فَمِمَّا يُؤْثَرُ (١) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَمَثُّلِ الرَّجُلِ بِبَيْتِ شِعْرٍ لِبَيَانِ مَعْنًى فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: «مَا يُعْجِبُنِي» فَهُوَ عَجِيبٌ، وَإِنْ صَحَّ عَنْهُ فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ كَرَاهَةَ أَنْ يَذْكُرَ
الشِّعْرَ لِإِثْبَاتِ صِحَّةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ كَمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ، رُوِيَ أَنَّ ابْنَ الرَّاوَنْدِيِّ (٢) (وَكَانَ يُزَنُّ بِالْإِلْحَادِ) قَالَ لِابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: «أَتَقُولُ الْعَرَبُ لِبَاسُ التَّقْوَى» فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لَا بَاسَ لَا بَاسَ، وَإِذَا أَنْجَى اللَّهُ النَّاسَ، فَلَا نَجَّى ذَلِكَ الرَّاسَ، هَبْكَ يَا بن الرَّاوَنْدِيِّ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا أَفَتُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فَصِيحًا عَرَبِيًّا؟».
وَيَدْخُلُ فِي مَادَّةِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ مَا يُؤْثَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي فَهْمِ مَعَانِي بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَى قَوَانِينِ اسْتِعْمَالِهِمْ، كَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
«قُلْتُ لِعَائِشَةَ- وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثُ السِّنِّ-: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى. إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [الْبَقَرَة: ١٥٨]، فَمَا عَلَى الرَّجُلِ شَيْءٌ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: كَلَّا لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَتْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ، وَكَانَتْ مَنَاةُ حَذْوَ قُدَيْدٍ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ اهـ»، فَبَيَّنَتْ لَهُ ابْتِدَاءَ طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَوْ كَانَ الْمَعْنَى كَمَا وَهِمَهُ عُرْوَةُ ثُمَّ بَيَّنَتْ لَهُ مَثَارَ شُبْهَتِهِ النَّاشِئَةِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ الَّذِي ظَاهِرُهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ عَنِ السَّاعِي الَّذِي يُصَدِّقُ بِالْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الْآثَارُ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا مَا نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ بَعْضِ الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعِ الْإِشْكَالِ وَالْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَلِيلٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يُفَسِّرُ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ عَلَّمَهُ إِيَّاهُنَّ جِبْرِيلُ»، وَقَالَ مَعْنَاهُ فِي مُغَيَّبَاتِ الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِ مُجْمَلِهِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بتوقيف، قلت: أَو كَانَ تَفْسِيرًا لَا تَوْقِيفَ فِيهِ، كَمَا بَيَّنَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الْأَسْوَدَ هُمَا سَوَادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ، وَقَالَ لَهُ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا» وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ
_________
(١) ذكره الألوسي.
(٢) توفّي سنة ٢٤٠ هـ.
إِذْ هُمْ مُسْتَقْبِلُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ صَارَتْ صِفَةُ الصَّلَاةِ مُنَافِيَةً لِتَعْظِيمِ شَعَائِرِهِمْ لِأَنَّهَا اسْتِدْبَارٌ لِمَا يَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ فَلَمْ تبْق لَهُم سمة لِلتَّأْوِيلِ فَظَهَرَ مَنْ دَامَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَعْرَضَ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَجَعْلُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ وَمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ عِلَّةَ هَذَيْنِ التَّشْرِيعَيْنِ يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ مِنَ التَّشْرِيعِ كَمَا يَقْتَضِيهِ لَامُ التَّعْلِيلِ وَتَقْدِيرُ أَنْ بَعْدَ اللَّامِ وَأَنْ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ مَعَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ ذَاتِيٌّ لَهُ لَا يَحْدُثُ وَلَا يَتَجَدَّدُ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا عَلَمُ حُصُولِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الَّذِي عُلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ سَيَقَعُ فَهَذَا تَعَلُّقٌ خَاصٌّ وَهُوَ حَادِثٌ لِأَنَّهُ كَالتَّعَلُّقِ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِنْ أَغْفَلَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَدَّهُ فِي تَعَلُّقَاتِ الْعِلْمِ (١).
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ كِنَايَةً عَنْ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ فَيَذْكُرُ عِلْمَهُ وَهُوَ يُرِيدُ عِلْمَ النَّاسِ كَمَا قَالَ إِيَاسُ بْنُ قُبَيْصَةَ الطَّائِيُّ:

وَأَقْدَمْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جُبَّاؤُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَرَادَ لِيَظْهَرَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا فَأَعْلَمُهُ أَنَا وَيَعْلَمُهُ النَّاسُ فَجَاءَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ كِنَايَةً عَنِ الْجَزَاءِ لِلْمُتَّبِعِ وَالْمُنْقَلِبِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ (نَعْلَمَ) مَجَازًا عَن التحيز لنظهر لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ كَلِمَةِ (مَنْ) الْمُسَمَّاةُ بِمَنِ الْفَصْلِيَّةِ كَمَا سَمَّاهَا ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ فُرُوعِ مَعَانِي مَنْ الِابْتِدَائِيَّةِ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي»، وَهَذَا لَا يُرِيبُكَ إِشْكَالٌ يَذْكُرُونَهُ، كَيْفَ يَكُونُ الْجَعْلُ الْحَادِثُ عِلَّةً لِحُصُولِ الْعِلْمِ الْقَدِيم إِذْ تبين لَكَ أَنَّهُ رَاجِعٌ لِمَعْنًى كِنَائِيٍّ.
وَالِانْقِلَابُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، يُقَالُ انْقَلَبَ إِلَى الدَّارِ، وَقَوْلُهُ: عَلى عَقِبَيْهِ
_________
(١) بعد أَن كتبت هَذَا بسنين وجدت فِي الرسَالَة الخاقانية للمحقق عبد الْحَكِيم السلكوتي فِي تَحْقِيق الْمذَاهب فِي علم الله تَعَالَى قَوْله: «وَقيل إِن علمه تَعَالَى لَهُ تعلقات أزلية بِكُل مَا يصلح أَن يعلم»، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حَيْثُ تجددها ووقوعها فِي أزمنة متغيرة والتغيير فِي التعلقات والإضافات لَا يضر بِكَمَالِهِ، لِأَن ذَلِك التجدد لَيْسَ بِنُقْصَان فِي ذَاته بل لِأَن كَمَاله التَّام يَقْتَضِي أَن [.....]
وَقَوْلُهُ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ تَقْرِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمَلُ كُلُّهَا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَبَيَانِ عَظَمَةِ مَخْلُوقَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ عَظَمَةَ شَأْنِهِ، أَوْ لِبَيَانِ سِعَةِ مُلْكِهِ- كَذَلِكَ- كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ مُتَرَتِّبَةً مُتَفَرِّعَةً.
وَالْكُرْسِيُّ شَيْءٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَعْوَادٍ أَوْ غَيْرِهَا مَوْضُوعَةٍ كَالْأَعْمِدَةِ مُتَسَاوِيَةٍ، عَلَيْهَا سَطْحٌ مِنْ خَشَبٍ أَوْ غَيْرِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَعُ شَخْصًا وَاحِدًا فِي جُلُوسِهِ، فَإِنْ زَادَ عَلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَكَانَ مُرْتَفِعًا فَهُوَ الْعَرْشُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ حَقِيقَةَ الْكُرْسِيِّ إِذْ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى لِاقْتِضَائِهِ التَّحَيُّزَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ.
وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: إِنَّ الْكُرْسِيَّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ، وَيُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعَظَمَتِهِ، فَقِيلَ هُوَ الْعَرْشُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ الْكُرْسِيَّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الْعَرْشِ، وَلَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُمَا مُقْتَرِنَيْنِ، فَلَوْ كَانَ الْكُرْسِيُّ غَيْرَ الْعَرْشِ لَذُكِرَ مَعَهُ كَمَا ذُكِرَتِ السَّمَاوَاتُ مَعَ الْعَرْشِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٦]، وَقِيلَ الْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ دُونَ الْعَرْشِ
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ»
وَهُوَ حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ مِنَ الْعَرْشِ، أَيْ لِأَنَّ الْجَالِسَ عَلَى عَرْشٍ يَكُونُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْأَرْضِ فَيُوضَعُ لَهُ كُرْسِيٌّ لِئَلَّا تَكُونَ رِجْلَاهُ فِي الْفَضَاءِ إِذَا لَمْ يَتَرَبَّعْ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ الْكُرْسِيُّ مَثَلٌ لِعِلْمِ اللَّهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الْعَالِمَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ. وَقِيلَ مَثَلٌ لِمُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُونَ فُلَانٌ صَاحِبُ كُرْسِيِّ الْعِرَاقِ أَيْ مُلْكِ الْعِرَاقِ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: «وَلَعَلَّهُ الْفَلَكُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ بِفَلَكِ الْبُرُوجِ». قُلْتُ أَثْبَتَ الْقُرْآنُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ مُسَمَّاهَا فِي قَوْلِهِ (سُورَةِ نُوحٍ) : أَلَمْ
تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً
[نوح: ١٥، ١٦]، فَيَجُوزُ أَن تكون السَّمَوَات طَبَقَاتٍ مِنَ الْأَجْوَاءِ مُخْتَلِفَةَ الْخَصَائِصِ مُتَمَايِزَةً بِمَا يَمْلَأُهَا مِنَ العناصر، وَهِي مسبح الْكَوَاكِبِ، وَلَقَدْ قَالَ تَعَالَى (سُورَةُ الْمُلْكِ) : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْملك: ٥]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ هِيَ الْكَوَاكِبَ الْعَظِيمَةَ الْمُرْتَبِطَةَ بِالنِّظَامِ
لَا زَادَ لَهُ وَيَسْتَطِيعُ الِاحْتِرَافَ فِي طَرِيقِهِ:
فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُزْرِي فَلْيُسَافِرْ وَيَكْتَسِبْ فِي طَرِيقِهِ، وَقَالَ بِمِثْلِهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ. وَعَنْ مَالِكٍ كَرَاهِيَةَ السَّفَرِ فِي الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ طَرِيقًا غَيْرَهُ كَأَهْلِ الْأَنْدَلُسِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الْحَج: ٢٧] وَلَمْ أَجِدْ لِلْبَحْرِ ذِكْرًا. قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا تَأْنِيسٌ مِنْ مَالِكٍ وَلَيْسَتِ الْآيَةُ بِالَّتِي تَقْتَضِي سُقُوطَ سَفَرِ الْبَحْرِ. وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ»
وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عِبَادَةٌ كالحجّ، وَكره ماك لِلْمَرْأَةِ السَّفَرَ فِي الْبَحْرِ لِأَنَّهُ كَشَفَةٌ لَهَا، وَكُلُّ هَذَا إِذَا كَانَتِ السَّلَامَةُ هِيَ الْغَالِبَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزِ الْإِلْقَاءُ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَحَالُ سَفَرِ الْبَحْرِ الْيَوْمَ أَسْلَمُ مِنْ سَفَرِ الْبَرِّ إِلَّا فِي أَحْوَالٍ عَارِضَةٍ فِي الْحُرُوبِ إِذَا شَمِلَتِ الْبِحَارَ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أَنَّ الْخِطَابَ بِالْحَجِّ وَالِاسْتِطَاعَةَ لِلْمَرْءِ
فِي عَمَلِهِ لَا فِي عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ فِي الْحَيَاةِ لِعُذْرٍ، فَالْعَاجِزُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَرَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ حَجَّ التَّطَوُّعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِذَا كَانَ لَهُ عُذْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْحَجِّ وَكَانَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، صَارَ قَادِرًا فِي الْجُمْلَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ، وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَتْ: إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتِهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى
. وَأَجَابَ عَنْهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ أَجَابَهَا بِمَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى طَاعَةِ أَبِيهَا، وَطَاعَةِ رَبِّهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَابْنُ الْمُبَارك. لَا تجزىء إلّا إنابة الْأُجْرَة دُونَ إِنَابَةِ الطَّاعَةِ.

[٢٩، ٣٠]

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٢٩ الى ٣٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
اسْتِئْنَافٌ مِنَ التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَعَلَامَةُ الِاسْتِئْنَافِ افْتِتَاحُهُ بِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَحْكَامَ الْمَوَارِيثِ وَالنِّكَاحِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَوَامِرَ بِإِيتَاءِ
ذِي الْحَقِّ فِي الْمَالِ حَقَّهُ، كَقَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النِّسَاء: ٢] وَقَوْلِهِ: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً [النِّسَاء: ٢٤] وَقَوْلِهِ: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً [النِّسَاء: ٤] الْآيَةَ، فَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَشْرِيعٍ عَامٍّ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَكْلَ مَجَازٌ فِي الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ انْتِفَاعًا تَامًّا، لَا يَعُودُ مَعَهُ إِلَى الْغَيْرِ، فَأَكْلُ الْأَمْوَالِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهَا بِنِيَّةِ عَدَمِ إِرْجَاعِهَا لِأَرْبَابِهَا، وَغَالِبُ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ اسْتِيلَاءَ ظُلْمٍ، وَهُوَ مَجَازٌ صَارَ كَالْحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِانْتِفَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٤] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النِّسَاء: ٦]، وَلِذَلِكَ غَلَبَ تَقْيِيدُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَيْدِ بِالْباطِلِ وَنَحْوِهِ.
وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ بِ (تَأْكُلُوا)، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ أَمْوَالٌ: رَاجِعَانِ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُنْهَى عَنْ أَكْلِ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَا يُسَمَّى انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْلًا، فَالْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ. وَالْبَاطِلُ ضِدُّ الْحَقِّ، وَهُوَ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَا كَانَ عَن إِذن ربّه، وَالْبَاءُ فِيهِ لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَالْمَعْنَى: لَكِنْ كَوْنُ التِّجَارَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. وَمَوْقِعُ الْمُنْقَطِعِ هُنَا بَيِّنٌ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ شُمُولُ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِلشَّيْءِ الْمُسْتَدْرَكِ وَلَا يُفِيدُ الِاسْتِدْرَاكُ حَصْرًا، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مُقْتَضَى الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَيْدُ الْبَاطِلِ فِي حَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مُلْغًى، فَيَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ أَكْلِ الْأَمْوَالِ وَيَكُونَ مُتَّصِلًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ حَصَرَ إِبَاحَةَ أَكْلِ الْأَمْوَالِ فِي التِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وأياما كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فَتَخْصِيصُ التِّجَارَةِ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ أَكْلِ الْأَمْوَالِ
وَقَوْلُهُ يَقِيناً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُصِبَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُؤَكِّدِ لِمَضْمُونِ جُمْلَةٍ قَبْلَهُ: لِأَنَّ مَضْمُونَ: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَعْدَ قَوْلِهِ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ إِلَى قَوْلِهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ قَتْلِهِمْ إِيَّاهُ أَمْرٌ مُتَيَقَّنٌ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ يَقِينًا مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَضْمُونِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ
الْوَاوِ فِي قَتَلُوهُ، أَيْ مَا قَتَلُوهُ مُتَيَقِّنِينَ قَتْلَهُ، وَيَكُونُ النَّفْيُ مُنْصَبًّا عَلَى الْقَيْدِ وَالْمُقَيَّدِ مَعًا، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، أَيْ: هُمْ فِي زَعْمِهِمْ قَتْلَهُ لَيْسُوا بِمُوقِنِينَ بِذَلِكَ لِلِاضْطِرَابِ الَّذِي حَصَلَ فِي شَخْصِهِ حِينَ إِمْسَاكِ مَنْ أَمْسَكُوهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْقَتْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ. وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الشَّيْءِ وَالتَّغَلُّبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ:
قَتَلَ الْخَمْرَ إِذَا مَزَجَهَا حَتَّى أَزَالَ قُوَّتَهَا، وَقَوْلِهِمْ: قَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا، وَمِنْ شِعْرِ «الْحَمَاسَةِ» فِي بَابِ الْهِجَاءِ:
يَرُوعُكَ مِنْ سَعِدِ ابْن عَمْرٍو جُسُومُهَا وَتَزْهَدُ فِيهَا حِينَ تَقْتُلُهَا خُبْرَا
وَقَول الشَّاعِر:
كَذَلِك تُخْبِرُ عَنْهَا الْعَالِمَاتُ بِهَا وَقَدْ قَتَلْتُ بِعِلْمِي ذَلِكُمْ يَقَنًا
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
قَتَلَتْنِيَ الْأَيَّامُ حِينَ قَتَلْتُهَا خُبْرًا فَأُبْصِرُ قَاتِلًا مَقْتُولًا
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي قَتَلُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ، فَيَكُونُ يَقِيناً عَلَى هَذَا تَمْيِيزًا لِنِسْبَةِ (قَتَلُوهُ).
وَلِذَلِكَ كُلِّهِ أَعْقَبَ بِالْإِبْطَالِ بِقَوْلِهِ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أَيْ فَلَمْ يَظْفَرُوا بِهِ. وَالرَّفْعُ:
إِبْعَادُهُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى عَالَمِ السَّمَاوَاتِ، وَ (إِلَى) إِفَادَةُ الِانْتِهَاءِ الْمَجَازِيِّ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ، أَيْ رَفَعَهُ اللَّهُ رَفْعَ قُرْبٍ وَزُلْفَى.
نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [٣٩]، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لِحَاجَتِنَا أَوْ عَبْدِ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ
(دِينَارٌ اسْمُ رَجُلٍ، وَكَذَا عَبْدُ رَبٍّ. وَقَوْلُهُ: أَخَا عَوْنٍ أَوْ عَوْفٍ نِدَاءٌ، أَيْ يَا أَخَا عَوْنٍ). فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ مُتَقَرِّرٌ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ وَفَدُوا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، فَكَانَ مِمَّا أَوْصَاهُمْ بِهِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَنْتَبِذُوا فِي الْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ وَالدُّبَّاءِ، لِأَنَّهَا يُسْرِعُ الِاخْتِمَارُ إِلَى نَبِيذِهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْأَنْصَابِ هُنَا عِبَادَةُ الْأَنْصَابِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَزْلَامِ الِاسْتِقْسَامُ بِهَا، لِأَنَّ عَطْفَهَا عَلَى الْمَيْسِرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَزْلَامٌ غَيْرُ الْمَيْسِرِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : ذِكْرُ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ مَعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ التَّحْرِيمِ لِلْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَنْصَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [الْمَائِدَة: ٣]، وَالْكَلَامُ عَلَى الْأَزْلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٣]. وَأَكَّدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمَ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَتَحْرِيمَ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْوَارِدُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَالْمُقَرَّرُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ.
وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ هُنَا تَعَاطِيهَا، كُلٌّ بِمَا يُتَعَاطَى بِهِ مِنْ شُرْبٍ وَلَعِبٍ وَذَبْحٍ
وَاسْتِقْسَامٍ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرُ مَوْصُوفٍ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَاتِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالرِّجْسِ لَا تَتَجَاوَزُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا عَدَا صِفَةَ الرِّجْسِ مِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٩] فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، فَأَثْبَتَ لَهُمَا الْإِثْمَ، وَهُوَ صِفَةٌ
لِأَوْلِيَائِهِمْ، وَمَا طَمْأَنَ بِهِ قلب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَقِيَ سُنَّةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ آثَارِ عَدَاوَةِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، بِذِكْرِ مَا يُهَوِّنُ على الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مَا يَرَوْنَهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَعِزَّتِهِمْ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَضَعْفِهِمْ، مَعَ تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِمْ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِمْ، وَعَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَى رَأْيِهِمْ، لِأَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْرِهِمْ بِأَنْ يَلْزَمُوا مَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ. فَجُمْلَةُ: وَإِنْ تُطِعْ مُتَّصِلَةٌ بِجُمْلَةِ: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيءٍ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الْأَنْعَام: ١١٢] وَبِجُمْلَةِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً [الْأَنْعَام: ١١٤] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الْأَنْعَام: ١١٥].
وَالْخطاب للنّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥].
وَجِيءَ مَعَ فِعْلِ الشَّرْطِ بِحَرْفِ (إِنْ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ النَّادِرِ الْوُقُوعِ، أَوِ الْمُمْتَنَعِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا أَيَسُوا مِنِ ارْتِدَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَنْبَأَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا [الْأَنْعَام: ٧١] الْآيَةَ، جَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشُّبَهَ وَالشُّكُوكَ فِي أَحْكَامِ دِينِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ هَذَا: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ١٢١]. وَقَدْ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا عَنِ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ مَنْ قَتَلَهَا (يُرِيدُونَ أَكْلَ الشَّاةِ إِذَا مَاتَتْ حَتْفَ أَنْفِهَا دُونَ ذَبْحٍ) - قَالَ- اللَّهُ قَتَلَهَا- فَتَزْعُمُ أَنَّ مَا
قَتَلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَ الْكَلْبُ وَالصَّقْرُ حَلَالٌ وَمَا قَتَلَهُ اللَّهُ حَرَامٌ»
فَوَقَعَ فِي نَفْسِ نَاسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَفِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ»، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى أنَاس النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَأْكَلُ مَا نَقْتُلُ وَلَا نَأْكُلُ مَا يَقْتُلُ اللَّهُ»
يَطْلُبُ فِيهِمَا النَّاسُ الرَّاحَةَ وَالدَّعَةَ، فَوُقُوعُ الْعَذَابِ فِيهِمَا أَشَدُّ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْعَذَابِ فِيهِمَا يُنَغِّصُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ تَخَيُّلَ نَعِيمِ الْوَقْتَيْنِ.
وَالْمَعْنَى: وَكَمْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مُشْرِكِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى شِرْكِهِمْ، فَكُونُوا يَا مَعْشَرَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى حَذَرٍ أَنْ نُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ فَإِنَّكُمْ وَإِيَّاهُمْ سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُ: فَما كانَ دَعْواهُمْ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فِيهِ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ تَبَعًا لِلِفَاءٍ فِي
قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا لِأَنَّهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذْكُورِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِلتَّرْتِيبِ الْمَعْنَوِيِّ لِأَنَّ دَعْوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى مَجِيءِ الْبَأْسِ.
وَالدَّعْوَى اسْمٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ [يُونُس: ١٠] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ هُنَا لِرَفْعِ الْعَذَابِ أَيِ الِاسْتِغَاثَةِ عِنْدَ حُلُولِ الْبَأْسِ وَظُهُورِ أَسْبَابِ الْعَذَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ النَّاسِ إِذَا حَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ أَنْ يَجْأَرُوا إِلَى اللَّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَغِيثُوا اللَّهَ وَلَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَلَكِنَّهُمْ وَضَعُوا الِاعْتِرَافَ بِالظُّلْمِ مَوْضِعَ الِاسْتِغَاثَةِ فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ مِنَ الدَّعْوَى.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِمَعْنَى الِادِّعَاءِ أَيِ: انْقَطَعَتْ كُلُّ الدَّعَاوَى الَّتِي كَانُوا يَدَّعُونَهَا مِنْ تَحْقِيقِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ وَأَنَّ دِينَهُمْ حَقٌّ، فَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ دَعْوَى، بَلِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّ اعْتِرَافَهُمْ لَيْسَ بِدَعْوَى.
وَاقْتِصَارُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إِمَّا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مُقَدِّمَةُ التَّوْبَةِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ يَتَقَدَّمُهَا الِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ، فَهُمُ اعْتَرَفُوا عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ الِاعْتِرَافِ إِلَى طَلَبِ الْعَفْوِ، فَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، فَكَانَ اعْتِرَافُهُمْ- آخِرُ قَوْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا- مُقَدِّمَةً لِشَهَادَةِ أَلْسِنَتِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي
وَقَوْلُهُ: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِسِكُونِ الْوَاوِ- عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ بِحَرْفِ (أَوْ) الَّذِي هُوَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَطْفًا عَلَى التَّعْجِيبِ، أَيْ: هُوَ تَعْجِيبٌ مِنْ أَحَدِ الْحَالَيْنِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- عَلَى أَنَّهُ عَطْفٌ بِالْوَاوِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، فَهُوَ عَطْفُ اسْتِفْهَامٍ ثَانٍ بِالْوَاوِ الْمُفِيدَةِ لِلْجَمْعِ، فَيَكُونُ كِلَا الِاسْتِفْهَامَيْنِ مَدْخُولًا لِفَاءِ التَّعْقِيبِ، عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ النُّحَاةِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الزَّمَخْشَرِيِّ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ تَقْسِيمِ الِاسْتِفْهَامِ إِلَى اسْتِفْهَامَيْنِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّأْيَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨٧].
وبَياتاً تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ وَوَجْهُ نَصْبِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٤].
وَالضُّحَى بِالضَّمِّ مَعَ الْقَصْرِ هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِضَوْءِ الشَّمْسِ إِذَا أَشْرَقَ وَارْتَفَعَ، وَفَسَّرَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ، وَيُرَادِفُهُ الضَّحْوَةُ وَالضَّحْوُ.
وَالضُّحَى يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَشَاعَ التَّوْقِيتُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: ٥٩].
وَتَقْيِيدُ التَّعْجِيبِ مِنْ أَمْنِهِمْ مَجِيءَ الْبَأْسِ، بِوَقْتِيِ الْبَيَاتِ وَالضُّحَى، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ، وَبِحَالَيِ النَّوْمِ وَاللَّعِبِ، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْوَقْتَيْنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يُحْذَرَ حُلُولُ الْعَذَابِ فِيهِمَا، لِأَنَّهُمَا وَقْتَانِ لِلدَّعَةِ، فَالْبَيَاتُ لِلنَّوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الشُّغْلِ. وَالضُّحَى لِلَّعِبِ قَبْلَ اسْتِقْبَالِ الشُّغْلِ، فَكَانَ شَأْنُ أُولِي النُّهَى الْمُعْرِضِينَ عَنْ دَعْوَةِ رُسُلِ اللَّهِ أَنْ لَا يَأْمَنُوا عَذَابَهُ، بِخَاصَّةٍ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَالْحَالَيْنِ.
وَفِي هَذَا التَّعْجِيبِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ المكذبين للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، فَكَانَ ذِكْرُ وَقْتِ الْبَيَاتِ، وَوَقْتِ اللَّعِبِ، أَشَدَّ مُنَاسَبَةً بِالْمَعْنَى التَّعْرِيضِيِّ،.
تَهْدِيدًا لَهُمْ بِأَنْ يُصِيبَهُمُ الْعَذَابُ بِأَفْظَعِ أَحْوَالِهِ، إِذْ يَكُونُ حُلُولُهُ بِهِمْ فِي سَاعَةِ دَعَتِهِمْ وَسَاعَةِ لَهْوِهِمْ نِكَايَةً بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قُصِدَ مِنْهُ تَقْرِيرُ التَّعْجِيبِ مِنْ غَفْلَتِهِمْ، وَتَقْرِيرُ مَعْنَى التَّعْرِيضِ بِالسَّامِعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَ زِيَادَةِ
لَمْ تُخْطِئْ وَلكنهَا أَو همتهم قِلَّةَ الْعَدَدِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرْغُوبُهُمْ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَهُوَ تَحَقُّقُ النَّصْرِ، وَلَوْ أُخْبِرُوا بِعَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا هُوَ لَجَبُنُوا عَنِ اللِّقَاءِ فَضَعُفَتْ أَسْبَابُ النَّصْرِ الظَّاهِرَةُ الْمُعْتَادَةُ الَّتِي تُكْسِبُهُمْ حُسْنَ الْأُحْدُوثَةِ. وَرُؤْيَا النبيء لَا تخطىء، وَلَكِنَّهَا قَدْ تَكُونُ جَارِيَةً عَلَى الصُّورَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْخَارِجِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ: أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ، وَخَاصَّةً قَبْلَ ابْتِدَاءِ نُزُولِ الْمَلَكِ بِالْوَحْيِ، وَقَدْ تَكُونُ رُؤْيَا النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمْزِيَّةً وَكِنَايَةً كَمَا فِي حَدِيثِ رُؤْيَاهُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّهُ خَيْرٌ، فَلَمْ يَعْلَمِ الْمُرَادَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَذْلَ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمَهُمْ أَرَى نَبِيئَهُ الْمُشْرِكِينَ قَلِيلًا كِنَايَةً بِأَحَدِ أَسْبَابِ الِانْهِزَامِ، فَإِنَّ الِانْهِزَامَ يَجِيءُ مِنْ قِلَّةِ الْعَدَدِ. وَقَدْ يُمْسِكُ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيَانِ التَّعْبِيرِ الصَّحِيحِ لِحِكْمَةٍ، كَمَا
فِي حَدِيثِ تَعْبِيرِ أَبِي بَكْرٍ رُؤْيَا الرَّجُلِ الَّذِي قَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِ النَّبِيءِ لَهُ: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا»
وَأَبَى أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا أَصَابَ مِنْهَا وَمَا أَخْطَأَ. وَلَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ لِيُخْبِرَ الْمُؤْمِنِينَ بأنّهم غالبون الْمُشْركُونَ لَآمَنُوا بِذَلِكَ إِيمَانًا عَقْلِيًّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ مِنَ التَّصْوِيرِ بِالْمَحْسُوسِ، وَلَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ وَلَمْ يُرِهِ تِلْكَ الرُّؤْيَا لَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَحْسِبُونَ لِلْمُشْرِكِينَ حِسَابًا كَبِيرًا. لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكَثِيرٍ.
وَهَذِهِ الرُّؤْيَا قَدْ مَضَتْ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الرُّؤْيَا الْعَجِيبَةِ.
وَالْقَلِيلُ هُنَا قَلِيلُ الْعَدَدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: كَثِيراً. أَرَاهُ إِيَّاهُمْ قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمُكَاشَفَةِ النَّوْمِيَّةِ كِنَايَةً عَنِ الْوَهَنِ وَالضَّعْفِ. فَإِنَّ لُغَةَ الْعُقُولِ وَالْأَرْوَاحِ أَوْسَعُ من لُغَة
التخاطب، لِأَنَّ طَرِيقَ الِاسْتِفَادَةِ عِنْدَهَا عَقْلِيٌّ مُسْتَنِدٌ إِلَى مَحْسُوسٍ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ وَبَيْنَ الِاسْتِفَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
وَأخْبر ب «قَلِيل» و «كثير» وَكِلَاهُمَا مُفْرَدٌ عَنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٦].
وَالتَّزْكِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ زَكِيًا، أَيْ كَثِيرَ الْخَيْرَاتِ. فَقَوْلُهُ: تُطَهِّرُهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّخْلِيَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَقَوْلُهُ: تُزَكِّيهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى مَقَامِ التَّحْلِيَةِ بِالْفَضَائِلِ وَالْحَسَنَاتِ. وَلَا جَرَمَ أَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَمُجْلِبَةٌ لِلثَّوَابِ الْعَظِيمِ.
وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمُ: الدُّعَاءُ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ [التَّوْبَة: ٩٩].
وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ بِصَدَقَتِهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ
. كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى يَجْمَعُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ بَيْنَ مَعْنَى الصَّلَاةِ وَبَيْنَ لَفْظِهَا فَكَانَ يَسْأَلُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ. وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ، وَمِنَ النَّبِيءِ الدُّعَاءُ.
وَجُمْلَة: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ سَكَنٌ لَهُمْ، أَيْ سَبَبُ سَكَنٍ لَهُمْ، أَيْ خَيْرٌ. فَإِطْلَاقُ السَّكَنِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ.
وَالسَّكَنُ: بِفَتْحَتَيْنِ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، أَيْ يُطْمَأَنُّ إِلَيْهِ وَيُرْتَاحُ بِهِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ سُكُونُ النَّفْسِ، أَيْ سَلَامَتُهَا مِنَ الْخَوْفِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ يُوجِبُ كَثْرَةَ الْحَذَرِ وَاضْطِرَابَ الرَّأْيِ فَتَكُونُ النَّفْسُ كَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ قَلَقًا لِأَنَّ الْقَلَقَ كَثْرَةُ التَّحَرُّكِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الْأَنْعَام: ٩٦] وَقَالَ:
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً [النَّحْل: ٨٠]، وَمِنْ أَسْمَاءِ الزَّوْجَةِ السَّكَنُ، أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُ لَهُمْ يَزِيدُ نُفُوسَهُمْ صَلَاحًا وَسُكُونًا إِلَى الصَّالِحَاتِ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَرَدُّدٌ وَاضْطِرَابٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التَّوْبَة: ٤٥]، وَالطَّاعَةَ اطْمِئْنَانٌ وَيَقِينٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرَّعْد: ٢٨].
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ مُنَاسِبٌ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمِيعِ هُنَا الْمُجِيبُ لِلدُّعَاءِ. وَذِكْرُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى قَبُولِ دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّنْوِيهِ بِدُعَائِهِ.
وَذِكْرُ الْعَلِيمِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ إِلَّا لِأَنَّ فِي دُعَائِهِ لَهُمْ خَيْرًا عَظِيمًا وَصَلَاحًا
فِي الْأُمُورِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ صَلاتَكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ
حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ لَا يَحْسَبُوا أَيْضًا أَنَّ الْكُفْرَ يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْعَذَابِ فَأُوقِظُوا مِنْ هَذَا التَّوَهُّمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَفِعْلُ الشَّرْطِ فِي الْمَقَامِ الْخِطَابِيِّ يُفِيدُ اقْتِصَارَ الْفَاعِلِ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَقَطْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إِذْ حُصِرَ أَمْرُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّارِ وَهُوَ مَعْنَى الْخُلُودِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: ١٨، ١٩].
فَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ لَا يَطْلُبُ إِلَّا مَنَافِعَ الْحَيَاةِ وَزِينَتَهَا. وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ الْكَافِرِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ إِرَادَةِ خَيْرِ الْآخِرَةِ وَمَا آمَنَ إِلَّا لِذَلِكَ، فَمَوْرِدُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا فِي حَالِ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.
فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: يَا أَيهَا النبيء قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الْأَحْزَاب: ٢٨، ٢٩] فَذَلِكَ فِي مَعْنًى آخَرَ مِنْ مَعَانِي الْحَيَاةِ وَزِينَتِهَا وَهُوَ تَرَفُ الْعَيْشِ وَزِينَةُ اللِّبَاسِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيه إِعْرَاضُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ التَّرَفِ وَتِلْكَ الزِّينَةِ.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ الْمَوْصُولَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْأَقْوَامُ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ.
وَالتَّوْفِيَةُ: إِعْطَاءُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، أَيْ نَجْعَلُ أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَافِيَةً وَمَعْنَى وَفَائِهَا أَنَّهَا غَيْرُ مَشُوبَةٍ بِطَلَبِ تَكَالِيفِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ نُقْصَانٍ فِي تَمَتُّعِ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ
وَيَقُولُونَ: أَغْنَى فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، أَيْ فِي أَجْزَاهُ عِوَضَهُ وَقَامَ مَقَامَهُ، وَيَأْتُونَ بِمَنْصُوبٍ فَهُوَ تَرْكِيبٌ غَرِيبٌ، فَإِنَّ حَرْفَ (عَنْ) فِيهِ لِلْبَدَلِيَّةِ وَهِيَ الْمُجَاوَزَةُ الْمَجَازِيَّةُ. جَعَلَ الشَّيْءَ الْبَدَلَ عَنِ الشَّيْءِ مُجَاوِزًا لَهُ لِأَنَّهُ حَلَّ مَحَلَّهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَكَأَنَّهُ جَاوَزَهُ فَسَمَّوْا هَذِهِ الْمُجَاوَزَةَ بَدَلِيَّةً وَقَالُوا: إِنَّ (عَنْ) تَجِيءُ لِلْبَدَلِيَّةِ كَمَا تَجِيءُ لَهَا الْبَاءُ. فَمَعْنَى مَا أُغْنِي عَنْكُمْ لَا أُجْزِي عَنْكُمْ، أَيْ لَا أَكْفِي بَدَلًا عَنْ إِجْزَائِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.
ومِنْ شَيْءٍ نَائِبٌ مَنَابَ شَيْئًا، وَزِيدَتْ مِنْ لِتَوْكِيدِ عُمُومِ شَيْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [سُورَة يس: ٢٣] أَيْ مِنَ الضُّرِّ. وَجَوَّزَ
صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ شَيْئاً مَفْعُولًا مُطْلَقًا، أَيْ شَيْئًا مِنَ الْغَنَاءِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [سُورَة الْبَقَرَة:
٤٨]، قَالَ: أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً لَكِنَّهُ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ شَيْئاً مَفْعُولًا بِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا عَلَى مَعْنَى التَّوَسُّعِ بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ.
وَجُمْلَةُ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. وَالْحُكْمُ: هُنَا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ وَالتَّقْدِيرِ، وَمَعْنَى الْحَصْرِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ [سُورَة الطَّلَاق: ٣]. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُنَازِعَ مُرَادَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ وَاجِبُهُ أَنْ يَتَطَلَّبَ الْأُمُورَ مِنْ أَسْبَابِهَا لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ قَوْلُهُ: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ وَصِيَّتَهُ بِأَخْذِ الْأَسْبَابِ مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ هُوَ مَعْنَى التَّوَكُّلِ الَّذِي يَضِلُّ فِي فَهْمِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اقْتِصَارًا وَإِنْكَارًا، وَلِذَلِكَ أَتَى بِجُمْلَةِ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أَمْرًا لَهُمْ
وَالتَّأْكِيدُ بِلَامِ الْقَسَمِ وَ (قَدْ) لِتَحْقِيقِ سَبْقِ الْإِرْسَالِ مِنَ اللَّهِ، مِثْلَ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَحَدُوهُ وَاسْتَعْجَبُوهُ كَقَوْلِهِ: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ [سُورَة يُونُس:
٢]. وَذَلِكَ مُقْتَضَى مَوْقِعِ قَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِكَ.
وَالشِّيَعُ جَمْعُ شِيعَةٍ وَهِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي أَمْرُهَا وَاحِدٌ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٥]. وَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٩]، أَيْ فِي أُمَمِ الْأَوَّلِينَ، أَيِ الْقُرُونِ الْأُولَى فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَمِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ. فَهَذَا وَجْهُ إِضَافَةِ شِيَعِ إِلَى الْأَوَّلِينَ.
وكانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُ سُنَّتُهُمْ، فَ (كَانَ) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ سَجِيَّةٌ لَهُمْ، وَالْمُضَارِعُ دَلَّ عَلَى تَكَرُّرِهِ مِنْهُمْ.
وَمَفْعُولُ أَرْسَلْنا مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ، أَيْ رُسُلًا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
مِنْ رَسُولٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُور على يَسْتَهْزِؤُنَ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِلْمُبَالَغَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا يُكْثِرُونَ الِاسْتِهْزَاءَ بِرَسُولِهِمْ وَصَارَ ذَلِكَ سَجِيَّةً لَهُمْ نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا الِاسْتِهْزَاء بالرسول.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ لِقَوْلِهِ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سُورَة الْحجر: ١١] فَيَتَسَاءَلُ كَيْفَ تَوَارَدَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ عَلَى طَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الضَّلَالِ فَلَمْ تُفِدْهُمْ دَعْوَةُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [سُورَة الذاريات: ٥٣].
ثُمَّ إِنَّ الصِّفَتَيْنِ عَلَى تَقْدِير كَونهمَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمَا عَلَى أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَبُولِهِمَا لِتَلَقِّي تِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الْمُدْهِشَةِ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النَّجْم: ١٧]، وَقَوْلُهُ: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: ١٢].
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا صِفَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمُنَاسِبُ أَنْ تُؤَوَّلَا بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ الْمُبْصِرِ، أَيِ الْقَادِرِ عَلَى إِسْمَاعِ عَبْدِهِ وَإِبْصَارِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
أَيْ الْمُسْمِعُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الْإِسْرَاءِ أَكَانَ بِجَسَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
أَمْ كَانَ بِرُوحِهِ فِي رُؤْيَا هِيَ مُشَاهَدَةٌ رُوحَانِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ. وَالْجُمْهُورُ قَالُوا:
هُوَ إِسْرَاءٌ بِالْجَسَدِ فِي الْيَقَظَةِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ إِسْرَاءٌ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِامْتِنَانَ فِي الْآيَةِ وَتَكْذِيبَ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ بِالْجَسَدِ. وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ قُرَيْشًا اسْتَوْصَفُوا من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَامَاتٌ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَفِي طَرِيقِهِ فَوَصَفَهَا لَهُمْ كَمَا هِيَ، وَوَصَفَ لَهُمْ عِيرًا لِقُرَيْشٍ قَافِلَةً فِي طَرِيقٍ مُعَيَّنٍ وَيَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَوَجَدُوهُ كَمَا وَصَفَ لَهُمْ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ... »
إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَوْضَحُ مِمَّا رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَنْ بَيْتِهِ أَوْ كَانَ مَنْ بَيت أم هاني بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَوْ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إِسْرَاءٌ آخَرُ، وَهُوَ الْوَارِدُ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَة. فللنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهَذَا الْمَلِكُ يُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِ التَّارِيخِ أَنَّهُ سَاءَتْ حَالَتُهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَأَفْسَدَ كَثِيرًا وَقَتَلَ عُلَمَاءَ وَأَحْرَقَ كُتُبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَقِيقَةِ وَبِأَسْبَابِهَا.
وَلَمَّا ظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ إِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلِيبُوسَ نَحَلُوهُ بِنَاءَ السَّدِّ. وَزَعَمُوهُ مِنْ صُنْعِهُ كَمَا نَحَلُوهُ لَقَبَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَكُلُّ ذَلِكَ بِنَاءَ أَوْهَامٍ عَلَى أَوْهَامٍ وَلَا أساس لوَاحِد مِنْهُمَا وَلَا عَلَاقَةَ لِإِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ بِقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْله قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأَنْ يَعِدَ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِي مَعْنَاهُ.
وَالسِّينُ فِي قَول سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩٨].
وَجُعِلَ خَبَرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ تِلَاوَةً وَذِكْرًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ أَخْبَارِهِ مَا فِيهِ تَذْكِيرٌ وَمَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ تِلَاوَةً حَسَبَ شَأْنِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُتْلَى لِأَجْلِ الذِّكْرِ وَلَا يُسَاقُ مَسَاقَ
الْقَصَصِ.
وَقَوْلُهُ مِنْهُ ذِكْراً تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَهُ وَأَخْبَارَهُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُهِمُّهُمْ بَعْضُ أَحْوَالِهِ الْمُفِيدَةِ ذِكْرًا وَعِظَةً. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ فِي قِصَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ نَبَئِهِمْ، لِأَنَّ قِصَّتَهُمْ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا ذَكَرَ، وَأَحْوَالُ ذِي الْقَرْنَيْنِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرَ هُنَا.
وَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْهُ ذِكْراً لِلتَّبْعِيضِ بِاعْتِبَارِ مُضَافٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مِنْ خَبَرِهِ.
وَالتَّمْكِينُ: جَعْلُ الشَّيْءِ مُتَمَكِّنًا، أَيْ رَاسِخًا، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِقُوَّةِ التَّصَرُّفِ بِحَيْثُ لَا يُزَعْزِعُ قُوَّتَهُ أَحَدٌ. وَحَقُّ فِعْلِ (مَكَّنَا) التَّعْدِيَةُ
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ بِالْمَعْنَيَيْنِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرِيِّ» هُنَا قَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» أَنَّهُ الشَّرَفُ، أَيْ فِيهِ شَرَفُكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ فِيهِ شَرَفُكُمْ وَذِكْرُكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ كَمَا تُذْكَرُ عِظَامُ الْأُمُورِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤].
وَعَلَى الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ لِتَفْرِيعِ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَلا تَعْقِلُونَ أَحْسَنُ مَوْقِعٍ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ لِنَفْيِ عَقْلِهِمْ مُتَّجِهٌ عَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنَ فَإِنَّ مَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ هَدْيُهُ فَلَمْ يَهْتَدِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ عَقْلِهِ، وَمَنْ جَاءَهُ مَا بِهِ مَجْدُهُ وَسُمْعَتُهُ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ يُنْكَرُ عَلَيْهِ سُوءُ قَدْرِهِ لِلْأُمُورِ حَقَّ قَدْرِهَا كَمَا يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مِثْلِهِ مُضَاعَفًا.
وَأَيْضًا فَهُوَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ آيَةً تَفُوقُ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلُوا مِثْلَهَا وَهُوَ الْمُفَادُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ وَمِنْ تَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ بِالْقِسْمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥١]، وَذَلِكَ لِإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيّ والمعنوي.
[١١- ١٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٤]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الْأَنْبِيَاء: ٦] أَوْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
فَ نُطْفَةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَقَوْلُهُ: فِي قَرارٍ مَكِينٍ هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِ جَعَلْناهُ. وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ السُّلَالَةِ. فَضَمِيرُ
جَعَلْناهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ السُّلَالَةِ، فَالْمَعْنَى: جَعَلْنَا السُّلَالَةَ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، أَيْ وَضَعْنَاهَا فِيهِ حِفْظًا لَهَا، وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي الْآيَةِ التَّعْبِيرَ عَنْ فِعْلِ الْخَلْقِ إِلَى فِعْلِ الْجَعْلِ الْمُتَعَدِّي بِ (فِي) بِمَعْنَى الْوَضْعِ.
وَالْقَرَارُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ قَرَّ إِذَا ثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَقَدْ سُمِّيَ بِهِ هُنَا الْمَكَانُ نَفْسُهُ.
وَالْمَكِينُ: الثَّابِتُ فِي الْمَكَانِ بِحَيْثُ لَا يُقْلِعُ مِنْ مَكَانِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُوصَفَ بِالْمَكِينِ الشَّيْءُ الْحَالُّ فِي الْمَكَانِ الثَّابِتُ فِيهِ. وَقَدْ وَقَعَ هُنَا وَصْفًا لِنَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ فِيهِ النُّطْفَةُ، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِلْمُبَالَغَةِ، وَحَقِيقَتُهُ مَكِينٌ حَالُّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٧] وَقَوْلُهُ:
فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٥].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدَمُ. وَقَالَ بِذَلِكَ قَتَادَةُ فَتَكُونُ السُّلَالَةُ الطِّينَةُ الْخَاصَّةُ الَّتِي كَوَّنَ اللَّهُ مِنْهَا آدَمَ وَهِيَ الصَّلْصَالُ الَّذِي مَيَّزَهُ مِنَ الطِّينِ فِي مَبْدَأِ الْخَلِيقَةِ، فَتِلْكَ الطِّينَةُ مَسْلُولَةٌ سَلًّا خَاصًّا مِنَ الطِّينِ لِيَتَكَوَّنَ مِنْهَا حَيٌّ، وَعَلَيْهِ فَضَمِيرُ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَسْلًا لِآدَمَ فَيَكُونُ فِي الضَّمِيرِ اسْتِخْدَامٌ، وَيَكُونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السَّجْدَة: ٧، ٨].
وَحَرْفُ (ثُمَّ) فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ إِذْ كَانَ خَلْقُ النُّطْفَةِ عَلَقَةً أَعْجَبَ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَة إِذْ قد صَيَّرَ الْمَاءَ السَّائِلَ دَمًا جَامِدًا فَتَغَيَّرَ بِالْكَثَافَةِ وَتَبَدَّلَ اللَّوْنُ مِنْ عَوَامِلَ أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الرَّحِمِ.
وَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيِّ تَسْمِيَةُ هَذَا الْكَائِنِ بِاسْمِ الْعَلَقَةِ فَإِنَّهُ وَضْعٌ بَدِيعٌ لِهَذَا الِاسْمِ إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَالَتْ
اسْتُعْمِلَ فِي مَجَازِهِ فَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي وُصُولِ الْخَيْرِ وَالْوَعْدِ وَالنَّصْرِ وَالشَّيْءِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ [النِّسَاء: ١٧٤] وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: ١]،
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «... مَرْحَبًا بِهِ وَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ»
، وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١]، وَقَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْفِعْلِ ذَا وَجْهَيْنِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ فَيُطْلَقُ كِلَا الْفِعْلَيْنِ نَحْوَ حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ [هود: ٤٠]، فَإِنَّ الْأَمْرَ هَنَا مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى كَوْنِهِ تَأْيِيدًا نَافِعًا لِنُوحٍ.
وَالتَّفْسِيرُ: الْبَيَانُ وَالْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُفَصَّلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكِتَابِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كَشْفُ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَحْسَنَ، أَنَّهُ أَحَقُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ، فَالتَّفْضِيلُ لِلْمُبَالَغَةِ إِذْ لَيْسَ فِي حُجَّتِهِمْ حُسْنٌ أَوْ يُرَادُ بِالْحُسْنِ مَا يَبْدُو مِنْ بَهْرَجَةِ سَفْسَطَتِهِمْ وَشُبَهِهِمْ فَيَجِيءُ الْكَشْفُ عَنِ الْحَقِّ أَحْسَنَ وَقْعًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ مِنْ مُغَالَطَاتِهِمْ، فَيَكُونُ التَّفْضِيلُ بِهَذَا الْوَجْهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَهَذِهِ نُكْتَةٌ مِنْ دَقَائِقِ الِاسْتِعْمَالِ ودقائق التَّنْزِيل.
[٣٤]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٤]
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ وَذَمِّهِمْ.
وَالْمَوْصُولُ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِتَحْصِيلِ فَائِدَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الضَّمِيرِ ثَبَتَ لَهُمْ مَضْمُونُ الصِّلَةِ، وَلِيَبْنِيَ عَلَى الصِّلَةِ مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمُقْتَضَى ظَاهِرِ النَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، هُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وَنَحْشُرُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٩٧] وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاء: ٩٤] وَيُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَنَّ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِالْأَمْثَالِ تَكْذِيبًا
وَجُمْلَةُ بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ وَهُوَ آخِرُ دَرَجَاتِ الِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ عُمْيَانٌ عَنْ شَأْنِ الْآخِرَةِ.
وعَمُونَ: جَمْعُ عَمٍ بِالتَّنْوِينِ وَهُوَ فَعِلٌ مِنَ الْعَمَى، صَاغُوا لَهُ مِثَالَ الْمُبَالَغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شِدَّةِ الْعَمَى، وَهُوَ تَشْبِيهُ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَمَى، وَعَادِمُ الْعِلْمِ بِالْأَعْمَى. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
فَشَبَّهَ ضَلَالَهُمْ عَنِ الْبَعْثِ بِالْعَمَى فِي عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْمَطْلُوبِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ مِنْها عَمُونَ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، جَعَلَ عَمَاهُمْ وَضَلَالَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْآخِرَة كَأَنَّهُ ناشىء لَهُمْ مِنَ الْآخِرَةِ إِذْ هِيَ سَبَبُ عَمَاهُمْ، أَيْ إِنْكَارُهَا سَبَبُ ضَلَالِهِمْ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْ إِنْكَارِ وَجُودِهَا عَمُونِ، فَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِ عَمُونَ.
وَقُدِّمَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ. وَصِيغَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الثَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.
وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتِ الثَّلَاثَةِ تَرْتِيبٌ لِتَنْزِيلِ أَحْوَالِهِمْ فَوُصِفُوا أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ الْبَعْثِ ثُمَّ بِأَنَّهُمْ تَلَقَّفُوا فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْث من شؤونها عِلْمًا مُضْطَرِبًا أَوْ جَهْلًا فَخَبَطُوا فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، فَأَعْقَبَهُمْ عَمًى وَضَلَالَةٌ بِحَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الِانْتِقَالَاتِ مُنْدَرِجَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ حَتَّى لَوْ قِيلَ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا فَهُمْ مِنْهَا
عَمُونَ لَحَصَلَ الْمُرَادُ. وَلَكِنْ جَاءَتْ طَرِيقَةُ التَّدَرُّجِ بِالْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ أَجْزَلَ وَأَبْهَجَ وَأَرْوَعَ وَأَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِه الْأَحْوَال المترتبة جَدِيرٌ بِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمُعْتَبِرُ بِاسْتِقْلَالِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهَذَا الْبَيَانُ هُوَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ادَّارَكَ مِنْ خَفَاءِ تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ الْإِضْرَابِ الْأَوَّلِ.
وَضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي قَوْلِهِ يَشْعُرُونَ، ويُبْعَثُونَ، عِلْمُهُمْ، هُمْ فِي شَكٍّ، هُمْ مِنْها عَمُونَ عَائِدَةٌ إِلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.
ثُمَّ يُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ. وَقُصِدَ مِنْهَا أَيْضًا تَهْوِينُ مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَذَى فِي اللَّهِ وَلَوْ بَلَغَ إِلَى الْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ الْخَالِدِ، وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ يَتَرَقَّبُهُمْ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تُرْجَعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
[العنكبوت: ٥٦]. وَقَرَأَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ:
يَغْشاهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: ٥٥].
[٥٨- ٥٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : الْآيَات ٥٨ إِلَى ٥٩]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ [العنكبوت: ٥٢].
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَر، أَي نبوّئنهم غُرَفًا لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ.
وَالتَّبْوِئَةُ: الْإِنْزَالُ وَالْإِسْكَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٣]. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ بِمُوَحَّدَةٍ بَعْدَ نُونِ الْعَظَمَةِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الْوَاوِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ: لَنُثَوِّيَنَّهُمْ بِمُثَلَّثَةٍ بَعْدَ النُّونِ وَتَحْتِيَّةٍ بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ أَثْوَاهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ إِذَا جَعَلَهُ ثَاوِيًا، أَيْ مُقِيمًا فِي مَكَانٍ.
وَالْغُرَفُ: جَمْعُ غُرْفَةٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْمُعْتَلَى عَلَى غَيْرِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٥].
وَجُمْلَةُ: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ إِلَخْ... إِنْشَاءُ ثَنَاءٍ وَتَعْجِيبٍ عَلَى الْأَجْرِ الَّذِي أُعْطُوهُ، فَلِذَلِكَ قُطِعَتْ عَنِ الْعَطْفِ. وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ صَبَرُوا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ اتِّبَاعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: هُمُ
فَالْإِسْلَامُ: يَجْمَعُ قَوَاعِدَ الدِّينِ الْخَمْسَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي هِيَ أَعْمَالٌ، وَالْإِيمَانُ يَجْمَعُ الِاعْتِقَادَاتِ الْقَلْبِيَّةَ الْمَفْرُوضَةَ وَهُوَ شَرْطُ أَعْمَالِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٧].
وَالْقُنُوتُ: يَجْمَعُ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا مَفْرُوضَهَا وَمَسْنُونَهَا، وَتَرْكَ الْمَنْهِيَّاتِ وَالْإِقْلَاعَ عَنْهَا مِمَّنْ هُوَ مُرْتَكِبُهَا، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْبَةِ، فَالْقُنُوتُ هُوَ تَمَامُ الطَّاعَةِ، فَهُوَ مُسَاوٍ لِلتَّقْوَى. فَهَذِهِ جَوَامِعُ شَرَائِعِ الْمُكَلَّفِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ.
وَالصِّدْقُ: يَجْمَعُ كُلَّ عَمَلٍ هُوَ مِنْ مُوَافَقَةِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ لِلْوَاقِعِ فِي الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالْعُقُودِ وَالِالْتِزَامَاتِ وَفِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْوَفَاءِ بِهَا وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَمُطَابَقَةِ الظَّاهِرِ لِلْبَاطِنِ فِي الْمَرَاتِبِ كُلِّهَا. وَمِنَ الصِّدْقِ صِدْقُ الْأَفْعَالِ.
وَالصَّبْرُ: جَامِعٌ لِمَا يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ مِنَ الْأَعْمَالِ كَالْجِهَادِ وَالْحِسْبَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمُنَاصَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَحَمُّلِ الْأَذَى فِي اللَّهِ، وَهُوَ خُلُقٌ عَظِيمٌ هُوَ مِفْتَاحُ أَبْوَابِ مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ.
وَالْخُشُوعُ: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ وَالظَّاهِرِ، وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَتَجَنُّبُ الْمعاصِي، وَيدخل فِيهِ الْإِحْسَانِ وَهُوَ الْمُفَسَّرُ
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
. وَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَلِكَ جَمِيعُ الْقُرَبِ النَّوَافِل فَإِنَّهَا مِنْ آثَارِ الْخُشُوعِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّوْبَةُ مِمَّا اقْتَرَفَهُ الْمَرْءُ مِنَ الْكَبَائِرِ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُشُوعُ بِدُونِهَا.
وَالتَّصَدُّقُ: يَحْتَوِي جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّدَقَاتِ والْعَطِيَّاتِ وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِرْفَاقِ.
وَالصَّوْمُ: عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، فَلِذَلِكَ خُصِّصَتْ بِالذِّكْرِ مِعَ أَنَّ الْفَرْضَ مِنْهُ مَشْمُولٌ لِلْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَيَفِي صَوْمَ النَّافِلَةِ، فَالتَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الصَّوْمِ تَنْوِيهٌ بِهِ.
وَفِي الحَدِيث «قَالَ الله تَعَالَى: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
وَحِفْظُ الْفُرُوجِ: أُرِيدَ بِهِ حِفْظُهَا عَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِحِفْظِهَا عَنْهُ، وَقَدِ انْدَرَجَ فِي هَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا وَمَا هُوَ وَسِيلَةٌ لَهَا.
وَذِكْرُ اللَّهِ كَمَا عَلِمْتَ لَهُ مُحَمَلَانِ:
والْقَدِيمِ: هُوَ الْبَالِي لِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ الثَّمر تقوس واصفار وَتَضَاءَلَ فَأَشْبَهَ صُورَةَ مَا يُوَاجِهُ الْأَرْضَ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ فِي آخِرِ لَيَالِي الشَّهْرِ وَفِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْهُ، وَتَرْكِيبُ عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ صَالِحٌ لِصُورَةِ الْقَمَرِ فِي اللَّيْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الَّتِي يَعْقُبُهَا الْمُحَاقُ وَلِصُورَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنَ الشَّهْرِ هُوَ الْهِلَالُ. وَقَدْ بَسَّطَ لَهُمْ بَيَانُ سَيْرِ الْقَمَرِ وَمَنَازِلِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتْقِنُونَ عِلْمَهُ بِخِلَافِ سير الشَّمْس.
[٤٠]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٤٠]
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي مَعْرِضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَعَلَى صِفَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الَّتِي مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهَا تَعَلُّقُ صِفَةِ الْقُدْرَةِ بِآيَةِ الشَّمْسِ وَسَيْرِهَا، وَالْقَمَرِ وَسَيْرِهِ، وَقَدْ سَمَّاهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَكَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ تَقَارُبَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِيمَا يَرَاهُ الرَّاءُونَ، وَكَانُوا يُقَدِّرُونَ سَيْرَهُمَا بِأَسْمَاتٍ مُعَلَّمَةٍ بِعَلَامَاتٍ نُجُومِيَّةٍ تُسَمَّى بُرُوجًا بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الشَّمْسِ، وَتُسَمَّى مُنَازِلَ بِالنِّسْبَةِ لِسَيْرِ الْقَمَرِ، وَكَانُوا يَعْلَمُونَ شِدَّةَ قُرْبِ الْمَنَازِلِ الْقَمَرِيَّةِ مِنَ الْبُرُوجِ الشَّمْسِيَّةِ فَإِنَّ كُلَّ بُرْجٍ تُسَامِتُهُ مَنْزِلَتَانِ أَوْ ثَلَاثَ مَنَازِلَ، وَبَعْضُ نُجُومِ الْمَنَازِلِ هِيَ أَجْزَاءٌ مِنْ نُجُومِ الْبُرُوجِ، زَادَهُمُ اللَّهُ عِبْرَةً وَتَعْلِيمًا بِأَنَّ لِلشَّمْسِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الْقَمَرِ، وَلِلْقَمَرِ سَيْرًا لَا يُلَاقِي سَيْرَ الشَّمْسِ وَلَا يَمُرُّ أَحَدُهُمَا بِطَرَائِقِ مَسِيرِ الْآخَرِ وَأَنَّ مَا يَتَرَاءَى للنَّاس من مُشَاهدَة الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي جَوٍّ وَاحِدٍ وَفِي حَجْمَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، وَمَا يَتَرَاءَى لَهُمْ مِنْ تَقَارُبِ نُجُومِ بُرُوجِ الشَّمْسِ وَنُجُومِ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، إِنْ هُوَ إِلَّا مِنْ تَخَيُّلَاتِ الْأَبْصَارِ وَتَفَاوُتِ الْمَقَادِيرِ بَيْنَ الْأَجْرَامِ وَالْأَبْعَادِ.
فَالْكُرَةُ الْعَظِيمَةُ كَالشَّمْسِ تَبْدُو مُقَارِبَةً لِكُرَةِ الْقَمَرِ فِي الْمَرْأَى وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ تَبَاعُدِ
الْأَبْعَادِ فَأَبْعَادُ فَلَكِ الشَّمْسِ تَفُوتُ أَبْعَادَ فَلَكِ الْقَمَرِ بِمِئَاتِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْأَمْيَالِ، حَتَّى يَلُوحَ لَنَا حَجْمُ الشَّمْسِ مُقَارِبًا لِحَجْمِ الْقَمَرِ. فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ نَظَّمَ سَيْرَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ عَلَى نِظَامٍ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ اتِّصَالُ إِحْدَى الْكُرَتَيْنِ بِالْأُخْرَى لِشِدَّةِ الْأَبْعَادِ بَيْنَ مَدَارَيْهِمَا.

[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤٢]

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
يَصْلُحُ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَثَلًا لِحَالِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ وَهُدَى الْمُهْتَدِينَ نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ:
فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: ٤١].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتِمْرَارَ الضَّالِّ عَلَى ضَلَالِهِ قَدْ يَحْصُلُ بَعْدَهُ اهْتِدَاءٌ وَقَدْ يُوَافِيهِ أَجَلُهُ وَهُوَ فِي ضَلَالِهِ فَضَرَبَ الْمَثَلَ لِذَلِكَ بِنَوْمِ النَّائِمِ قَدْ تَعْقُبُهُ إِفَاقَةٌ وَقَدْ يَمُوتُ النَّائِمُ فِي نَوْمِهِ، وَهَذَا تَهْوِينٌ عَلَى نَفْسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجَاءِ إِيمَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي ضَلَالٍ وَشِرْكٍ كَمَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ. فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا وَلَهَا اتِّصَالٌ بِقَوْلِهِ: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر: ٢٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالًا إِلَى اسْتِدْلَالٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ الذَّوَاتِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِلَى قَوْلِهِ: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ [الزمر: ٥، ٦]، ثُمَّ دَلِيلَ التَّصَرُّفِ بِخَلْقِ أَحْوَالِ ذَوَاتٍ وَإِنْشَاءِ ذَوَاتٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر: ٢١] وَأَعْقَبَ كُلَّ دَلِيلٍ بِمَا يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُهُ مِنَ الْمَوْعِظَةِ وَالْعِبْرَةِ وَالزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَاهُ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةٍ عَجِيبَةٍ مِنْ أَحْوَالِ أَنْفُسِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ حَالَةُ الْمَوْتِ وَحَالَةُ النَّوْمِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَهَذَا دَلِيلٌ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] وَقَالَ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِلتَّدَرُّجِ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَلَهَا اتِّصَالٌ بِجُمْلَةِ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ أَفَادَتِ الْآيَةُ إِبْرَازَ حَقِيقَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ نَوَامِيسِ الْحَيَاتَيْنِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ تَخْصِيصِهِ بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ، أَيِ اللَّهُ يَتَوَفَّى لَا غَيْرُهُ فَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ لِإِظْهَارِ فَسَادِ أَنْ أَشْرَكُوا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٢- سُورَةُ الشُّورَى
اشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ حم عسق، وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ»، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ الشُّورَى» بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ كَمَا قَالُوا «سُورَةَ الْمُؤْمِنِ»، وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَالتَّفَاسِيرِ، وَرُبَّمَا قَالُوا «سُورَةَ شُورَى» بِدُونِ أَلْفٍ وَلَامٍ حِكَايَةً لِلَفْظِ الْقُرْآنِ.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ عسق» بِدُونِ لَفْظِ حم لِقَصْدِ الِاخْتِصَارِ. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ ذَاتِ الِاسْمَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَلَمْ يَثْبُتْ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ فِي تَسْمِيَتِهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعَدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَصَّارِ فِي كِتَابِهِ فِي «النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ» كَمَا عَزَاهُ إِلَيْهِ فِي «الْإِتْقَانِ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ اسْتِثْنَاءُ أَرْبَعِ آيَاتٍ أُولَاهَا قَوْلُهُ قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: ٢٣] إِلَى آخِرِ الْأَرْبَعِ الْآيَاتِ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى قَوْلِهِ:
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الشورى: ٢٣، ٢٤]. رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَنْصَارِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي
وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَإِذْ لَمْ تَحْصُلُ هِدَايَتُهُمْ بِالْقُرْآنِ فِيمَا مَضَى فَسَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا هُوَ إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَا مَطْمَعَ فِي إِقْلَاعِهِمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَلَمَّا كَانَتْ إِذْ ظَرْفًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَأُضِيفَتْ هُنَا إِلَى جُمْلَةٍ وَاقِعَةٍ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي كَمَا يَقْتَضِيهِ النَّفْيُ بِحَرْفِ لَمْ تَعَيَّنَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ أَنَّهُمْ يَقُولُونَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَصَارِيفِ أَقْوَالِهِمُ الضَّالَّةِ الْمَحْكِيَّةِ عَنْهُمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، فَمَعْنَى فَسَيَقُولُونَ سَيَدُومُونَ عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
فَالِاسْتِقْبَالُ زَمَنٌ لِلدَّوَامِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَتَكْرِيرِهَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الزخرف: ٢٧] فَإِنَّهُ قَدْ هَدَاهُ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَرَادَ سَيُدِيمُ هِدَايَتَهُ إِيَّايَ. فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِخْبَارَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُم فَسَيَقُولُونَ هَذَا وَلَمْ يَقُولُوهُ فِي الْمَاضِي إِذْ لَيْسَ لِهَذَا الْإِخْبَارِ طَائِلٌ. وَإِذْ قَدْ حُكِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا مَا يُرَادِفُ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّهُمْ لَا يُقْلِعُونَ عَنْهُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ إِذْ.
وَحَيْثُ قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَامِلِهِ أُشْرِبَ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ إِشْرَابٌ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ، وَكَثِيرٌ فِي إِذْ، وَلِذَلِكَ دَخَلَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: فَسَيَقُولُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِذْ لِلتَّعْلِيلِ، وَتَتَعَلَّقُ إِذْ بِ (يَقُولُونَ) وَلَا تَمْنَعُ الْفَاءُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا عَلَى التَّحْقِيقِ. وَإِنَّمَا انْتَظَمَتِ الْجُمْلَةُ هَكَذَا لِإِفَادَةِ هَذِهِ الخصوصيات البلاغية، فالوا وللعطف وَالْمَعْطُوفُ فِي مَعْنَى شَرْطٍ وَالْفَاءُ لِجَوَابِ الشَّرْطِ. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: وَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ!
وَهَذَا التَّفْسِيرُ جَارٍ عَلَى مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي «الْأَمَالِي» دُونَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ»، فَإِنَّهُ تَكَلَّفَ لَهُ تَكَلُّفًا غير شاف.
وَالدَّوَاعِي لِلْمَقَالَةِ، إِذْ جَمِيعُهُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ، وَأَنَّ طُغْيَانَهُمْ وَكِبْرِيَاءَهُمْ يَصُدُّهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ رَسُولٍ يَحْسَبُونَ أَنْفُسَهُمْ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَإِذْ لَا يَجِدُونَ وَصْمَةً يَصِمُونَهُ بِهَا اخْتَلَقُوا لِتَنْقِيصِهِ عِلَلًا لَا تدخل تَحت الضَّبْط وَهِيَ ادِّعَاءُ أَنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ أَنَّهُ سَاحِرٌ، فَاسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ بِعِلَّةِ اسْتِوَائِهِمْ فِي أَسبَابه ومعاذيره.
فَضَمِيرُ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَتَواصَوْا.
وَفِي إِقْحَامِ كَلِمَةِ قَوْمٌ إِيذَانٌ بِأَنَّ الطُّغْيَانَ رَاسِخٌ فِي نُفُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٦٤].
[٥٤، ٥٥]
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٥]
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ [الذاريات: ٥٢، ٥٣] لَمُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ أَنْ تُقْنِعَهُمُ الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ، أَيْ أَعْرِضْ عَنِ الْإِلْحَاحِ فِي جِدَالِهِمْ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَيَغْتَمُّ مِنْ أَجْلِ عِنَادِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَكَانَ اللَّهُ يُعَاوِدُ تَسْلِيَتَهُ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ كَمَا قَالَ:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦] وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا
يَمْكُرُونَ
[النَّحْل: ١٢٧]، فَالتَّوَلِّي مُرَادٌ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بَعْدَ أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِدَعْوَتِهِمْ وَجِدَالِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ قَالَ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [١٧٤- ١٧٥].
وَفَرَّعَ عَلَى أَمْرِهِ بِالتَّوَلِّي عَنْهُمْ إِخْبَارَهُ بِأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَصِيغَ الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ: لَا نَلُومُكَ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْيِ.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ مُسْنَدًا إِلَيْهِ فَقَالَ: فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَلَا
وَجُمْلَةُ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ تَتْمِيمٌ لِجُمْلَةِ ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَيْ:
ذَلِكَ الْحُكْمُ وَهُوَ إِبْطَالُ التَّحْرِيمِ بِالظِّهَارِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ سُنَّةُ قَوْمٍ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَلَى الْكُفْرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ، فَالظِّهَارُ شَرْعُ الْجَاهِلِيَّةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التَّوْبَة: ٣٧]، لِأَنَّهُ وَضَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ.
[٥]
[سُورَة المجادلة (٥٨) : آيَة ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْكَافِرِينَ وَجَرَى ذِكْرُ حُدُودِ اللَّهِ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ مُنَافِقُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَقَلَ الْكَلَامَ إِلَى تَهْدِيدِهِمْ وَإِيقَاظِ الْمُسْلِمِينَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْهُمْ.
وَالْمُحَادَّةُ: الْمَشَاقَّةُ وَالْمُعَادَاةُ، وَقَدْ أُوثِرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِوُقُوعِ الْكَلَامِ عَقِبَ ذِكْرِ حُدُودِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُحَادَّةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحَدِّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ كَأَنَّهُ فِي حَدٍّ مُخَالِفٍ لِحَدِّ الْآخَرِ، مِثْلَ مَا قِيلَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ عُدْوَةِ الْوَادِي لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَعَادِيَيْنِ يُشْبِهُ مَنْ هُوَ مِنَ الْآخَرِ فِي عُدْوَةٍ أُخْرَى.
وَقِيلَ: اشْتُقَّتِ الْمُشَاقَّةُ مِنَ الشُّقَّةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَخَالِفَيْنِ كَأَنَّهُ فِي شُقَّةٍ غَيْرِ شُقَّةِ الْآخَرِ.
وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يُحَادُّونَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرْسَلَ بِدِينِ اللَّهِ فَمُحَادَّتُهُ مُحَادَّةٌ لِلَّهِ.
وَالْكَبْتُ: الْخِزْيُ وَالْإِذْلَالُ وَفِعْلُ كُبِتُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ أَيْ سَيُكْبَتُونَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ لِصُدُورِهِ عَمَّنْ لَا خِلَافَ فِي خَبَرِهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] وَلِأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ بِتَنْظِيرِهِ بِمَا وَقَعَ لِأَمْثَالِهِمْ. وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَوْ كَانَ إِخْبَارًا عَنْ كَبْتٍ وَقَعَ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُقْتَضَى لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ إِذْ لَا يُنَازِعُ أَحَدٌ فِيمَا وَقَعَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا قَوْلُهُ: كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي الَّذِينَ حَادُّوا اللَّهَ فِي
غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ. وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهَا فَالْمُرَادُ بِصِلَةِ مِنْ قَبْلِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ.
الْآيَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ النَّارَ مَوْجُودَةٌ أَوْ تُوجَدُ يَوْمَ الْجَزَاءِ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى فَرْضِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَأْوِيلُ بَعْضِ الْآيَات وَالْأَحَادِيث.
[٦]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٦]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)
هَذَا تَتْمِيمٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لِلشَّيَاطِينِ خَاصَّةً، وَالْمَعْنَى: وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ عَذَابُ جَهَنَّمَ فَالْمُرَادُ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَجْلِ مَا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ غَايَرَتِ الْجُمْلَةَ الَّتِي قَبْلَهَا فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ عَلَيْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِلْاهْتِمَامِ بِتَعَلُّقِهِ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُبَادَرَةِ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَالٌ أَوْ مُعْتَرِضَةٌ لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ وَحُذِفَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَ بِئْسَ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ عَذَابُ جَهَنَّمَ.
وَالْمَعْنَى: بِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيرًا لِلَّذِينِ كَفَرُوا.
[٧- ٩]
[سُورَة الْملك (٦٧) : الْآيَات ٧ الى ٩]
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ.
الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ ذَمِّ مَصِيرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ، أَيْ مِنْ جُمْلَةِ مَذَامِّ مَصِيرِهِمْ مَذَمَّةَ مَا يَسْمَعُونَهُ فِيهَا مِنْ أَصْوَاتٍ مُؤْلِمَةٍ مُخِيفَةٍ.
وإِذا ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ سَمِعُوا يَدُلُّ عَلَى الْاقْتِرَانِ بَيْنَ زَمَنِ الْإِلْقَاءِ وَزَمَنِ سَمَاعِ الشَّهِيقِ.
وَالشَّهِيقُ: تَرَدُّدُ الأنفاس فِي الْمصدر لَا تَسْتَطِيعُ الصُّعُودَ لِبُكَاءٍ وَنَحْوِهِ أُطْلِقَ عَلَى صَوْتِ الْتِهَابِ نَارِ جَهَنَّمَ الشَّهِيقُ تَفْظِيعًا لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سَمِعُوا لَها يَقْتَضِي أَنَّ الشَّهِيقَ شَهِيقُهَا لِأَنَّ أَصْلَ الْلَّامِ أَنْ تَكُونَ لِشِبْهِ الْمِلْكِ.
وَجُمْلَةُ وَهِيَ تَفُورُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فِيها وَتَفُورُ: تَغْلِي وَتَرْتَفِعُ أَلْسِنَةُ لَهِيبِهَا.
لِلْعِلْمِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١]، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْوَصْفُ بِاسْمِ الْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ إِذِ التَّقْدِيرُ: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ.
فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّبْعِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ: زُحَلُ، وَالْمُشْتَرِي، وَالْمِرِّيخُ، وَالشَّمْسُ، وَالزُّهْرَةُ، وَعُطَارِدُ، وَالْقَمَرُ. وَهَذَا تَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ ارْتِفَاعِ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ خُسُوفُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حِينِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الَّتِي تَكْتَسِبُ بَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ النُّورَ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ.
وَهَذَا الْمَحْمَلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّ الْعبْرَة بهَا أظهر لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَرَوْنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَيَرَوْنَ هَذِهِ السَّيَّارَاتِ وَيَعْهَدُونَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ السَّيَّارَاتِ الَّتِي اكْتَشَفَهَا عُلَمَاءُ الْفَلَكِ مِنْ بَعْدُ. وَهِي (ستّورن) و (نبتون) و (أورانوس) وَهِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: ١٤] وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا وَصِدْقًا وَيُقَرِّبُ لِلنَّاسِ الْمَعَانِيَ بِقَدْرِ أَفْهَامِهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ.
فَأَمَّا الْأَرْضُ فَقَدْ عُدَّتْ أَخِيرًا فِي الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَحُذِفَ الْقَمَرُ مِنَ الْكَوَاكِبِ لِتَبَيُّنِ أَنَّ حَرَكَتَهُ تَابِعَةٌ لِحَرَكَةِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ هَذَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَقَعَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مُسَلَّمٌ يَوْمَئِذٍ وَالْكُلُّ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاوَاتِ السَّبْعِ طَبَقَاتٌ عُلْوِيَّةٌ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدِ اقْتَنَعَ النَّاسُ مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهَا سَبْعُ سَمَاوَاتٍ.
وَشِدَادٌ: جَمْعُ شَدِيدَةٍ، وَهِيَ الْمَوْصُوفَةُ بِالشِّدَّةِ، وَالشِّدَّةُ: الْقُوَّةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مَتِينَةُ الْخَلْقِ قَوِيَّةُ الْأَجْرَامِ لَا يَخْتَلُّ أَمْرُهَا وَلَا تَنْقُصُ عَلَى مرّ الْأَزْمَان.
[١٣]
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١٣]
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣)
ذِكْرُ السَّمَاوَاتِ يُنَاسِبُهُ ذِكْرُ أَعْظَمِ مَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ فِي فَضَائِهَا وَذَلِكَ الشَّمْسُ، فَفِي ذَلِكَ مَعَ الْعِبْرَةِ بِخَلْقِهَا عِبْرَةٌ فِي كَوْنِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَمِنَّةٌ عَلَى النَّاسِ بِاسْتِفَادَتِهِمْ مِنْ
نُورِهَا فَوَائِدَ جَمَّةً.


الصفحة التالية
Icon