مُمْكِنًا لِمَنِ الْتَمَسَهُ وَأَلَّا مَعْنَى لِبَقَاءِ الْمُعْجِزَةِ بِالْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي كَانَ بِهِ مُعْجِزًا قَائِمٌ فِيهِ أَبَدًا اهـ.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ فِي مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِبَعْضِ مَسَائِلِ التَّقْدِيمِ قَوْلُهُ: «مُتَوَسِّلًا بِذَلِكَ إِلَى أَنْ يَتَأَنَّقَ فِي وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِي التَّنْزِيلِ مُنْتَقِلًا مِمَّا أَجْمَلَهُ عَجْزُ الْمُتَحَدِّينَ بِهِ عِنْدَكَ إِلَى التَّفْصِيلِ» وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ تَفَاصِيلَ مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِهِ فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَصْنَافٍ مِنَ الْإِعْجَازِ إِذْ نَقَلَتِ الْإِعْجَازَ بِالتَّوَاتُرِ وَكَانَتْ بِبَلَاغَتِهَا مُعْجِزَةً، وَكَانَتْ مُعْجِزَةً مِنْ حَيْثُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِمَا تَحَقَّقَ صِدْقُهُ فَسُبْحَانَ مُنْزِلِهَا وَمُؤَتِّيهَا.
[٢٥]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
فِي «الْكَشَّافِ» مِنْ عَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَذْكُرَ التَّرْغِيبَ مَعَ التَّرْهِيبِ وَيَشْفَعَ الْبِشَارَةَ بِالْإِنْذَارِ إِرَادَةَ التَّنْشِيطِ لِاكْتِسَابِ مَا يُزْلِفُ وَالتَّثْبِيطِ عَنِ اقْتِرَافِ مَا يُتْلِفُ فَلَمَّا ذَكَرَ
الْكُفَّارَ وَأَعْمَالَهُمْ وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعِقَابِ قَفَّاهُ بِبِشَارَةِ عِبَادِهِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ اهـ.
وَجَعَلَ جُمْلَةَ: وَبَشِّرِ مَعْطُوفَةً عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمَلِ الْمَسُوقَةِ لِبَيَانِ وَصْفِ عِقَابِ الْكَافِرِينَ يَعْنِي جَمِيعَ الَّذِي فُصِّلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [الْبَقَرَة: ٢٣] إِلَى قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٢٤] فَعَطَفَ مَجْمُوعَ أَخْبَارٍ عَنْ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَجْمُوعِ أَخْبَارٍ عَنْ عِقَابِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَاسِبَةُ وَاضِحَةٌ مُسَوِّغَةٌ لِعَطْفِ الْمَجْمُوعِ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَلَيْسَ هُوَ عَطْفًا لِجُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ الَّذِي يُطْلَبُ مَعَهُ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فِي الْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ، وَنَظِّرْهُ بِقَوْلِكَ: زَيْدٌ يُعَاقَبُ بِالْقَيْدِ وَالْإِرْهَاقِ وَبَشِّرْ عَمْرًا بِالْعَفْوِ وَالْإِطْلَاقِ.
وَجَعَلَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعَطْفِ لَقَبَ عَطْفِ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ لَيْسَ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ بَلْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُمَلِ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ مَا قِيلَ إِنَّ الْوَاوَ الْأُولَى وَالْوَاوَ الثَّالِثَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيد: ٣] لَيْسَتَا مِثْلَ الْوَاوِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِعِطْفِ مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَهَا عَلَى مَجْمُوعِ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَلَوِ اعْتُبِرَ عَطْفُ الظَّاهِرِ وَحْدَهُ عَلَى إِحْدَى السَّابِقَتَيْنِ
النَّرْدَ، وَعَنْ عَلِيٍّ: النَّرْدُ وَالشَّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا خَلَا الشطرنج عَن الرِّهَانِ وَاللِّسَانِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالصَّلَاةِ عَنِ النِّسْيَانِ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَيْسِرِ لِأَنَّ الْمَيْسِرَ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْمَالِ وَأَخْذَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ وَجِيهٌ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي الْفِقْهِ.
وَالنَّاسُ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ لِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ الْإِخْبَارُ بِوَاسِطَةِ (فِي) الْمُفِيدَةِ الظَّرْفِيَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَاد النَّاس ينتقع بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، بَلِ الْكَلَامُ يَقْتَضِي أَنَّ هَاتِهِ الْمَنَافِعَ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَفِعَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النَّحْل: ٦٩]. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ طَائِفَةً لِعَدَمِ صُلُوحِيَّةِ الْ هُنَا لِلْعَهْدِ وَلَوْ أُرِيدَ طَائِفَةٌ لَمَا صَحَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ وَمَنَافِعُ الشَّارِبِينَ وَالْيَاسِرِينَ كَمَا قَالَ:
وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [مُحَمَّد: ١٥].
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْوَجْهُ فِي ذِكْرِ مَنَافِعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ التَّحْرِيمِ وَالتَّمْهِيدَ إِلَيْهِ يَقْتَضِي تَنَاسِيَ الْمَنَافِعِ، قُلْتُ إِنْ كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً لِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْمَنَافِعِ هِيَ بَيَانُ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ لِيَعْتَادَ الْمُسْلِمُونَ مُرَاعَاةَ عِلَلِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ هَذَا الدِّينَ دِينًا دَائِمًا وَأَوْدَعَهُ أُمَّةً أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مُشَرِّعُونَ لِمُخْتَلِفِ وَمُتَجَدِّدِ الْحَوَادِثِ، فَلِذَلِكَ أَشَارَ لِعِلَلِ الْأَحْكَامِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً [الحجرات: ١٢] وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَخْصِيصُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَلِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَوَاضِعِ خَفَاءِ الْعِلَلِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ قَدِ اشْتُهِرَ بَيْنَهُمْ نَفْعُهَا، وَالْمَيْسِرَ قَدِ اتَّخَذُوهُ ذَرِيعَةً لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ فَوَجَبَ بَيَانُ مَا فِيهِمَا مِنَ الْمَفَاسِدِ إِنْبَاءً بِحِكْمَةِ التَّحْرِيمِ، وَفَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَأْنِيسُ الْمُكَلَّفِينَ فِطَامِهِمْ عَنْ أَكْبَرِ لَذَائِذِهِمْ تَذْكِيرًا لَهُمْ بِأَنَّ رَبَّهُمْ لَا يُرِيدُ إِلَّا صَلَاحَهُمْ دُونَ نِكَايَتِهِمْ كَقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: ٢١٦] وَقَوْلِهِ:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٣]. وَهُنَالِكَ أَيْضًا فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ عُذْرُهُمْ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ حَتَّى لَا يَسْتَكِينُوا لِهَذَا التَّحْرِيمِ وَالتَّنْدِيدِ عَلَى الْمَفَاسِدِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٨٧].
وَالِاجْتِبَاءُ الِاصْطِفَاءُ وَالِاخْتِيَارُ، قَالُوا هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَبْيِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، وَمِنْهُ جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، وَجَبْيُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ الَّذِي سُمِّيَتْ مِنْهُ الْجَابِيَةُ، فَالِافْتِعَالُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ الِاضْطِرَارِ، وَوَجْهُ الِاشْتِقَاقِ أَنَّ الْجَمْعَ إِنَّمَا يَكُونُ لِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِي تَحْصِيلِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ اخْتَارَهُمْ فَجَعَلَهُمْ مَوْضِعَ هَدْيِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَنُبُوءَتَهُ وَهَدْيَهُ.
وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَهَدَيْناهُمْ عَلَى اجْتَبَيْناهُمْ عَطْفًا يُؤَكِّدُ إِثْبَاتَ هُدَاهُمُ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْهَدْيِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ إِلَى مَا بِهِ نَوَالُ مَا يَعْمَلُ أَهْلُ الْكَمَالِ لِنَوَالِهِ، فَضَرَبَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مَثَلًا لِذَلِكَ تَشْبِيهًا لِهَيْئَةِ الْعَامِلِ لِيَنَالَ مَا يَطْلُبُهُ مِنَ الْكَمَالِ بِهَيْئَةِ السَّاعِي عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَا سَار إِلَيْهِ بِدُونِ تَرَدُّدٍ وَلَا تَحَيُّرٍ وَلَا ضَلَالٍ، وَذَكَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْمُرَكَّبِ الدَّالِّ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَحْذُوفَةِ لِلْإِيجَازِ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ بِمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ
الَّتِي اشْتَرَكَتْ فِيهَا الشَّرَائِعُ، وَالْمَقْصُودُ مَعَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمُ التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ خَالَفُوا مُعْتَقَدَهُمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [الْأَنْعَام: ٨٨].
[٨٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٨٨]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ لَا تَعْجَبُوا مِنْ هَدْيِهِمْ وَضَلَالِ غَيْرِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْهُدَى الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَفْعَالِ الْهِدَايَةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا، وَخُصُوصًا الْمَذْكُورُ آخِرًا بِقَوْلِهِ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ٨٧]. وَقَدْ زَادَ اسْمُ الْإِشَارَةِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْهَدْيِ إِذْ جُعِلَ كَالشَّيْءِ
فَالْمَعْنَى: مَا مَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ شَيْءٌ يَمْنَعُ مِثْلَهُ، وَلَكِنَّهُمْ كَالْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمُ الَّذِينَ جَاءَهُمُ الْهُدَى بِأَنْوَاعِهِ مِنْ كُتُبٍ وَآيَاتٍ وَإِرْشَادٍ إِلَى الْخَيْر.
والمرد بِ الْأَوَّلِينَ السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ فِي الضَّلَالِ وَالْعِنَادِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِمُ الْآبَاءُ، أَيْ سُنَّةُ آبَائِهِمْ، أَيْ طَرِيقَتُهُمْ وَدِينُهُمْ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أُمَّةٌ سَبَقَتْهَا.
وأَنْ تَأْتِيَهُمْ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ هُوَ فَاعِلُ وَما مَنَعَ. «وَلنْ يُؤْمِنُوا» مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا.
وَمَعْنَى تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ تَحِلُّ فِيهِمْ وَتَعْتَرِيهِمْ، أَيْ تُلْقَى فِي نُفُوسِهِمْ وَتُسَوَّلُ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ خَلْقَ مَنْ كَانُوا قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٣].
وَسُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: طَرِيقَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ. وَإِضَافَةُ (سُنَّةُ) إِلَيْهِمْ تُشْبِهُ إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيِ السُّنَّةُ الَّتِي سَنَّهَا الْأَوَّلُونَ. وَإِسْنَادُ مَنْعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى إِتْيَانِ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ اسْتِعَارَةٌ.
وَالْمَعْنَى: مَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا الَّذِي مَنَعَ الْأَوَّلِينَ قَبْلَهُمْ مِنْ عَادَةِ الْعِنَادِ وَالطُّغْيَانِ وَطَرِيقَتِهِمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِمْ.
وَذِكْرُ الِاسْتِغْفَارِ هُنَا بَعْدَ ذِكْرِ الْإِيمَانِ تَلْقِينٌ إِيَّاهُمْ بِأَنْ يُبَادِرُوا بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ وَأَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ تَكْذِيبِ النَّبِيءِ وَمُكَابَرَتِهِ.
وَ (أَوْ) هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى (إِلَى)، وَانْتِصَابُ فِعْلِ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ (بِأَن) مُضْمَرَةً بَعْدَ (أَوْ). وَ (أَوْ) مُتَّصِلَةَ الْمَعْنَى بِفِعْلِ مَنَعَ، أَيْ مَنَعَهُمْ تَقْلِيدُ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ كَمَا أَتَى الْأَوَّلِينَ.
هَذَا مَا بَدَا لِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَرَاهُ أَلْيَقَ بِمَوْقِعِ هَاتِهِ الْآيَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا.
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥]. وَوَصْفُهُ الدِّينَ بِالْحَنِيفِ،
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ»
. وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ، أُطْلِقَ عَلَى عُسْرِ الْأَفْعَالِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً كَمَا هُنَا.
وَالْمِلَّةُ: الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي [سُورَةِ النَّحْلِ: ١٢٣]. وَقَوْلِهِ: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: ٣٨].
وَقَوْلُهُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّينِ وَتَحْضِيضٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ بِأَنَّهُ اخْتُصَّ بِأَنَّهُ دِينٌ جَاءَ بِهِ رَسُولَانِ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا لَمْ يَسْتَتِبَّ لِدِينٍ آخَرَ، وَهُوَ مَعْنَى
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ»
(١) أَيْ بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩]، وَإِذ قَدْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَمَحْمَلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ أَنَّ الْإِسْلَامَ احْتَوَى عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْإِسْلَامِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً وَلَكِنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الشَّرَائِعَ الْأُخْرَى مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، جُعِلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ انْتِصَابُ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الدِّينِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِسْلَامَ حَوَى مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا إِلَى الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِضَافَةُ أُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ غَالِبَ الْأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعَرَبِ الْمُضَرِيَّةِ وَأَمَّا الْأَنْصَارُ فَإِنَّ نَسَبَهُمْ لَا يَنْتَمِي إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُمْ مِنَ الْعَرَبِ الْقَحْطَانِيِّينَ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ.
_________
(١) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن عبَادَة بن الصَّامِت.
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ
أَغْلالًا
، أَيْ جَعَلْنَا أَغْلَالًا، أَيْ فَأَبْلَغْنَاهَا إِلَى الْأَذْقَانِ.
وَالْجَعْلُ: هُنَا حَقِيقَةٌ وَهُوَ مَا خُلِقَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ خُلُقِ التَّكَبُّرِ وَالْمُكَابَرَةِ.
وَالْأَغْلَالُ: جَمَعُ غُلٍّ بِضَمِّ الْغَيْنِ، وَهُوَ حَلْقَةٌ عَرِيضَةٌ مِنْ حَدِيدٍ كَالْقِلَادَةِ ذَاتُ أَضْلَاعٍ مِنْ إِحْدَى جِهَاتِهَا وَطَرَفَيْنِ يُقَابِلَانِ أَضْلَاعَهُمَا فِيهِمَا أَثْقَابٌ مُتَوَازِيَةٌ تَشُدُّ الْحَلْقَةُ مِنْ طَرَفَيْهَا عَلَى رَقَبَةِ الْمَغْلُولِ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ لَهُ رَأْسٌ كَالْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَمُودُ فِي الْأَثْقَابِ فَإِذَا انْتَهَى إِلَى رَأْسِهِ الَّذِي كَالْكُرَةِ اسْتَقَرَّ لِيَمْنَعَ الْغُلَّ مِنَ الِانْحِلَالِ وَالتَّفَلُّتِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٥].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَهُمْ مُقْمَحُونَ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ.
وَالْمُقْمَحُ: بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ الْمَجْعُولِ قَامِحًا، أَيْ رَافِعًا رَأْسَهُ نَاظِرًا إِلَى فَوْقِهِ يُقَالُ: قمحه الغلّ، إِذا جَعَلَ رَأَسَهُ مَرْفُوعًا وَغَضَّ بَصَرَهُ، فَمَدْلُولُهُ مُرَكَّبٌ مِنْ شَيْئَيْنِ.
وَالْأَذْقَانُ: جَمَعُ ذَقَنٍ بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْنِ. وَتَقَدَّمَ فِي الْإِسْرَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا إِلَخْ وَعِيدًا بِمَا سَيَحِلُّ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي الْأَغْلَالِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧١، ٧٢]، فَيَكُونُ فِعْلُ جَعَلْنا مُسْتَقْبَلًا وَعُبِّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١]، أَيْ سَنَجْعَلُ فِي أَعْنَاقهم أغلالا.
[٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٩]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (٩)
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا.
هَذَا ارْتِقَاءٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنَ الِاهْتِدَاءِ لَوْ أَرَادُوا تَأَمُّلًا بِأَنَّ فَظَاظَةَ قُلُوبِهِمْ لَا تَقْبَلُ الِاسْتِنْتَاجَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ بِحَيْثُ لَا يَتَحَوَّلُونَ عَمَّا هُمْ فِيهِ، فَمُثِّلَتْ حَالُهُمْ بِحَالَةِ مَنْ جُعِلُوا بَيْنَ سَدَّيْنِ، أَيْ جِدَارَيْنِ: سَدًّا أَمَامَهُمْ، وَسَدًّا خَلْفَهُمْ، فَلَوْ رَامُوا
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا شَاعَ تَشْبِيهُ الْعِلْمِ بِالنُّورِ وَالْجَهْلِ بِالظُّلْمَةِ.
الْمقَام الثَّانِي: ناشىء عَنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مقَام السَّلَام مِنْ نَوَائِبِ الْخَطَأِ وَمُزِلَّاتِ الْمَذَلَاتِ، فَالْعَالِمُ يَعْصِمُهُ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَاهِلُ يُرِيدُ السَّلَامَةَ فَيَقَعُ فِي الْهَلَكَةِ، فَإِنَّ الْخَطَأَ قَدْ يُوقِعُ فِي الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ طَلَبِ الْفَوْزِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦] إِذْ مَثَّلَهُمْ بِالتَّاجِرِ خَرَجَ يَطْلُبُ فَوَائِدَ الرِّبْحِ مِنْ تِجَارَتِهِ فَآبَ بِالْخُسْرَانِ وَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ سَعْيُ الْجَاهِلِ بِخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ أَهْلُ النُّصْحِ يُسَهِّلُونَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَقِيهُمُ الْوُقُوعَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: مَقَامُ أُنْسِ الِانْكِشَافِ فَالْعَالِمُ تَتَمَيَّزُ عِنْدَهُ الْمَنَافِعُ وَالْمَضَارُّ وَتَنْكَشِفُ لَهُ الْحَقَائِقُ فَيَكُونُ مَأْنُوسًا بِهَا وَاثِقًا بِصِحَّةِ إِدْرَاكِهِ وَكُلَّمَا انْكَشَفَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ كَانَ كَمَنْ لَقِيَ أَنِيسًا بِخِلَافِ غَيْرِ الْعَالِمِ بِالْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِ الْمُتَشَابِهَاتُ فَلَا يَدْرِي مَاذَا يَأْخُذُ وَمَاذَا يَدَعُ، فَإِنِ اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ خَشِيَ الزَّلَلَ وَإِنْ قَلَّدَ خَشِيَ زَلَلَ مُقَلَّدِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا [الْبَقَرَة:
٢٠].
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: مَقَامُ الْغِنَى عَنِ النَّاسِ بِمِقْدَارِ الْعِلْمِ وَالْمَعْلُومَاتِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمُ الْعَالِمِ قَوِيَ غِنَاهُ عَنِ النَّاسِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: الِالْتِذَاذُ بِالْمَعْرِفَةِ، وَقَدْ حَصَرَ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ اللَّذَّةُ فِي الْمَعَارِفِ وَهِيَ لَذَّةٌ لَا تَقْطَعُهَا الْكَثْرَةُ. وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِالظِّلِّ إِذْ قَالَ: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: ١٩- ٢١] فَإِنَّ الْجُلُوسَ فِي الظِّلِّ يَلْتَذُّ بِهِ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ.
الْمَقَامُ السَّادِسُ: صُدُورُ الْآثَارِ النَّافِعَةِ فِي مَدَى الْعُمْرِ مِمَّا يُكْسِبُ ثَنَاءَ النَّاسِ فِي الْعَاجِلِ وَثَوَابَ اللَّهِ فِي الْآجِلِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ مَصْدَرُ الْإِرْشَادِ وَالْعِلْمِ دَلِيل عَلَى الْخَيْرِ وَقَائِدٌ إِلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨]. وَالْعِلْمُ عَلَى مُزَاوَلَتِهِ
ثَوَابٌ جَزِيلٌ،
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةَ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ إِذْ هُوَ حَاضِرٌ فِي الْأَذْهَانِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا أُعِيدَ
بِهَا التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَمُتَّبِعِيهِ وَالتَّعْرِيضُ بِتَحْمِيقِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَتَكُونُ مُفِيدَةً تَأْكِيدَ قَوْلِهِ آنِفًا هَذَا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: ١١]، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ صَرِيحَةً فِي وَعِيدِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِهِ وَهَذِهِ تَعْرِيضًا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْظَوْا بِهَذِهِ الْبَصَائِرِ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ رَشِيقٌ، وَكُلٌّ بِأَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا حَقِيقٌ.
وبَصائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ الْأُمُورَ عَلَى حَقَائِقِهَا، شُبِّهَتْ بِبَصَرِ الْعَيْنِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِصِيغَةٍ فِعْلِيَّةٍ لِلْمُبَالَغَةِ قَالَ تَعَالَى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٨]. وَقَالَ: قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [١٠٢] وَقَوْلُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٤٣].
وَوَصْفُ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ أَوِ الْقُرْآنِ بِالْبَصَائِرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْبَصَائِرِ.
وَجَمْعُ الْبَصَائِرِ: إِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ الْمُتَبَصِّرِينَ بِسَبَبِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ:
لِلنَّاسِ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ بَصِيرَتُهُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ بِالتَّبَعِ لِكَوْنِ صَاحِبِ كُلِّ بَصِيرَةٍ جُزْئِيًّا مُشَخِّصًا فَنَاسَبَ أَنْ تُورَدَ جَمْعًا، فَالْبَصِيرَةُ: الْحَاسَّةُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ إِفْرَادِ هُدىً وَرَحْمَةٌ لِأَنَّ الْهُدَى وَالرَّحْمَةَ مَعْنَيَانِ كُلِّيَّانِ يَصْلُحَانِ لِلْعَدَدِ الْكَثِيرِ قَالَ تَعَالَى: هُدىً لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ٤] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاء:
١٠٧]. وَإِنَّمَا كَانَ هُدًى لِأَنَّهُ طَرِيقُ نَفْعٍ لِمَنِ اتَّبَعَ إِرْشَادَهُ فَاتِّبَاعُهُ كَالِاهْتِدَاءِ لِلطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَإِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ هَدْيِهِ نَجَاحُ النَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ نِظَامُ مُجْتَمَعِهِمْ وَمَنَاطُ أَمْنِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ نَوَالِهِمْ دَرَجَاتِ النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. وَكَانَ بَصَائِرَ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرِّ وَيَعِدُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَيُوعِدُهُمْ عَلَى فِعْلِ الشُّرُورِ فَعَمَلُهُ عَمَلُ الْبَصِيرَةِ.
الرَّابِعُ: تَقْيِيدُ الْهُجُوعِ بِالْقَلِيلِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْمِلُونَ مُنْتَهَى حَقِيقَةِ الْهُجُوعِ بَلْ يَأْخُذُونَ مِنْهُ قَلِيلًا. وَهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ فَاتَتْ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ فِي قَوْلِهِ:

قَدْ حَصَّتِ الْبَيْضَةُ رَاسِي فَمَا أُطْعَمُ نَوْمًا غَيْرَ تَهْجَاعِ
الْخَامِسُ: الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ هُجُوعِهِمْ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ أقل مَا يهجهه الْهَاجِعُ.
وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ وُصِفَ بِالزَّمَانِ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ. وَالتَّقْدِيرُ:
زَمَنًا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ يَهْجَعُونَ. ومِنَ اللَّيْلِ تَبْعِيضٌ.
ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فِي السَّحَرِ، أَيْ فَإِذَا آذَنَ اللَّيْلُ بِالِانْصِرَامِ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ
يَغْفِرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدَّمُوا مِنَ التَّهَجُّدِ مَا يَرْجُونَ أَنْ يزلفهم إِلَى رضى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّ هُجُوعَهُمُ الَّذِي يَكُونُ فِي خِلَالِ اللَّيْلِ قَبْلَ السَّحَرِ. فَأَمَّا فِي السَّحَرِ فَهُمْ يَتَهَجَّدُونَ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ الِاسْتِغْفَارَ بِالصَّلَاةِ فِي السَّحَرِ. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آل عمرَان: ١٧]، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ طَلَبَ الْغُفْرَانَ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَغْفِرُ فِي مَضْجَعِهِ إِذْ لَا تَظْهَرُ حِينَئِذٍ مَزِيَّةٌ لِتَقْيِيدِ الِاسْتِغْفَارِ بِالْكَوْنِ فِي الْأَسْحَارِ.
وَالْأَسْحَارُ: جَمْعٌ سَحَرٍ وَهُوَ آخِرُ اللَّيْلِ. وَخُصَّ هَذَا الْوَقْتُ لِكَوْنِهِ يَكْثُرُ فِيهِ أَنْ يَغْلِبَ النَّوْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ فَصَلَاتُهُمْ وَاسْتِغْفَارُهُمْ فِيهِ أَعْجَبُ مِنْ صَلَاتِهِمْ فِي أَجْزَاءِ اللَّيْلِ الْأُخْرَى. وَجَمْعُ الْأَسْحَارِ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ قِيَامِهِمْ فِي كُلِّ سحر.
وَتَقْدِيم بِالْأَسْحارِ عَلَى يَسْتَغْفِرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَصِيغَ اسْتِغْفَارُهُمْ بأسلوب إِظْهَار اسْم الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ دُونَ ضَمِيرِهِ لِقَصْدِ إِظْهَارِ الِاعْتِنَاءِ بِهِمْ وَلِيَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فَيُفِيدُ تَقَوِّي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ
وَالتَّصْلِيَةُ: مَصْدَرُ صَلَّاهُ المشدّد، إِذا أَحْرَقَهُ وَشَوَاهُ، يُقَالُ: صَلَّى اللَّحْمَ تَصْلِيَةً، إِذَا شَوَاهُ، وَهُوَ هُنَا مِنَ الْكَلَامِ الموجه لإيهامه أَنه يُصَلَّى لَهُ الشِّوَاءُ فِي نُزُلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، أَيْ يُحَرَّقُ بِهَا.
وَالْجَحِيمُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّارِ الْمُؤَجَّجَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَمًا عَلَى جَهَنَّمِ دَارِ الْعَذَاب الْآخِرَة.
[٩٥]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : آيَة ٩٥]
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
تَذْيِيلٌ لِجَمِيعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُثْبَتَةِ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ تَحْقِيقِ حَقٍّ وَإِبْطَالِ بَاطِلٍ.
وَالْحَقُّ: الثَّابِتُ. والْيَقِينِ: الْمَعْلُومُ جَزْمًا الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ.
وَإِضَافَةُ حَقُّ إِلَى الْيَقِينِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيْ لَهُوَ الْيَقِينُ الْحَقُّ. وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ كَامِلًا فِي نَوْعِهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ حَقُّ ذَلِكَ الْجِنْسِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ»
. فَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ الْيَقِينُ حَقُّ الْيَقِينِ، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ الْعَالِمُ حَقُّ عَالِمٍ. وَمَآلُ هَذَا الْوَصْفِ إِلَى تَوْكِيدِ الْيَقِينِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ مُرَادِفِ الشَّيْءِ وَإِضَافَةُ الْمُتَرَادِفَيْنِ تُفِيدُ مَعْنَى التَّوْكِيدِ، فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى: أَنَّ هَذَا يَقِينُ الْيَقِينِ وَصَوَابُ الصَّوَابِ. نُرِيدُ: أَنَّهُ نِهَايَةُ الصَّوَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً عَلَى مَعْنَى (مِنْ)، وَحَقِيقَتُهُ عَلَى مَعْنَى اللَّامِ بِتَقْدِيرِ:
لَهُوَ حَقُّ الْأَمْرِ الْيَقِينِ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ. وسأبين هُنَا لَك مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هُنَا فَانْظُرْهُ هُنَا لَك.
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا التَّذْيِيلُ عَلَى أَرْبَعَةِ مُؤَكِّدَاتٍ وَهِيَ: (إِنَّ)، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَإِضَافَةُ شبه المترادفين.
(٣)
هَذَا تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ بِمَا جَرَى فِي خِلَالِ تَيْنِكَ الْحَادِثَتَيْنِ ثُنِيَ إِلَيْهِ عِنَانُ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ مَا يُهِمُّ مِنَ التشريع للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جَرَّائِهِمَا.
وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التَّحْرِيم: ١] بِتَقْدِيرِ وَاذْكُرْ.
وَقَدْ أُعِيدَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ ضِمْنًا بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ بأسلوب آخر ليبن عَلَيْهِ مَا فِيهِ مِنْ عِبَرٍ وَمَوَاعِظَ وَأَدَبٍ، وَمَكَارِمَ وَتَنْبِيهٍ وَتَحْذِيرٍ.
فَاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ على عشْرين معنى مِنْ مَعَانِي ذَلِكَ. إِحْدَاهَا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ:
إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ.
وَالثَّالِث: وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
الرَّابِعُ: عَرَّفَ بَعْضَهُ.
الْخَامِسُ: وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ.
السَّادِسُ: قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا.
السَّابِعُ: قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.
الثَّامِنُ وَالتَّاسِعُ وَالْعَاشِرُ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ إِلَى فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ [التَّحْرِيم: ٤].
الْحَادِي عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ: وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ [التَّحْرِيم: ٤].
الرَّابِعَ عَشَرَ وَالْخَامِسَ عَشَرَ: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً [التَّحْرِيم: ٥].
السَّادِسَ عَشَرَ: خَيْراً مِنْكُنَّ [التَّحْرِيم: ٥].
السَّابِعَ عشر: مُسْلِماتٍ [التَّحْرِيم: ٥] إِلَخْ.
الثَّامِنَ عشر: سائِحاتٍ [التَّحْرِيم: ٥].
التَّاسِعَ عَشَرَ: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التَّحْرِيم: ٥]، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ كُلِّ آيَةٍ مِنْهَا.
قَرَأْنَاهُ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بِالْإِقْرَارِ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ مَرَاتِبِ عُقُوبَتِهِ، قَالَ الْقَفَّالُ: فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدْفَعُهُ وَإِنْ كَانَتِ الْآثَارُ غَيْرَ وَارِدَةٍ بِهِ اهـ.
وَأَقُولُ: إِنْ كَانَ الْعَقْلُ لَا يَدْفَعُهُ فَإِنَّ الْأُسْلُوبَ الْعَرَبِيَّ وَمَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ تَنْبُو عَنْهُ.
وَالَّذِي يَلُوحُ لِي فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا دُونَ أَنْ تَقَعَ فِيمَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ السُّورِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ: أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ حِينَ كَانَتْ قَلِيلَةً كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْشَى تَفَلُّتَ بَعْضِ الْآيَاتِ عَنْهُ فَلَمَّا كَثُرَتِ السُّوَرُ فَبَلَغَتْ زُهَاءَ ثَلَاثِينَ حَسَبَ مَا عَدَّهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، صَارَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْشَى أَنْ يَنْسَى بَعْضَ آيَاتِهَا، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عِنْدَ نُزُولِهِ احْتِيَاطًا لِحِفْظِهِ وَذَلِكَ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ بِنَصِّهِ، فَلَمَّا تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ أَمَرَهُ أَنْ لَا يُكَلِّفَ نَفْسَهُ تَحَرِيكَ لِسَانِهِ، فَالنَّهْيُ عَنْ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ نَهْيُ رَحْمَةٍ وَشَفَقَةٍ لِمَا كَانَ يُلَاقِيهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الشِّدَّةِ.
وَ (قُرْآنُ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ مِثْلَ الْغُفْرَانِ وَالْفُرْقَانِ، قَالَ حَسَّانُ فِي
رِثَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ:
يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنًا وَلَفْظُ عَلَيْنا
فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّكَفُّلِ وَالتَّعَهُّدِ.
وثُمَّ فِي ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ لِلتَّرَاخِي فِي الرُّتْبَةِ، أَيِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ رُتْبَةِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
، وَبَيْنَ رُتْبَةِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ وَهِيَ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ. وَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ: أَنَّ عَلَيْنَا جَمْعَ الْوَحْيِ وَأَنْ تَقْرَأَهُ وَفَوْقَ ذَلِكَ أَنَّ تُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ بِلِسَانِكَ، أَيْ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِأَنْ يَكُونَ جَمْعُهُ وَقُرْآنُهُ بِلِسَانِكَ، أَيْ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ لَا بِكِتَابَةٍ تَقْرَأُهَا بَلْ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا فِي الصُّدُورِ بَيِّنًا لِكُلِّ سَامِعٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَاجَعَةٍ وَلَا عَلَى إِحْضَارِ مُصْحَفٍ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ.
فَالْبَيَانُ هُنَا بَيَانُ أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ بَيَانَ مَعَانِيهِ لِأَنَّ بَيَانَ مَعَانِيهِ مُلَازِمٌ لِوُرُودِ أَلْفَاظِهِ.
وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ عُلَمَائِنَا الَّذِينَ يَرَوْنَ جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنِ الْمُبِينِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي وَهُوَ مُتَمَسَّكٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ الَّذِي أَفَادَتْهُ ثُمَّ إِنَّمَا هُوَ تَرَاخٍ فِي الرُّتْبَةِ لَا فِي الزَّمَنِ، وَلِأَنَّ ثُمَّ قَدْ عَطَفَتْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَةِ وَلَمْ تَعْطِفْ
وَلِأَنَّ قُوَّةَ الْإِبْهَامِ فِي مَا أَنْسَبُ بِإِرَادَةِ الْجَمَاعَةِ دُونَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْحَكَمِ الْأَصَمِّ الْفَزَارِيِّ:
اللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَوَالِدِهِ وَاللُّؤْمُ أَكْرَمُ مِنْ وَبْرٍ وَمَا وَلَدَا
يُرِيدُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ لَا وَلَدًا مُعَيَّنًا.
وَجُمْلَةُ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ السُّورَةِ.
وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خُصُوصَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٥] إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْعُمُومُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْإِنْسَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُونَ مِنَ النَّاسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، فَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ أَبُو الْأَشَدِّ وَيُقَالُ: أَبُو الْأَشَدَّيْنِ وَاسْمُهُ أُسَيْدُ بْنُ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ يَجْعَلُ الْأَدِيمَ الْعُكَاظِيَّ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَيَقُولُ: مَنْ أَزَالَنِي فَلَهُ كَذَا. فَيَجْذِبُهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ حَتَّى يُمَزَّقَ الْأَدِيمُ وَلَا تَزُولُ قَدَمَاهُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ فِيهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ [الْبَلَد: ٥] وَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ:
نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالًا عَلَى إِفْسَادِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الَّذِي اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلْفَ الْخَنْدَقِ.
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدٌ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْقَسَمُ وَلَا السِّيَاقُ.
وَالْخَلْقُ: إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَيُطْلَقُ عَلَى إِيجَادِ حَالَةٍ لَهَا أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: ٦] وَقَوْلِهِ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [الْمَائِدَة: ١١٠]. فَهُوَ جَعْلٌ يُغَيِّرُ ذَاتَ الشَّيْءِ.


الصفحة التالية
Icon