بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢- سُورَةُ الْبَقَرَةِ
كَذَا سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَرَى فِي كَلَامِ السَّلَفِ، فَقَدْ
وَرَدَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَفَتَاهُ»
وَفِيهِ عَنْ عَائِشَةَ: «لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَامَ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ».
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ الْبَقَرَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَبْحِهَا لِتَكُونَ آيَةً وَوَصَفَ سُوءَ فَهْمِهِمْ لِذَلِكَ، وَهِيَ مِمَّا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ بِذِكْرِهِ، وَعِنْدِي أَنَّهَا أُضِيفَتْ إِلَى قِصَّةِ الْبَقَرَةِ تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ السُّورِ ال الم مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رُبَّمَا جَعَلُوا تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا وَعَرَّفُوهَا بِهَا نَحْوَ: طه، وَيس، وص وَفِي الِاتِّفَاقِ
عَنِ «الْمُسْتَدْرك» أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا سَنَامُ الْقُرْآنِ»
وَسَنَامُ كُلِّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَهَذَا لَيْسَ عَلَمًا لَهَا وَلَكِنَّهُ وَصْفُ تَشْرِيفٍ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ إِنَّهَا فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ وَالْفُسْطَاطُ مَا يُحِيطُ بِالْمَكَانِ لِإِحَاطَتِهَا بِأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.
نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي الْمَدِينَةِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ فِي «شَرْحِ الْبُخَارِيِّ» الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ قَبْلَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمُطَفِّفِينَ مَدَنِيَّةٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِيهَا فَرْضُ الصِّيَامِ، وَالصِّيَامُ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ، فُرِضَ فِيهَا صَوْمُ عَاشُورَاءَ ثُمَّ فُرِضَ صِيَامُ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ سَبْعَ رَمَضَانَاتٍ أَوَّلُهَا رَمَضَانُ مِنَ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فِي أَوَاخِرِهَا أَوْ فِي الثَّانِيَةِ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ «مَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» (تَعْنِي النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَ بِنَاءُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى عَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى لِلْهِجْرَةِ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا مَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعَ سِنِينَ فَتُوُفِّيَ وَهِيَ بِنْتُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، إِلَّا أَنَّ اشْتِمَالَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَعَلَى أَحْكَامِ الْقِتَالِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ والبلد الْحَرَام ينبىء بِأَنَّهَا اسْتَمَرَّ نُزُولُهَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَنَةِ سِتٍّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ آيَةِ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الْبَقَرَة: ١٩٦]
بِمَعْنَى مُفَاعَلَةِ أَسْبَابِ الْقَتْلِ أَيِ الْمُحَارَبَةِ، فَقَوْلُهُ وَقاتِلُوا بِمَعْنَى وَحَارِبُوا وَالْقِتَالُ الْحَرْبُ بِجَمِيعِ أَحْوَالِهَا مِنْ هُجُومٍ وَمَنْعِ سُبُلٍ وَحِصَارٍ وَإِغَارَةٍ وَاسْتِيلَاءٍ عَلَى بِلَادٍ أَوْ حُصُونٍ.
وَإِذَا أُسْنِدَتِ الْمُفَاعَلَةُ إِلَى أَحَدِ فَاعِلَيْهَا فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِالْفِعْلِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَجَعَلَ فَاعِلَ الْمُفَاعَلَةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ فَجَعَلَ فَاعِلَهُ ضَمِيرَ عَدُوِّهِمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ دَافِعُوا الَّذِينَ يَبْتَدِئُونَكُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُبَادَأَةِ دَلَائِلُ الْقَصْدِ لِلْحَرْبِ بِحَيْثُ يَتَبَيَّنُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْأَعْدَاءَ خَرَجُوا لِحَرْبِهِمْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَتَّى يَضْرِبُوا وَيَهْجُمُوا لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ يَفُوتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَدَارُكُهَا، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْأَشْخَاصِ لَا مَحَالَةَ، وَعُمُومُ الْأَشْخَاصِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ
الْأَحْوَالِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ، أَوْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْبِقَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: ١٩١] تَخْصِيصًا أَوْ تَقْيِيدًا بِبَعْضِ الْبِقَاعِ.
فَقَوْلُهُ: وَلا تَعْتَدُوا أَيْ لَا تَبْتَدِئُوا بِالْقِتَالِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَحْذِيرٌ مِنَ الِاعْتِدَاءِ وَذَلِكَ مُسَالَمَةٌ لِلْعَدُوِّ وَاسْتِبْقَاءٌ لَهُمْ وَإِمْهَالٌ حَتَّى يَجِيئُوا مُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ:
أَرَادَ وَلَا تَعْتَدُوا فِي الْقِتَالِ إِنْ قَاتَلْتُمْ فَفَسَّرَ الِاعْتِدَاءَ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ تَرْجِعُ إِلَى تَجَاوُزِ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالِاعْتِدَاءُ الِابْتِدَاءُ بِالظُّلْمِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ آنِفًا.
[١٩١، ١٩٢]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩١]
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩٢]
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
هَذَا أَمْرٌ بِقَتْلِ مَنْ يُعْثَرُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُمْ بِقِتَالِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ عَمَّمَ الْمَوَاقِعَ وَالْبِقَاعَ زِيَادَةً فِي أَحْوَالِ الْقَتْلِ وَتَصْرِيحًا بِتَعْمِيمِ الْأَمَاكِنِ فَإِنَّ أَهَمِّيَّةَ هَذَا الْغَرَضِ تَبْعَثُ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِاقْتِضَاءِ عُمُومِ الْأَشْخَاصِ تَعْمِيمَ الْأَمْكِنَةِ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مَأْذُونِينَ بِذَلِكَ فَكُلُّ مَكَانٍ يَحُلُّ فِيهِ الْعَدُوُّ فَهُوَ مَوْضِعُ قِتَالٍ، فَالْمَعْنَى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ إِنْ قَاتَلُوكُمْ.
وَعُطِفَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُكَمِّلَةً لَهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ قَتْلٌ خَاصٌّ غَيْرُ قِتَالِ الْوَغَى فَحَصَلَتِ الْمُغَايِرَةُ الْمُقْتَضِيَةُ الْعَطْفَ، وَلِذَلِكَ قَالَ هُنَا وَاقْتُلُوهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَقَاتِلُوهُمْ
وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا القَوْل طرايق ثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ مُتَارَكَةٌ وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْمُجَادَلَةِ أَيِ اعْتَرَفْتُ بِأَنْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى أَنْ أَزِيدَكُمْ بَيَانًا، أَيْ إِنِّي أَتَيْتُ بِمُنْتَهَى الْمَقْدُورِ مِنَ الْحُجَّةِ فَلَمْ تَقْتَنِعُوا، فَإِذْ لَمْ يُقْنِعْكُمْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ، فَلَيْسَتْ مُحَاجَّتُكُمْ إِيَّايَ إِلَّا مُكَابَرَةً وَإِنْكَارًا لِلْبَدِيهِيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ، وَمُبَاهَتَةً، فَالْأَجْدَرُ أَنْ أَكُفَّ عَنِ الِازْدِيَادِ. قَالَ الْفَخْرُ: فَإِنَّ الْمُحِقَّ إِذَا ابْتُلِيَ بِالْمُبْطِلِ اللَّجُوجِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا فَمُنْقَادٌ إِلَى الْحَقِّ. وَإِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَالَ الْقُرْطُبِيُّ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ إِفَادَةُ قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ بِجُمْلَةِ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقَوْلِهِ: أَأَسْلَمْتُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ، ضَرْبًا مِنَ الْإِدْمَاجِ إِذْ أَدْمَجَ فِي قَطْعِ الْمُجَادَلَةِ إِعَادَةَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، بِإِظْهَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ الدِّينَيْنِ.
وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ الْحِرْصُ عَلَى اهْتِدَائِهِمْ، وَالْإِعْذَارُ إِلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ خَارِجٌ عَنِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَكَرُّرٌ لِلدَّعْوَةِ، أَيِ اتْرُكْ مُحَاجَّتَهُمْ وَلَا تَتْرُكْ دَعْوَتَهُمْ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحِجَاجِ الَّذِي حَاجَّهُمْ بِهِ خُصُوصَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَا دَارَ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ وَفْدِ نَجْرَانَ مِنَ الْحِجَاجِ الَّذِي عَلِمُوهُ فَمِنْهُ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُ مَا طُوِيَ ذِكْرُهُ.
الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ تَلْخِيصٌ لِلْحُجَّةِ، وَاسْتِدْرَاجٌ لِتَسْلِيمِهِمْ إِيَّاهَا، وَفِي تَقْرِيرِهِ وُجُوهٌ مَآلُهَا إِلَى أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ حَقًّا، وَأَحْسَنُهَا مَا قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى أَحَقِّيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا زِيَادَاتٍ زَادَتْهَا شَرَائِعُهُمْ، فَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَتَّبِعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: ١٢٣] أَمَرَهُ هُنَا أَنْ يُجَادِلَ النَّاس بِمثل قَوْله إِبْرَاهِيمَ: فَإِبْرَاهِيمُ قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩]
وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ»
أَيْ فَقَدْ قُلْتُ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، فَكَيْفَ تنكرون أنّي عتلى الْحَقِّ، قَالَ: وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّمَسُّكِ بِالْإِلْزَامَاتِ وَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥].
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَمَا فَائِدَةُ سُؤَالِهِمْ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِمْ؟ قُلْتُ: لَهُ وُجُوه: أَحدهَا: أَنَّهُمْ سَأَلُوا ذَلِكَ لِيَكُونَ حُصُولُهُ أَمَارَةً
عَلَى حُصُولِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِمَا سَأَلُوهُ فَقَدْ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ آتِينَ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ وَيَخْشَوْنَ لَعَلَّهُمْ قَدْ خَلَطُوا أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ بِمَا يُبْطِلُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَجِيءِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِمْ: وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا دُونَ الْفَاءِ إِذْ جَعَلُوهُ دَعْوَةً مُسْتَقِلَّةً لِتَتَحَقَّقَ وَيَتَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا نَتِيجَةَ فِعْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُصُولِهِ. وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ بَعْدُ: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمرَان: ١٩٥] مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا هُنَا عَدَمَ إِضَاعَةِ أَعْمَالِهِمْ.
الثَّانِي: قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَرَادُوا طَلَبَ التَّوْفِيقِ إِلَى أَسْبَابِ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ. فَالْكَلَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ مِنَ التَّوْفِيقِ لِلْأَعْمَالِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهَا.
الثَّالِثُ: قَالَ فِيهِ مَا حَاصِلُهُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ بَابِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ حَتَّى لَا يَظْهَرُوا بِمَظْهَرِ الْمُسْتَحِقِّ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ بِهِ تَذَلُّلًا، أَيْ كَسُؤَالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمَغْفِرَةَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ.
الرَّابِعُ: أَجَابَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفرق (٢٧٣) بأنّهم سَأَلُوا ذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَهُ مَشْرُوطٌ بِالْوَفَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُؤَيَّدُ هَذَا بِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا قَبْلَهُ قَوْلَهُمْ: وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ لَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَأَعَادُوا سُؤَالَ النَّجَاةِ مِنْ خِزْيِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِمْ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَوْعُودَ الَّذِي سَأَلُوهُ هُوَ النَّصْرَ عَلَى الْعَدُوِّ خَاصَّةً، فَالدُّعَاءُ بِقَوْلِهِمْ:
وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَعْجِيلُ ذَلِكَ لَهُمْ، يَعْنِي أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ إِذَا دَعَا بِهَذَا فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يَرَى مِصْدَاقَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى خَشْيَةَ أَنْ يَفُوتَهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِ خَبَّابِ بن الْأَرَتِّ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيءِ نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا، وَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ لَهُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا بُرْدَةً» إِلَخْ.
لَمَّا افْتَضَحَ أَمْرُهُ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَلَكِنَّهُ شَاقَّهُ عِنَادًا وَنِوَاءً لِلْإِسْلَامِ.
وَسَبِيلُ كُلِّ قَوْمٍ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا فِي وَصْفِهِمُ الْخَاصِّ، فَالسَّبِيلُ مُسْتَعَارٌ لِلِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَالْعَادَاتِ، الَّتِي يُلَازِمُهَا أَحَدٌ وَلَا يَبْتَغِي التَّحَوُّلَ عَنْهَا، كَمَا يُلَازِمُ قَاصِدُ الْمَكَانِ طَرِيقًا يُبَلِّغُهُ إِلَى قَصْدِهِ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: ١٠٨] وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ نَظِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [مُحَمَّد: ٣٢]، فَمَنِ اتَّبَعَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَ سَبِيلَ غَيْرِهِمْ فِي غَيْرِ الْكُفْرِ مِثْلَ اتِّبَاعِ سَبِيل يهود خَبِير فِي غِرَاسَةِ النَّخِيلِ، أَوْ بِنَاءِ الْحُصُونِ، لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَأَنَّ فَائِدَةَ عَطْفِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ الْحَيْطَةُ لِحِفْظِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَعْدَ
الرَّسُولِ، فَقَدِ ارْتَدَّ بَعْضُ الْعَرَبِ بَعْدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ فِي ذَلِكَ:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ إِذْ كَانَ بَيْنَنَا فَيَا لِعِبَادِ اللَّهِ مَا لِأَبِي بَكْرِ
فَكَانُوا مِمَّنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُشَاقُّوا الرَّسُولَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، أَيْ نَتْرُكُهُ وَشَأْنَهُ لِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، كَمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ»
. وَقَدْ شَاعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِكَوْنِ إِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ حُجَّةً، وَأَوَّلُ مَنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْفَخْرُ: «رُوِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَمِائَةِ مَرَّةٍ حَتَّى وَجَدَ هَذِهِ الْآيَةَ. وَتَقْرِيرُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبًا. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ وَحْدَهَا مُوجِبَةٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُوجِبًا لَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ ضَمًّا لِمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْوَعِيدِ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، فَثَبَتَ أَنَّ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامٌ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ وَاجِبًا». وَقَدْ قَرَّرَ
إِجْدَاءِ الْمَوْعِظَةِ وَالْإِرْشَادِ فِيهِ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أَيْ لَا تَبْلُغُ إِلَى هَدْيِهِ بِمَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً.
وَهَذَا التَّرْكِيبُ يدلّ على كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى انْتِفَاءِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِ أَمْرٍ مَا. وَمَدْلُولُ مُفْرَدَاتِهِ أَنَّكَ لَا تَمْلِكُ، أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَقَلِّ شَيْءٍ مِنَ اللَّهِ، أَيْ لَا تَسْتَطِيعُ نَيْلَ شَيْءٍ مِنْ تَيْسِيرِ اللَّهِ لِإِزَالَةِ ضَلَالَةِ هَذَا الْمَفْتُونِ، لِأَنَّ مَادَّةَ الْمِلْكِ تَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْقُدْرَةِ، قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ:
مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرَ فَتْقَهَا
أَيْ شَدَدْتُ بِالطَّعْنَةِ كَفِّي، أَيْ مَلَكْتُهَا بِكَفِّي،
وَقَالَ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُيَيْنَةَ بن حصن «أَو أملك لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ».
وَفِي حَدِيثِ دَعْوَة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيرَتَهُ «فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
. وشَيْئاً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ. وَتَنْكِيرُ شَيْئاً لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى النَّفْيِ كَانَ انْتِفَاءُ مِلْكِ شَيْءٍ قَلِيلٍ مُقْتَضِيًا انْتِفَاءَ مِلْكِ الشَّيْءِ الْكَثِيرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ:
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ. وَالْمُرَادُ بِالتَّطْهِيرِ التَّهْيِئَةُ لِقَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْهُدَى أَوْ أَرَادَ بِالتَّطْهِيرِ نَفْسَ قَبُولِ الْإِيمَانِ.
وَالْخِزْيُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا خِزْيٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٥]، وَقَوْلِهِ: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٢].
وَأَعَادَ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ.
وَمَعْنَى أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أَخَّاذُونَ لَهُ، لِأَنَّ الْأَكْلَ اسْتِعَارَةٌ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ.
وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِتَنْزِيلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ ذُهِلَ طَوِيلًا عَنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْزَنَهُ قَوْلُ قَوْمِهِ فِيهِ كَانَ كَمَنْ بَعُدَ عِلْمُهُ بِذَلِكَ. ومِنْ قَبْلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِ رُسُلٌ جِيءَ بِهِ لِتَقْرِيرِ مَعْنَى التَّأَسِّي بِأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ.
وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا إِيمَاءٌ لِرَجَاحَةِ عُقُولِ الْعَرَبِ عَلَى عُقُولِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتْ رُسُلَهَا بِاعْتِقَادِ وَنُطْقِ أَلْسِنَتِهَا، وَالْعَرَبُ كَذَّبُوا بِاللِّسَانِ وَأَيْقَنُوا بِصِدْقِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِعُقُولِهِمُ الَّتِي لَا يَرُوجُ عِنْدَهَا الزَّيْفُ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ صَبَرُوا عَلَى التَّكْذِيبِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَأُوذُوا عَطْفًا عَلَى كُذِّبُوا وَتَكُونَ جُمْلَةُ فَصَبَرُوا مُعْتَرِضَةً. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ وَأُوذِيَتْ رُسُلٌ فَصَبَرُوا. فَلَا يُعْتَبَرُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ عَلى مَا كُذِّبُوا بَلْ يُوصَلُ الْكَلَامُ إِلَى قَوْلِهِ نَصْرُنا، وَأَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى كُذِّبَتْ رُسُلٌ، أَيْ كُذِّبَتْ وَأُوذُوا. وَيُفْهَمُ الصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى مِنَ الصَّبْرِ عَلَى التَّكْذِيبِ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ أَذًى فَيَحْسُنُ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: عَلى مَا كُذِّبُوا.
وَقَرَنَ فِعْلَ كُذِّبَتْ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ جَمْعَ تَكْسِيرٍ يُرَجَّحُ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْجَمَاعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِعْلَا فَصَبَرُوا وكُذِّبُوا مُقْتَرِنَيْنِ بِوَاوِ الْجَمْعِ، لِأَنَّ فَاعِلَيْهِمَا ضَمِيرَانِ مُسْتَتِرَانِ فَرَجَّحَ اعْتِبَارَ التَّذْكِيرِ.
وَعَطَفَ وَأُوذُوا عَلَى كُذِّبَتْ عَطْفَ الْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْأَذَى أَعَمُّ مِنَ التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ الْأَذَى هُوَ مَا يَسُوءُ وَلَوْ إِسَاءَةً مَا، قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً [آل عمرَان: ١١١] وَيُطلق على الشَّديد مِنْهُ. فَالْأَذَى اسْمٌ اشْتُقَّ مِنْهُ أَذًى إِذَا جُعِلَ لَهُ أَذًى وَأَلْحَقَهُ
بِهِ. فَالْهَمْزَةُ بِهِ لِلْجَعْلِ أَوْ لِلتَّصْيِيرِ. وَمَصَادِرُ هَذَا الْفِعْلِ أَذًى وَأَذَاةٌ وَأَذِيَّةٌ. وَكُلُّهَا أَسْمَاءُ مَصَادِرَ وَلَيْسَتْ مُصَادَرَ. وَقِيَاسُ مَصْدَرِهِ الْإِيذَاءُ لَكِنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : لَا يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: يُقَالُ: إِيذَاءٌ. وَلَعَلَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْقِيَاسِيَّ يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ وَلَوْ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلَامِهِمْ أَوْ يَتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ
وَلِذَلِكَ قِيلَ: الرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ. علّم الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ عَقِبَ مَا عُلِّمَهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الشُّكْرِ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّهُ هَدَاهُ ثُمَّ أَلْهَمَهُ الشُّكْرَ عَلَى الْهِدَايَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَأُعِيدَ الْأَمْرُ بِالْقَوْلِ لِمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَافْتُتِحَتْ جُمْلَةُ الْمَقُولِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلِتَحْقِيقِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُرَائِي بِصَلَاتِهِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ: «أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الْمُرَائِي أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَسَلَاهَا فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ». فَتَكُونُ (إِنَّ) عَلَى هَذَا لِرَدِّ الشَّكِّ.
وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلْمِلْكِ، أَيْ هِيَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ:
إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْأَنْعَام: ١٦١]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ.
وَجعل صَلَاتَهُ لِلَّهِ دُونَ غَيْرِهِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ. وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ بِجُمْلَةِ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَالنُّسُكُ حَقِيقَتُهُ الْعِبَادَةُ وَمِنْهُ يُسَمَّى الْعَابِدُ النَّاسِكُ.
وَالْمَحْيَا وَالْمَمَاتُ يُسْتَعْمَلَانِ مَصْدَرَيْنِ مِيمِيَّيْنِ، وَيُسْتَعْمَلَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ، مِنْ حَيِيَ وَمَاتَ، وَالْمَعْنَيَانِ مُحْتَمَلَانِ فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: أَعْمَالُ الْمَحْيَا وَأَعْمَالُ الْمَمَاتِ، أَيِ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهَا الْمَرْءُ مَعَ حَيَاتِهِ، وَمَعَ وَقت مماته. وَإِذا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُمَا الْمَعْنَى الزَّمَنِيَّ كَانَ الْمَعْنَى مَا يَعْتَرِيهِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
الَّتِي بَيْنَ حَضْرَمَوْتَ وَعُمَانَ.
وَالْأَخُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْقَرِيبِ، عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَا أَخَا الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ هُودٌ مِنْ بَنِي عَادٍ، وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ عَمِّ إِرَمَ، وَيُطْلَقُ الْأَخُ مَجَازًا أَيْضًا عَلَى الْمُصَاحِبِ الْمُلَازِمِ، كَقَوْلِهِمْ: هُوَ أَخُو الْحَرْبِ، وَمِنْهُ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الْإِسْرَاء: ٢٧]- وَقَوْلُهُ- وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الْأَعْرَاف: ٢٠٢]. فَالْمُرَادُ أَنَّ هُودًا كَانَ مِنْ ذَوِي نَسَبِ قَوْمِهِ عَادٍ، وَإِنَّمَا وُصِفَ هُودٌ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُوصَفْ نُوحٌ بِأَنَّهُ أَخٌ لِقَوْمِهِ: لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ نُوحٍ لَمْ يَكُونُوا قَدِ انْقَسَمُوا شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، وَالْعَرَبُ يَقُولُونَ:
لِلْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ: أَخُو بَنِي فُلَانٍ، قَصْدًا لَعَزْوِهِ وَنِسْبَتِهِ تَمْيِيزًا لِلنَّاسِ إِذْ قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي الْأَعْلَامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا أَنَّ نِظَامَ الْقَبَائِلِ مَا حَدَثَ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ.
وفصلت جُمْلَةُ: قالَ يَا قَوْمِ وَلَمْ تُعْطَفْ بِالْفَاءِ كَمَا عُطِفَ نَظِيرُهَا الْمُتَقَدِّمُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ لِأَنَّ الْحَالَ اقْتَضَى هُنَا أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ قِصَّةَ هُودٍ لَمَّا وَرَدَتْ عَقِبَ قِصَّةِ نُوحٍ الْمَذْكُورِ فِيهَا دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ صَارَ السَّامِعُ مُتَرَقِّبًا مَعْرِفَةَ مَا خَاطَبَ بِهِ هُودٌ قَوْمَهُ حَيْثُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ مَثَارَ سُؤَالٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: فَمَاذَا دَعَا هُودٌ قَوْمَهُ وَبِمَاذَا أَجَابُوا؟ فَيَقَعُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ إِلَخْ مَعَ مَا فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنَ التَّفَنُّنِ فِي أَسَالِيبِ الْكَلَامِ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُفَرَّعَ عَنْهُ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا لَمْ يَكُنْ التَّفْرِيعُ حَسَنًا فِي صُورَةِ النَّظْمِ.
وَالرَّبْطُ بَيْنَ الْجُمَلِ حَاصِلٌ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ فَاءَ الْعَطْفِ رَابِطٌ لَفْظِيٌّ لِلْمَعْطُوفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ رَابِطٌ جُمْلَةَ الْجَوَابِ بِجُمْلَةِ مَثَارِ السُّؤَالِ رَبْطًا مَعْنَوِيًّا.
وَجُمْلَةُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مُسْتَأْنَفَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَقَدْ شَابَهَتْ دَعْوَةُ هُودٍ قَوْمَهُ دَعْوَةَ نُوحٍ قَوْمَهُ فِي الْمُهِمِّ مِنْ كَلَامِهَا: لِأَنَّ الرُّسُلَ مُرْسَلُونَ
فَالسَّائِلُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَة
النازعات [٤٢] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها- وَقَوْلِهِ- عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ١- ٣] يَعْنِي الْبَعْثَ وَالسَّاعَةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ:
الْمَعْنِيُّ بِالسَّائِلِينَ الْيَهُودُ أَرَادُوا امْتِحَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، قِيلَ كُلُّهَا، وَقِيلَ إِنَّ آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوا هَذِهِ الْآيَةَ، فِيمَا اخْتُلِفَ فِي مَكَانِ نُزُولِهِ وَالسُّوَرُ الَّتِي حُكِيَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ مَكِّيَّةٌ أَيْضًا نَازِلَةٌ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالسَّاعَةُ مُعَرَّفَةٌ بِاللَّامِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ عَلَى وَقْتِ فَنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَالدُّخُولِ فِي الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ، وَتُسَمَّى: يَوْمَ الْبَعْثِ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وأَيَّانَ اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى السُّؤَالِ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ جَامِدٌ غَيْرُ مُتَصَرِّفٍ مُرَكَّبٌ مِنْ (أَيِّ) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (آنَ) وَهُوَ الْوَقْتُ، ثُمَّ خُفِّفَتْ (أَيُّ) وَقُلِبَتْ هَمْزَةُ (آنَ) يَاءً لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ، فَصَارَتْ (أَيَّانَ) بِمَعْنَى أَيُّ زَمَانٍ، وَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ بِمَا بَعْدَ (أَيَّانَ)، وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَعْنًى لَا اسْمَ ذَاتٍ، إِذْ لَا يُخْبَرُ بِالزَّمَانِ عَنِ الذَّاتِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا اسْمَ شَرْطٍ لِعُمُومِ الْأَزْمِنَةِ فَذَلِكَ بِالنَّقْلِ مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الشَّرْطِ كَمَا نُقِلَتْ (مَتَى) مِنْ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ تَوْسِيعَاتٌ فِي اللُّغَةِ تَصِيرُ مَعَانِيَ مُتَجَدِّدَةً، وَقَدْ ذَكَرُوا فِي اشْتِقَاقِ (أَيَّانَ) احْتِمَالَاتٍ يَرْجِعُونَ بِهَا إِلَى مَعَانِي أَفْعَالٍ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مَرَضِيَّةٍ، وَمَا ارْتَأَيْنَاهُ هُنَا أَحْسَنُ مِنْهَا.
فَقَوْلُهُ: أَيَّانَ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِصَدَارَةِ الِاسْتِفْهَامِ، ومُرْساها مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُضَافٌ إِلَيْهِ آنَ الْأَصْلُ أَيُّ (آنٍ) آنُ مَرْسَى السَّاعَةِ.
وَجُمْلَةُ: أَيَّانَ مُرْساها فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فعل يَسْئَلُونَكَ وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، وَهُوَ حِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ بِالْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ عَن جملَة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ.
وَالْمَرْسَى مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الْإِرْسَاءِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ يُقَالُ رَسَا الْجَبَلُ ثَبَتَ، وَأَرْسَاهُ أَثْبَتَهُ وَأَقَرَّهُ، وَالْإِرْسَاءُ الِاسْتِقْرَارُ بَعْدَ السَّيْرِ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
حُصُولِ النَّصْرِ بِدُونِ نَصِيرٍ، فَبَيَّنَ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُ كَمَا نَصَرَهُ حِينَ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ لَا جَيْشَ مَعَهُ، فَالَّذِي نَصَرَهُ حِينَ كَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ قَدِيرٌ عَلَى نَصْرِهِ وَهُوَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَقْدِيرَ قُعُودِهِمْ عَنِ النَّفِيرِ لَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ بِ تَنْصُرُوهُ عَائِدٌ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، لِأَنَّهُ وَاضِحٌ مِنَ الْمَقَامِ.
وَجُمْلَةُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، جُعِلَتْ جَوَابًا لَهُ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ: فَإِنَّ مَضْمُونَ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ قَدْ حَصَلَ فِي الْمَاضِي فَلَا يَكُونُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَوْضُوعِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَالتَّقْدِيرُ: إِنْ لَا تَنْصُرُوهُ فَهُوَ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِكُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُ إِذْ قَدْ نَصَرَهُ فِي حِينِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا وَاحِدٌ لَا يَكُونُ بِهِ نَصْرٌ فَكَمَا نَصَرَهُ يَوْمَئِذٍ يَنْصُرُهُ حِينَ لَا تَنْصُرُونَهُ. وَسَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ بَيَانُ هَذَا النَّصْرِ بِقَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها الْآيَةَ.
وَيَتَعَلَّقُ إِذْ أَخْرَجَهُ بِ نَصَرَهُ أَيْ زَمَنَ إِخْرَاجِ الْكُفَّارِ إِيَّاهُ، أَيْ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ خُرُوجُهُ مُهَاجِرًا. وَأَسْنَدَ الْإِخْرَاجَ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِيهِ بِأَنْ دَبَّرُوا لِخُرُوجِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال:
٣٠]، وَبِأَنْ آذَوْهُ وَضَايَقُوهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ، وَضَايَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالْمُقَاطَعَةِ، فَتَوَفَّرَتْ أَسْبَابُ خُرُوجِهِ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُونَ فِي تَمْكِينِهِ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ أَنْ يَظْهَرَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَلِذَلِكَ كَانُوا فِي آخِرِ الْأَمْرِ مُصَمِّمِينَ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الْخُرُوجِ، وَأَقَامُوا عَلَيْهِ مَنْ يَرْقُبُهُ وَحَاوَلُوا الْإِرْسَالَ وَرَاءَهُ لِيَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا لِمَنْ يَظْفَرُ بِهِ جَزَاءً جَزِلًا، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ.
كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا لَامْ أَلِفْ، عَلَى كَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا مُدْغَمَةً، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُكْتَبَ (إِنْ لَا) - بِهَمْزَةٍ فَنُونٍ فَلَامْ أَلِفْ- لِأَنَّهُمَا حَرْفَانِ: (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (لَا) النَّافِيَةُ، وَلَكِنَّ رَسْمَ الْمُصْحَفِ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَلَمْ تَكُنْ لِلرَّسْمِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ قَوَاعِدُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ كُتِبَ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
بِأَنَّهُمْ حَرَمُوا أَنْفُسَهُمُ الِانْتِفَاعَ بِمَوْعِظَةِ الْقُرْآنِ وَشِفَائِهِ لِمَا فِي الصُّدُورِ، فَانْتَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ.
وافتتاح الْكَلَام ب قَدْ لِتَأْكِيدِهِ، لِأَنَّ فِي الْمُخَاطَبِينَ كَثِيرًا مِمَّنْ يُنْكِرُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لِلْقُرْآنِ.
وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِعْلَامِ بِالشَّيْءِ، كَمَا اسْتُعْمِلَ لِلْبُلُوغِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ الْبُلُوغَ أَشْهَرُ فِي هَذَا وَأَكْثَرُ، يُقَالُ: بَلَغَنِي خَبَرُ كَذَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: جَاءَنِي خَبَرُ كَذَا أَوْ أَتَانِي خَبَرُ كَذَا. وَإِطْلَاقُ الْمَجِيءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعَزُّ.
وَالْمُرَادُ بِمَا جَاءَهُمْ وَبَلَغَهُمْ هُوَ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَرْبَعِ صِفَاتٍ هِيَ أُصُولُ كَمَالِهِ وَخَصَائِصِهِ وَهِيَ: أَنَّهُ مَوْعِظَةٌ، وَأَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَأَنَّهُ هُدًى، وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَوْعِظَةُ: الْوَعْظُ، وَهُوَ كَلَامٌ فِيهِ نُصْحٌ وَتَحْذِيرٌ مِمَّا يَضُرُّ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥]. وَوَصَفَهَا بِ مِنْ رَبِّكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ غَايَةَ كَمَالِ أَمْثَالِهَا.
وَالشِّفَاءُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٤].
وَحَقِيقَتُهُ: زَوَالُ الْمَرَضِ وَالْأَلَمِ، وَمَجَازُهُ: زَوَالُ النَّقَائِصِ وَالضَّلَالَاتِ وَمَا فِيهِ حَرَجٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَالْمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ.
وَالْهُدَى تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فِي طَالِعِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢]، وَأَصْلُهُ:
الدَّالَّةُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَمَجَازُهُ: بَيَانُ وَسَائِلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ الْحَقَّةِ.
وَالرَّحْمَةُ تَقَدَّمَتْ فِي تَفْسِيرِ الْبَسْمَلَةِ.
وَنُزُولُهَا قبل اخْتِلَاط النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْيَهُودِ فِي الْمَدِينَةِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ، وَبِذَلِكَ سَاوَى الصَّحَابَةُ عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِلْمِ تَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَا يَعْلَمُهُ الْمُشَرِّعُونَ.
فَالْمُبِينُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَبَانَ الْمُتَعَدِّي. وَالْمُرَادُ: الْإِبَانَةُ التَّامَّةُ بِاللَّفْظِ وَالْمعْنَى.
[٢]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٢]
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)
اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ تَعْلِيلَ الْإِبَانَةِ مِنْ جِهَتَيْ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ كَوْنَهُ قُرْآنًا يَدُلُّ عَلَى إِبَانَةِ الْمَعَانِي، لِأَنَّهُ مَا جُعِلَ مَقْرُوءًا إِلَّا لِمَا فِي تَرَاكِيبِهِ مِنَ الْمعَانِي المفيدة للقارىء.
وَكَوْنُهُ عَرَبِيًّا يُفِيدُ إِبَانَةَ أَلْفَاظِهِ الْمَعَانِيَ الْمَقْصُودَةَ لِلَّذِينِ خُوطِبُوا بِهِ ابْتِدَاءً، وَهُمُ الْعَرَبُ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا يَتَبَيَّنُونَ شَيْئًا مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي حَوْلَهُمْ لِأَنَّ كُتُبَهُمْ كَانَتْ بِاللُّغَاتِ غَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَبَرِهَا وَهُوَ فِعْلُ أَنْزَلْناهُ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَضَمِيرُ أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْكِتابِ فِي قَوْلِهِ: الْكِتابِ الْمُبِينِ [سُورَة يُوسُف:
١].
وقُرْآناً حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي أَنْزَلْناهُ، أَيْ كِتَابًا يُقْرَأُ، أَيْ مُنَظَّمًا عَلَى أُسْلُوبٍ مُعَدٍّ لِأَنْ يُقْرَأَ لَا كَأُسْلُوبِ الرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ أَوِ الْأَشْعَارِ، بَلْ هُوَ أُسْلُوبُ كِتَابٍ نَافِعٍ نَفْعًا مُسْتَمِرًّا يَقْرَأُهُ النَّاسُ.
وعَرَبِيًّا صِفَةٌ لِ قُرْآناً. فَهُوَ كِتَابٌ بِالْعَرَبِيَّةِ لَيْسَ كَالْكُتُبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ كِتَابٌ بِلُغَةِ الْعَرَبِ.

[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جَوَابٌ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاء النزاع بِبَيَانِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ تَامِّ الْإِنْتَاجِ، وَفِيهِ إِطْمَاعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ كَرَّ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمُ الْمَقْصُودُ بِالْإِبْطَالِ بِتَبْيِينِ خَطَئِهِمْ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: ٨].
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَوَادِحِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ شَدِيدُ الْوَقْعِ عَلَى الْمُنَاظِرِ، فَلَيْسَ قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِلدَّلِيلِ وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ دَلِيلِهِ. وَمَحَلُّ الْبَيَانِ هُوَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١١]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي زَائِدٍ عَلَيْهَا فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِنِعَمٍ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُمْ.
فَالِاسْتِدْرَاكُ رَفْعٌ لِمَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ مُقْتَضَى الِاسْتِوَاءِ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ.
وَأَوْرَدَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَرَفَةَ فِي «التَّفْسِيرِ» وَجْهًا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ إِذْ زِيدَ فِيهَا كَلِمَةُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ [سُورَة إِبْرَاهِيم: ١٠] وَبَيْنَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ قَالَ فِيهَا قالَتْ رُسُلُهُمْ بِوَجْهَيْنِ:
تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُرَادُ بِهَا الْوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ: الشَّجَاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. فَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقَرِيبُ لِلْأَفْهَامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ بِحَسَبِ مَبَالِغِ عِلْمِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ
طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ.
وَمَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِ لَبَناً، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا.
وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِ نُسْقِيكُمْ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ نُسْقِيكُمْ وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ.
وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ.
فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ.
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَقَدْ يُرَاعَى
الِامْتِنَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً وَتَعْرِيضٌ بِتَحْذِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَاللَّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ الشَّرْطِ.
وَجُمْلَةُ لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جَوَابُ الْقَسَمِ. وَهُوَ دَلِيلُ جَوَابِ الشَّرْطِ وَمُغْنٍ عَنْهُ.
ولَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا بِمَعْنَى لَنُذْهِبَنَّهُ، أَيْ عَنْكَ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ (نُذْهِبُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١].
وَمَا صدق الْمَوْصُولِ الْقُرْآنُ.
وَ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ نَفْيَ الطَّمَعِ فِي اسْتِرْجَاعِ الْمَسْلُوبِ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ
سَلْبِهِ. فَذِكْرُهُ أَدْخَلُ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الشُّكْرِ وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْغُرُورِ.
وَالْوَكِيلُ: مَنْ يُوكَلُ إِلَيْهِ الْمُهِمُّ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْمُدَافِعُ عَنْكَ وَالشَّفِيعُ لَكُ. وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْغَلَبَةِ عُدِّيَ بِ (عَلَى). وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعَهُّدِ وَالْمُطَالَبَةِ عُدِّيَ إِلَى الْمَرْدُودِ بِالْبَاءِ، أَيْ مُتَعَهِّدًا بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. وَمَعْنَى التَّعَهُّدِ: بِهِ التَّعَهُّدُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَلِأَنَّ التَّعَهُّدَ لَا يَكُونُ بِذَاتِ شَيْءٍ بَلْ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَجَرَى، الْكَلَامُ عَلَى الْإِيجَازِ.
وَذَكَرَ هُنَا وَكِيلًا وَفِي الْآيَةِ قَبْلَهَا نَصِيراً لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ عَلَى فَرْضِ سَلْبِ نِعْمَةِ الِاصْطِفَاءِ، فَالْمُطَالَبَةُ بِإِرْجَاعِ النِّعْمَةِ شَفَاعَةٌ وَوَكَالَةٌ عَنْهُ، وَأَمَّا الْآيَةُ قَبْلَهَا فَهِيَ فِي فَرْضِ إِلْحَاقِ عُقُوبَةٍ بِهِ، فَمُدَافِعَةُ تِلْكَ الْعُقُوبَةِ أَوِ الثَّأْرِ بِهَا نَصْرٌ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مُنْقَطِعٌ فَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ. وَهُوَ اسْتِدْرَاكٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ تَوَقُّعِ ذَلِكَ، أَيْ
وَالذِّكْرُ يَجُوزُ أَن يكون بِمَعْنى التَّذَكُّر بِالْعَقْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ.
وَاللَّامُ فِي لِذِكْرِي لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ أَنْ تَذْكُرَنِي، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذَكِّرُ الْعَبْدَ بِخَالِقِهِ. إِذْ يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ لِمُنَاجَاتِهِ. فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ وَبِضَمِيمَتِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥] يَظْهَرُ أَنَّ التَّقْوَى مِنْ حِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا ذَكَرَ أَمْرَ اللَّهِ وَنَهْيَهُ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَاجْتَنَبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَاللَّهُ عَرَّفَ مُوسَى حِكْمَةَ الصَّلَاةِ مُجْمَلَةً وَعَرَّفَهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفَصَّلَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ أَيْضًا لِلتَّوْقِيتِ، أَيْ أَقِمِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلْتُهُ لِذِكْرِي. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ الذِّكْرَ اللِّسَانِيَّ لِأَنَّ ذِكْرَ اللِّسَانِ يُحَرِّكُ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالِاعْتِرَافِ بِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ، أَيِ الَّذِي عَيَّنْتُهُ لَكَ. فَفِي الْكَلَامِ إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِابْتِدَاءِ إِعْلَامٍ بِأَصْلٍ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ بَعْدَ أَصْلِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْجَزَاءِ.
وَالسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْقِيَامَةِ أَوْ سَاعَةِ الْحِسَابِ.
وَجُمْلَةُ أَكادُ أُخْفِيها فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ السَّاعَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةٍ وَعِلَّتِهَا.
وَالْإِخْفَاءُ: السَّتْرُ وَعَدَمُ الْإِظْهَارِ، وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمَجَازُ عَنْ عَدَمِ الْإِعْلَامِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ «كَادَ» تَدُّلُ عَلَى مُقَارَبَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُخْبَرِ بِهِ عَنْهَا، فَالْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي حَيِّزِ الِانْتِفَاءِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالْأَشُدُّ: سِنُّ الْفُتُوَّةِ وَاسْتِجْمَاعِ الْقُوَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي [سُورَةِ يُوسُفَ: ٢٢] وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً.
وَوَقَعَ فِي [سُورَة الْمُؤمن: ٦٧] ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً، فَعَطَفَ طَوْرَ الشَّيْخُوخَةِ عَلَى طَوْرِ الْأَشُدِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّيْخُوخَةَ مَقْصِدٌ لِلْأَحْيَاءِ لِحُبِّهِمُ التَّعْمِيرَ، وَتِلْكَ الْآيَةُ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِامْتِنَانِ فَذُكِرَ فِيهَا الطَّوْرُ الَّذِي يَتَمَلَّى الْمَرْءُ فِيهِ بِالْحَيَاةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ لِأَنَّهَا وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْعَدَمِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا من الأطوار إِلَّا مَا فِيهِ ازدياد الْقُوَّة ونماء الْحَيَاة دون الشيخوخة الْقَرِيبَة مِنَ الِاضْمِحْلَالِ، وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا فَرِيقٌ مُعَيَّنٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي طَوْرِ الْأَشُدِّ، وَقَدْ نُبِّهُوا عَقِبَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ نَفَرًا يُرَدُّونَ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَهُوَ طَوْرُ الشَّيْخُوخَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ.
وَجِيءَ بِقَوْلِهِ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ اسْتِقْرَاءً لِأَحْوَالِ الْأَطْوَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى تَخَلُّلِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَطْوَارَ الْإِنْسَانِ بَدْءًا وَنِهَايَةً كَمَا يَقْتَضِيهِ مَقَامُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْبَعْثِ. وَالْمَعْنَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى قَبْلَ بُلُوغِ بَعْضِ الْأَطْوَارِ. وَأَمَّا أَصْلُ الْوَفَاةِ فَهِيَ لَاحِقَةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ لَا لِبَعْضِهِمْ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ [٦٧] : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ.
وَقَوْلُهُ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هُوَ عَدِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى. وَسَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ بَعْدَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِأَنَّهُ مَعْلُوم بطريقة لحسن الْخِطَابِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً إِلَخْ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْمَنَازِلَ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ يَدْخُلُهَا النَّاسُ فِي غَيْبَةِ أَصْحَابِهَا بِدُونِ إِذَنٍ مِنْهُمْ تَوَهُّمًا بِأَنَّ عِلَّةَ شَرْعِ الِاسْتِئْذَانِ مَا يَكْرَهُ أَهْلُ الْمَنَازِلِ مِنْ رُؤْيَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ تَأَهُّبٍ بَلِ الْعِلَّةُ هِيَ كَرَاهَتُهُمْ رُؤْيَةَ مَا يُحِبُّونَ ستره من شؤونهم. فَالشَّرْطُ هُنَا يُشْبِهُ الشَّرْطَ الْوَصْلِيَّ لِأَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ مَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ لَيْسَ لَهُ مَفْهُومُ مُخَالَفَةٍ.
وَالْغَايَةُ فِي قَوْلِهِ: حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: فَلا تَدْخُلُوها أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ أَهْلُهَا فَيَأْذَنُوا لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِهَذِهِ الْوَصَايَا بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِهِمْ لِيُزْدَجَرَ أَهْلُ الْإِلْحَاحِ عَنْ إِلْحَاحِهِمْ بِالتَّثْقِيلِ، وَلِيُزْدَجَرَ أَهْلُ الْحِيَلِ أَوِ التَّطَلُّعِ مِنَ الشُّقُوقِ وَنَحْوِهَا. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ عِصْيَانًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. فَعِلْمُهُ بِهِ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِ فَاعِلِيهِ بِمَا يسْتَحقُّونَ.
وخطاب فَلا تَدْخُلُوها يَعُمُّ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّور: ٥٨] كَمَا سَيَأْتِي. وَلِذَا فَإِنَّ الْمَمَالِيكَ وَالْأَطْفَالَ مُخَصَّصُونَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بُيُوتاً حَيْثُمَا وَقَعَ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْبَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آل عمرَان.
[٢٩]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٢٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
هَذَا تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ [النُّور: ٢٧] بِالْبُيُوتِ الْمُعَدَّةِ لِلسُّكْنَى، فَأَمَّا الْبُيُوتُ الَّتِي لَيْسَتْ مَعْدُودَةً لِلسُّكْنَى إِذَا كَانَ لِأَحَدٍ حَاجَةٌ فِي دُخُولِهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِأَنَّ كَوْنَهَا غَيْرَ مَعْدُودَةٍ لِلسُّكْنَى تَجْعَلُ الْقَاطِنَ بِهَا غَيْرَ مُحْتَرِزٍ
نُصْحِهِ وَتَعْزِيزِ جَانِبِهِ وَلِئَلَّا يَسْبِقَ إِلَى أَذْهَانِهِمْ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الرَّسُولُ مِنَ الْغِلْظَةِ فِي الْإِنْذَارِ وَأَهْوَالِ الْوَعِيدِ لَا يَقَعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ قَرَابَةُ هَذَا الْمُنْذِرِ وَخَاصَّتُهُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِدَائِهِ لَهُمْ: «لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
، وَأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا بِقِلَّةِ رَعْيِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْقَرَابَةِ إِذْ آذَاهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَعَصَوْهُ مِثْلُ أَبِي لَهَبٍ فَلَا يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ نَاجُونَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا يُكْتَفَى مِنْ مُؤْمِنِهِمْ بِإِيمَانِهِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي النَّذَارَةِ، وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَابَتَهُ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ.
فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ» يَجْمَعُهَا قَوْلُهُمْ: «لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الصَّفَا فَدَعَا قُرَيْشًا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَعَمَّ وَخَصَّ، يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي
هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا»

وَكَانَتْ صَفِيَّةُ وَفَاطِمَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ إِنْذَارُهُمَا إِعْمَالًا لِفِعْلِ الْأَمْرِ فِي مَعَانِيهِ كُلِّهَا مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ فَجَمَعَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْإِنْذَارِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْإِنْذَارِ مِنَ الْمَعَاصِي لِأَنَّهُ أَنْذَرَ صَفِيَّةَ وَفَاطِمَةَ وَكَانَتَا مُسْلِمَتَيْنِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صَعَدَ النَّبِيءُ [صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي
هَذِهِ السُّورَةِ تَثْبِيتُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَصَدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَنِ الْهِجْرَةِ مَعَ مَنْ هَاجَرُوا.
وَوَعْدُ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَذْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَنْصَارِهِمْ وَمُلَقِّنِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالْأَمْرُ بِمُجَافَاةِ الْمُشْركين والابتعاد مِنْهُم وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَ الْقَرَابَةِ.
وَوُجُوبُ صَبْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنَّ لَهُمْ فِي سَعَةِ الْأَرْضِ مَا يُنْجِيهِمْ مِنْ أَذَى أَهْلِ الشِّرْكِ.
وَمُجَادَلَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ مَا عَدَا الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثَّبَاتِ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَالتَّأَسِّي فِي ذَلِكَ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الَّتِي جَاءَتْهَا الرُّسُلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِمثل مَا جاؤوا بِهِ.
وَمَا تَخَلَّلَ أَخْبَارَ مَنْ ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الرُّسُلِ مِنَ الْعِبَرِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِدَلِيلِ أُمِّيَّةِ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيُقْلِعُوا عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ.
وَإِلْزَامُهُمْ بِإِثْبَاتِ وَحْدَانِيَّتِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ خَالِقُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الْأَرْضِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْبَعْثِ بِالنَّظَرِ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَتِهِ.
وَإِثْبَاتُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَتَوَعُّدُ الْمُشْرِكِينَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَأْتِيهِمْ بَغْتَةً وَهُمْ يَتَهَكَّمُونَ بِاسْتِعْجَالِهِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِاتِّخَاذِ الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بِمَثَلٍ وَهِيَ بَيْتُ العنكبوت.
[١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٢- سُورَةُ السَّجْدَةِ
أَشْهَرُ أَسْمَاءِ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ سُورَةُ السَّجْدَةِ، وَهُوَ أَخْصَرُ أَسْمَائِهَا، وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي السَّطْرِ الْمَجْعُولِ لِاسْمِ السُّورَةِ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْمُتَدَاوَلَةِ. وَبِهَذَا الِاسْمِ تَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ كَلِمَةِ سُورَةٍ إِلَى كَلِمَةِ السَّجْدَةِ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ كَلِمَةِ الم مَحْذُوفَةً لِلِاخْتِصَارِ إِذْ لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إِضَافَةِ سُورَةٍ إِلَى السَّجْدَةِ فِي تَعْرِيفِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَكُونُ سَجْدَةٌ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا الم تَنْزِيلُ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الم تَنْزِيلُ
[السَّجْدَة: ١، ٢] وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكُ: ١].
وَتُسَمَّى الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
[الْإِنْسَانِ: ١]. قَالَ شَارِحُو «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ»
ضَبْطُ اللَّامِ مِنْ كَلِمَةِ تَنْزِيلُ بِضَمَّةٍ عَلَى الْحِكَايَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ السَّجْدَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ بِالنَّصْبِ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ وَالْقَسْطَلَانِيُّ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ بَيَانٍ- يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ لِلَفْظِ الم تَنْزِيلُ-، وَهَذَا بِعِيدٌ، لِأَنَّ لَفْظَ السَّجْدَةِ لَيْسَ اسْمًا لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا بِإِضَافَةِ (سُورَةٍ) إِلَى (السَّجْدَةِ)، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّجْدَةِ) فِي كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَجْرُورًا بِإِضَافَةِ مَجْمُوعِ الم تَنْزِيلُ إِلَى لَفْظِ (السَّجْدَةِ)، وَسَأُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ.
وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» :«سُورَةُ تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ». وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُ مَضْمُومًا عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ، فَتَمَيَّزَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِوُقُوعِ سَجْدَةِ تِلَاوَةٍ فِيهَا مِنْ
فِي الزَّمَانِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْيَوْمِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِيعَادَ هُوَ الْيَوْمُ نَفْسُهُ.
وَجُمْلَةُ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إِمَّا صِفَةٌ لِ مِيعادُ وَإِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ.
وَالِاسْتِئْخَارُ وَالِاسْتِقْدَامُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّأَخُّرِ والتقدم مثل: اسْتِحْبَاب، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَقَدَّمَ الِاسْتِئْخَارَ عَلَى الِاسْتِقْدَامِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ مِيعَادُ بَأْسٍ وَعَذَابٍ عَلَيْهِمْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَمَنَّوْا تَأَخُّرَهُ، وَيَكُونُ وَلا تَسْتَقْدِمُونَ تَتْمِيمًا لِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
وَالسَّاعَةُ: حِصَّةٌ مِنَ الزَّمَنِ، وَتَنْكِيرُهَا لِلتَّقْلِيلِ بِمَعُونَةِ الْمَقَامِ.
[٣١]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٣١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
كَانَ الْمُشْرِكُونَ لَمَّا فَاجَأَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَأَخَذَ أَمْرُهُ فِي الظُّهُورِ قَدْ سَلَكُوا طَرَائِقَ مُخْتَلِفَةً لِقَمْعِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ لَاهِينَ عَنِ الْخَوْضِ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الشَّرَائِعِ فَلَمَّا قَرَعَتْ أَسْمَاعَهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُمْ: فَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَقَالُوا غَيْرَ ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَجَأُوا إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ لِيَتَلَقَّوْا مِنْهُمْ مُلَقَّنَاتٍ يُفْحِمُونَ بِهَا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أهل الْكتب يُمْلُونَ عَلَيْهِمْ كُلَّمَا لَقُوهُمْ مَا عَسَاهُمْ أَنْ يُمَوِّهُوا عَلَى النَّاسِ عَدَمَ صِحَّةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، فَمَرَّةً يَقُولُونَ: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨]، وَمَرَّةً يَقُولُونَ:
لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الْإِسْرَاء: ٩٣]، وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يَحْسَبُونَ مُسَاوَاتِهِ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ مُنَافِيَةً لِكَوْنِهِ رَسُولًا إِلَيْهِمْ مُخْتَارًا مِنْ عِنْدِ الله فَقَالُوا:
مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ١٧] وَإِلَى قَوْله: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٣]، وَهُمْ لَا يُحَاجُّونَ بِذَلِكَ عَنِ اعْتِقَادٍ بِصِحَّةِ رِسَالَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ وَسِيلَةً لِإِبْطَالِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَمَغَتْهُمْ حُجَجُ الْقُرْآنِ الْعَدِيدَةُ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا مَا هُوَ بِدْعٌ مِنَ الرُّسُلِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِمِثْلِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَحَاجَّهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٣٨- سُورَةُ ص
سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ عَنِ السَّلَفِ «سُورَةَ صَادٍ» كَمَا يُنْطَقُ بِاسْمِ حَرْفِ الصَّادِ تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ مِنْهَا هِيَ صَادٌ (بِصَادٍ فَأَلِفٍ فَدَالٍ سَاكِنَةٍ سُكُونَ وَقْفٍ) شَأْنُ حُرُوفِ التَّهَجِّي عِنْدَ التَّهَجِّي بِهَا أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً، أَيْ سَاكِنَةَ الْأَعْجَازِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمَعَرِّيِّ يَذْكُرُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
وَهُوَ مَنْ سُخِّرَتْ لَهُ الْإِنْسُ وَالْجِ نُّ بِمَا صَحَّ مِنْ شَهَادَةِ صَادِ
فَإِنَّمَا هِيَ كَسْرَةُ الْقَافِيَةِ السَّاكِنَةِ تُغَيَّرُ إِلَى الْكَسْرَةِ (لِأَنَّ الْكَسْرَ أَصْلٌ فِي التَّخَلُّصِ مِنَ السُّكُونِ) كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ وَفِي «الْإِتْقَانِ» عَنْ كِتَابِ «جَمَالِ الْقُرَّاءِ» لِلسَّخَاوِيِّ: أَنَّ سُورَةَ ص تُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ دَاوُدَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدَهُ فِي ذَلِكَ. وَكُتِبَ اسْمُهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِصُورَةِ حَرْفِ الصَّادِ مِثْلَ سَائِرِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ اتِّبَاعًا لِمَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَذُكِرَ فِي «الْإِتْقَانِ» أَنَّ الْجَعْبَرِيَّ حَكَى قَوْلًا بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ خِلَافُ حِكَايَةِ جَمَاعَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَعَنِ الدَّانِيِّ فِي كِتَابِ «الْعَدَدِ» قَوْلٌ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَلَاثُونَ فِي عداد نزُول السُّور نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمرَان: ٤٧] أَيْ أَرَأَيْتَ عَجِيبَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ بِصَارِفٍ غَيْرِ بَيِّنٍ مَنْشَؤُهُ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ فِعْلُ يُصْرَفُونَ لِلنَّائِبِ لِأَنَّ سَبَبَ صَرْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ لَيْسَ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنَّى) بِمَعْنَى (أَيْنَ)، أَيْ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ أَيْنَ يَصْرِفُهُمْ صَارِفٌ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مَعَ أَنَّ شُبَهَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ مُنْتَفِيَةٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَأَنْفُسِهِمْ وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ عَاقِبَةِ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مِمَّنْ سَبَقَهُمْ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُتَعَجِّبُ مِنْ فِعْلِ أَحَدٍ «أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ».
وَبِنَاءُ فِعْلِ يُصْرَفُونَ لِلْمَجْهُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْه للتعجيب مِنَ الصَّارِفِ الَّذِي يَصْرِفُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ كَائِنٍ فِي مَكَانٍ غَيْرِ نُفُوسِهِمْ.
وَأَبْدَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ مِنَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ لِأَنَّ صِلَتَيِ الْمَوْصُولَيْنِ صَادِقَتَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فالتكذيب هُوَ مَا صدق الْجِدَالِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ.
وَعَطْفُ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ الْعَطْفِ مُقْتَضِيًا الْمُغَايَرَةَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ مُرَادًا بِهِ تَكْذِيبُهُمْ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ فَلَعَلَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ سَأَلُوا عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَأَثْبَتُوهُ فَأَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُرَادِفٍ، فَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، وَالْمُرَادُ بِ رُسُلَنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] يَعْنِي الرَّسُولَ نُوحًا عَلَى أَنَّ فِي الْعَطْفِ فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنَّ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَاعِظَ وَإِرْشَادًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِيدُهُمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ،
وَلَمَّا كَانَ الِاصْطِفَاءُ لِلرِّسَالَةِ رَحْمَةً لِمَنْ يُصْطَفَى لَهَا وَرَحْمَةً لِلنَّاسِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، جَعَلَ تَحَكُّمَهُمْ فِي ذَلِكَ قِسْمَةً مِنْهُمْ لرحمة الله بِاخْتِيَار هم مَنْ يَخْتَارُ لَهَا وَتَعْيِينِ الْمُتَأَهِّلِ لِإِبْلَاغِهَا إِلَى الْمَرْحُومِينِ.
وَوُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُضِيفَ لِفَظُ (الرَّبِّ) إِلَى ضَمِيرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُ تَأْنِيسًا لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ شَأْنَهُ بِإِبْلَاغِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِالْخِطَابِ وَبِإِظْهَارِ أَنَّ اللَّهَ رَبَّهُ، أَيْ مُتَوَلِّي أَمْرَهُ وَتَدْبِيرَهُ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ، أَيْ لَمَّا قَسَمْنَا بَيْنَ النَّاسِ مَعِيشَتَهُمْ فَكَانُوا مُسَيَّرِينَ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى نَحْوِ مَا هَيَّأْنَا لَهُمْ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ وَكَانَ تَدْبِيرُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى بِبَالِغِ حِكْمَتِهِ، فَجَعَلَ مِنْهُمْ أَقْوِيَاءَ وَضُعَفَاءَ، وَأَغْنِيَاءَ وَمَحَاوِيجَ، فَسَخَّرَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِي أَشْغَالِهِمْ عَلَى حِسَابِ دَوَاعِي حَاجَةِ الْحَيَاةِ، وَرَفَعَ بِذَلِكَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى بعض ومسخّرا بِهِ. فَإِذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي تَدْبِيرِ الْمَعِيشَةِ الدُّنْيَا، فَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي إِقَامَةِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّ ذَلِك أعظم شؤون الْبَشَرِ. فَهَذَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ وَبِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ وَلَمْ يُقْرَأْ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ إِلَّا بِضَمِّ السِّينِ. وَقَرَأَ ابْن محيص فِي الشَّاذِّ بِكَسْرِ السِّينِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُسَخَّرِ، أَيِ الْمَجْبُورِ عَلَى عَمَلٍ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، وَاسْمٌ لِمَنْ يُسْخَرُ بِهِ، أَيْ يُسْتَهْزَأُ بِهِ كَمَا فِي «مُفْرَدَات» الرَّاغِب و «الأساس» و «الْقَامُوس». وَقَدْ فُسِّرَ هُنَا بِالْمَعْنَيَيْنِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي مَعْنَى التَّسْخِيرِ وَلَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ غَيْرُهُ وَكَلَامُ الرَّاغِبِ مُحْتَمَلٌ. وَاقْتَصَرَ الطَّبَرِيُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْخِيرِ. فَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنِيَّيْنِ مُعْتَبَرَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِيثَارُ لَفْظِ سُخْرِيًّا فِي الْآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ لِتَحَمُّلِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ اخْتِيَارٌ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى لِيَتَعَمَّلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي شؤون حَيَاتِهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ، أَيْ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ بَعْضِهِ بَعْضًا، وَعَلَيْهِ فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَقَالَهُ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ وَابْنُ زَيْدٍ،
بَيَانِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَجَعَلَ فَتْحًا قَرِيبًا لَكُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا وَعَدَكُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ آمِنِينَ. وَهَذَا الْفَتْحُ أَوَّلُهُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَهَذَا الْقَرِيبُ مِنْ وَقت الصُّلْح.
[٢٨]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِصِدْقِ الرُّؤْيَا بِأَنَّ الَّذِي أرسل رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الدِّينِ مَا كَانَ لِيُرِيَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِرَفِ (قَدْ) وَلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: ٢٧]. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ حُسْنُ مَوْقِعِ الضَّمِيرِ وَالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ غَالِبًا.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤْيا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ عِنْدَهُمْ حِينَ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ بِهِمَا فَخَامَرَتْهُمْ ظُنُونٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا الرَّسُولِ وَحَيٌ وَأَنَّ الْمُوحِيَ لَهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ يُرِيهِ رُؤْيَا غَيْرَ صَادِقَةٍ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ وَلَوْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَتَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَدْخَلُوا التَّرَدُّدَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْهُدى لِلْمُصَاحَبَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلَ وَالْهُدَى أُطْلِقَ عَلَى مَا بِهِ الْهُدَى، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢]، وَقَوْلُهُ:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٨٥]. وَعَطَفَ دِينِ الْحَقِّ عَلَى الْهُدَى لِيَشْمَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ وَحْيٍ بِكَلَامٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِعْجَازُ أَوْ كَانَ مِنْ سنّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهُدى أُصُولَ الدِّينِ مِنِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهَا تَزْكِيَة النَّفس، ودِينِ الْحَقِّ: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعُهُ.
وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِد إِلَى مَعْلُوم مِنَ الْمَقَامِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَاءِ إِذْ مِنَ الْمُتَعَارَفِ أَنَّ الْمَاءَ يَسْتَقِي مِنْهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِأَنْفُسِهِمْ وَمَاشِيَتِهِمْ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ النَّاقَةُ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الشُّرْبِ فَغَلَبَ ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى ضَمِيرِ النَّاقَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاقَةِ مَالِكٌ خَاصٌّ أَمَرَ اللَّهُ لَهَا بِنَوْبَةٍ فِي الْمَاءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٥٥] قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَهَذَا مَبْدَأُ الْفِتْنَةِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ فِي يَوْمِ شِرْبِهَا تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ كُلَّهُ فَشَحُّوا بِذَلِكَ وَأَضْمَرُوا حَلْدَهَا عَنِ الْمَاءِ فَأَبْلَغَهُمْ صَالِحٌ أَنَّ اللَّهَ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَمَسُّوهَا بِسُوءٍ.
وَالْمُحْتَضَرُ بِفَتْحِ الضَّادِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الْحُضُورِ وَهُوَ ضِدُّ الْغَيْبَةِ. وَالْمَعْنَى: مُحْتَضَرٌ عِنْدَهُ فَحذف الْمُتَعَلّق لظُهُوره. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ رَسُولُهُمْ بِأَنْ يُنْبِئَهُمْ بِهِ، أَيْ لَا يَحْضُرُ الْقَوْمُ فِي يَوْمِ شِرْبِ النَّاقَةِ، وَهِيَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ لَا تَحْضُرُ فِي أَيَّامِ شِرْبِ الْقَوْمِ. وَالشِّرْبُ بِكَسْرِ الشِّينِ: نَوْبَةُ الْاِسْتِقَاءِ مِنَ الْمَاءِ. فَنَادَوْا صَاحِبَهُمُ الَّذِي أَغْرَوْهُ بِقَتْلِهَا وَهُوَ قُدَارُ- بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ- بْنُ سَالِفٍ. وَيُعْرَفُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِأَحْمَرَ، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلَّهُمْ كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
يُرِيدُ أَحْمَرَ ثَمُود لِأَن ثمودا إِخْوَةُ عَادٍ (وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَبَبِ وَصْفِهِ بِأَحْمَرَ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لِبَيَاضِ وَجْهِهِ).
وَفِي الْحَدِيثِ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ»
، وَكَانَ قُدَارٌ مِنْ سَادَتِهِمْ وَأَهْلِ الْعِزَّةِ مِنْهُمْ، وَشَبَّهَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي زَمْعَةَ- يَعْنِي الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ- فِي قَوْلِهِ:
«فَانْتُدِبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو مَنَعَةٍ فِي قَوْمِهِ كَأَبِي زَمْعَةَ» (أَيْ فَأَجَابَ نِدَاءَهُمْ فَرَمَاهَا بِنَبْلٍ فَقَتلهَا).
وَعبر عَنهُ بِصَاحِبِهِمْ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِفِعْلِهِ إِذْ هُمْ مُصَاحِبُونَ لَهُ وَمُمَالِئُونَ.
وَنِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ نِدَاءُ الْإِغْرَاءِ بِالنَّاقَةِ وَإِنَّمَا نَادَوْهُ لِأَنَّهُ مُشْتَهِرٌ بِالْإِقْدَامِ وَقِلَّةِ المبالاة لعزته.
وفَتَعاطى مُطَاوِعُ عَاطَاهُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ: عَطَا يَعْطُو، إِذَا تَنَاوَلَ. وَصِيغَةُ تَفَاعَلَ
تَقْتَضِي تَعَدُّدَ الْفَاعِلِ، شُبِّهَ تَخَوُّفُ الْقَوْمِ مَنْ قَتْلِهَا لِمَا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ مِنَِِ
مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللَّهِ، شُبِّهَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الدِّينِ وَتَعْلِيمُهُمُ النَّاسَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بِسَعْيِ سَاعِينَ إِلَى اللَّهِ لِيَنْصُرُوهُ كَمَا يَسْعَى الْمُسْتَنْجِدُ بِهِمْ إِلَى مَكَانِ مُسْتَنْجِدِهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى مَنْ غَلَبَهُ.
فَفِي حَرْفِ إِلَى اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ الْمَحْكِيُّ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ مُطَابِقًا لِلِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، أَيْ نَحْنُ نَنْصُرُ اللَّهَ عَلَى مَنْ حَادَّهُ وَشَاقَّهُ، أَيْ نَنْصُرُ دِينَهُ.
والْحَوارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الْحَبَشِيَّةِ (حَوَارِيَّا) وَهُوَ الصَّاحِبُ الصَّفِيُّ، وَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةَ الْأَصْلِ وَلَا مُشْتَقَّةً مِنْ مَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَقَدْ عَدَّهَا الضَّحَّاكُ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ لَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَبَطِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْحَوَارِيِّ:
الْغَسَّالُ، كَذَا فِي «الْإِتْقَانِ».
والْحَوارِيُّونَ: اسْمٌ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نَصَارَى الْعَرَبِ أَخَذُوهُ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الِاسْمُ
فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ الْوَقَارَ الَّذِي هُوَ تَصَرُّفُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ إِنْ شَاءَ أَنْ يُوَقِّرَكُمْ، أَيْ يُكْرِمَكُمْ بِالنَّعِيمِ، وَإِمَّا تَعَلُّقَ مَفْعُولِ الْمَصْدَرِ، أَيْ أَنْ تُوَقِّرُوا اللَّهَ وَتَخْشَوْهُ وَلَا تَتَهَاوَنُوا بِشَأْنِهِ تَهَاوُنَ مَنْ لَا يَخَافُهُ فَتَكُونُ اللَّامُ لَامَ التَّقْوِيَةِ.
وَجُمْلَةُ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَكُمْ أَوْ ضَمِيرِ تَرْجُونَ، أَيْ فِي حَالِ تَحَقُّقِكُمْ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا.
فَأَمَّا أَنَّهُ خَلَقَهُمْ فَمُوجِبٌ لِلِاعْتِرَافِ بِعَظَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُهُمْ وَصَانِعُهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِمُ الِاعْتِرَافُ بِجَلَالِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ خَلْقِهِمْ أَطْوَارًا فَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ الَّتِي يَعْلَمُونَهَا دَالَّةٌ عَلَى رِفْقِهِ بِهِمْ فِي ذَلِك التطور، فَهَذَا تَعْرِيضٌ بِكُفْرِهِمُ النِّعْمَةَ، وَلِأَنَّ الْأَطْوَارَ دَالَّةٌ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، فَإِنَّ تَطَوُّرَ الْخَلْقِ مِنْ طَوْرِ النُّطْفَةِ إِلَى طَوْرِ الْجَنِينِ إِلَى طَوْرِ خُرُوجِهِ طِفْلًا إِلَى طَوْرِ الصِّبَا إِلَى طَوْرِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ إِلَى طَوْرِ الشَّيْخُوخَةِ وَطُرُوِّ الْمَوْتِ على الْحَيَاة وطروّ الْبِلَى عَلَى الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كُلُّ ذَلِكَ وَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْخَالِقِ مِنْ كَيْفِيَّاتِ الْخَلْقِ وَالتَّبْدِيلِ فِي الْأَطْوَارِ، وَهُمْ يُدْرِكُونَ ذَلِكَ بِأَدْنَى الْتِفَاتِ الذِّهْنِ، فَكَانُوا مَحْقُوقِينَ بِأَنْ
يَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَقُّعِ عِقَابِهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ وَهَلِ التَّصَرُّفُ فِيهِمْ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ إِلَّا دُونَ التَّصَرُّفِ فِيهِمْ بِالْكَوْنِ وَالْفَسَادِ.
وَالْأَطْوَارُ: جَمْعُ طَوْرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَالطَّوْرُ: التَّارَةُ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ مِنَ الزَّمَانِ، فَأُرِيدَ مِنَ الْأَطْوَارِ هُنَا مَا يَحْصُلُ فِي الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ مِنْ أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مِنْ تَعَدُّدِ الْمَرَّاتِ وَالْأَزْمَانِ إِلَّا تَعَدُّدُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا، فَهُوَ تَعَدُّدٌ بِالنَّوْعِ لَا بِالتَّكْرَارِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَإِنْ أَفَاقَ لَقَدْ طَالَتْ عَمَايَتُهُ وَالْمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْرًا بَعْدَ أَطْوَارِ
وَانْتَصَبَ أَطْواراً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيْ تَطَوُّرِ خَلْقِهِمْ لِأَنَّ أَطْواراً صَارَ فِي تَأْوِيلِ أَحْوَالًا فِي أطوار.
الْحُضُورِ لَدَى الْمَلِكِ وَلَدَى سَيِّدِ الْقَوْمِ، قَالَ الشَّاعِرُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ «الْكَشَّافِ» :
إِذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عُبِّيَّةٍ رُجِبُوا وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبِ
وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ هُنَا لِأَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَاهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ.
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْأَبْرَارِ: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ [المطففين: ٢٣] وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدْخُلُونَ حَضْرَةَ الْقُدُسِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: ٤٠]، وَلِيَكُونَ الْكَلَامُ مُفِيدًا لِلْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ: «عَنْ رَبِّهِمْ لَمَحْجُوبُونَ» دُونَ أَنْ يُقَالَ: عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، أَوْ عَنْ وَجْهِ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٧] : وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَأَمَّا الْعَذَابُ فَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ وَقَدْ عُطِفَتْ جُمْلَتُهُ بِحَرْفِ ثُمَّ الدَّالَّةِ فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَهُوَ
ارْتِقَاءٌ فِي الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ وَعِيدٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ خزي الإهانة.
و «صالوا» جَمْعُ صَالٍ وَهُوَ الَّذِي مَسَّهُ حَرُّ النَّارِ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْفِطَارِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ سيصلون عَذَاب جَهَنَّم.
وَأَمَّا التَّقْرِيعُ مَعَ التَّأْيِيسِ مِنَ التَّخْفِيفِ فَهُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فَعَطْفُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ اقْتَضَى تَرَاخِيَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَيْ بُعْدُ دَرَجَتِهِ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ.
وَاقْتَضَى اسْمُ الْإِشَارَةِ أَنَّهُمْ صَارُوا إِلَى الْعَذَابِ، وَالْإِخْبَارُ عَنِ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي تَكَرَّرَ وَعِيدُهُمْ بِهِ وَهُمْ يُكَذِّبُونَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ وَهُوَ دَرَجَةٌ أَشَدُّ فِي الْوَعِيدِ، وَبِذَلِكَ كَانَ مَضْمُون الْجُمْلَة أرقى رُتْبَة فِي الْغَرَض من مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ هِيَ عَلَيْهَا.
أَوْ يَكُونُ قَوْلُهُ: ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إِشَارَةً إِلَى جَوَابِ مَالِكٍ


الصفحة التالية
Icon