حَرِيصٌ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُؤْثَرَ عَنْهُ الْغَلَطُ وَالْخَطَأُ وَكَفَى بِذَلِكَ وَازِعًا عَنْ تَعَمُّدِهِ وَكَفَى بِعِلْمِهِ مَظِنَّةً لِإِصَابَةِ الصَّوَابِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الشَّهَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ وَتَذْيِيلٌ. أَتَى بِإِنِ الشَّرْطِيَّةِ الَّتِي الْأَصْلُ فِي شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ لِأَنَّ صِدْقَهُمْ غَيْرُ مُحْتَمَلِ الْوُقُوعِ وَإِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ بَشَرٍ وَأَنَّكُمْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ.
وَالصِّدْقُ ضِدُّ الْكَذِبِ وَهُمَا وَصْفَانِ لِلْخَبَرِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَالصِّدْقُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ مُطَابِقًا وَمُمَاثِلًا لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ أَيْ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ احْتِرَازًا عَنِ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ، وَالْكَذِبُ ضِدُّ الصِّدْقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ الْخَبَرِيِّ غَيْرَ مُطَابِقٍ أَيْ غَيْرَ مُمَاثِلٍ لِلْوَاقِعِ فِي الْخَارِجِ، وَالْكَلَامُ مَوْضُوعٌ لِلصِّدْقِ وَأَمَّا الْكَذِبُ فَاحْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ وَالْإِنْشَاءُ لَا يُوصَفُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ إِذْ لَا مَعْنَى لِمُطَابَقَتِهِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ إِيجَادٌ لِلْمَعْنَى لَا لِلْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ. هَذَا مَعْنَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الْإِطْلَاقِ الْمَشْهُورِ. وَقَدْ يُطْلَقُ الْكَذِبُ صِفَةَ ذَمٍّ فَيُلَاحَظُ فِي مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ لِلْوَاقِعِ كَانَتْ عَنْ تَعَمُّدٍ فَتَوَّهَمَ الْجَاحِظُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْكَذِبِ تَتَقَوَّمُ مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ وَلِلِاعْتِقَادِ مَعًا وَسَرَى هَذَا التَّقَوُّمُ إِلَى مَاهِيَّةِ الصِّدْقِ فَجَعَلَ قِوَامَهَا الْمُطَابَقَةَ لِلْخَارِجِ وَالِاعْتِقَادَ مَعًا وَمِنْ هُنَا أَثْبَتَ الْوَاسِطَةَ بَيْنَ
الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا وَمَحَلُّ بَسْطِهِ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ وَالْبَلَاغَةِ.
وَالْمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ بَشَرٍ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (صَادِقِينَ) لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ جُمْلَةٌ مُقَدَّرَةٌ بَعْدَ جُمْلَةِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِذِ التَّقْدِيرُ فَتَأْتُونَ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَدَلَّ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُقَدَّرَةِ قَوْلُهُ قَبْلَهَا: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمُقَدَّرَةُ دَلِيلًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ فَتَصِيرُ جُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ تَكْرِيرًا لِلتَّحَدِّي.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ إِثَارَةٌ لِحَمَاسِهِمْ إِذْ عَرَّضَ بِعَدَمِ صِدْقِهِمْ فَتَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ على الْمُعَارضَة.
بِيَدِهِ لِيَضْرِبَهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَآلَى: لَا أَطْعَمُهَا أَبَدًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَهَا بِآيَةِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالْخَمْرُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ مَصْدَرِ خمر الشَّيْء يخمره مِنْ بَابِ نَصَرَ إِذَا سَتَرَهُ، سُمِّيَ بِهِ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَصَارَ مُسْكِرًا لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْعَقْلَ عَنْ تَصَرُّفِهِ الْخَلْقِيِّ تَسْمِيَةً مَجَازِيَّةً وَهِيَ إِمَّا تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ هُوَ اسْمٌ جَاءَ عَلَى زنة الْمصدر وَقيل:
هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَشْرُوبٍ مُسْكِرٍ سَوَاءٌ كَانَ عَصِيرَ عِنَبٍ أَوْ عَصِيرَ غَيْرِهِ أَوْ مَاءً نُبِذَ فِيهِ زَبِيبٌ أَوْ تَمْرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِذَةِ وَتُرِكَ حَتَّى يَخْتَمِرَ وَيُزْبِدَ، وَاسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ». وَالْحَقُّ أَنَّ الْخَمْرَ كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ إِلَّا أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى عَصِيرِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ خَمْرٌ وَنَبِيذٌ وَفَضِيخٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُعْظَمَ شَرَابِ الْعَرَبِ يَوْمَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مِنْ فَضِيخِ التَّمْرِ، وَأَنَّ أَشْرِبَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ خَمْسَةٌ غَيْرُ عَصِيرِ الْعِنَبِ، وَهِيَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ وَبَعْضُهَا يُسَمَّى الْفَضِيخَ، وَالنَّقِيعَ، وَالسُّكُرْكَة، وَالْبِتْعَ. وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَبِالْمَدِينَةِ خَمْسَةُ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ الْعِنَبِ، مَعْنَاهُ لَيْسَ مَعْدُودًا فِي الْخَمْسَةِ شَرَابُ الْعِنَبِ لقلَّة وجوده وليسر الْمُرَادُ أَنَّ شَرَابَ الْعِنَبِ لَا يُوجَدُ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ كَانَ شَرَابُ الْعِنَبِ يُجْلَبُ إِلَى الْحِجَازِ وَنَجْدٍ مِنَ الْيَمَنِ وَالطَّائِفِ وَالشَّامِ قَالَ عَمْرُو ابْن كُلْثُومٍ:
وَلَا تبقي خمور الأندرين
وَأَنْدَرِينُ بَلَدٌ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ.
وَقَدِ انْبَنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي مُسَمَّى الْخَمْرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ خِلَافٌ فِي الْأَحْكَامِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ خَمْرَ الْعِنَبِ حَرَامٌ كَثِيرُهَا إِجْمَاعًا وَقَلِيلُهَا عِنْدَ مُعْظَمِ الْعُلَمَاءِ وَيُحَدُّ شَارِبُ الْكَثِيرِ مِنْهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي الْقَلِيلِ خِلَافٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَاهَا فَقَالَ الْجُمْهُورُ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْخَمْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَخْذًا بِمُسَمَّى الْخَمْرِ عِنْدَهُمْ، وَبِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الْوَاضِحِ أَنَّ حِكْمَةَ التَّحْرِيمِ هِيَ الْإِسْكَارُ وَهُوَ ثَابِتٌ لِجَمِيعِهَا وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ:
حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَتِسْعِمِائَةٍ قَبْلَ الْمَسِيحِ. وَهُوَ إِسْرَائِيلِيٌّ مِنْ سُكَّانِ (جِلْعَادَ) - بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ- صِقْعٌ جَبَلِيٌّ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ وَمِنْهُ بَعْلَبَكُّ. وَكَانَ إِلْيَاسُ مِنْ سِبْطِ رُوبِينَ أَوْ مِنْ سِبْطِ جَادَ. وَهَذَانِ السِّبْطَانِ هُمَا سُكَّانُ صِقْعِ جِلْعَادَ، وَيُقَالُ لِإِلْيَاسَ فِي كُتُبِ الْيَهُودِ التَّشَبِيُّ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا عَبَدُوا الْأَوْثَانَ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ (آخَابَ) وَعَبَدُوا (بَعْلَ) صَنَمَ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ وَعَظَهُمْ إِلْيَاسُ وَلَهُ أَخْبَارٌ مَعَهُمْ. أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ الْيَسَعَ خَلِيفَةً لَهُ فِي النُّبُوءَةِ، ثُمَّ رَفَعَ اللَّهُ إِلْيَاسَ فِي عَاصِفَةٍ إِلَى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرَ لَهُ أَثَرٌ بَعْدُ، وَخَلَفَهُ الْيَسَعُ فِي النُّبُوءَةِ فِي زَمَنِ الْمَلِكِ
(تَهُورَامَ) بْنِ (آخَابَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ: كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ اعْتِرَاضٌ. وَالتَّنْوِينُ فِي كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَعْدُودِينَ وَهُوَ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَذْكُورِينَ إِسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْيَسَعُ اسْمُهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِلْيَشَعُ- بِهَمْزَةِ قَطْعٍ مَكْسُورَةٍ وَلَامٍ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ ثُمَّ شِينٌ مُعْجَمَةٌ وَعَيْنٌ- وَتَعْرِيبُهُ فِي العربيّة اليسع- بهزة وَصْلٍ وَلَامٍ سَاكِنَةٍ فِي أَوَّلِهِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ- فِي قِرَاءَة الْجُمْهُور.
وقرأه حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ «اللَّيْسَعُ» - بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَفَتْحِ اللَّامِ مُشَدَّدَةً بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ- بِوَزْنِ ضَيْغَمٍ، فَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ. وَهُوَ ابْنُ (شَافَاطَ) مِنْ أَهْلِ (آبُلِ مَحُولَةَ). كَانَ فَلَّاحًا فَاصْطَفَاهُ اللَّهُ لِلنُّبُوءَةِ عَلَى يَدِ الرَّسُولِ إِلْيَاسَ فِي مُدَّةِ (آخَابَ) وَصَحِبَ إِلْيَاسَ. وَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ لَازَمَ سِيرَةَ إِلْيَاسَ وَظَهَرَتْ لَهُ مُعْجِزَاتٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي (أَرِيحَا) وَغَيْرِهَا. وَتُوُفِّيَ فِي مُدَّةِ الْمَلِكِ (يُوءَاشَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ ٨٤٠ قَبْلَ الْمَسِيحِ وَدُفِنَ بِالسَّامِرَةِ. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْيَسَعَ مِنْ أَصْلِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنَّ الْهَمْزَةَ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ لِلتَّخْفِيفِ
وَالْفَاءُ فِي فَسَيُنْفِقُونَها تَفْرِيعٌ عَلَى الْعِلَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ دَأْبَهُمْ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ تَكَرُّرُ هَذَا الْإِنْفَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَيْ سَتَكُونُ لَهُمْ شَدَائِدُ مِنْ بَأْسِ الْمُسْلِمِينَ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَكْرِيرِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجُيُوشِ لِدِفَاعِ قُوَّةِ الْمُسلمين.
وَضمير فَسَيُنْفِقُونَها رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْوَالِ لَا بِقَيْدِ كَوْنِهَا الْمُنْفَقَةَ بَلِ الْأَمْوَالُ الْبَاقِيَةُ أَوْ
بِمَا يَكْتَسِبُونَهُ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الْحَقِيقِيِّ وَالرُّتْبِيِّ، أَيْ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ تِلْكَ الْأَمْوَالُ الَّتِي يُنْفِقُونَهَا حَسْرَةً عَلَيْهِمْ، وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى مَا فَاتَ، وَأُسْنِدَتِ الْحَسْرَةُ إِلَى الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ بِإِنْفَاقِهَا. ثُمَّ إِنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهَا بِنَفْسِ الْحَسْرَةِ مُبَالَغَةٌ مِثْلُ الْإِخْبَارِ بِالْمَصَادِرِ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ سَبَبُ التَّحَسُّرِ لَا سَبَبُ الْحَسْرَةِ نَفْسِهَا.
وَهَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا يَحْصُلُونَ مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ فِيمَا أَنْفَقُوا لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ الْمُنْفِقَ إِنَّمَا يَتَحَسَّرُ وَيَنْدَمُ إِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الْمَقْصُودُ مِنْ إِنْفَاقِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ لِيَغْلِبُوا فَلَا يَغْلِبُونَ، فَقَدْ أَنْفَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْجَيْشِ يَوْمَ أُحُدٍ: اسْتَأْجَرَ أَبُو سُفْيَانَ أَلْفَيْنِ مِنَ الْأَحَابِيشِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ. وَالْأَحَابِيشُ: فِرَقٌ مِنْ كِنَانَةَ تَجَمَّعَتْ مِنْ أَفْذَاذٍ شَتَّى وَحَالَفُوا قُرَيْشًا وَسَكَنُوا حول مَكَّة سمّو أَحَابِيشَ جَمْعُ أُحْبُوشٍ وَهُوَ الْجَمَاعَةُ أَيِ الْجَمَاعَاتُ فَكَانَ مَا أَحْرَزُوهُ مِنَ النَّصْرِ كِفَاءً لِنَصْرِ يَوْمِ بَدْرٍ، بَلْ كَانَ نَصْرُ يَوْمِ بَدْرٍ أَعْظَمَ. وَلِذَلِكَ اقتنع أَبُو سيفيان يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يَقُولَ «يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ» وَكَانَ يَحْسَبُ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ قُتِلَا فَخَابَ فِي حِسَابِهِ، ثُمَّ أَنْفَقُوا عَلَى الْأَحْزَابِ حِينَ هَاجَمُوا الْمَدِينَةَ ثُمَّ انْصَرَفُوا بِلَا طَائِلٍ، فَكَانَ إِنْفَاقُهُمْ حَسْرَةً عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُغْلَبُونَ ارْتِقَاءٌ فِي الْإِنْذَارِ بِخَيْبَتِهِمْ وَخِذْلَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَحْصُلُوا مِنْ إِنْفَاقِهِمْ عَلَى طَائِلٍ تُوعِّدُوا بِأَنَّهُمْ سَيَغْلِبُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوهُمْ أَيْضًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِغَلَبِ فَتْحِ مَكَّةَ وَانْقِطَاعِ دَابِرِ أَمْرِهِمْ، وَهَذَا كَالْإِنْذَارِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢] وَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْهُولِ لِكَوْنِ فَاعِلِ الْفِعْلِ مَعْلُومًا بِالسِّيَاقِ فَإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ غَيْرَ
وَفَسَقَ: تَجَاوَزَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ، إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا فَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي التَّجَاوُزِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ. وَالْفِسْقُ بِمَعْنَى التَّجَاوُزِ عَنِ الطَّاعَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «لَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا أَحَادِيثِهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَرَبُ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ»، أَيْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَحْوِهَا. وَوَافَقَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ. وَأُطْلِقَ الْفِسْقُ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى الْعِصْيَانِ الْعَظِيمِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ، أَيْ تَرَكَ وَابْتَعَدَ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ.
وَالْعُدُولُ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ إِلَى التَّعْرِيفِ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ الضَّمِيرِ لِتَفْظِيعِ فِسْقِ الشَّيْطَانِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِأَنَّهُ فِسْقُ عَبْدٍ عَنْ أَمْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتُهُ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ.
وَفَرَّعَ عَلَى التَّذْكِيرِ بِفِسْقِ الشَّيْطَانِ وَعَلَى تَعَاظُمِهِ عَلَى أَصْلِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِهِ وَاتِّخَاذِ جُنْدِهِ أَوْلِيَاءَ لِأَنَّ تَكَبُّرَهُ عَلَى آدَمَ يَقْتَضِي عَدَاوَتَهُ لِلنَّوْعِ، وَلِأَنَّ عِصْيَانَهُ أَمْرَ مَالِكِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّبَعَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: ١٠٠]. وَلِذَلِكَ عَلَّلَ النَّهْيَ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
وَالذُّرِّيَّةُ: النَّسْلُ، وَذُرِّيَّةُ الشَّيَاطِينُ وَالْجِنُّ.
وَالْعَدُوُّ: اسْمٌ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: ١] وَقَالَ: هُمُ الْعَدُوُّ [المُنَافِقُونَ: ٤].
عُومِلَ هَذَا الِاسْمُ مُعَامَلَةَ الْمَصَادِرِ لِأَنَّهُ عَلَى زِنَةِ الْمَصْدَرِ مِثْلَ الْقَبُولِ وَالْوَلُوعِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
وَإِنَّمَا مَتَّعَهُمُ اللَّهُ بِزَهْرَةِ الدُّنْيَا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ مُتَسَلْسِلَةٍ عَنْ نُظُمِ الِاجْتِمَاعِ فَكَانَتْ لَهُمْ فِتْنَةً فِي دِينِهِمْ، فَجُعِلَ الْحَاصِلُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاعِثِ.
وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ النَّفْسِ وَتَبَلْبُلِ الْبَالِ مِنْ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعٍ أَوِ الْتِوَاءِ الْأُمُورِ، وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنْ ذَلِكَ، فَلِشِرْكِهِمْ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْغَمَّ وَالتَّوَقُّعَ، وَفِتْنَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَاهِرَةٌ. فَالظَّرْفِيَّةُ هُنَا كَالَّتِي فِي قَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ:

نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وُنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥].
وَجُمْلَةُ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى تَذْيِيلٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى آخِرِهِ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ حُسْنِ شَارَتِهِمْ مَشُوبٌ وَمُبَطَّنٌ بِفِتْنَةٍ فِي النَّفْسِ وَشَقَاءٍ فِي الْعَيْشِ وَعِقَابٍ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَذُيِّلَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الْمُيَسَّرَ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْقَى فِي الدُّنْيَا وَمَنْفَعَتُهُ بَاقِيَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِمَا يُقَارِنُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّكْرِ.
فَإِضَافَةُ رِزْقُ رَبِّكَ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ، وَإِلَّا فَإِنَّ الرِّزْقَ كُلَّهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ رِزْقَ الْكَافِرِينَ لَمَّا خَالَطَهُ وَحَفَّ بِهِ حَالُ أَصْحَابِهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّبِعَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِكُفْرَانِهِمُ النِّعْمَةَ جُعِلَ كَالْمَنْكُورِ انْتِسَابُهُ إِلَى اللَّهِ، وَجُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ هُوَ السَّالِمُ مِنْ مُلَابَسَةِ الْكُفْرَانِ وَمِنْ تَبِعَاتِ ذَلِكَ.
وخَيْرٌ تَفْضِيلٌ، وَالْخَيْرِيَّةٌ حَقِيقَةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوَاحِيهَا. فَمِنْهَا: خَيْرٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَاجِلِ شَرٌّ عَلَيْهِ فِي الْآجِلِ، وَمِنْهَا خَيْرٌ مَشُوبٌ بِشُرُورٍ وَفِتَنٍ، وَخَيْرٌ صَافٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً قَوِيَّةً، وَخَيْرٌ مُلَائِمٌ مُلَاءَمَةً ضَعِيفَةً، فَالتَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ تُوَفُّرِ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَوَاقِبِ
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ إِلَخْ بَيَانٌ لِ مَثَلٌ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي مَعْنَى ضُرِبَ مَثَلٌ، فَإِنَّ الْمَثَلَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ فَصَحَّ بَيَانُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ.
وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ (إِنَّ)، وَأُكِّدَ مَا فِيهِ مِنَ النَّفْيِ بِحَرْفِ تَوْكِيدِ النَّفْيِ (لَنْ) لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ جَعْلَهُمُ الْأَصْنَامَ آلِهَةً يَقْتَضِي إِثْبَاتَهُمُ الْخَلْقَ إِلَيْهَا وَقَدْ نُفِيَ عَنْهَا الْخَلْقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِقْحَامِ الَّذِينَ ادَّعَوْا لَهَا الْإِلَهِيَّةَ لِأَنَّ نَفْيَ أَنْ تَخْلُقَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَقْتَضِي نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي بِالْأَحْرَى لِأَنَّ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا يَكُونُ فِعْلُهُ مِنْ بَعْدُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ
خُصُوصُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- عَلَى أَنْ يُقْصَدَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعَ النَّاسِ وَأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِحَالِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ هُمْ فَرِيقٌ مِنْكُمْ.
وَالذُّبَابُ: اسْمُ جَمْعِ ذُبَابَةٍ، وَهِيَ حَشَرَةٌ طَائِرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَتُجْمَعُ عَلَى ذِبَّانٍّ- بِكَسْرِ الذَّالِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ- وَلَا يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ لِلْوَاحِدَةِ ذِبَّانَةٌ.
وَذِكْرُ الذُّبَابِ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْقَرِ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي فِيهَا الْحَيَاةُ الْمُشَاهَدَةُ. وَأَمَّا مَا
فِي الْحَدِيثِ فِي الْمُصَوِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً»
فَهُوَ فِي سِيَاقِ التَّعْجِيزِ لِأَنَّ الْحَبَّةَ لَا حَيَاةَ فِيهَا وَالذَّرَّةُ فِيهَا حَيَاةٌ ضَعِيفَةٌ.
وَمَوْقِعُ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ مَوْقِعُ الْحَالِ، وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، وَ (لَوِ) فِيهِ وَصْلِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَقِيقَتِهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦].
وَالْبُورُ: جَمْعُ بَائِرٍ كَالْعُوذِ جَمْعِ عَائِذٍ، وَالْبَائِرُ: هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوَارُ، أَيِ الْهَلَاكُ.
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ [إِبْرَاهِيم: ٢٨] أَيِ الْمَوْتِ. وَقَدِ اسْتُعِيرَ الْبَوْرُ لِشِدَّةِ سُوءِ الْحَالَةِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الَّذِي يَعُدُّ الْهَلَاكَ آخِرَ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْحَيُّ مِنْ سُوءِ الْحَالِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٢]، أَيْ سُوءُ حَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ. وَقِيلَ: الْبَوَارُ الْفَسَادُ فِي لُغَةِ الْأَزْدِ وَأَنَّهُ وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ لُغَةِ مُضَرَ.
وَاجْتِلَابُ فِعْلِ (كَانَ) وَبِنَاءُ بُوراً عَلَى قَوْماً دُونَ أَنْ يُقَالَ: حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَبَارُوا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْبَوَارِ مِنْهُمْ بِمَا تَقْتَضِيهِ (كَانَ) مَنْ تَمَكُّنِ مَعْنَى الْخَبَرِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ (قَوْمًا) مِنْ كَوْنِ الْبَوَارِ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
[١٩]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ١٩]
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً.
الْفَاءُ فَصِيحَةٌ، أَيْ إِفْصَاحٌ عَنْ حُجَّةٍ بَعْدَ تَهْيِئَةِ مَا يَقْتَضِيهَا، وَهُوَ إِفْصَاحٌ رَائِعٌ وَزَادَهُ
الِالْتِفَاتُ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبُوكُمْ.
وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ فِعْلِ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ قُلْتُمْ هَؤُلَاءِ آلِهَتُنَا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ فِي قَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ:
قَالُوا خُرَاسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ثُمَّ الْقُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا
أَيْ إِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَ. وَفِي حَذْفِ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِحْضَارٌ لِصُورَةِ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ غَيْرُ مَحْكِيٍّ وَكَأَنَّ السَّامِعَ آخِرَ الْآيَةِ قَدْ سَمِعَ لِهَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مُبَاشَرَةً دُونَ حِكَايَةٍ فَقَرَعَ سَمْعَهُ شَهَادَةُ الْأَصْنَامِ عَلَيْهِمْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٦- سُورَةُ يس
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ يس بِمُسَمَّى الْحَرْفَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهَا انْفَرَدت بهما فَكَانَا مُمَيِّزَيْنِ لَهَا عَنْ بَقِيَّةِ السُّوَرِ، فَصَارَ مَنْطُوقُهُمَا عَلَمًا عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ وَرَدَ اسْمُهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ»
. وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ.
وَدَعَاهَا بَعْضُ السَّلَفِ «قَلْبَ الْقُرْآنِ» لِوَصْفِهَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس»، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ
، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ.
وَرَأَيْتُ مُصْحَفًا مَشْرِقِيًّا نُسِخَ سَنَةَ ١٠٧٨ أَحْسَبُهُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ عَنْوَنَهَا «سُورَةَ حَبِيبٍ النَّجَّارِ» وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى [يس: ٢٠] كَمَا يَأْتِي.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ غَرِيبَةٌ لَا نَعْرِفُ لَهَا سَنَدًا وَلَمْ يُخَالِفْ نَاسِخُ ذَلِكَ الْمُصْحَفِ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي «سُورَةِ التِّينِ» عَنْوَنَهَا «سُورَةَ الزَّيْتُونِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: «إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهُمْ: «دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ»

. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ بِمَكَّةَ وَلَكِنَّهَا احْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَدِينَةِ» اهـ.
الدُّنْيَا فَيَلْحَقَ مِنْهُ الْقَاطِنِينَ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ فَأَنْبَأَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ لَا يُنْقِصُ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ وَأَرَادَ اطْمِئْنَانَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَأَصِلُ الْوِزْرِ، بِكَسْرِ الْوَاوِ: الثِّقَلُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِثْمِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ تَعَبٌ كَتَعَبِ حَامِلِ الثِّقْلِ. وَيُقَالُ: وَزِرَ بِمَعْنَى حَمَلَ الْوِزْرَ، بِمَعْنَى كَسْبَ الْإِثْمَ. وَتَأْنِيثُ وازِرَةٌ وأُخْرى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ مَعْنَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [الْبَقَرَة: ٤٨].
وَالْمَعْنَى: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ وِزْرَ نَفْسٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُغْنِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا مِنْ إِثْمِهَا، فَلَا تَطْمَعُ نَفْسٌ بِإِعَانَةِ ذَوِيِهَا وَأَقْرِبَائِهَا، وَكَذَلِكَ لَا تَخْشَى نَفْسٌ صَالِحَةٌ أَنْ تُؤَاخَذَ بِتَبِعَةِ نَفْسٍ أُخْرَى مِنْ ذَوِيِهَا أَوْ قَرَابَتِهَا. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِالْمُتَارَكَةِ وَقَطْعِ اللِّجَاجِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ قُصَارَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُرْشِدُوا الضُّلَّالَ لَا أَنْ يُلْجِئُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ لِلْتَرْتِيبَيْنَ الرُّتْبِيِّ وَالتَّرَاخِي، أَيْ وَأَعْظَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّهِ غَنِيًّا عَنْكُمْ أَنَّهُ أَعَدَّ لَكُمُ الْجَزَاءَ عَلَى كُفْرِكُمْ وَسَتَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَإِنَّمَا جَاءَ فِي آيَةِ [الْأَنْعَامِ: ١٦٤] : بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ إِثْرَ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ تَضَمَّنَتِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُشْركين وَلم يَجِيء مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا، فَلِذَلِكَ قِيلَ هُنَا: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أَيْ مِنْ كُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَشُكْرِ مَنْ شَكَرَ.
وَالْأَنْبَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ الْحَاصِلِ بِهِ الْعِلْمُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْإِخْبَارِ بِأَنْ يُعْلِنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ أَعْمَالَهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُظْهِرُ لَكُمُ الْحَقَّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ أَوْ يُخْبِرَكُمْ بِهِ مُبَاشَرَةً، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تَعْلِيل لجملة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَيَصْفَحُوا عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَتَكَلَّفُوا الِانْتِصَارَ لِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ.
وَقَدْ يُطْلَقُ أَيَّامَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْأَيَّامِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا فَضْلُهُ وَنِعْمَتُهُ عَلَى قَوْمٍ، وَهُوَ أَحَدُ تَفْسِيرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيم: ٥].
وَمَعْنَى لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُمْ فِي شُغُلٍ عَنْ تَرَقُّبِ نِعَمِ اللَّهِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ إِسْنَادِ فِعْلِ الْخَيْرِ إِلَى أَصْنَامِهِمْ بِانْكِبَابِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ دُونَ عِبَادَةِ اللَّهِ وَيَأْتِي فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّعْرِيضِ وَالتَّحْرِيضِ مِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ يَرْجُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ. وَفُسِّرَ بِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الْفرْقَان:
٢١] وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: ١٣]، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِ أَيَّامَ اللَّهِ: أَيَّامَ جَزَائِهِ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ ظُهُورِ حُكْمِهِ وَعِزِّتِهِ فَهِيَ تُقَارِبُ الْأَيَّامَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ [النبأ: ٣٩]، أَيْ ذَلِكَ يَوْمُ النَّصْرِ الَّذِي يَحِقُّ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ (يَوْمٌ) فَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ تَمَكُّنَ اللَّهِ مِنْ عِقَابِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِرُوا بِالْعَفْوِ عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: ١٨٦]. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَكَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى.
وَقَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: يَغْفِرُوا أَيْ لِيَغْفِرُوا وَيَصْفَحُوا عَنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَنْتَصِرُوا لِأَنْفُسِهِمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَلَى مَا أُوذُوا فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّ الِانْتِصَارَ لِلنَّفْسِ تَوْفِيَةٌ لِلْحَقِّ وَمَاذَا عَسَاهُمْ يَبْلُغُونَ مِنْ شِفَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِالتَّصَدِّي لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ أُولَئِكَ فَإِذَا تَوَكَّلُوا عَلَى نَصْرِ رَبِّهِمْ كَانَ نَصْرُهُ لَهُمْ أَتَمَّ وَأَخْضَدَ لِشَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ نُوحٌ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [الْقَمَر:
١٠]. وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الْحجر: ٨٥].
وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ لِيَجْزِيَهُمْ بِمَا كَانُوا
وَالْحُبُكُ: بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ حِبَاكٍ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ وَمِثَالٍ وَمُثُلٍ، أَوْ جَمْعُ حَبِيكَةٍ مِثْلُ طَرِيقَةٍ وَطُرُقٍ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُبُكِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهُوَ إِجَادَةُ النَّسْجِ وَإِتْقَانُ الصُّنْعِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحُبُكِ السَّمَاءِ نُجُومُهَا لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الطَّرَائِقَ الْمُوَشَّاةَ فِي الثَّوْبِ الْمَحْبُوكِ الْمُتْقَنِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقِيلَ الْحُبُكُ: طَرَائِقُ الْمَجَرَّةِ الَّتِي تَبْدُو لَيْلًا فِي قُبَّةِ الْجَوِّ.
وَقِيلَ: طَرَائِقُ السَّحَابِ. وَفُسِّرَ الْحُبُكُ بِإِتْقَانِ الْخَلْقِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحُبُكَ مَصْدَرًا أَوِ اسْمَ مَصْدَرٍ، وَلَعَلَّهُ مِنَ النَّادِرِ. وَإِجْرَاءُ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى السَّمَاءِ إِدْمَاجٌ أُدْمِجَ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الِامْتِنَانِ بِحُسْنِ الْمَرْأَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةً رُويَتْ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ الْحُبُكِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَضَمَّ الْبَاءِ وَهِيَ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ. وَجعل بعض أيمة اللُّغَةِ الْحِبُكَ شَاذًّا فَالظَّنُّ أَنَّ رَاوِيَهَا أَخْطَأَ لِأَنَّ وَزْنَ فِعُلٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ وَزْنٌ مُهْمَلٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِشِدَّةٍ ثِقَلِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ مِمَّا سَلِمَتْ مِنْهُ اللُّغَةُ الْعَرَبِيَّةُ. وَوُجِّهَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِأَنَّهَا مِنْ تَدَاخُلِ اللُّغَاتِ وَهُوَ تَوْجِيهٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ إِعْمَالَ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى زِنَةٍ مَهْجُورَةٍ لِأَنَّهَا إِذَا هُجِرَتْ بِالْأَصَالَةِ فَهَجْرُهَا فِي التَّدَاخُلِ أَجْدَرُ وَوَجَّهَهَا أَبُو حَيَّانَ بِاتِّبَاعِ حَرَكَةِ الْحَاءِ لِحَرَكَةِ تَاءِ ذاتِ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ تَوْجِيهِ تَدَاخُلِ اللُّغَتَيْنِ فَلَا جَدْوَى فِي التَّكَلُّفِ.
وَالْقَوْلُ الْمُخْتَلِفُ: الْمُتَنَاقِضُ الَّذِي يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيَقْتَضِي بَعْضُهُ إِبْطَالَ بَعْضِ الَّذِي هُمْ فِيهِ هُوَ جَمِيعُ أَقْوَالِهِمْ وَالْقُرْآنُ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فِي دِينِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ مُضْطَرِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَقَالُوا الْقُرْآنُ: سِحْرٌ وَشِعْرٌ، وَقَالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥]، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: ٧]، وَقَالُوا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا [الْأَنْفَال: ٣١] وَقَالُوا: مَرَّةً فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَالُوا: وَحْيُ الشَّيَاطِينِ.
وَقَالُوا فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَالًا: شَاعِرٌ، سَاحِرٌ، مَجْنُونٌ، كَاهِنٌ، يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا يُلَقِّبُونَهُ الْأَمِينَ.
فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ قَوْلًا وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ قَوْلًا فَنَزَلَتْ آيَةُ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَنْدِيدًا
عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِعَقِيدَةٍ مِنَ الْعَقَائِدِ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهَ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مَطَرٌ آخَرُ لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ.
وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ عَنْهُ لَمْ يُحْسِنِ التَّعْبِيرَ عَنْ كَلَامِهِ فَأُوهِمَ بِقَوْلِهِ فَنَزَلَتْ فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الْوَاقِعَة: ٧٥] بِأَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، أَوْ نَحْوَ تِلْكَ الْعِبَارَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُ هَذَا الْإِيهَامِ فِي أَخْبَارِ أَسْبَابِ النُّزُولِ» وَيَتَأَكَّدُ هَذَا صِيغَةُ تُكَذِّبُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، لَيْسَ فِيهِ تَكْذِيبٌ بِشَيْءِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى تَأْوِيلِهِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: ٩- ١١] فَهَذَا مَعْنَى أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أَيْ تُكَذِّبُونَ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَالَّذِي نَحَاهُ الْفَخْرُ مَنْحًى آخَرَ فَجَعَلَ مَعْنَى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تَكْمِلَةً لِلْإِدْهَانِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: ٨١] فَقَالَ: «أَيْ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ إِنْ صَدَّقْتُمْ بِالْقُرْآنِ ومنعتم ضعفاءكم عَن الْكُفْرِ يَفُوتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ مَا تَرْبَحُونَهُ بِسَبَبِهِمْ فَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ أَيْ فَيَكُونُ عَطْفًا على مُدْهِنُونَ [الْوَاقِعَة: ٨١] عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ شَبِيهٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، أَيْ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَجَاعِلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، فَهَذَا التَّكْذِيبُ مِنَ الْإِدْهَانِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ تَكْذِيبَهُ إِبْقَاءً عَلَى مَنَافِعِهِمْ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣]. وَعَلَى هَذَا يُقَدَّرُ قَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ مَجْرُورًا بِبَاءِ الْجَرِّ مَحْذُوفَةً، وَالتَّقْدِيرُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ بِأَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ تَجْعَلُونَ عِوَضَهُ بِأَنْ تُكَذِّبُوا بِالْبَعْثِ
إِلَيْهِ الْمُجَاوَبَةَ أَحْتَجُّ لِبُعْدِ الِاحْتِمَالِ عَنِ الْقُرْآنِ وَبَسَطْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَتَرَدَّدْتُ فِي آخِرِ كِتَابِي فِي احْتِمَالِ مَا قَالَ. فَقَطَعَ الْمُجَاوَبَةَ اه.
وَأَنْتَ قَدْ تَبَيَّنْتَ أَنَّ إِفْرَادَ الْأَرْضِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهَا أَرْضٌ وَاحِدَةٌ وَأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي قَوْلِهِ: مِثْلَهُنَّ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُمَاثَلَةِ فِي الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ فِي شَأْن من شؤون الْآخِرَةِ وَهِيَ مُخَالَفَةٌ لِلْمُتَعَارَفِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُطَوَّقَ الْغَاصِبُ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي غَصَبَهُ مُضَاعَفًا سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الْغِلَظِ وَالثِّقَلِ، عَلَى أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمُضَاعَفَةِ.
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ طَبَقَاتٍ مَعْلُومَةً لَقَالَ: طَوَّقَهُ مِنَ السَّبْعِ الْأَرَضِينَ بِصِيغَةِ التَّعْرِيفِ. وَكَلَامُ عَبْدِ الْحَمِيدِ أَدْخَلُ فِي التَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ.
وَعَلَى مُجَارَاةِ تَفْسِيرُ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ فِي عَدَدِ السَّبْعِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السَّبْعَ سَبْعُ قِطَعٍ وَاسِعَةٍ مِنْ سَطْحِ الْأَرْضِ يَفْصِلُ بَيْنَهَا الْبِحَارُ نُسَمِّيهَا الْقَارَّاتِ وَلَكِنْ لَا نَعْنِي بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيَّ فِي كُتُبِ الْجُغْرَافِيَا الْقَدِيمَةِ أَوِ الْحَدِيثَةِ بَلْ هِيَ قَارَّاتٌ طَبِيعِيَّةٌ كَانَ يَتَعَذَّرُ وَصُولُ سُكَّانِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضِهَا الْآخَرِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَنَقُّلٌ بَحَرِيٌّ وَفِيمَا بَعْدَهَا مِمَّا كَانَ رُكُوبُ الْبَحْرِ فِيهَا مَهُولًا. وَهِيَ
أَنَّ آسْيَا مَعَ أُورُوبَّا قَارَّةٌ، وَإِفْرِيقِيَا قَارَّةٌ، وأستراليا قارة، وأميركا الشمالية قارة، وأميركا الْجَنُوبِيَّةُ قَارَّةٌ، وَجِرُولَنْدَةُ فِي الشَّمَالِ، وَالْقَارَّةُ الْقُطْبِيَّةُ الْجَنُوبِيَّةُ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ مِنَ الْأَرْضِ فِي الْبِحَارِ، وَتَكُونُ مِنَ تَبْعِيضِيَّةً لِأَنَّ هَذِهِ الْقَارَّاتِ الِاصْطِلَاحِيَّةَ أَجْزَاءٌ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقَرَأَ غير عَاصِم مِثْلَهُنَّ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ.
وَمَعْنَى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أَمْرُ اللَّهِ بِالتَّكْوِينِ أَوْ بِالتَّكْلِيفِ يُبَلَّغُ إِلَى الَّذِينَ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيُبَلِّغُوهُ، أَوْ لِمَنْ يَأْمُرُهُمُ اللَّهُ مِنَ الرُّسُلِ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ، أَوْ مِنَ النَّاسِ لِيَعْلَمُوا بِمَا فِيهِ، كُلُّ ذَلِكَ يَقَعُ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِتَعْلَمُوا لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَإِحَاطَةَ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ. لِأَنَّ خَلْقَ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَظِيمَةِ
وَالتَّسْوِيَةُ: تَقْوِيمُ الشَّيْءِ وَإِتْقَانُ الْخَلْقِ قَالَ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشَّمْس:
٧] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: فَخَلَقَ فَسَوَّى [الْقِيَامَة: ٣٨]. وَأُرِيدَ بِالتَّسْوِيَةِ إِعَادَةُ خَلْقِ الْبَنَانِ مُقَوَّمَةً مُتْقَنَةً، فَالتَّسْوِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْخَلْقِ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُهُ فَإِنَّهُ مَا سُوِّيَ إِلَّا وَقَدْ أُعِيدَ خَلْقُهُ قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الْأَعْلَى: ٢].
وَالْبَنَانُ: أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ أَوْ أَطْرَافُ تِلْكَ الْأَصَابِعِ. وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ.
وَإِذْ كَانَتْ هِيَ أَصْغَرَ الْأَعْضَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي نِهَايَةِ الْجَسَدِ كَانَتْ تَسْوِيَتُهَا كِنَايَةً عَنْ تَسْوِيَةِ جَمِيعِ الْجَسَدِ لِظُهُورِ أَنَّ تَسْوِيَةَ أَطْرَافِ الْجَسَدِ تَقْتَضِي تَسْوِيَةَ مَا قَبْلَهَا كَمَا تَقُولُ: قَلَعَتِ الرِّيحُ أَوْتَادَ الْخَيْمَةِ كِنَايَةً عَنْ قَلْعِهَا الْخَيْمَةَ كُلَّهَا فَإِنَّهُ قَدْ يُكَنَّى بِأَطْرَافِ الشَّيْءِ عَنْ جَمِيعِهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لَكَ هَذَا الشَّيْءُ بِأَسْرِهِ، أَيْ مَعَ الْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ، كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ الشَّيْءِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: هُوَ لَكَ بِرُمَّتِهِ، أَيْ بِحَبْلِهِ الَّذِي يشد بِهِ.
[٥]
[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : آيَة ٥]
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
بَلْ إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى ذِكْرِ حَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ فُجُورِهِمْ، فَمَوْقِعُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الِابْتِدَائِيِّ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ، أَيْ لَمَّا دُعُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الْإِشْرَاكِ وَمَا يَسْتَدْعِيهِ مِنَ الْآثَامِ وَأُنْذِرُوا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا مُصَمِّمِينَ عَلَى الْاسْتِرْسَالِ فِي الْكُفْرِ.
وَالْفُجُورُ: فِعْلُ السُّوءِ الشَّدِيدِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ، وَمِنْهُ وُصِفَتِ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ
بِالْفَاجِرَةِ، فَيَكُونُ فَجَرَ بِمَعْنَى كَذَبَ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَيَكُونُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا مِثْلَ فِعْلِ كَذَبَ مُخَفَّفِ الذَّالِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَعْنِي الْكَافِرَ يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ. وَعَنِ ابْنَ قُتَيْبَةَ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ وَشَكَا دُبُرَ رَاحِلَتِهِ فَاتَّهَمَهُ عُمَرُ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ:
مَا مَسَّهَا مِنْ نَقَبٍ وَلَا دَبَرْ أَقْسَمَ بِاللَّهِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرْ
فَاغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فَجَرِِِِِِْ
وَاتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي التِّلَاوَةِ وَكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُقَالُ فِي الْآخِرَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَوْمَ الْجَزَاءِ فَهُوَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ هُوَ جَوَابُ (إِذَا) إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الْفجْر: ٢١] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدٌ وَاعْتِرَاضٌ.
فَهَذَا قَوْلٌ يَصْدُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ: فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَلَيْهِ. وَنُكْتَةُ هَذَا الْإِظْهَارِ مَا فِي وَصْفِ (رَبِّ) مِنَ الْوَلَاءِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَمَا فِي إِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ فَلَفْظُ رَبِّكِ جَرَى عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَعَطْفُ فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَطْفُ تَلْقِينٍ يَصْدُرُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَحْقِيقًا لِقَوْلِ الْمَلَائِكَةِ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ مُسْتَعَارٌ لِلْكَوْنِ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمُضِيفِ قَالَ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٥٥] بِحَيْثُ شُبِّهَتِ الْجَنَّةُ بِمَنْزِلٍ لِلنَّفْسِ الْمُخَاطَبَةِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِوَعْدِ اللَّهِ عَلَى أَعْمَالِهَا الصَّالِحَةِ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُغْتَرِبَةً عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَقِيلَ لَهَا: ارْجِعِي إِلَيْهِ، وَهَذَا الرُّجُوعُ خَاصٌّ غَيْرُ مُطْلَقِ الْحُلُولِ فِي الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا جَرَى عَلَى مُنَاسَبَةِ ذِكْرِ عَذَابِ الْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ فَتَكُونُ خِطَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِنُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطْمَئِنَّةِ.
وَالْأَمْرُ فِي ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ مُرَادٌ مِنْهُ تَقْيِيدُهُ بِالْحَالَيْنِ بَعْدَهُ وَهُمَا راضِيَةً مَرْضِيَّةً وَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي الْوَعْدِ وَالرُّجُوعُ مَجَازٌ أَيْضًا، وَالْإِضْمَارُ فِي قَوْلِهِ: فِي عِبادِي وَقَوْلُهُ: جَنَّتِي الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: نَزَلَتْ فِي مُعَيَّنٍ. فَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِبِئْرِ رُومَةَ. وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ حِينَ قُتِلَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ لَمَّا صَلَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ تَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ


الصفحة التالية
Icon