انْتِفَاءُ الْعِلْمِ عَنْهُمْ. فَمَوْقِعُ حَرْفِ الِاسْتِدْرَاكِ لِدَفْعِ تَعَجُّبِ مَنْ يَتَعَجَّبُ مِنْ رِضَاهُمْ بِالِاخْتِصَاصِ بِوَصْف السفاهة.
[١٤]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٤]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
عُطِفَ وَإِذا لَقُوا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا [الْبَقَرَة: ١٢] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ [الْبَقَرَة: ١٣]. وَالْكَلَامُ فِي الظَّرْفِيَّةِ وَالزَّمَانِ سَوَاءٌ.
وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَإِذا خَلَوْا فَبِذَلِكَ كَانَ مُفِيدًا فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: ٨] الْآيَةَ فَلَيْسَ مَا هُنَا تَكْرَارًا مَعَ مَا هُنَاكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا وَصْفُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَلِقَائِهِمْ بِوُجُوهِ الصَّادِقِينَ، فَإِذَا فَارَقُوهُمْ وَخَلَصُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَقَادَتِهِمْ خَلَعُوا ثَوْبَ التَّسَتُّرِ وَصَرَّحُوا بِمَا يُبْطِنُونَ. وَنُكْتَةُ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ آمَنَّا أَيْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ مِنَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِمْ آمَنَّا الْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ الْأَوْصَافِ الِاعْتِقَادِيَّةِ والعلمية الَّتِي تقلب بِهَا الْمُؤْمِنُونَ وَعُرِفُوا بِهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَاف: ١٥٦] أَيْ كُنَّا عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ فَلَا مُتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ آمَنَّا حَتَّى يَحْتَاجَ لِتَوْجِيهِ حَذْفِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ، أَوْ أُرِيدَ آمَنَّا بِمَا آمَنْتُمْ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَلِقَاؤُهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا هُوَ حُضُورُهُمْ مَجْلِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجَالِسَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَعْنَى قالُوا آمَنَّا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ لَا بِعَقْدِ الْقَلْبِ، أَيْ نَطَقُوا بِكَلِمَةِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُتَرْجِمُ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا وَالْمَقْصُودُ هُوَ هَذَا الْمَعْطُوفُ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا فَتَمْهِيدٌ لَهُ كَمَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا فِي حَالِ اسْتِهْزَاءٍ يُصَرِّحُونَ بِقَصْدِهِ إِذَا خَلَوْا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَأْبَوْنَ مِنَ الْإِيمَانِ وَيَقُولُونَ: أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَة: ١٣] إِنْكَارًا لِذَلِكَ، وَوَاوُ الْعَطْفِ صَالِحَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعِيَّةِ وَغَيْرِهَا بِحَسَبَ السِّيَاقِ وَذَلِكَ أَنَّ السِّيَاقَ فِي بَيَانِ مَا لَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجْهٍ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَوَجْهٍ مَعَ قَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فِي
وَالْمُرَادُ بِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) الْحَاضِرُونَ مِنَ الْيَهُودِ. وَالضَّمِيرُ فِي آتَيْناهُمْ لَهُمْ، وَالْمَقْصُودُ إِيتَاءُ سَلَفِهِمْ لِأَنَّ الْخِصَالَ الثَّابِتَةَ لِأَسْلَافِ الْقَبَائِلِ وَالْأُمَمِ، يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا لِلْخَلَفِ لِتُرَتِّبِ الْآثَارِ لِلْجَمِيعِ كَمَا هُوَ شَائِعٌ فِي مُصْطَلَحِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إِيتَائِهِمُ الْآيَاتِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَنَاقَلُوا آيَاتِ رُسُلِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ وَأَيْقَنُوا بِهَا فَكَأَنَّهُمْ أُوتُوهَا مُبَاشَرَةً.
وَ (كَمْ) اسْمٌ لِلْعَدَدِ الْمُبْهَمِ فَيَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَيَكُونُ لِلْإِخْبَارِ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْإِخْبَارِ دَلَّتْ عَلَى عَدَدٍ كَثِيرٍ مُبْهَمٍ وَلِذَلِكَ تَحْتَاجُ إِلَى مُمَيّز فِي الِاسْتِفْهَام وَفِي الْإِخْبَارِ، وَهِيَ هُنَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُهَا فِي حيّز السُّؤَال، فالمسؤول عَنْهُ هُوَ عَدَدُ الْآيَاتِ.
وَحَقُّ سَأَلَ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَا أَيْ لَيْسَ أَصْلُ مَفْعُولَيْهِ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، وَجُمْلَةُ كَمْ آتَيْناهُمْ لَا تَكُونُ مَفْعُولَهُ الثَّانِيَ إِذْ لَيْسَ الِاسْتِفْهَامُ مَطْلُوبًا بَلْ هُوَ عَيْنُ الطَّلَبِ، فَفِعْلُ سَلْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِأَجْلِ الِاسْتِفْهَامِ، وَجُمْلَةُ كَمْ آتَيْناهُمْ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي سَادَّةٌ مَسَدَّهُ.
وَالتَّعْلِيقُ يَكْثُرُ فِي الْكَلَامِ فِي أَفْعَالِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ إِذَا جَاءَ بَعْدَ الْأَفْعَالِ اسْتِفْهَامٌ أَوْ نَفْيٌ أَوْ لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ لَامُ قَسَمٍ، وَأُلْحِقَ بِأَفْعَالِ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ مَا قَارَبَ مَعْنَاهَا مِنَ الْأَفْعَالِ، قَالَ
فِي «التَّسْهِيلِ» «ويشاركهن فِيهِ (أَي فِي التَّعْلِيقِ) مَعَ الِاسْتِفْهَامِ، نَظَرَ وَتَفَكَّرَ وَأَبْصَرَ وَسَأَلَ»، وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: ١٢] وَلَمَّا أَخَذَ سَأَلَ هُنَا مَفْعُولَهُ الْأَوَّلَ فَقَدْ عُلِّقَ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، فَإِنَّ سَبَبَ التَّعْلِيق هُوَ أَن مَضْمُونُ الْكَلَامِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَرْفِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْلِيقِ لَيْسَ حَالَةً مِنْ حَالَاتِ الْمَفْعُولِ الْأَوَّلِ فَلَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْفِعْلِ الطَّالِبِ مَفْعُولَيْنِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ «لِأَنَّهُ كَلَامٌ قَدْ عَمِلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ فَلَا يكون إلّا مُبْتَدَأً لَا يَعْمَلُ فِيهِ شَيْءٌ قَبْلَهُ» اهـ وَذَلِكَ سَبَبٌ لَفْظِيٌّ مَانِعٌ مِنْ تَسَلُّطِ الْعَامِلِ عَلَى مَعْمُولِهِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا فِيهِ مَعْنًى وَتَقْدِيرًا، فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ بَاقِيَةً فِي مَحَلِّ الْمَعْمُولِ، وَأَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ بَيْنِ بَقِيَّةِ مُوجِبَاتِ التَّعْلِيقِ أَقْوَى فِي إِبْعَادِهَا مَعْنَى مَا بَعْدَهَا عَنِ الْعَامِلِ الَّذِي يَطْلُبُهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهَا اسْتِفْهَامٌ لَيْسَ مِنَ الْخَبَرِ فِي شَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ مَا تُحْدِثُهُ أَدَاةُ الِاسْتِفْهَامِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِعْلَامِ هُوَ مَعْنًى طَارِئٌ فِي الْكَلَامِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالذَّاتِ بل هُوَ قد ضَعْفٌ بِوُقُوعِهِ بَعْدَ عَامِلٍ خَبَرِيٍّ فَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا، فَلِذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ عَمَلُ الْعَامِلِ إِلَّا لَفْظًا، فَقَوْلُكَ: عَلِمْتُ هَلْ قَامَ زَيْدٌ قَدْ دَلَّ عَلِمَ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ مُحَقَّقٌ فَصَارَ الِاسْتِفْهَامُ صُورِيًّا
وَقَدْ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الزَّعْمِ فَقَالَ: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ- إِلَى قَوْلِهِ- وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ.
وَقَوْلُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ حَال أَي يعتمدون الْكَذِبَ: إِمَّا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا قَاسُوهُ عَلَى مَا فِي كِتَابِهِمْ لَيْسَ الْقِيَاسُ فِيهِ بِصَحِيحٍ، وَإِمَّا لِأَنَّ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ بِالْكَذِبِ، إِذِ الشُّبْهَةُ الضعيفة كالعهد.
و (بلَى) حَرْفُ جَوَابٍ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ هُنَا لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [آل عمرَان: ٧٥].
و (بلَى) غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِجَوَابِ الِاسْتِفْهَام الْمَنْفِيِّ بَلْ يُجَاب بهَا عِنْد قَصْدِ الْإِبْطَالِ، وَأَكْثَرُ مَوَاقِعِهَا فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ الْمَنْفِيِّ، وَجِيءَ فِي الْجَوَابِ بِحُكْمٍ عَامٍّ لِيَشْمَلَ الْمَقْصُودَ وَغَيْرَهُ: تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى، وَقَصْدًا فِي اللَّفْظِ، فَقَالَ: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ أَيْ لَمْ يَخُنْ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ عَهْدٌ، وَاتَّقى»
رَبَّهُ فَلَمْ يَدْحَضْ حق غَيره إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [الْمَائِدَة: ١٣] أَيِ الْمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوَى، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ ضِدِّ الْمَذْكُورِ بِقَرِينَة الْمقَام.
[٧٧]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ فِي خِيَانَةِ الْأَمَانَةِ إِبْطَالًا لِلْعَهْدِ، وَلِلْحِلْفِ الَّذِي بَيْنَهُمْ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقُرَيْشٍ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ ذِكْرُ الْخُلُقِ الْجَامِعِ لِشَتَاتِ مَسَاوِئِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، دَعَا إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ جَرَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ عَلَى الْيَهُودِ مُفَرَّقَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٠] : أَوْفُوا بِعَهْدِي، وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة: ٤١]. مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [الْبَقَرَة: ١٠٢]. وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ
وَالْقِنْطَارُ هُنَا مُبَالَغَةٌ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْمُعْطَى صَدَاقا أَي مَا لَا كَثِيرًا، كَثْرَةٌ غَيْرُ مُتَعَارَفَةٍ. وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِيتَاءَ الْقِنْطَارِ مُبَاحٌ شَرْعًا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمَثِّلُ بِمَا لَا يَرْضَى شَرْعَهُ مِثْلَ الْحَرَامِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَنَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدُقَاتِ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ أَنْ نَزَلَ «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَوْ قَوْلُكَ» قَالَ: «بَلْ كِتَابُ اللَّهِ! بِمَ ذَلِكَ؟» قَالَتْ: إِنَّكَ نَهَيْتَ النَّاسَ آنِفًا أَنْ يُغَالُوا فِي صَدَاقِ النِّسَاءِ، وَاللَّهُ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاء: ٢٠] فَقَالَ عُمَرُ «كُلُّ أَحَدٍ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ». وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «امْرَأَةٌ أَصَابَتْ وَأَمِيرٌ أَخْطَأَ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ» ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُغَالُوا فِي صَدُقَاتِ النِّسَاءِ فَلْيَفْعَلْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَالِهِ مَا شَاءَ». وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ عَنْ تَحْجِيرِ الْمُبَاحِ لِأَنَّهُ رَآهُ يُنَافِي الْإِبَاحَةَ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَقَدْ كَانَ بَدَا لَهُ مِنْ قَبْلُ أَنَّ فِي الْمُغَالَاةِ عِلَّةً تَقْتَضِي الْمَنْعَ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ الْآيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ الْبَحْثُ عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ حَمَلَهَا عَلَى قَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ أَنْ يَكُونَ رَأَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُحَجِّرَ بَعْضَ الْمُبَاحِ لِلْمَصْلَحَةِ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّهُ يُنَافِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي فِعْلِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَضَمِيرُ: إِحْداهُنَّ رَاجِعٌ إِلَى النِّسَاءِ. وَهَذِهِ هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ طَلَاقُهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْقِنْطَارِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَأْخُذُونَهُ إِنْكَارِيٌّ.
وَالْبُهْتَانُ مَصْدَرٌ كَالشُّكْرَانِ وَالْغُفْرَانِ، مَصْدَرُ بَهَتَهُ كَمَنَعَهَ إِذَا قَالَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ، وَتَقَدَّمَ الْبُهْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٥٨].
وَانْتُصِبَ بُهْتاناً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي (تَأْخُذُونَهُ) بِتَأْوِيلِهِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ، أَيْ مُبَاهِتِينَ. وَإِنَّمَا جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ بُهْتَانًا لِأَنَّهُمْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِذَا كَرِهُوا الْمَرْأَةَ وَأَرَادُوا طَلَاقَهَا، رَمَوْهَا بِسُوءِ الْمُعَاشَرَةِ، وَاخْتَلَقُوا عَلَيْهَا مَا لَيْسَ فِيهَا، لِكَيْ تَخْشَى
فَإِنَّ كَفَّهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ كَفِّهِ تَمَامَ التَّمَكُّنِ فَدَفَعَ بِهِ الرُّمْحَ دَفْعَةً عَظِيمَةً لَمْ تَخُنْهُ فِيهَا كَفُّهُ. وَمِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ نَشَأَ إِطْلَاقُ الْمِلْكِ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الْقَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً [الْفرْقَان: ٣] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً [يُونُس: ٤٩] إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً [العنكبوت: ١٧]. فَقَدْ تَعَلَّقَ فِعْلُ الْمِلْكِ فِيهَا بِمَعَانٍ لَا بِأَشْيَاءَ وَذَوَاتٍ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى جَعْلِ الْمِلْكَ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الْقَوِيَّةِ أَلَا تَرَى إِلَى عَطْفِ نَفْيٍ عَلَى نَفْيِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهِ التَّرَقِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٧٣]. وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا اسْتِعْمَالٌ آخَرُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [الْمَائِدَة: ١٧].
وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ لِأَنَّ النُّفُوسَ أَشَدُّ تَطَلُّعًا إِلَى دَفْعِهِ مِنْ تَطَلُّعِهَا إِلَى جَلْبِ النَّفْعِ، فَكَانَ أَعْظَمُ مَا يَدْفَعُهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَنْ يَسْتَدْفِعُوا بِهَا الْأَضْرَارَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَبِتَجَنُّبِهَا إِلْحَاقَ الْإِضْرَارِ بِعَابِدِيهَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ لَا تَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وُقُوعُ الْأَضْرَارِ بِهِمْ وَتَخَلُّفُ النَّفْعِ عَنْهُمْ.
فَجُمْلَةُ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، قُصِرَ بِوَاسِطَةِ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ وَضَمِيرِ الْفَصْلِ، سَبَبُ النَّجْدَةِ وَالْإِغَاثَةِ فِي حَالَيِ السُّؤَالِ وَظُهُورِ الْحَالَةِ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
قَصْرَ ادِّعَاءٍ بِمَعْنَى الْكَمَالِ، أَيْ وَلَا يَسْمَعُ كُلَّ دُعَاءٍ وَيَعْلَمُ كُلَّ احْتِيَاجٍ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا عِيسَى وَلَا غَيْرُهُ مِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَاوُ الْحَالِ. وَفِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَحْقِيقٌ لِإِبْطَالِ عِبَادَتِهِمْ عِيسَى وَمَرْيَمَ مِنْ ثَلَاثَةِ طُرُقٍ: طَرِيقُ الْقَصْرِ وَطَرِيقُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ وَطَرِيقُ جُمْلَةِ الْحَالِ بِاعْتِبَارِ مَا تُفِيدُهُ مِنْ مَفْهُوم مخالفه.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَحْسَنُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، لِمَجِيءِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى إِفَادَةِ تَعْلِيلِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ إِنْشَاءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ حُدِّدَ بِغَايَةِ حُصُولِ ضِدِّ الصِّلَةِ. وَهِيَ أَيْضًا أَعْدَلُ شَاهِدٍ لِصِحَّةِ مَا فَسَّرَ بِهِ الْقُطْبُ الشِّيرَازِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» قَوْلَ السَّكَّاكِيِّ (أَو أَن توميء بِذَلِكَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ) بِأَنَّ وَجْهَ بِنَاءِ الْخَبَرِ هُوَ عِلَّتُهُ وَسَبَبُهُ، وَإِن أَبى التفتازانيّ ذَلِكَ التَّفْسِيرَ.
وَالْخَوْضُ حَقِيقَتُهُ الدُّخُولُ فِي الْمَاءِ مَشْيًا بِالرِّجْلَيْنِ دُونَ سِبَاحَةٍ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلتَّصَرُّفِ الَّذِي فِيهِ كُلْفَةٌ أَوْ عَنَتٌ، كَمَا اسْتُعِيرَ التَّعَسُّفُ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الرَّمْلِ لِذَلِكَ. وَاسْتُعِيرَ الْخَوْضُ أَيْضًا لِلْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ تُكَلُّفُ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لَهُ قَائِلُهُ، قَالَ الرَّاغِبُ:
وَأَكْثَرُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَ فِيمَا يُذَمُّ الشُّرُوعُ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التَّوْبَة: ٦٥]، وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التَّوْبَة: ٦٩]، ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الْأَنْعَام: ٩١]. فَمَعْنَى يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالْبَاطِلِ وَالِاسْتِهْزَاءِ.
وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَاشَرَةً وَحُكْمُ بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَحُكْمِهِ، كَمَا قَالَ فِي ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٤٠] فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ.
وَالْإِعْرَاضُ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣]. وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ هُنَا هُوَ تَرْكُ الْجُلُوسِ إِلَى مَجَالِسِهِمْ، وَهُوَ مَجَازٌ قَرِيبٌ مِنَ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعْرَاضُ الْحَقِيقِيُّ غَالِبًا، فَإِنْ هُمْ غَشَوْا مَجْلِسَ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ عَنْهُمْ وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَأُوا قَامَ فَحُذِّرُوا وَقَالُوا لَا تستهزءوا فَيَقُومَ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْإِعْرَاضِ زَجْرُهُمْ وَقَطْعُ الْجِدَالِ مَعَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ عِنَادِهِمْ.
وحَتَّى غَايَةٌ لِلْإِعْرَاضِ لِأَنَّهُ إِعْرَاضُ فِيهِ تَوْقِيفُ دَعْوَتِهِمْ زَمَانًا أَوْجَبَهُ رَعْيُ مَصْلَحَةٍ أُخْرَى هِيَ مِنْ قَبِيلِ الدَّعْوَةِ فَلَا يَضُرُّ تَوْقِيفُ الدَّعْوَةِ زَمَانًا، فَإِذَا زَالَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَادَتْ مُحَاوَلَةُ هديهم إِلَى أصلهم لِأَنَّهَا تَمَحَّضَتْ لِلْمَصْلَحَةِ.
يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٢٥- ٢٧] وَذِكْرُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْإِثْمِ.
وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لَا تُوَجِّهُوا إِلَيْهِمْ أَدْبَارَكُمْ، يُقَالُ: وَلَّى وَجْهَهُ فُلَانًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] فَيُعَدَّى فِعْلُ وَلَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، (وَمُجَرَّدُهُ وَلِيَ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا وَالِيًا أَيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ وَلَّى الْمُضَاعَفُ مِثْلَ قَرَّبَ الْمُضَاعَفِ، فَهَذَا نَظْمُ هَذَا التَّرْكِيب.
و (الأدبار) جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ وَجْهُهُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ مِنْهُ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَعْلُهُ أَمَامَهُ، وَدُبُرُهُ ظَهْرُهُ وَمَا تَرَاهُ مِنْهُ حِينَ انْصِرَافِهِ وَجَعْلُهُ إِيَّاكَ وَرَاءَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَمَعْنَى تَوْلِيَتِهِمُ الْأَدْبَارَ صَرْفُ الْأَدْبَارِ إِلَيْهِمْ، أَيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبَالِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ فِي سِيَاقِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مَعَ بَعْضِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الِانْصِرَافُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، إِذْ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ النَّهْي عَن إدارة الْوَجْهِ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ قَبْلَ النَّصْرِ أَوِ الْقَتْلِ.
وَعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أَيْ حِينَ الزَّحْفِ.
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَةَ التَّحَرُّفِ لِأَجْلِ الْحِيلَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِهَا أَوْ لِإِنْجَادِهَا.
وَالْمُسْتَثْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تحرفه لقِتَال.
و (التحرف) الِانْصِرَافُ إِلَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْبَعِيدُ عَنْ وَسَطِهِ فَالتَّحَرُّفُ مُزَايَلَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَالْعُدُولُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْفِرَارِ مِنْهُ.
وَالْمُرَادُ بِأُولِي الطَّولِ أَمْثَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بن سَلُولَ، وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ.
وَعَطْفُ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ عَلَى اسْتَأْذَنَكَ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُغَايَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةٍ فِي الْمَعْطُوفِ لِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مُجْمَلٌ، وَقَوْلُهُمُ الْمَحْكِيُّ فِيهِ بَيَانُ مَا اسْتَأْذَنُوا فِيهِ وَهُوَ الْقُعُودُ. وَفِي نَظْمِهِ إِيذَانٌ بِتَلْفِيقِ مَعْذِرَتِهِمْ وَأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ رَغْبَتُهُمْ فِي الْقُعُودِ وَلِذَلِكَ حُكِيَ قَوْلُهُمْ بِأَنِ ابْتُدِئَ بِ ذَرْنا الْمُقْتَضِي الرَّغْبَةَ فِي تَرْكِهِمْ بِالْمَدِينَةِ. وَبِأَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلْقَاعِدِينَ الَّذِينَ فِيهِمُ الْعُجَّزُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْجُبَنَاءُ، لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ كَلِمَةُ مَعَ مِنَ الْإِلْحَاقِ وَالتَّبَعِيَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ (ذَرْ) أَمْرٌ مِنْ فِعْلٍ مُمَاتٍ وَهُوَ (وَذَرَ) اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمُرَادِفِهِ وَهُوَ (تَرَكَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فِي سُورَة الْأَنْعَام [٧٠].
[٨٧]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٨٧]
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنْ دَنَاءَةِ نُفُوسِهِمْ وَقِلَّةِ رُجْلَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلنِّسَاءِ. وَفِي اخْتِيَارِ فِعْلِ رَضُوا إِشْعَارٌ بِأَنَّ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنَ الْحَالِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْعَاقِلُ فِي قَبُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التَّوْبَة: ٣٨] وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [التَّوْبَة: ٨٣].
وَالْخَوَالِفُ: جَمْعُ خَالِفَةٍ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَتَخَلَّفُ فِي الْبَيْتِ بَعْدَ سَفَرِ زَوْجِهَا فَإِنْ سَافَرَتْ مَعَهُ فَهِيَ الظَّعِينَةُ، أَيْ رَضُوا بِالْبَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ.
وَالطَّبْعُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ قُلُوبِهِمْ فِي عَدَمِ قَبُولِ الْهُدَى بِالْإِنَاءِ أَوِ الْكِتَابِ الْمَخْتُومِ. وَالطَّبْعُ مُرَادِفُ الْخَتْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧]. وَأُسْنِدَ الطَّبْعُ إِلَى الْمَجْهُولِ إِمَّا لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِهِ وَهُوَ اللَّهُ، وَإِمَّا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا كَذَلِكَ وَجُبِلُوا عَلَيْهِ وَفُرِّعَ عَلَى الطَّبْعِ انْعِدَامُ عِلْمِهِمْ بِالْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا أَهْلُ
وَقَوْلُهُ: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الْأَنْعَام: ٤٣] وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى الْمُضِيِّ وَالِانْقِضَاءِ. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِأَنَّ مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْقُرَى. قَالَ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٦]، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ اسْتِعْمَالًا وَمَعْنًى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ [هود: ١١٦]، وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى الْإِيمَانِ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذَابِ.
وَالْمُسْتَخْلَصُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْمِ يُونُسَ أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمْ يُونُسُ، تَوَقُّعًا لِنُزُولِ الْعَذَابِ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُعَامَلَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ لَيْسَتْ مُخَالَفَةً لِمَا عَامَلَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَأَنْ لَيْسَتْ لِقَوْمِ يُونُسَ خُصُوصِيَّةً، وَبِذَلِكَ لَا يكون استثنائهم اسْتِثْنَاءً مُنْقَطِعًا.
وَإِذْ كَانَ الْكَلَامُ تَغْلِيطًا لِأَهْلِ الْقُرَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَعْرِيضًا بِالتَّحْذِيرِ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ. كَانَ الْكَلَامُ إِثْبَاتًا صَرِيحًا وَوُقُوعُ قَرْيَةٌ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَسَاقِ الْإِثْبَاتِ أَفَادَ الْعُمُومَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ مِثْلَ قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ: «يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرًّا» أَيْ كُلَّ ضُرٍّ لَا ضُرًّا مُعَيَّنًا، وَبِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ كَلَامٍ مُوجَبٍ فَلِذَلِكَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ فَهَذَا وَجْهُ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْعُكْبَرِيِّ فِي «إِعْرَابِ الْقُرْآنِ»، وَالْكَوَاشِيِّ فِي «التَّخْلِيصِ» وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا جُمْلَةَ: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي قُوَّةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَجَعَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا مَنْصُوبًا وَلَا دَاعِيَ إِلَى ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ: لَمَّا آمَنُوا مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُعَامِلُهُمُ اللَّهُ مُعَامَلَةَ قَوْمِ يُونُسَ إِذْ آمَنُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ. وَذَلِكَ حَالهم عِنْد مَا تَسَامَعُوا بِقُدُومِ جَيْشِ غَزْوَةِ الْفَتْحِ الَّذِي لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ عِدَّةً وَعُدَّةً، فَيَكَادُ يَحِلُّ بِهِمْ عَذَابُ
اسْتِئْصَالٍ لَوْلَا أَنَّهُمْ عَجَّلُوا بِالْإِيمَانِ يَوْمَ الْفَتْحِ.
فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»
وَالسُّؤَالُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ دُونَ طَلَبِ الْفَهْمِ، لِأَنَّ السَّائِلَ عَالِمٌ بِالْأَمْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ السَّائِلُ حَثَّ الْمَسْئُولِ عَنْ عِلْمِ الْخَبَرِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ [سُورَة النبإ: ١].
وَجُعِلَ السُّؤَالُ عَنِ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دُونَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ تَسْهِيلًا لِلْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهَا، لِأَنَّ ذِكْرَهَا مَعَ مَكَانَةِ زَوْجِهَا مِنَ الْمَلِكِ رُبَّمَا يَصْرِفُ الْمَلِكَ عَنِ الْكَشْفِ رَعْيًا لِلْعَزِيزِ، وَلِأَنَّ حَدِيثَ الْمُتَّكَأِ شاع بَين النَّاس، وَأَصْبَحَتْ قَضِيَّةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَشْهُورَةً بِذَلِكَ الْيَوْمِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [سُورَة يُوسُف: ٣٥]، وَلِأَنَّ النِّسْوَةَ كُنَّ شَوَاهِدَ عَلَى إِقْرَار امْرَأَة العزيم بِأَنَّهَا رَاوَدَتْ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَنْ نَفْسِهِ. فَلَا جَرَمَ كَانَ طَلَبُ الْكَشْفِ عَنْ أُولَئِكَ النِّسْوَةِ مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ فِي الْبَحْثِ وَغَايَةِ الْإِيجَازِ فِي الْخِطَابِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَهِيَ تَذْيِيلٌ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْكَشْفَ الْمَطْلُوبَ سَيَنْجَلِي عَنْ بَرَاءَتِهِ وَظُهُورِ كَيْدِ الْكَائِدَاتِ لَهُ ثِقَةً بِاللَّهِ رَبِّهِ أَنَّهُ نَاصِرُهُ.
وَإِضَافَةُ كَيْدٍ إِلَى ضَمِيرِ النِّسْوَةِ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ لِأَنَّ الْكَيْدَ وَاقِعٌ مِنْ بَعْضِهِنَّ، وَهِيَ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فِي غَرَضِهَا مِنْ جَمْعِ النِّسْوَةِ فَأُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ جَمَاعَتِهِنَّ قَصْدًا لِلْإِبْهَامِ الْمُعَيَّنِ على التِّبْيَان.
[٥١]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٥١]
قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
جُمْلَةُ قالَ مَا خَطْبُكُنَّ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْجُمَلَ الَّتِي سَبَقَتْهَا تُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ السَّامِعِ عَمَّا حَصَلَ مِنَ الْمَلِكِ لَمَّا أُبْلِغَ إِلَيْهِ اقْتِرَاحُ يُوسُفَ-
كَافِرَيْنِ وَكَانَ كِلَاهُمَا يَدْفَعُ النَّاسَ مِنَ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّ الْوَلِيدَ كَانَ يَخْتَلِقُ الْمَعَاذِيرَ وَالْمَطَاعِنَ فِي الْقُرْآنِ وَذَلِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَعُمَرُ كَانَ يَصْرِفُ النَّاسَ بِالْغِلْظَةِ عَلَنًا دُونَ اخْتِلَاقٍ، فَحَرَمَ اللَّهُ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الِاهْتِدَاءَ، وَهَدَى عُمَرَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَصْبَحَ الْإِسْلَامُ بِهِ عَزِيزَ الْجَانِبِ. فَتَبَيَّنَ النَّاسُ أَنَّ الْوَلِيدَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَأَنَّ عُمَرَ لَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ كَانَا مَعًا كَافِرَيْنِ فِي زَمَنٍ مَا.
وَيُشِيرُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ [سُورَة الزمر: ٣] فَوَصَفَ مَنْ لَا يهديه الله بوصفين الْكَذِبِ وَشِدَّةِ الْكُفْرِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْإِيمَانُ مُنَافِيًا لِجِبِلَّةِ طَبْعِهِ لَا لِأَمْيَالِ هَوَاهُ. وَهَذَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُعَرَّضًا لِلْإِيمَانِ، فَلِذَلِكَ لَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، أَيْ لَا يُكَوِّنُ الْهِدَايَةَ فِي قَلْبِهِ.
وَهَذَا الْأُسْلُوبُ عَكْسُ أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ [سُورَة يُونُس: ٩٦]، وَكُلٌّ يَرْمِي إِلَى مَعْنًى عَظِيمٍ.
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِجَمِيعِ أَقْوَالِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ وَالتَّذْيِيلِ لِخُلَاصَةِ أَحْوَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ بِدُونِ عَطْفٍ.
وَعَطَفَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عَلَى لَا يَهْدِيهِمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حِرْمَانِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ وَإِلْقَائِهِمْ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُمْ إِذَا حُرِمُوا الْهِدَايَةَ فَقَدْ وَقَعُوا فِي الضَّلَالَةِ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ [سُورَة الْحَج: ٤]. وَيَشْمَلُ الْعَذَابُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَهُوَ عَذَابُ الْقَتْلِ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَبَا جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ وَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، ثُمَّ مِنْ إِهَانَةِ الْإِجْهَازِ عَلَيْهِ عقب ذَلِك.
وَالتَّنَازُعُ: الْجِدَالُ الْقَوِيُّ، أَيْ يَتَنَازَعُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْنَهُمْ شَأْنَ أَهْلِ الْكَهْفِ، مِثْلَ:
أَكَانُوا نِيَامًا أم أَمْوَاتًا، وأ يبقون أَحْيَاءً أم يموتون، وأ يبقون فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ أَمْ يَرْجِعُونَ إِلَى سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَفِي مُدَّةِ مُكْثِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ أَمْرَهُمْ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ يَتَنازَعُونَ، أَيْ شَأْنَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ التَّنَازُعِ.
فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً طُوِيَ هُنَا وَصْفُ الْعُثُورِ عَلَيْهِمْ، وَذُكِرَ عَوْدُهُمْ إِلَى الْكَهْفِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِذِكْرِهِ، إِذْ لَيْسَ مَوْضِعَ عِبْرَةٍ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى مَرْقَدِهِمْ وَطُرُوَّ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ شَأْنٌ مُعْتَادٌ لِكُلِّ حَيٍّ.
وَتَفْرِيعُ فَقالُوا عَلَى يَتَنازَعُونَ.
وَإِنَّمَا ارْتَأَوْا أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا لِأَنَّهُمْ خَشَوْا عَلَيْهِمْ مِنْ تَرَدُّدِ الزَّائِرِينَ غَيْرِ الْمُتَأَدِّبِينَ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يُؤْذُوا أَجْسَادَهُمْ وَثِيَابَهُمْ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْلِيبِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا عَلَيْهِمْ بِنَاءً يُمْكِنُ غَلْقُ بَابِهِ وَحِرَاسَتُهُ.
وَجُمْلَةُ رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الَّذِينَ قَالُوا، ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا. وَالْمَعْنَى: رَبهم أعلم بشؤونهم الَّتِي تنزعنا فِيهَا، فَهَذَا تَنْهِيَةٌ لِلتَّنَازُعِ فِي أَمْرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ حِكَايَةِ تَنَازْعِ الَّذِينَ أُعْثِرُوا عَلَيْهِمْ، أَيْ رَبُّ أَهْلِ الْكَهْفِ أَوْ رَبُّ الْمُتَنَازِعِينَ فِي أَمْرِهِمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِوَاقِعِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ.
أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ عَنْهُمْ مِثْلَ ضُرِّ عَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ. فَهُمْ قَدْ شَاهَدُوا عَدَمَ غِنَائِهِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ حَالِهِ مِنْ عَدَمِ التَّحَرُّكِ شَاهِدَةٌ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ أَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ، فَلِذَلِكَ سُلِّطَ الْإِنْكَارُ عَلَى عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ حَالَهُ مِمَّا يُرَى.
وَلَامُ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَمْلِكُ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى يَسْتَطِيعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ. [٧٦].
وَقَدَّمَ الضَّرَّ عَلَى النَّفْعِ قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ فِي اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهِ، لِأَنَّ عُذْرَ الْخَائِفِ مِنَ الضُّرِّ أَقْوَى مِنْ عُذْرِ الرَّاغِبِ فِي النَّفْعِ.
وَ (أَنْ) فِي قَوْلِهِ أَلَّا يَرْجِعُ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهَا هِيَ الْخَبَرُ، فَ يَرْجِعُ مَرْفُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ مَا عَدَا قِرَاءَاتٍ شَاذَّةٍ. وَلَيْسَتْ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةً لِأَنَّ (أَنْ) الْمَصْدَرِيَّةَ لَا تَقَعُ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعِلْمِ وَلَا بَعْدَ أَفعَال الْإِدْرَاك.
[٩٠- ٩١]
[سُورَة طه (٢٠) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩١]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أَفَلا يَرَوْنَ [طه: ٨٩] عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ، أَيْ كَيْفَ لَا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِجْلِ الْإِلَهِيَّةَ، بِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُقْلِعُونَ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ،
إِلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ نَظْمِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَنْعَامِ لَهُمْ آلَاتُ الِاسْتِدْلَالِ وَقَدِ انْعَدَمَتْ
مِنْهُمْ آثَارُهَا فَلَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَعْقِلُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الْبَقَرَة: ١٧١].
وَالْفَاءُ فِي جُمْلَةِ فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ تَفْرِيعٌ عَلَى جَوَابِ النَّفْيِ فِي قَوْلِهِ:
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها، وَفَذْلَكَةٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَتَذْيِيلٌ لَهُ بِمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّها ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ فَإِنَّ الشَّأْنَ وَالْقِصَّةَ هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ بَعْدَ الضَّمِيرِ، أَيْ لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ، أَيْ فَإِنَّ الْأَبْصَارَ وَالْأَسْمَاعَ طُرُقٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمُبْصَرَاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُدْرِكَ لِذَلِكَ هُوَ الدِّمَاغُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الدِّمَاغِ عَقْلٌ كَانَ الْمُبْصِرُ كَالْأَعْمَى وَالسَّامِعُ كَالْأَصَمِّ، فَآفَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اخْتِلَالُ الْعَقْلِ.
وَاسْتُعِيرَ الْعَمَى الثَّانِي لِانْتِفَاءِ إِدْرَاكِ الْمُبْصَرَاتِ بِالْعَقْلِ مَعَ سَلَامَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ لِصَاحِبِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَبْصارُ، والْقُلُوبُ، والصُّدُورِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِقُلُوبَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، وَالْجَمْعُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ أَصْحَابِهَا.
وَحَرْفُ التَّوْكِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ لِغَرَابَةِ الْحُكْمِ لَا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشَكُّ فِيهِ.
وَوَصْفُ الْفَاسِقِينَ لَهُ رَشِيقُ الْمَوْقِعِ، لِأَنَّ مَادَّةَ الْفِسْقِ تَدُلُّ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَكَانِ مِنْ منفذ ضيق.
[٥٦]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٥٦]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً [النُّور: ٥٥] لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ الشِّرْكِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اعْبُدُونِي وَلَا تُشْرِكُوا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْأَمْرِ كَانَ فِي قُوَّةِ فِعْلِ الْأَمْرِ حَتَّى إِنَّهُ قَدْ يُجْزَمُ جَوَابُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصفّ: ١١- ١٢] بِجَزْمِ يَغْفِرْ لِأَنَّ قَوْلَهُ: تُؤْمِنُونَ فِي قُوَّةِ أَنْ يَقُولَ: آمِنُوا بِاللَّهِ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا خَاصَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوَجَّهًا لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩]، فَالطَّاعَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا هُنَا غَيْرُ الطَّاعَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا [النُّور: ٥٤] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ دَعْوَةٌ لِلْمُعْرِضِينَ وَهَذِهِ ازْدِيَادٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فَأَهَمُّهَا بِالتَّصْرِيحِ وَسَائِرُهَا بِعُمُومِ حَذْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُكُمْ وَيَنْهَاكُمْ.
وَرُتِّبَ عَلَى ذَلِكَ رَجَاءُ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لَهُمْ، أَيْ فِي الدُّنْيَا بِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ الَّذِي مِنْ
رَحْمَتِهِ الْأَمْنُ وَفِي الْآخِرَةِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى. وَالْكَلَامُ عَلَى (لَعَلَّ) تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
[٥٧]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٥٧]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ
وَرُجِّحَ فِي قَوْلِهِ: تَجْهَلُونَ جَانِبُ الْخِطَابِ عَلَى جَانِبِ الْغَيْبَةِ فَلَمْ يَقُلْ: يَجْهَلُونَ، بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَكِلَاهُمَا مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ أَقْوَى دلَالَة كَمَا قرىء فِي قَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النَّمْل: ٤٧].

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ١٥]

وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥)
هَؤُلَاءِ هُمْ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلَمَةَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الْأَحْزَاب: ١٣] وَاسْتَأْذَنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ كَانُوا يَوْمَ أُحُدٍ جَبُنُوا ثُمَّ تَابُوا وَعَاهَدُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ فِي غَزْوَةٍ بَعْدَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمرَان: ١٢٢] فَطَرَأَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ نِفَاقٌ وَضَعْفٌ فِي الْإِيمَانِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقًا قُلَّبًا لَا يَرْعَى عَهْدًا وَلَا يَسْتَقِرُّ لَهُمُ اعْتِقَادٌ وَأَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ وَغَلَبَةِ الْجُبْنِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إِلَى نَبْذِ عَهْدِ اللَّهِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلْقَبِيلَيْنِ لِيَزْجُرُوا مَنْ نَكَثَ مِنْهُمْ. وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ وَفِعْلِ كَانَ، مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنْزِيلًا لِلسَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُمْ عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى الثَّبَاتِ.
وَزِيَادَةُ مِنْ قَبْلُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْعَهْدَ قَدِيمٌ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ عَهْدُ يَوْمِ أُحُدٍ.
وَجُمْلَةُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ عاهَدُوا.
وَالتَّوْلِيَةُ: التَّوَجُّهُ بِالشَّيْءِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، قَالَ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤].
والْأَدْبارَ: الظُّهُورُ. وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ فَإِنَّ الَّذِي اسْتَأْذَنُوا لِأَجْلِهِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ أَرَادُوا مِنْهُ الْفِرَارَ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً [الْأَحْزَاب: ١٣]، وَالْفِرَارُ مِمَّا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى تَرْكِهِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا إِلَخْ...
وَالْمُرَادُ بِعَهْدِ اللَّهِ: كُلُّ عَهْدٍ يُوَثِّقُهُ الْإِنْسَانُ مَعَ رَبِّهِ.
وَالْمَسْئُولُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُحَاسَبِ عَلَيْهِ
كَقَوْلِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وكلكم مسؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ»،
وَكَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْد قَوْله تَعَالَى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٨] وَهَذَا تهديد.
فَإِنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفُوا النَّجْدَةَ إِذَا اسْتُنْجِدُوا وَلَوْ كَانَ لِأَمْرٍ يَضُرُّ بِالْمُنْجِدِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «لَوْ دُعِيَ الْكَرِيمُ إِلَى حَتْفِهِ لَأَجَابَ»، وَقَالَ وَدَّاكُ بن ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ:
إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأِيِّ مَكَانِ
وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَلَبُ الْحِمْلِ هُنَا دُعَاءً لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَدْعُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَيَّ مَدْعُوٍّ.
وَقَوْلُهُ: إِلى حِمْلِها مُتَعَلِّقٌ بِ تَدْعُ، وَجُعِلَ الدُّعَاءُ إِلَى الْحِمْلِ لِأَنَّ الْحِمْلَ سَبَبُ الدُّعَاءِ وَعِلَّتُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَيْهَا لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهَا حِمْلَهَا، فَحُذِفَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَيِ الْفِعْلِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَوِ اسْتُصْرِخَتْ نَفْسٌ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ أَوْزَارِهَا، كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ أَوْ غَيْرِهِمْ، لَا تَجِدُ مَنْ يُجِيبُهَا لِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُثْقَلَةٌ. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى مَفْعُولِ تَدْعُ الْمَحْذُوفِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَى حِمْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا. فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ ذَا قُرْبَى، فَإِنَّ الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَصِيرُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ عُمُومًا بَدَلِيًّا.
وَوَجْهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْمُبَالَغَةُ مِنْ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ أَنَّ ذَا الْقُرْبَى أَرَقُّ وَأَشْفَقُ عَلَى قَرِيبِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُقَاسِمَهُ الثِّقَلَ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَيَخِفُّ عَنْهُ الْعَذَابُ بِالِاقْتِسَامِ.
لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلَا أَهْلًا بِهِ إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ الْأَحِبَّةِ فِي غَدِ
وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْمَدْحِ: حَبَّذَا، فَإِذَا أَرَادُوا ذَمًّا قَالُوا: لَا حَبَّذَا. وَقَدْ جَمَعَهُمَا قَوْلُ كَنْزَةَ أُمِّ شَمْلَةَ الْمِنْقَرِيِّ تَهْجُو فِيهِ صَاحِبَةَ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا حَبَّذَا أَهْلُ الْمَلَا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ مَيُّ فَلَا حَبَّذَا هِيَّا
وَمَعْنَى الرَّحْبِ فِي هَذَا كُلِّهِ: السِّعَةُ الْمَجَازِيَّةُ، وَهِيَ الْفَرَحُ وَلِقَاءُ الْمَرْغُوبِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِقَرِينَةِ أَنَّ نَفْسَ السِّعَةِ لَا تفِيد الزَّائِد، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَكُونُوا هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ جَرْيًا عَلَى خُلُقِ جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ وَاحْتِقَارِ الضُّعَفَاءِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّضَجُّرِ مِنْهُمْ، أَيْ أَنَّهُمْ مُضَايِقُونَنَا فِي مَضِيقِ النَّارِ كَمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُمْ: مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَباً بِهِمْ.
[٦٠]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ٦٠]
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
فَسَمِعَهُمُ الْأَتْبَاعُ فَيَقُولُونَ: بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ إِضْرَابًا عَنْ كَلَامِهِمْ. وَجِيءَ بِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ فَلِذَلِكَ جُرِّدَ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ، أَيْ أَنْتُمْ أَوْلَى بِالشَّتْمِ وَالْكَرَاهِيَّةِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا مَرْحَبًا بِكُمْ، لِأَنَّكُمُ الَّذِينَ تَسَبَّبْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَلَنَا فِي هَذَا الْعَذَابِ بِإِغْرَائِكُمْ إِيَّانَا عَلَى التَّكْذِيبِ وَالدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ. وبَلْ لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ لِرَدِّ الشَّتْمِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ.
وَذِكْرُ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ لَا مَرْحَباً بِكُمْ لِلتَّنَصُّلِ مِنْ شَتْمِهِمْ، أَيْ أَنْتُمُ الْمَشْتُومُونَ، أَيْ أَوْلَى بِالشَّتْمِ مِنَّا، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَرْفِ الْإِبْطَالِ لَا مِنَ الضَّمِيرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَلِأَنَّ مَوْقِعَهُ هُنَا لَا يَقْتَضِي حَصْرًا وَلَا تَقَوِّيًا لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ إِنْشَائِيَّةٍ، أَيْ أَنْتُمْ يُقَالُ لَكُمْ: لَا مَرْحَبًا بِكُمْ.
وَإِذَا قَدْ كَانَ قَوْلُ: مَرْحَبًا، إنْشَاء دُعَاء بِالْخَيرِ، وَكَانَ نَفْيُهُ إِنْشَاءَ دُعَاءٍ
الْكَافِرِينَ. وَمِثَالُ هَذَا مَا
وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: «اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»
. وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ نَظِيرَ هَذَا الْقَوْلِ فِي الصِّلَةِ الْمُشِيرَةِ إِلَى سَبَبِ تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْكَرَامَةِ وَهِيَ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهَا هُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ بِتَفَاخُرِهِمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الصِّلَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِهِ هُنَالِكَ بِخِلَافِ مَوْقِعِهِ هُنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ عَظِيمٌ لِفَضِيلَةِ عُلَمَاءِ الدِّينِ الَّذِينَ بَيَّنُوا السُّنَنَ وَوَضَّحُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ وَاجْتَهَدُوا فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ دِينِهِ وَمِنْ خُلُقِهِ. وَفِيهَا أَيْضًا مَنْزَعٌ لَطِيفٌ لِتَأْيِيدِ قَوْلِ الْمَاتُرِيدِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ: إِنَّ الْمُسْلِمَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ وَلَا يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خِلَافًا لِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسَ فَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ تَطَايَرَ شَرَرُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْقَيْرَوَانِ مُدَّةَ قَرْنٍ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ وَنَقَلَهُ عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» وَوَافَقَهُ. وَذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مُفَصَّلَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٩] وَبِذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى الْمَاتُرِيدِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونٍ. وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَالْقَوْلِ فِي إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ [فصلت: ٣٠].
[٣٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٣٤]
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)
عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَهُ مَوْقِعٌ عَجِيبٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: ٣٣] إِلَخْ تَكْمِلَةً لَهَا فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهَا تَضَمَّنَتِ
غُبَارَ الْحَرْبِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَالْغَشَيَانُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غُبَارًا مُتَصَاعِدًا فِي الْجَوِّ مِنْ شِدَّةِ الْجَفَافِ.
وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْجِيبًا مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: ١٠٦].
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ: يَقُولُونَ: هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَالْإِشَارَةُ فِي هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ إِلَى الدُّخَانِ الْمَذْكُورِ آنِفًا، عَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِضْمَارِ وَأَنْ يُقَالَ: هُوَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، إِلَى اسْتِحْضَارِهِ بِالْإِشَارَةِ، لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهِ كَمَا تَقُولُ: هَذَا الشِّتَاءُ قَادِمٌ فَأَعِدَّ لَهُ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالنَّظَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَام:
٢٤] فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ مِمَّا يَحْصُلُ فِي الْآخِرَة.
[١٢]
[سُورَة الدُّخان (٤٤) : آيَة ١٢]
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
هَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ [الدُّخان: ١١] وَجُمْلَةُ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى [الدُّخان: ١٣] فَهِيَ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ. وَحَمَلَهَا جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهَا حِكَايَةُ قَوْلِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِتَقْدِيرِ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ صَادِرٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنْ كُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ أَيْ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ [٤٩] وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ، أَيْ إِنْ دَعَوْتَ رَبَّكَ اتَّبَعْنَاكَ وَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٤] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ إِلَى قَوْلِهِ: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ.
وَمِمَّا تَسْمَحُ بِهِ تَرَاكِيبُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مُقَدَّرًا بِفِعْلِ أَمْرٍ أَيْ قُولُوا لِتَلْقِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ إِذْ كَانُوا
وَالْمَعْنَى: وَأَنْبَتْنَا فِي الْأَرْضِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَأَنْوَاعَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ يُظْهِرُ أَنَّ حَرْفَ مِنْ فِيهِ مَزِيدٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَزِيَادَةُ مِنْ فِي غَيْرِ النَّفْيِ نَادِرَةٌ، أَيْ أَقَلُّ مِنْ زِيَادَتِهَا فِي النَّفْيِ، وَلَكِنَّ زِيَادَتَهَا فِي الْإِثْبَاتِ وَارِدَةٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ، فَأَجَازَ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ نُحَاةُ الْكُوفَةِ وَالْأَخْفَشُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَابْنُ جِنِّي، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّور: ٤٣] إِنَّ الْمَعْنَى: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا فِيهَا بَرَدٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٩].
فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْكِيدِ بِحَرْفِ مِنْ تَنْزِيلُهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعٍ حِينَ ادَّعَوُا اسْتِحَالَةَ إِخْرَاجِ النَّاسِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بِالتَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُؤْتِ بِالتَّوْكِيدِ فِي آيَةِ سُورَةِ طه. وَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ.
فَكَلِمَةُ كُلِّ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْكَثْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٥]، وَقَوْلِهِ فِيهَا وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْها [الْأَنْعَام: ٧٠]، وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فِي سُورَةِ طه [٥٣].
وَفَائِدَةُ التَّكْثِيرِ هُنَا التَّعْرِيضُ بِهِمْ لِقِلَّةِ تَدْبِيرِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ دَلَائِلَ كَثِيرَةٍ وَاضِحَةٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.
وَالْبَهِيجُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً، يُقَالُ: بَهُجَ بِضَمِّ الْهَاءِ، إِذَا حَسُنَ فِي أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، فَالْبَهِيجُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النَّمْل: ٦٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مُنْبَهَجٌ بِهِ عَلَى الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ يُسَرُّ بِهِ النَّاظِرُ، يُقَالُ: بَهَجَهُ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا سَرَّهُ، وَمِنْهُ الِابْتِهَاجُ الْمَسَرَّةُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ يُفِيدُ ذِكْرُهُ تَقْوِيَةَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دِقَّةِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى. وَإِدْمَاجَ الِامْتِنَانِ
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ لِيَشْكُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا يَكْفُرُوهَا بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَوْلُهُ: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ.
وَإِيقَاعُهُ بَعْدَ وَصْفِ الْمُقَرَّبُونَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَهُ مِنْ آثَارِ التَّقْرِيب الْمَذْكُور.
[١٣، ١٤]
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الْوَاقِعَة: ١٢] وَجُمْلَةِ عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ [الْوَاقِعَة: ١٥].
وثُلَّةٌ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُمْ ثُلَّةٌ، وَمُعَادُ الضَّمِيرِ الْمُقَدَّرِ «السَّابِقُونَ»، أَيِ السَّابِقُونَ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ.
وَهَذَا الْاِعْتِرَاضُ يُقْصَدُ مِنْهُ التَّنْوِيهُ بِصِنْفِ السَّابِقين وتفضيلهم بطرِيق الْكِنَايَةِ عَنْ ذَلِكَ بِلَفْظَيْ ثُلَّةٌ وقَلِيلٌ الْمُشْعِرَيْنَ بِأَنَّهُمْ قُلٌّ مِنْ كُثُرٍ، فَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ صِنْفٌ عَزِيزٌ نَفِيسٌ
لِمَا عُهِدَ فِي الْعُرْفِ مِنْ قِلَّةِ الْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ وَكَقَوْلِ السَّمَوْأَلِ- وَقِيلَ غَيْرُهُ-:
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا... فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ الْكِرَامَ قَلِيلُ
مَعَ بِشَارَةِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ حَظَّهُمْ فِي هَذَا الصِّنْفِ كَحَظِّ الْمُؤْمِنِينَ السَّالِفِيِّنَ أَصْحَابِ الرُّسُلِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ سَمِعُوا فِي الْقُرْآنِ وَفِي أَحَادِيثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْوِيهًا بِثَبَاتِ الْمُؤْمِنَيْنِ السَّالِفِيِّنَ مَعَ الرُّسُلِ وَمُجَاهَدَتِهِمْ فَرُبَّمَا خَامَرَ نُفُوسَهُمْ أَنَّ تِلْكَ صِفَةٌ لَا تُنَالُ بَعْدَهُمْ فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّ لَهُمْ حَظًّا مِنْهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمرَان: ١٤٤- ١٤٦] وَغَيْرِهَا، تَلْهِيبًا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِذْكَاءً لِهِمَمِهِمْ فِي الْأَخْذِ بِمَا يَلْحَقُهُمْ بِأَمْثَالِ السَّابِقِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَيَسْتَكْثِرُوا مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ يُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى أَحَدِهِمْ فَيُنْشَرُ إِلَى عَظْمِهِ لَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»
. وَالثُّلَّةُ: بِضَمِّ الثَّاءِ لَا غَيْرَ: اسْمٌ لِلجَّمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ مُطْلَقًا قَلِيلًا كَانُوا أَوْ
وَانْتَصَبَ خَيْراً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْفَاقًا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ والفرّاء فَيكون خَيْراً اسْمَ تَفْضِيلٍ. وَأَصْلُهُ: أَخْيَرُ، وَهُوَ مَحْذُوفُ الْهَمْزَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، أَيِ الْإِنْفَاقُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْإِمْسَاكِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا. وَالتَّقْدِيرُ: ائْتُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تَذْيِيلٌ.
ومَنْ اسْمُ شَرْطٍ وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ: أَيْ كُلُّ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَالْعُمُومُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ مُرَادٌ بِهَا جِنْسٌ لَا شَخْصٌ مُعِيَّنٌ وَلَا طَائِفَةٌ، وَهَذَا حُبٌّ اقْتَضَاهُ حِرْصُ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى حِفْظِ الْمَالِ وَادِّخَارِهِ وَالْإِقْلَالِ مِنْ نَفْعِ الْغَيْرِ بِهِ وَذَلِكَ الْحِرْصُ يُسَمَّى الشُّحُّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْفَاقَ يَقِي صَاحِبَهُ مِنَ الشُّحِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَإِذَا يُسِّرَ عَلَى الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ وَذَلِكَ مِنَ الْفَلَاحِ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ فَلَاحًا عَظِيمًا جِيءَ فِي جَانِبِهِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِطَرِيقَةِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ، وَهُوَ قَصْرُ جِنْسِ الْمُفْلِحِينَ عَلَى جِنْسِ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ للْمُبَالَغَة فِي تَحْقِيق وَصْفِ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ وُقُوا شُحَّ أَنْفُسِهِمْ نَزَلَ الْآنَ فَلَاحُ غَيْرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ.
وَإِضَافَةُ شُحَّ إِلَى النَّفْسِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الشُّحَّ مِنْ طِبَاعِ النَّفْسِ فَإِنَّ النُّفُوسَ شَحِيحَةٌ بِالْأَشْيَاءِ الْمُحَبَّبَةِ إِلَيْهَا قَالَ تَعَالَى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ [النِّسَاء: ١٢٨].
وَفِي الْحَدِيثِ لَمَّا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى. وَأَنْ لَا تَدَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لفُلَان»
وَتقدم نَظِيره وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ
وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا ضَمِيرُ فِعْلٍ، وَجَازَ وُقُوعُهُ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَنَكِرَةٍ خِلَافًا لِلْمَعْرُوفِ فِي حَقِيقَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنْ وُجُوبِ وُقُوعِهِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ كَذَا، أَشْبَهَ الْمَعْرِفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ.
وخَيْراً: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ خَيْرًا مِمَّا تُقَدِّمُونَهُ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّكُمْ تَجِدُونَهُ مِنْ جِنْسِ الْخَيْرِ، بَلِ الْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ الْجَزَاءِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن: ١٧] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ.
وَعَطْفُ وَأَعْظَمَ أَجْراً عَلَى خَيْراً أَوْ هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (١).
وَانْتَصَبَ أَجْراً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ لِ أَعْظَمَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ:
وَأَعْظَمَ أَجْرَهُ، كَمَا تَقُولُ: وَجَدْتُهُ مُنْبَسِطًا كَفًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُ خَيْرٌ وَأعظم ممّا قدمتوه.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إِلَخْ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ إِرْشَادًا لِتَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْدِيمِهِ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْفَرَائِضَ الَّتِي يَقْتَضِي التَّفْرِيطُ فِي بَعْضِهَا تَوْبَةً مِنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْقِيَامِ إِرْشَادًا مِنَ اللَّهِ لِمَا يَسُدُّ مَسَدَّ قِيَامِ اللَّيْلِ الَّذِي يُعَرِّضُ تَرْكُهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَشْمُولٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
_________
(١) ضمير الْفَصْل هُنَا وَقع بَين معرفَة وَهُوَ الضَّمِير الْمَفْعُول الأول لفعل «تَجِدُوهُ»، وَبَين مَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْمعرفَة وَهُوَ اسْم التَّفْضِيل لشبهه بالمعرفة فِي امْتنَاع دُخُول حرف التَّعْرِيف عَلَيْهِ كَمَا ذكره فِي «الْمفصل» «والكشاف».

[سُورَة الْأَعْلَى (٨٧) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ تُؤْثِرُونَ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بِصِيغَةِ الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا إِلَى الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى [الْأَعْلَى: ١١، ١٢].
وَحَرْفُ بَلْ مَعْنَاهُ الْجَامِعُ هُوَ الْإِضْرَابُ، أَيِ انْصِرَافُ الْقَوْلِ أَوِ الْحُكْمِ إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ بَلْ فَهُوَ إِذَا عَطَفَ الْمُفْرِدَاتِ كَانَ الْإِضْرَابُ إِبْطَالًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ: لِغَلَطٍ فِي ذِكْرِ الْمَعْطُوفِ أَوْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ فَذَلِكَ انْصِرَافٌ عَنِ الْحُكْمِ. وَإِذَا عَطَفَ الْجُمَلَ فَعَطْفُهُ عَطْفُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَهُوَ عَطْفٌ لَفْظِيٌّ مُجَرَّدٌ عَنِ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ وَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ، فَتَارَةً يُقْصَدُ إِبْطَالُ مَعْنَى الْكَلَامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ [الْمُؤْمِنُونَ: ٧٠] فَهُوَ انْصِرَافٌ فِي الْحُكْمِ، وَتَارَةً يُقْصَدُ مُجَرَّدُ التَّنَقُّلِ مِنْ خَبَرٍ إِلَى آخَرَ مَعَ عَدَمِ إِبْطَالِ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا [الْمُؤْمِنُونَ: ٦٢، ٦٣]. فَتَكُونُ بَلْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ «دَعْ هَذَا» فَهَذَا انْصِرَافٌ قَوْلِيٌّ. وَيُعْرَفُ أَحَدُ الْإِضْرَابَيْنِ بِالْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ.
وبَلْ هُنَا عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَطْفًا صُورِيًّا فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِانْتِقَالِ مِنْ ذِكْرِ الْمُنْتَفِعِينَ بِالذِّكْرَى وَالْمُتَجَنِّبِينَ لَهَا، إِلَى ذِكْرِ سَبَبِ إِعْرَاضِ الْمُتَجَنِّبِينَ وَهُمُ الْأَشْقَوْنَ بِأَنَّ السَّبَبَ إِيثَارُهُمُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهُوَ إِضْرَابٌ عَنْ حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِالِانْتِقَالِ إِلَى تَوْبِيخِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْفَرِيقُ الْأَشْقَى فَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِتَجْدِيدِ نَشَاطِ السَّامِعِ لِكَيْ لَا تَنْقَضِيَ السُّورَةُ كُلُّهَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْإِضْرَابُ إِبْطَالًا لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الْأَعْلَى: ١٤] مَنْ التَّعْرِيضِ لِلَّذِينَ شَقُوا بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْفَلَاحِ لِأَنْفُسِهِمْ لِيَلْتَحِقُوا بِالَّذِينَ يَخْشَوْنَ وَيَتَزَكَّوْنَ لِيَبْطُلَ أَنْ يَكُونُوا مَظِنَّةَ تَحْصِيلِ الْفَلَاحِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ أَنْ يُظَنَّ بِهِمُ التَّنَافُسُ فِي طَلَبِ الْفَلَاحِ لِأَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا، فَالْمَعْنَى: بَلْ أَنْتُمْ تُؤْثِرُونَ مَنَافِعَ الدُّنْيَا عَلَى حُظُوظِ الْآخِرَةِ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ النَّاصِحُ شَخْصًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَنْتَصِحُ «لَقَدْ نَصَحْتُكَ وَمَا أَظُنُّكَ تَفْعَلُ».


الصفحة التالية