْ أَدِلَّةِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ مَا يُبْطِلُ قَوْلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ لَيْسَ كَمَا تَزْعُمُونَ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ كريم إِلَخ.
وبِمَواقِعِ النُّجُومِ جَمْعُ مَوْقِعٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْوُقُوعِ، أَيْ مَحَالُّ وُقُوعِهَا مِنْ ثَوَابِتَ وَسَيَّارَةٍ. وَالْوُقُوعُ يُطْلَقُ عَلَى السُّقُوطِ، أَيِ الْهَوَى، فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ مَوَاضِعُ غُرُوبِهَا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النَّجْم: ١] وَالْقَسَمُ بِذَلِكَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: ٤٠]. وَجعل بِمَواقِعِ النُّجُومِ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقْسَمًا بِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَاقِطَ فِي حَالِ سُقُوطِ النُّجُومِ عِنْدَهَا تُذَكِّرُ بِالنِّظَامِ الْبَدِيعِ الْمَجْعُولِ لِسَيْرِ الْكَوَاكِبِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَا يَخْتَلُّ وَلَا يَتَخَلَّفُ، وَتُذَكِّرُ
وَالتَّعَاسُرُ صُدُورُ الْعُسْرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ قَوْلِكُمْ: عَسَرْتُ فُلَانًا، إِذَا أَخَذْتَهُ عَلَى عُسْرِهِ، وَيُقَالُ: تَعَاسَرَ الْبَيِّعَانِ إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا.
فَمَعْنَى تَعاسَرْتُمْ اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَكُمْ وَلَمْ تَرْجِعُوا إِلَى وِفَاقٍ، أَيْ فَلَا يُبْقَى الْوَلَدُ بِدُونَ رَضَاعَةٍ.
وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩٨]. وَهَذَا الْمَعْنى ناشىء عَنْ جَعْلِ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ كِنَايَةً عَنْ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِتَحْصِيلِهِ.
وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَيْضًا عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ لِلطِّفْلِ بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ لَهُ بِقَوْلِهِ: فَسَتُرْضِعُ.
فَاجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ: كِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأَبِ، وَكِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأُمِّ، وَكِنَايَةٌ عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بالاسترضاع لوَلَده.
[٧]
[سُورَة الطَّلَاق (٦٥) : آيَة ٧]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ وَالْمُرْضِعَاتِ بِمَا يَعُمُّ ذَلِكَ. وَيَعُمُّ كُلَّ إِنْفَاقٍ يُطَالَبُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ مَفْرُوضٍ وَمَنْدُوبٍ، أَيْ الْإِنْفَاقُ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ.
وَالسَّعَةُ: هِيَ الْجِدَّةُ مِنَ الْمَالِ أَوِ الرِّزْقِ.
والإنفاق: كِفَايَة مؤونة الْحَيَاةِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
ومِنْ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ يَصْدُرُ عَنِ السَّعَةِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ كَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْأَنْفَال: ٣] لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ السَّعَةِ، وَهِيَ هُنَاكَ بَعْضُ الرِّزْقِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ تَبْعِيضِيَّةٌ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي مُسْتَنْفِرَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ مِثْلُ: اسْتَكْمَلَ وَاسْتَجَابَ وَاسْتَعْجَبَ وَاسْتَسْخَرَ وَاسْتَخْرَجَ وَاسْتَنْبَطَ، أَيْ نَافِرَةٌ نِفَارًا قَوِيًّا فَهِيَ تَعْدُو بِأَقْصَى سُرْعَةِ الْعَدْوِ.
وَقَرَأَ نَافِعُ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُسْتَنْفِرَةٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيِ اسْتَنْفَرَهَا مُسْتَنْفِرٌ، أَيْ أَنْفَرَهَا، فَهُوَ مِنِ اسْتَنْفَرَهُ الْمُتَعَدِّي بِمَعْنَى أَنْفَرَهُ. وَبِنَاءُ الْفِعْلِ لِلنَّائِبِ يُفِيدُ الْإِجْمَالَ ثُمَّ التَّفْصِيلَ بِقَوْلِهِ: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ.
وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ الْفَاءِ، أَيِ اسْتَنْفَرَتْ هِيَ مِثْلَ: اسْتَجَابَ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَيَانًا لِسَبَبِ نُفُورِهَا.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ: سَأَلْتُ أَبَا سَوَّارٍ الْغَنَوِيَّ وَكَانَ أَعْرَابِيًّا فَصِيحًا فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ حُمُرُ مَاذَا فَقَالَ: مُسْتَنْفَرَةٌ: بِفَتْحِ الْفَاءِ فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّمَا هُوَ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ. فَقَالَ: أَفَرَّتْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَمُسْتَنْفِرَةٌ إِذَنْ فَكَسَرَ الْفَاءَ.
وقَسْوَرَةٍ قِيلَ هُوَ اسْمُ جَمْعِ قَسْوَرَ وَهُوَ الرَّامِي، أَوْ هُوَ جَمْعٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إِذْ لَيْسَ قِيَاسُ فَعْلَلَ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى فَعْلَلَةٍ. وَهَذَا تَأْوِيلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ جَارِيًا عَلَى مُرَاعَاةِ الْحَالَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقِيلَ: الْقَسْوَرَةُ مُفْرَدٌ، وَهُوَ الْأَسَدُ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ الْأَسَدُ بِالْحَبَشِيَّةِ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اخْتِلَافًا لَفْظِيًّا، وَعَنْهُ: أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَسْوَرُ اسْمَ الْأَسَدِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي أَصْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَ فِيهَا ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الْقَسْوَرُ الْأَسَدُ وَالْقَسْوَرَةُ كَذَلِكَ، أَنَّثُوهُ كَمَا قَالُوا: أُسَامَةُ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ تَشْبِيهٌ مُبْتَكَرٌ لِحَالَةِ إِعْرَاض مخلوط برغب مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ قَوَارِعُ الْقُرْآنِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَمْثِيلَانِ.
وَإِيثَارُ لَفْظِ قَسْوَرَةٍ هُنَا لِصَلَاحِيَتِهِ لِلتَّشْبِيهَيْنِ مَعَ الرِّعَايَةِ على الفاصلة.
الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَاتْرِيدِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ. وَهَذَا مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمَاتْرِيدِيُّ وَالْخُلْفُ لَفْظِيٌّ.
وَمَعْنَى نَعَّمَهُ جَعَلَهُ فِي نِعْمَةٍ، أَيْ فِي طِيبِ عَيْشٍ.
وَمَعْنَى: فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَعْطَاهُ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، وَمِنْهُ التَّقْتِيرُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الدَّالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ وَيُقَابِلُهُ بَسْطُ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشورى: ٢٧].
وَالْهَاءُ فِي رِزْقَهُ يَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى الْإِنْسانُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ،
وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ إِلَى رَبُّهُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ.
وَالْإِهَانَةُ: الْمُعَامَلَةُ بِالْهُونِ وَهُوَ الذُّلُّ.
وَإِسْنَادُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ... فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى لِأَنَّ الْكَرَامَةَ وَالنعْمَة انساقت للْإنْسَان أَوِ انْسَاقَ لَهُ قَدَرُ الرِّزْقِ بِأَسْبَابٍ مِنْ جَعْلِ اللَّهِ وَسُنَنِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا يُصَادِفُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بَعْضًا، وَأَسْبَابُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حُصُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَيْنَ مَنْ تَقَعُ بِهِ مِنَ النَّاسِ فِي فُرَصِهَا وَمُنَاسَبَاتِهَا.
وَالْقَوْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ عَنِ اعْتِقَادٍ. فَالْمَعْنَى:
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ، وَيَقُولُ: رَبِّي أَهَانَنِي، مُعْتَقِدًا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَنْ يَفْتَخِرُوا بِالنِّعْمَةِ، أَوْ يَتَذَمَّرُوا مِنَ الضِّيقِ وَالْحَاجَةِ، وَنَظِيرُ اسْتِعْمَالِ الْقَوْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥]، أَيِ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَالُوهُ وَاعْتَذَرُوا بِهِ لِأَنْفُسِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ.
وَتَقْدِيمُ رَبِّي على فعل أَكْرَمَنِ وَفعل أَهانَنِ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: أَكْرَمَنِي رَبِّي أَوْ أَهَانَنِي رَبِّي، لِقَصْدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، أَيْ يَقُولُ ذَلِكَ جَازِمًا بِهِ غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ.
وَجَمُلَتَا: فَيَقُولُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَوَابَانِ لِ أَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، أَيْ يَطَّرِدُ قَوْلُ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ كُلَّمَا حَصَلَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَكُلَّمَا حَصَلَ لَهُ تَقْتِيرُ رِزْقٍ.


الصفحة التالية
Icon