فَذَلِكَ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

اسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انخدعا
وَفِي حَدِيث «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»
أَيْ مِنْ صِفَاتِهِ الصَّفْحُ وَالتَّغَاضِي حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ غِرٌّ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِكَرِيمٍ لِدَفْعِ الْغَرِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالْبَلَهِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ الْفِطْنَةَ لِأَنَّ أُصُولَ اعْتِقَادِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَبْذِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَضْلِيلُ الرَّأْيِ وَطَمْسُ الْبَصِيرَةِ أَلَا تَرَى إِلَى
قَوْلِهِ: «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»
مَعَ
قَوْلِهِ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»
، وَكُلُّهَا تُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْبَلَهُ وَأَمَّا مَعْنَى
«الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»
فَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا زَكَتْ نَفْسُهُ عَنْ ضَمَائِرِ
الشَّرِّ وَخُطُورِهَا بِبَالِهِ وَحَمْلِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ حَالَةُ اسْتِئْمَانٍ تُشْبِهُ الْغِرِّيَّةَ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تِلْكَ الْفَتَاةُ الَّتِي عَلِقْتُهَا عَرْضًا إِنَّ الْحَلِيمَ وَذَا الْإِسْلَامِ يَخْتَلِبُ
فَاعْتَذَرَ عَنْ سُرْعَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا وَاخْتِلَابِهَا عَقْلِهِ بِكَرَمِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَوْدَةِ الرَّأْيِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَرِيعَ التَّأَثُّرِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَصَدُوا التَّمْوِيهَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُهُمْ بِخِدَاعٍ، وَكَذَلِكَ صُدُورُ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومِ الْفِعْلِ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِعْلُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا قَصْدُ الْمُنَافِقِينَ تَعَلُّقِهِ بِمُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ كُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَأْوِيلًا فِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ الدَّالُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ يُخادِعُونَ أَوْ فِي فَاعِلِهِ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ.
فَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي يُخادِعُونَ فَعَلَى وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ مَفْعُولَ خَادَعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُخَادِعِ- بِالْكَسْرِ- إِذْ قَدْ يَقْصِدُ خِدَاعَ أَحَدٍ فَيُصَادِفُ غَيْرَهُ كَمَا يُخَادِعُ أَحَدٌ وَكِيلَ أَحَدٍ فِي مَالٍ فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ تُخَادِعُ فُلَانًا وَفُلَانًا تَعْنِي الْوَكِيلَ وَمُوَكِّلَهُ، فَهُمْ قَصَدُوا خِدَاعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَتْ مُخَادَعَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ كَانَ خِدَاعُهُمْ رَاجِعًا لِشَارِعِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَعْنَى خِدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فَهُوَ إِغْضَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بِوَادِرِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسُنِهِمْ وَكَبَوَاتِ أَفْعَالِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمُ الدَّالُّ جَمِيعُهَا عَلَى نِفَاقِهِمْ حَتَّى لَمْ يَزَالُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَقَدْ نَهَى

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٠٨ إِلَى ٢٠٩]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩)
اسْتِئْنَافٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ انتهازا للفرصة بالدعوة إِلَى الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ، وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِهِ عَقِبَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَقْسِيمِ النَّاسِ تُجَاهَ الدِّينِ مَرَاتِبَ، أَعْلَاهَا مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢٠٧] لِأَنَّ النَّفْسَ أَغْلَى مَا يُبْذَلُ، وَأَقَلَّهَا مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [الْبَقَرَة: ٢٠٤] أَيْ يُضْمِرُ الْكَيْدَ وَيُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ مَا فِيهِ نَفْعُ الْجَمِيعِ وَهُوَ خَيْرَاتُ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَدَى عَلَى قَوْمٍ مُسَالِمِينَ فَنَاسَبَ بعد ذَلِك أَنْ يُدْعَى النَّاسُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السِّلْمِ وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ تَقْوَى وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَعْنَى طَلَبِ الدُّخُولِ فِي السِّلْمِ.
وَالْخِطَابُ بِيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا الْعُنْوَانِ، وَلِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْصُولِ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْعَهْدِ.
وَ (الدُّخُولُ) حَقِيقَتُهُ نُفُوذُ الْجِسْمِ فِي جِسْمٍ أَوْ مَكَانٍ مُحَوَّطٍ كَالْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا مَشْهُورًا عَلَى حُلُولِ الْمَكَانِ الْوَاسِعِ يُقَالُ دَخَلَ بِلَادَ بَنِي أَسَدٍ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلِاتِّبَاعِ وَالِالْتِزَامِ وَشِدَّةِ التَّلَبُّس بِالْفِعْلِ.
و (السّلم) بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَقَرَأَ بَاقِي الْعَشَرَةِ بِكَسْرِ السِّينِ، وَيُقَالُ سَلَمٌ بِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاء: ٩٤] وَحَقِيقَةُ السِّلْمِ الصُّلْحُ وَتَرْكُ الْحَرْبِ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُزَعُ
وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِهِمْ وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَقَدْ قُلْتُمَا إِنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا بِكَسْرِ السِّينِ وَاشْتِقَاقِهِ مِنَ السَّلَامَةِ وَهِيَ النَّجَاةُ مَنْ أَلَمٍ أَوْ ضُرٍّ أَوْ عِنَادٍ يُقَالُ أَسْلَمَ نَفْسَهُ لِفُلَانٍ أَيْ أَعْطَاهُ إِيَّاهَا بِدُونِ مُقَاوَمَةٍ، وَاسْتَسْلَمَ طَلَبَ السِّلْمِ أَيْ تَرَكَ الْمُقَاوَمَةَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: أَسِلْمٌ
اللَّهُ:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧] الْآيَةَ فَحَجَّ الْمُسْلِمُونَ وَقَعَدَ الْكُفَّارُ». ثُمَّ تَمَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَبْطَلَتْ دَعَاوَى الْفِرَقِ الثَّلَاثِ.
وَالْحَنِيفُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥].
وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَفَادَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ نَفْيِ الضِّدِّ حَصْرًا لِحَالِ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا يُوَافِقُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ حَنِيفًا بِقَوْلِهِ: مُسْلِماً لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مَعْنَى الْحَنِيفِيَّةِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْحَنِيفِيَّةُ، وَقَالَ: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَفَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ مُوَافَقَةَ الْيَهُودِيَّةِ،. وَمُوَافَقَةَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَمُوَافَقَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، فَثَبَتَتْ مُوَافَقَتُهُ الْإِسْلَامَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ- فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣٥] فِي مَوَاضِعَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَأَلَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَأَنَّهُ كَانَ حَنِيفًا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي كَانَ جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْقِي شَكًّا فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ إِسْلَامُ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمرَان: ٢٠] الْأُصُولَ الدَّاخِلَةَ تَحْتَ مَعْنَى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فَلْنَفْرِضْهَا فِي مَعْنَى قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَام: ٧٩] فَقَدْ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بِالتَّوْحِيدِ، وَأَعْلَنَهُ إِعْلَانًا لَمْ يَتْرُكْ لِلشِّرْكِ مَسْلَكًا إِلَى نُفُوسِ الْغَافِلِينَ، وَأَقَامَ هَيْكَلًا وَهُوَ الْكَعْبَةُ، أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ،- وَفَرَضَ حَجَّهُ عَلَى النَّاسِ: ارْتِبَاطًا بِمَغْزَاهُ، وَأَعْلَنَ تَمَامَ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ
تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً [الْأَنْعَام: ٨٠] وَأَخْلَصَ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى فَقَالَ: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الْأَنْعَام: ٨١] وَتَطَلَّبَ الْهُدَى بِقَوْلِهِ: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ [الْبَقَرَة: ١٢٨]- وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا [الْبَقَرَة: ١٢٨] وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ بِيَدِهِ فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً [الْأَنْبِيَاء: ٥٨]، وَأَظْهَرَ الِانْقِطَاعَ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٨- ٨١]، وَتَصَدَّى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَصِفَاتِ اللَّهِ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨]- وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [الْأَنْعَام: ٨٣]- وَحاجَّهُ قَوْمُهُ [الْأَنْعَام: ٨٠].
الثَّالِثُ:
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَخَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُهُمَا-: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ؟ قَالَ: تَكَلَّمْ. قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَبِجَارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ- وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا- وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ (هُوَ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ وَيُقَالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الْأَسْلَمِيُّ) عَلَى زَوْجَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا
. قَالَ مَالِكٌ وَالْعَسِيفُ الْأَجِيرُ. هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُرْسَلٌ مِنْهَا اثْنَانِ فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَهِيَ مُسْنَدَةٌ فِي غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِهَا وَبِالْعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ نَسَخَ الْقُرْآنَ. يُرِيدُ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ لَدَى الصَّحَابَةِ فَلِتَوَاتُرِهِ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ. وَأَمَّا مَا بَلَغَ إِلَيْنَا وَإِلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تبلغ مبلغ متواتر، فَالْحَقُّ أَنَّ دَلِيلَ رَجْمِ الْمُحْصَنِينَ هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَسَنَتَعَرَّضُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ النُّورِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِالرَّجْمِ الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِنَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْحَبْسِ فِي الْبُيُوتِ قَائِلُونَ بِأَنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هُوَ حَدِيث قد: يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَفِيهِ (وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فَتَضَمَّنَ الْجَلْدَ، وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ لِلشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَأَوْرَدَ الْجَصَّاصُ عَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَأَنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يَرَى الْأَمْرَيْنِ، وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، فَالْحَدِيثُ بَيَّنَ الْغَايَةَ، وَأَنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ خَصَّصَهَا مِنْ قَبْلِ نُزُولِهَا. قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ الَّذِي فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ آيَةَ النِّسَاءِ مُغَيَّاةٌ، لَا يُجْدِي لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُبْهَمَةَ لَمَّا كَانَ بَيَانُهَا إِبْطَالًا لِحُكْمِ الْمُغَيَّى فَاعْتِبَارُهَا اعْتِبَارُ النَّسْخِ، وَهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إِلَّا إِيذَانٌ بِوُصُولِ غَايَةِ الْحُكْمِ الْمُرَادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ،
بِقَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٢]، وَقَالَ قَوْمُ شُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: ٨٧]، بِخِلَافِ الْيَهُودِ آمَنُوا بِرُسُلِهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ انْتَقَضُوا عَلَيْهِمْ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّقْتِيلِ إِذَا حَمَلُوهُمْ عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ مِمَّا لَا يَهْوُونَهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: فَرِيقاً كَذَّبُوا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالتَّفْصِيلِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّفْصِيلِ لِأَحْوَالِ رُسُلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَار مَا لَا قوه مِنْ قَوْمِهِمْ، وَلِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ مَفْعُولِ يَقْتُلُونَ رِعَايَةً عَلَى فَاصِلَةِ الْآيِ، فَقَدَّمَ مَفْعُولَ كَذَّبُوا لِيَكُونَ الْمَفْعُولَانِ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ. وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: يَقْتُلُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ إِبْلَاغًا فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَنَاعَةِ فَاعِلِيهَا.
وَالضَّمَائِرُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ أُمَّةٌ يَخْلُفُ بَعْضُ أَجْيَالِهَا بَعْضًا، وَأَنَّهَا رَسَخَتْ فِيهَا أَخْلَاقٌ مُتَمَاثِلَةٌ وَعَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ بِحَيْثُ يَكُونُ الْخَلَفُ مِنْهُمْ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ فَلِذَلِكَ أُسْنِدَتِ الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي عُصُورٍ مُتَفَاوِتَةٍ إِلَى ضَمَائِرِهِمْ مَعَ اخْتِلَافِ الْفَاعِلِينَ، فَإِنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ فَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا على التَّكْذِيب.
[٧١]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
عُطِفَ عَلَى قَوْله: كَذَّبُوا [الْمَائِدَة: ٧٠] ويَقْتُلُونَ [الْمَائِدَة: ٧٠] لِبَيَانِ فَسَادِ اعْتِقَادِهِمُ النَّاشِئِ عَنْهُ فَاسِدُ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنَ الْفَظَائِعِ عَنْ تَعَمُّدٍ بِغُرُورٍ، لَا عَنْ فَلْتَةٍ أَوْ ثَائِرَةِ نَفْسٍ حَتَّى يُنِيبُوا وَيَتُوبُوا. وَالضَّمَائِرُ الْبَارِزَةُ عَائِدَةٌ مِثْلُ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ كَذَّبُوا ويَقْتُلُونَ. وَظَنُّوا أَنَّ فِعْلَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ.
ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ كُفْرًا، لَكِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْكُفْرِ بِاللَّازِمِ فَلَا يُعْتَبَرُ قَائِلُهُ مُرْتَدًّا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُوقَفَ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَيْهِ قَوْلُهُ وَيَأْبَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا حكم بردّته.
[٦٠]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٦٠]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠)
عَطَفَ جُمْلَةَ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عَلَى جُمْلَةِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الْأَنْعَام: ٥٩] انْتِقَالًا مِنْ بَيَانِ سَعَةِ عِلْمِهِ إِلَى بَيَانِ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ تَعْلِيمًا لِأَوْلِيَائِهِ وَنَعْيًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَعْدَائِهِ. وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقُرْآنِ بِذِكْرِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَقِبَ ذِكْرِ دَلَائِلِهَا فِي الْآفَاقِ فَجُمِعَ ذَلِكَ هُنَا عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ مُؤْذِنٍ بِتَعْلِيمِ
صِفَاتِهِ فِي ضِمْنِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّتِهِ. وَفِي هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ صِيغَةُ قَصْرٍ لِتَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ، أَيْ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ دُونَ الْأَصْنَامِ فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ السَّابِقُ مِنْ قَوْلِهِ: لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٥٨] وَاللَّاحِقُ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الْأَنْعَام: ٦٤] وَيَقْتَضِيهِ طَرِيقُ الْقَصْرِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَالُ غَيْرَ خَاصٍّ بِالْمُشْرِكِينَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ النَّاسَ فِيهِ سَوَاءٌ.
وَالتَّوَفِّي حَقِيقَتُهُ الْإِمَاتَةُ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ مُسْتَوْفًى. وَإِطْلَاقُهُ عَلَى النَّوْمِ مُجَازٌ لِشَبَهِ النَّوْمِ بِالْمَوْتِ فِي انْقِضَاء الْإِدْرَاكِ وَالْعَمَلِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: ٤٢]. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
وَقَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هُوَ الْكَلَامُ الْمُسْتَجَابُ بِهِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ أَصْلَهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ أَيْ فَحَذَفَ الْجَارَ وسلط عَلَيْهِ فَاسْتَجابَ فَنَصَبَ مَحَلَّهُ.
وَأَرَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً لِلتَّفْسِيرِ مَعَ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَتْ تُفِيدُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ التَّأْكِيدِ، فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنِ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ، يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْكِيبُهَا مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ، وَأَعْتَضِدُ بِمَا فِي «اللِّسَانِ» مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: «إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ:) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْقَوْلِ كَانَتْ حِكَايَةً، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا (أَيُّ الْقَوْلِ) فَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ نَصَبَتْهَا وَمِثْلُهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاك شرِيف، فحت أَنَّ لِأَنَّهَا فَسَرَّتِ الْكَلَامَ. قُلْتُ: وَوُقُوعُ (أَنَّ) مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ كَثِيرٌ: فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بِإِنْصَافٍ وَجَدَ مَتَانَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي كَوْنِ (أَنَّ) تَفْسِيرِيَّةً، دُونَ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. مَعَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ غَيْرُ بَيِّنٍ.
وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّيْءِ النَّافِعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ مُرْدِفِينَ أَي يرد فهم غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ تَكُونُ الْأَلْفُ رَادِفًا لِغَيْرِهِمْ قَبْلَهُمْ.
وَالْإِرْدَافُ الِاتْبَاعُ وَالْإِلْحَاقُ فَيَكُونُ الْوَعْدُ بِأَلْفٍ وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ إِعْدَادِ نَجْدَةٍ لِلْجَيْشِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَكُونُ لَهُمْ مَدَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُمْ بِآلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَلْفٍ هَنَا مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ فَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: بِثَلاثَةِ آلافٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٤]، وَهُمْ مُرْدَفُونَ بِأَلْفَيْنِ، فَتِلْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ عَظِيمًا أَنْ يَبْعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُ ثُمَّ يُعْقِبُوهَا بِأُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ.
فَالَّذِينَ يَلْمِزُونَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ.
واللمز: الطَّعْنُ. وَتَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: ٥٨]. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ- بِضَمِّ الْمِيمِ- كَمَا قَرَأَ قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التَّوْبَة: ٥٨].
والْمُطَّوِّعِينَ أَصْلُهُ الْمُتَطَوِّعِينَ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا.
وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِجَعْلِ سَبَبِ اللَّمْزِ كَالظَّرْفِ لِلْمُسَبَّبِ.
وَعُطِفَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ وَهُمْ مِنْهُمُ، اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ والجهد- بِضَمِّ الْجِيمِ- الطَّاقَةُ. وَأُطْلِقَتِ الطَّاقَةُ عَلَى مُسَبَّبِهَا النَّاشِئِ عَنْهَا.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَجِدُونَ لِظُهُورِهِ مِنْ قَوْلِهِ: الصَّدَقاتِ أَيْ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ إِلَّا جُهْدَهُمْ.
وَالْمُرَادُ لَا يَجِدُونَ سَبِيلًا إِلَى إِيجَادِ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ إِلَّا طَاقَتَهُمْ، أَيْ جُهْدَ أَبْدَانِهِمْ.
أَوْ يَكُونُ وَجَدَ هُنَا هُوَ الَّذِي بِمَعْنَى كَانَ ذَا جِدَّةٍ، أَيْ غِنًى فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ، أَيِ الَّذِينَ
لَا مَالَ لَهُمْ إِلَّا جُهْدَهُمْ وَهَذَا أَحْسَنُ.
وَفِيهِ ثَنَاءٌ عَلَى قُوَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَمَلِ وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَالِ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي اعْتِبَارِ أُصُولِ الثَّرْوَةِ الْعَامَّةِ وَالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْعَامِلِ.
والسخرية: الِاسْتِهْزَاءُ. يُقَالُ: سَخِرَ مِنْهُ، أَيْ حَصَلَتِ السُّخْرِيَةُ لَهُ من كَذَا، فَمن اتِّصَالِيَّةٌ.
وَاخْتِيرَ الْمُضَارِعُ فِي يَلْمِزُونَ وَيَسْخَرُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ.
وَإِسْنَادُ سَخِرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الَّذِي حَسَّنَتْهُ الْمُشَاكَلَةُ لِفِعْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَامَلَهُمْ مُعَامَلَةً تُشْبِهُ سُخْرِيَةَ السَّاخِرِ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ، وَذَلِكَ فِي أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ظَاهِرِهِمْ زَمَنًا ثُمَّ أَمْرِهِ بِفَضْحِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ، أَيِ احْتَقَرَهُمْ وَلَعَنَهُمْ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ حَاصِلًا مِنْ قَبْلُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي فِي سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ.
فَلِذَلِكَ كَانَ الْخَلْعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عِقَابًا، وَكَانَ النَّفْيُ وَالتَّغْرِيبُ فِي الْإِسْلَامِ عُقُوبَةً لَا تَقَعُ إِلَّا بِمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ، وَكَانَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَكَانِ عِقَابًا، وَمِنْهُ السِّجْنُ، فَلَيْسَ الْخُرُوجُ مِنَ الْوَطَنِ طَوْعًا بِعُدْوَانٍ. فَلَمَّا رَامَ فِرْعَوْنَ مَنْعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْخُرُوجِ وَشَدَّ لِلِّحَاقِ بِهِمْ لَرَدِّهِمْ كَرْهًا كَانَ فِي ذَلِكَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا، لِأَنَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ إِكْرَاهَهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ وَلِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ ذَلِكَ تَسْخِيرُهُمْ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ لِوُقُوعِ إِذا الْفُجَائِيَّةِ بَعْدَهَا. وَهِيَ غَايَةٌ لِلِاتِّبَاعِ، أَيِ اسْتَمَرَّ اِتِّبَاعُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى وَقْتِ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ إِيَّاهُ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَفْتَأُ يَجِدُّ فِي إِدْرَاكِهِمْ إِلَى أَنْ أَنْجَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاخْتَرَقُوا الْبَحْرَ، وَرَدَّ اللَّهُ غَمْرَةَ الْمَاءِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فَغَرِقُوا وَهَلَكَ فِرْعَوْنُ غَرِيقًا، فَمُنْتَهَى الْغَايَةِ هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ (إِذَا)، وَالْجُمْلَةُ الْمُضَافَةُ هِيَ إِلَيْهَا وَفِي ذَلِكَ إِيجَازُ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: حَتَّى أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنَتُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِكَوْنِ الْغَايَةِ وَهِيَ إِدْرَاكُ الْغَرَقِ إِيَّاهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَهَى الِاتِّبَاعُ، وَلَيْسَتِ الْغَايَةُ هِيَ قَوْلُهُ:
آمَنْتُ وَإِنْ كَانَ الْأَمْرَانِ مُتَقَارِنَيْنِ.
وَالْإِدْرَاكُ: اللِّحَاقُ وَانْتِهَاءُ السَّيْرِ. وَهُوَ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْغَرَقَ دَنَا مِنْهُ تَدْرِيجِيًّا بِهَوْلِ الْبَحْرِ وَمُصَارَعَتِهِ الْمَوْجَ، وَهُوَ يَأْمَلُ النَّجَاةَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرِ الْإِيمَانَ حَتَّى أَيِسَ مِنَ النَّجَاةِ وَأَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، وَذَلِكَ لِتَصَلُّبِهِ فِي الْكُفْرِ.
وَتَرْكِيبُ الْجُمْلَةِ إِيجَازٌ، لِأَنَّهَا قَامَتْ مَقَامَ خَمْسَ جُمَلٍ:
جُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّ فِرْعَوْنَ حَاوَلَ اللِّحَاقَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَقْصَى أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَالطَّمَعِ فِي اللِّحَاقِ.
وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يلحقهم.
وَهَاتَانِ مستفادان مِنْ (حَتَّى)، وَهَاتَانِ مِنَّةٌ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَجُمْلَةٌ: تُفِيدُ أَنَّهُ غَمَرَهُ الْمَاءُ فَغَرِقَ، وَهَذِهِ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وَهِيَ
عُقُوبَةٌ لَهُ وَكَرَامَةٌ لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
فَرَضَ لَهُمَا إِلَهًا وَاحِدًا مستفردا بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا هُوَ حَالُ مِلَّتِهِ الَّتِي أَخْبَرَهُمْ بِهَا. وَفَرَضَ لَهُمَا آلِهَةً مُتَفَرِّقِينَ كُلُّ إِلَهٍ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي أَشْيَاءٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ تَحْتَ سُلْطَانِهِ لَا يَعُدُّوهَا إِلَى مَا هُوَ مِنْ نِطَاقِ سُلْطَانِ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ حَالُ مِلَّةِ الْقِبْطِ.
ثُمَّ فَرَضَ لَهُمَا مُفَاضَلَةً بَيْنَ مَجْمُوعِ الْحَالَيْنِ حَالِ الْإِلَهِ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَفَرِّقَةِ لِلْآلِهَةِ الْمُتَعَدِّدِينَ لِيَصِلَ بِذَلِكَ إِلَى إِقْنَاعِهِمَا بِأَنَّ حَالَ الْمُنْفَرِدِ بِالْإِلَهِيَّةِ أَعْظَمُ وَأَغْنَى، فَيَرْجِعَانِ عَنِ اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وُجُودَ الْحَالَيْنِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَالْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ.
هَذَا إِذَا حُمِلَ لَفْظُ خَيْرٌ عَلَى ظَاهِرِ الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ وَهُوَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ مُشْتَرَكَاتٍ فِي صِفَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَيْرٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْخَيْرِ عِنْدَ الْعَقْلِ، أَيِ الرُّجْحَانِ وَالْقَبُولِ. وَالْمَعْنَى: اعْتِقَادُ وُجُودِ أَرْبَابٍ مُتَفَرِّقِينَ أَرْجَحُ أَمِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ، لِيَسْتَنْزِلَ بِذَلِكَ طَائِرَ نَظَرِهِمَا وَاسْتِدْلَالِهِمَا حَتَّى يَنْجَلِيَ لَهُمَا فَسَادُ اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، إِذْ يَتَبَيَّنُ لَهُمَا أَنَّ أَرْبَابًا مُتَفَرِّقِينَ لَا يَخْلُو حَالُهُمْ مِنْ تَطَرُّقِ الْفَسَادِ وَالْخَلَلِ فِي تصرفهم، كَمَا يومىء إِلَيْهِ وَصْفُ التَّفَرُّقِ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعَدُّدِ وَوَصْفُ الْقَهَّارِ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَحْدَانِيَّةِ.
وَكَانَتْ دِيَانَةُ الْقِبْطِ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ الَّتِي حَفِظَهَا التَّارِيخُ وَشَهِدَتْ بِهَا الْآثَارُ دِيَانَةَ شِرْكٍ، أَيْ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ. وَبِالرَّغْمِ عَلَى مَا يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْإِفْرِنْجِ مِنْ إِثْبَاتِ اعْتِرَافِ الْقِبْطِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ وَتَأْوِيلِهِمْ لَهُمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ بِأَنَّهَا رُمُوزٌ لِلْعَنَاصِرِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنَّ يُثْبِتُوا إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِلَهَ هُوَ مُعْطِي التَّصَرُّفَ لِلْآلِهَةِ الْأُخْرَى. وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ سَائِرِ أَدْيَانِ الشِّرْكِ، فَإِنَّ الشِّرْكَ يَنْشَأُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْخَيَالِ فَيُصْبِحُ تَعَدُّدَ آلِهَةٍ. وَالْأُمَمُ الْجَاهِلَةُ تَتَخَيَّلُ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ مِنْ تَخَيُّلَاتِ نِظَامِ مُلُوكِهَا وَسَلَاطِينِهَا وَهُوَ النِّظَامُ الْإِقْطَاعِيُّ الْقَدِيمُ.
الْآيَةَ. وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [سُورَة النَّحْل: ٩١]، وَأَكَّدَهُ ذَلِكَ التَّأْكِيدَ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أَيْ إِذَا شَرَعْتَ فِي قِرَاءَةِ هَذَا الْكِتَابِ الشَّرِيفِ الْجَامِعِ الَّذِي نَبَّهْتَ عَلَى بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، وَنَازَعَكَ فِيهِ الشَّيْطَانُ بِهَمْزِهِ وَنَفْثِهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَالْمَقْصُودُ إِرْشَادُ الْأُمَّةِ» اه.
وَهَذَا أَحْسَنُ الْوُجُوهِ وَقَدِ انْقَدَحَ فِي فِكْرِي قَبْلَ مُطَالَعَةِ كَلَامِهِ ثُمَّ وَجَدْتُهُ فِي كَلَامِهِ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَتَرَحَّمْتُهُ عَلَيْهِ. وَعَلَيْهِ فَمَا بَيْنَ جُمْلَةِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً [النَّحْل:
٨٩] إِلَخْ، وَجُمْلَةِ فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَالْمَقْصُودُ بِالتَّفْرِيعِ الشُّرُوعُ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْقُرْآنَ دُونَ أَنْ يُضْمَرَ لِلْكِتَابِ لِأَجْلِ بُعْدِ الْمَعَادِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَرَأْتَ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِرَادَةِ الْفِعْلِ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٦]، وَقَوْلِهِ: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ [سُورَة الْإِسْرَاء: ٣٥] وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [سُورَةِ المجادلة: ٣]، أَي يُرِيدُونَ الْعود إِلَى أَزوَاجهم بِقَرِينَة قَوْله بعده مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فِي سُورَة الْمُجَادَلَةِ [٣]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩]، أَيْ أَوْشَكُوا أَنْ يَتْرُكُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَقَوْلِهِ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [سُورَة الْأَحْزَاب: ٥٣]، أَيْ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْأَلُوهُنَّ،
وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ»
. وَحَمَلَهُ قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ وُقُوعِ الْفِعْلِ فَجَعَلُوا إِيقَاعَ الِاسْتِعَاذَةِ بَعْدَ
الْقِرَاءَةِ. وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ. وَالصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ خِلَافُهُ، وَنُسِبَ إِلَى النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَالْبَاءُ فِي بِاللَّهِ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعَاذَةِ. يُقَالُ: عَاذَ بِحِصْنٍ، وَعَاذَ بِالْحَرَمِ.
وَالسِّينُ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ لِلطَّلَبِ، أَيْ فَاطْلُبِ الْعَوْذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالْعَوْذُ:
اللَّجَأُ إِلَى مَا يَعْصِمُ وَيَقِي مِنْ أَمْرٍ مُضِرٍّ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ. حَقِيقَتُهُ: الْحَثُّ عَلَى تَحْصِيلِ مَدْخُولِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِسُلْطَانٍ عَلَى ثُبُوتِ الْإِلَهِيَّةِ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا آلِهَةً مُتَعَذِّرًا بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِمُ انْصَرَفَ التَّحْضِيضُ إِلَى التَّبْكِيتِ وَالتَّغْلِيطِ، أَيِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا بُرْهَانَ عَلَى إِلَهِيَّتِهِمْ.
وَمَعْنَى عَلَيْهِمْ عَلَى آلِهَتِهِمْ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ.
وَالْبَيِّنُ: الْوَاضِحُ الدَّلَالَةِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذْ لَمْ يَأْتُوا بِسُلْطَانٍ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَقَامُوا اعْتِقَادَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً.
وَ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَهُوَ إِنْكَارٌ، أَيْ لَا أَظْلَمَ مِمَّنِ افْتَرَى. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَظْلَمُ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [الْبَقَرَة: ١١٤].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَقَدْ كَذَبُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إِذْ أَثْبَتُوا لَهُ صِفَةً مُخَالِفَةً لِلْوَاقِعِ.
وَافْتِرَاءُ الْكَذِبِ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فِي سُورَة الْمَائِدَة [١٠٣].
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ مَبْدَئِهِ خِطَابًا لِقَوْمِهِمْ أَعْلَنُوا بِهِ إِيمَانَهُمْ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ كَانَتِ الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ قَوْمُنَا عَلَى ظَاهِرِهَا، وَكَانَ ارْتِقَاءً فِي التَّعْرِيضِ لَهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ مَبْدَئِهِ دَائِرًا بَيْنَهُمْ فِي خَاصَّتِهِمْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: ٨٩] أَيْ مشركو مَكَّة.
أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنَ الْمُوَاعَدَةِ وَحْيُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي تَصِيرُ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ فَكَانَتِ الْمُوَاعَدَةُ مَعَ أُولَئِكَ كَالْمَوْاعَدَةِ مَعَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.
وَقَرَأَ الْجَمِيعُ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ إِلَخْ فَبِاعْتِبَارِ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَخَلَفٍ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ- وَوَاعَدْتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ تكون قِرَاءَة وأنزلنا- بِنُونِ الْعَظَمَةِ- قَرِيبًا مِنَ الِالْتِفَاتِ وَلَيْسَ عَيْنُهُ، لِأَنَّ نُونَ الْعَظَمَةِ تُسَاوِي تَاءَ الْمُتَكَلِّمِ.
وَالسَّلْوَى تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي نِصْفِ الشَّهْرِ الثَّانِي مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ كَمَا فِي الْإِصْحَاحِ ١٦ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.
وَجُمْلَةُ كُلُوا مَقُولٌ مَحْذُوفٌ. تَقْدِيرُهُ: وَقُلْنَا أَوْ قَائِلِينَ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا رَزَقْناكُمْ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفُ مَا رَزَقَتُكُمْ بِتَاءِ الْمُفْرَدِ.
وَالطُّغْيَانُ: أَشَدُّ الْكِبْرِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ فِي الرِّزْقِ: النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ الشُّكْرِ عَلَيْهِ وَقِلَّةُ الِاكْتِرَاثِ بِعِبَادَةِ الْمُنْعِمِ.
وَحَرْفُ (فِي) الظَّرْفِيَّةُ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ شَبَّهَ مُلَابَسَةَ الطُّغْيَانِ لِلنِّعْمَةِ بِحُلُولِ الطُّغْيَانِ فِيهَا تَشْبِيهًا لِلنِّعْمَةِ الْكَثِيرَةِ بِالْوِعَاءِ الْمُحِيطِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ قَرِينَتُهَا.
وَالْحُلُولُ: النُّزُولُ وَالْإِقَامَةُ بِالْمَكَانِ شُبِّهَتْ إِصَابَةُ آثَارِ الْغَضَبِ إِيَّاهُمْ بِحُلُولِ الْجَيْشِ وَنَحْوِهِ بِدِيَارِ قَوْمٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- وَقَرَأُوا وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي- بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى عَلَى أَنَّهُمَا فِعْلَا- حَلَّ
: «إِنَّهَا لَبِلَادُهُمْ قَاتَلُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهَا فِي الْإِسْلَامِ». وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ الْحَقُّ إِلَّا بِمُوجِبٍ قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعَوَائِدُ قَبْلَ الشَّرْعِ. كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:
فَإِنَّ الْحَقَّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءُ
فَمِنْ ذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ التَّغْرِيبُ وَالنَّفْيُ، وَمِنْ ذَلِكَ فِي قَوَانِينِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجَلَاءُ وَالْخَلْعُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِاعْتِدَاءٍ يَعْتَدِيهِ الْمَرْءُ عَلَى قَوْمِهِ لَا يَجِدُونَ لَهُ مَسْلَكًا مِنَ الرَّدْعِ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فَإِنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ لَا يَنْجَرُّ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ هُوَ شَيْءٌ قَاصِرٌ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَالْإِعْلَانُ بِهِ بِالْقَوْلِ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ.
فَالِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ ظُلْمٌ بَوَاحٌ وَاسْتِخْدَامٌ لِلْقُوَّةِ فِي تَنْفِيذِ الظُّلْمِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْحَقِّ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَقِّ حَقًّا يُوجِبُ الْإِخْرَاجَ، أَيِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ، كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مُسْتَعْمَلًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ التَّهَكُّمِيَّةِ، أَيْ إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حَقٌّ فَهُوَ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ تَأْكِيدُ عَدَمِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ اسْتِقْرَاءِ مَا قَدْ يُتَخَيَّلُ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُوهِمُ نَقْضَهُ. وَيُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ تَأْكِيدُ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٦].
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ النَّبِيءُ لِلْأَنْصَارِ: تَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. فَقَالَ الْأَنْصَارُ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»
. وقَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ خَبَرُ كانَ وأَنْ يَقُولُوا هُوَ اسْمُ كانَ وَقُدِّمَ خَبَرُ كَانَ عَلَى اسْمِهَا مُتَابَعَةً لِلِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ لأَنهم إِذا جاؤوا بَعْدَ كانَ بِأَنْ وَالْفِعْلِ لَمْ يَجِيئُوا بِالْخَبَرِ إِلَّا مُقَدَّمًا عَلَى الِاسْمِ نَظَرًا إِلَى كَوْنِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ أَعْرَفُ مِنَ الْمَصْدَرِ الصَّرِيحِ، وَلَمْ يَجِيئُوا بِالْخَبَرِ إِلَّا مُقَدَّمًا كَرَاهِيَةَ تَوَالِيَ أَدَاتَيْنِ وَهُمَا: كانَ وأَنْ.
وَنَظَائِرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٧].
وَجِيءَ فِي وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَلَاحِ بِمِثْلِ التَّرْكِيبِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ بِالظُّلْمِ بِصِيغَةِ الْقَصْرِ الْمُؤَكَّدِ لِيَكُونَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ضِدًّا لِمَذَمَّةِ الْمُنَافِقِينَ تَامًّا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ إِنَّما هُنَا قَصْرُ إِفْرَادٍ لِأَحَدِ نَوْعَيِ الْقَوْلِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِرُسُوخِ إِيمَانِهِمْ وَثَبَاتِ طَاعَتِهِمْ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ إِذْ يَقُولُونَ كَلِمَةَ الطَّاعَةِ ثُمَّ يَنْقُضُونَهَا بِضِدِّهَا مِنْ كَلِمَاتِ الْإِعْرَاضِ وَالِارْتِيَابِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي طَرِيقِ قَصْرٍ بِ (إِلَّا) قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٤٧].
[٥٢]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٥٢]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ أَوْ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النُّور: ٥١]. وَالتَّقْدِيرُ:
وَهُمُ الْفَائِزُونَ. فَجَاءَ نَظْمُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْإِطْنَابِ لِيَحْصُلَ تَعْمِيمُ الْحُكْمِ
بِتَغَلْغُلِهِ فِي نَفْسِهَا وَبِنَشْأَتِهَا عَلَيْهِ وَبِكَوْنِهَا بَيْنَ قَوْمٍ كَافِرِينَ، فَمِنْ أَيْنَ يَخْلُصُ إِلَيْهَا الْهدى وَالْإِيمَان.
[٤٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٤٤]
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
جُمْلَةُ: قيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِجُزْءٍ مِنَ الْقِصَّةِ. وَطُوِيَ ذِكْرُ تَرَحُّلِهَا إِلَى وُصُولِهَا فِي ذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حُلُولِهَا أَمَامَ صَرْحِ سُلَيْمَانَ لِلدُّخُولِ مَعَهُ إِلَيْهِ أَوِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِيهِ.
لَمَّا أَرَاهَا سُلَيْمَانُ عَظَمَةَ حَضَارَتِهِ انْتَقَلَ بِهَا حَيْثُ تُشَاهِدُ أَثَرًا بَدِيعًا مِنْ آثَارِ الصِّنَاعَةِ الْحَكِيمَةِ وَهُوَ الصَّرْحُ. وَالصَّرْحُ يُطْلَقُ عَلَى صَحْنِ الدَّارِ وَعَرْصَتِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَرْحَ الْقَصْرِ الَّذِي ذُكِرَ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَهُوَ بَيْتٌ وَعْرٌ لَهُ بَابَانِ كَانَ يَجْلِسُ فِيهِ سُلَيْمَانُ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالْقَائِل لَهَا: ْخُلِي الصَّرْحَ
هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي رفقتها.
وَالْقَائِل نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
هُوَ سُلَيْمَانُ كَانَ مُصَاحِبًا لَهَا أَوْ كَانَ يَتَرَقَّبُهَا وَزُجَاجُ الصَّرْحِ الْمُبَلَّطُ بِهِ الصَّرْحُ بَيْنَهُمَا.
وَذِكْرُ الدُّخُولِ يَقْتَضِي أَنَّ الصَّرْحَ مَكَانٌ لَهُ بَابٌ. وَفِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ فِي الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ: فَلَمَّا رَأَتِ الْبَيْتَ الَّذِي بَنَاهُ.
وَحِكَايَةُ أَنَّهَا حسبته لجة عِنْد مَا رَأَتْهُ تَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ بَدَا لَهَا فِي حِينِ دُخُولِهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّرْحَ هُوَ أَوَّلُ مَا بَدَا لَهَا مِنَ الْمَدْخَلِ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ سَاحَةٌ مَعْنِيَّةٌ لِلنُّزْهَةِ فُرِشَتْ بِزُجَاجٍ شَفَّافٍ وَأَجْرِيَ تَحْتَهُ الْمَاءُ حَتَّى يَخَالَهُ النَّاظِرُ لُجَّةَ مَاءٍ. وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي
اخْتُصَّتْ بِهَا قُصُورُ سُلَيْمَانَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً فِي الْيَمَنِ عَلَى مَا بَلَغَتْهُ مِنْ حَضَارَةٍ وَعَظَمَةَ بِنَاءٍ.
وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَن ابْن كثيرنْ ساقَيْها
بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ السِّينِ عِوَضًا عَنِ الْأَلِفِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَهْمِزُ حَرْفَ الْمَدِّ إِذَا وَقَعَ وَسَطَ الْكَلِمَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: ٧].
وَقَوْلُهُ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ إِلَخْ هُوَ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ أَفْضَلُ الرُّسُلِ، وَقَدْ ذُكِرَ ضَمِيرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَهُمْ إِيمَاءً إِلَى تَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِهِمْ، ثُمَّ جُعِلَ تَرْتِيبُ ذِكْرِ الْبَقِيَّةِ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْوُجُودِ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ خُصَّ ضَمِيرُ النَّبِيءِ بِإِدْخَالِ حَرْفِ (مِنْ) عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ حَرْفُ (مِنْ) عَلَى مَجْمُوعِ الْبَاقِينَ فَكَانَ قَدْ خُصَّ بِاهْتِمَامَيْنِ: اهْتِمَامِ التَّقْدِيمِ، وَاهْتِمَامِ إِظْهَارِ اقْتِرَانِ الِابْتِدَاءِ بِضَمِيرٍ بِخُصُوصِهِ غَيْرَ مُنْدَمِجٍ فِي بَقِيَّتِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَسَيَجِيءُ أَنَّ مَا فِي سُورَةِ الشُّورَى [١٣] مِنْ تَقْدِيمِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً عَلَى وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣] طَرِيقٌ آخَرُ هُوَ آثَرُ بِالْغَرَضِ الَّذِي فِي تِلْكَ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ الْآيَة [الشورى: ١٣].
وَجُمْلَةُ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أَعَادَتْ مَضْمُونَ جُمْلَةِ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيئِينَ مِيثَاقَهُمْ لِزِيَادَةِ تَأْكِيدِهَا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا وَصْفُ الْمِيثَاقِ بِالْغَلِيظِ، أَيْ: عَظِيمًا جَلِيلَ الشَّأْنِ فِي جِنْسِهِ فَإِنَّ كُلَّ مِيثَاقٍ لَهُ عِظَمٌ فَلَمَّا وُصِفَ هَذَا بِ غَلِيظاً أَفَادَ أَنَّ لَهُ عِظَمًا خَاصًّا، وَلِيُعَلِّقَ بِهِ لَامَ التَّعْلِيلِ من قَوْله لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ.
وَحَقِيقَةُ الْغَلِيظِ: الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْخَلْقِ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ [الْفَتْح: ٢٩]. وَاسْتُعِيرَ الْغَلِيظُ لِلْعَظِيمِ الرَّفِيعِ فِي جِنْسِهِ لِأَنَّ الْغَلِيظَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ هُوَ أَمْكَنُهُ فِي صِفَاتِ جِنْسِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْله لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ لَامُ كَيْ، أَيْ: أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِنُعْظِمَ جَزَاءً لِلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَلِنُشَدِّدَ الْعَذَابَ جَزَاءً لِلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ، فَيَكُونُ مِنْ دَوَاعِي ذِكْرِ هَذَا الْمِيثَاقِ هُنَا أَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لِذِكْرِ جَزَاءِ الصَّادِقِينَ وَعَذَابِ الْكَافِرِينَ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَاعِي ذَلِكَ آنِفًا. وَهَذِهِ عِلَّةٌ مِنْ عِلَلِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنَ النَّبِيئِينَ وَهِيَ آخِرُ الْعِلَلِ حُصُولًا فَأَشْعَرَ
وَعُبِّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، فَيُكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ تَمْيِيزِ الْمَكْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِمْ وَوُضُوحِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَكْرِهِمْ بِاسْمِ إِشَارَةٍ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ مَكْرُ أُولئِكَ وَبَيْنَ يَبُورُ ضَمِيرُ فَصْلٍ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤].
وَالرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِ النُّحَاةِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ: أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يَلِيهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ دُونَ غَيْرِ الْمُضَارِعِ، وَوَافَقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْإِيضَاحِ» لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو حَيَّانَ وَقَالَ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عَلِمْنَا. وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ فَإِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ إِرَادَةَ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ إِرَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ فِي حُصُولِ النِّسْبَةِ الْحِكْمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى الْبَلِيغِ سَبِيلٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْقَصْدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِيُفِيدَ الثَّبَاتَ وَالتَّقْوِيَةَ لِتَعَذُّرِ إِفَادَةِ ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الإسلامية. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥]، فَالْفَصْلُ هُنَا يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ مَكْرُهُمْ يَبُورُ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَهُ هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْكُرُ بِهِمْ مَكْرًا يُصِيبُ الْمَحَزَّ مِنْهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤].
وَالْبَوَارُ حَقِيقَتُهُ: كَسَادُ التِّجَارَةِ وَعَدَمُ نَفَاقِ السِّلْعَةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِخَيْبَةِ الْعَمَلِ بِوَجْهِ الشَّبَهِ بَيْنَ مَا دَبَّرُوهُ مِنَ الْمَكْرِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى إِصَابَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضُرٍّ وَبَيْنَ مَا يُنَمِّقُهُ التَّاجِرُ وَمَا يُخْرِجُهُ مِنْ عِيَابِهِ وَيَرْصِفُهُ عَلَى مَبْنَاتِهِ وَسَطَ اللَّطِيمَةِ مَعَ السِّلَعِ لِاجْتِلَابِ شَرَهِ الْمُشْتَرِينَ.
ثُمَّ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ فَيَرْجِعُ مِنْ لَطِيمَتِهِ لَطِيمَ كَفِّ الْخَيْبَةِ، فَارِغَ الْكَفِّ وَالْعَيْبَةِ.
[١١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً.
هَذَا عَوْدٌ إِلَى سَوْقِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ عَلَيْهَا مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ دَلَالَةِ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: ٩]. فَهَذَا كَقَوْلِهِ:
وَرَوَاهُ غَيْرُ أَبِي دَاوُدَ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ وَعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَمَا هِيَ إِلَّا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ تَطَرَّقَتْهُ احْتِمَالَاتٌ.
أَوَّلُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ كَانَ مَرِيضًا مُضْنًى وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مِثْلِهِ.
الثَّانِي: لَعَلَّ الْمَرَضَ قَدْ أَخَلَّ بِعَقْلِهِ إِخْلَالًا أقدمه على الزِّنَا فَكَانَ الْمَرَضُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ لَا يُنْقَضُ بِهِ التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ الثَّابِتُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
الرَّابِعُ: حَمْلُهُ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ لِلِضَّرُورَةِ كَالْمَرَضِ وَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّ أَحَادِيث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالَ السَّلَفِ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرِيضَ وَالْحَامِلَ يَنْتَظِرَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَبْرَأَ، وَلَمْ يَأْمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ تُضْرَبَ الْحَامِلُ بِشَمَارِيخَ، فَمَاذَا يُفِيدُ هَذَا الضَّرْبُ الَّذِي لَا يَزْجُرُ مُجْرِمًا، وَلَا يَدْفَعُ مَأْثَمًا، وَفِي «أَحْكَامِ الْجَصَّاصِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ مَا لِلِشَّافِعِيِّ. وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ إِلَّا الْحَدُّ الْمَعْرُوفُ. فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: ٤٢] وَجُمْلَةُ وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ [ص: ٤٣]، أَيْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ بِجَبْرِ حَالِهِ، لِأَنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا عَلَى مَا أَصَابَهُ فَهُوَ قُدْوَةٌ لِلْمَأْمُورِ بِقَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: ١٠] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ (إِنَّ) مُغْنِيَةً عَنْ فَاءِ التَّفْرِيعِ.
وَمَعْنَى وَجَدْناهُ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي صَبْرِهِ مَا كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:
٣٠]، فَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوَّابًا لِلَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالنَّعِيمِ، وَأَيُّوبُ أَوَّابًا لِلَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الضُّرِّ وَالِاحْتِيَاجِ، وَكَانَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِمَا مُتَمَاثِلًا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْأَوْبَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الدَّوَاعِي. قَالَ سُفْيَانُ: أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدَيْنِ ابْتُلِيَا: أَحَدُهُمَا صَابِرٌ، وَالْآخِرُ شَاكِرٌ، ثَنَاءً وَاحِدًا. فَقَالَ لِأَيُّوبَ وَلِسُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
تَقَارُنُ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِتَنَاسُبِ أَفْكَارِ الدُّعَاةِ وَالْقَابِلِينَ كَمَا يَقُولُ الْحُكَمَاءُ «اسْتِفَادَةُ الْقَابِلِ مِنَ الْمَبْدَأِ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا». فَالتَّقْيِيضُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِبَارَةٌ جَامِعَةٌ لِمُخْتَلِفِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَالتَّجَمُّعَاتِ الَّتِي تُوجِبُ التَّآلُفَ وَالتَّحَابَّ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ، وَلِمُخْتَلِفِ الطَّبَائِعِ الْمُكَوَّنَةِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقْتَضِي بَعْضُهَا جَاذِبِيَّةَ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهَا وَحُدُوثَ الْخَوَاطِرِ السَّيِّئَةِ فِيهَا. وَلِلْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أُوثِرَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِ قَيَّضْنا دُونَ غَيره من نَحْو: بَعَثْنَا، وَأَرْسَلْنَا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْمُزَيَّنَ غَيْرُ حَسَنٍ فِي ذَاتِهِ. وَمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا خَلْفَهُمْ يُسْتَعَارُ لِلْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أُمُورُ الدُّنْيَا، أَيْ زَيَّنُوا لَهُمْ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْفَسَادِ مِثْلَ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِلَا حَقٍّ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْعُدُولِ عَلَى النَّاسِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَالْمَيْسِرِ، وَارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ، وَالْوَأْدِ. فَعَوَّدُوهُمْ بِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ الْعَارِضَةِ الْقَصِيرَةِ الْمَدَى، وَصَرَفُوهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُحِيطُ بِأَفْعَالِهِمْ تِلْكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ الذَّاتِيَّةِ الدَّائِمَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا خَلْفَهُمْ الْأُمُورُ الْمُغَيَّبَةُ عَنِ الْحِسِّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ مِثْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَظَنِّهِمْ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ مَسْتُورُ أَعْمَالِهِمْ، وَإِحَالَتِهِمْ بِعْثَةَ الرُّسُلِ، وَإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ. وَمَعْنَى تَزْيِينِهِمْ هَذَا لَهُمْ تَلْقِينُهُمْ تِلْكَ الْعَقَائِدَ بِالْأَدِلَّةِ السُّفُسْطَائِيَّةِ مِثْلَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَنَفْيِ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ كَقَوْلِهِم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الصافات: ١٦، ١٧].
وحَقَّ عَلَيْهِمُ أَيْ تَحَقَّقَ فِيهِمُ الْقَوْلُ وَهُوَ وَعِيدُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّارِ عَلَى الْكُفْرِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ لِلْعَهْدِ. وَفِي هَذَا الْعَهْدِ إِجْمَالٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُعْهَدُ مِنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِثْلَ قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩] وَقَوْلِهِ:
فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ [الصافات: ٣١]، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا تَكُونَ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْآيَةَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٤- سُورَةُ الدُّخَانِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ حم الدُّخَانُ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدَيْنِ ضَعِيفَيْنِ يُعَضِّدُ بَعْضُهُمَا بَعْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ قَرَأَ حم الدُّخَانَ فِي لَيْلَةٍ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْجُمْعَةِ»
الْحَدِيثَ. وَاللَّفْظَانِ بِمَنْزِلَةِ اسْمٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ حم غَيْرُ خَاصَّةٍ بِهَذِهِ السُّورَةِ فَلَا تُعَدُّ عَلَمًا لَهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَوَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ.
وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ سُورَةَ الدُّخَانِ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالدُّخَانِ وُقُوعُ لَفْظِ الدُّخَانِ فِيهَا الْمُرَادُ بِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَيَّدَ اللَّهُ بهَا رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الدُّخَانِ بِمَعْنًى آخَرَ قَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ حم تَنْزِيلُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: ١١] وَهِيَ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ تَنْزِيلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْجَعْبَرِيُّ وَصَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» عَلَى أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ مَكِّيَّةٌ لَا أَحْفَظُ خِلَافًا فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» اسْتِثْنَاءُ قَوْله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدُّخان: ١٥] وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَمِثْلُهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْكَوَاشِيُّ قَوْلًا وَمَا عَزَاهُ إِلَى مُعَيَّنٍ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَوْلٌ نَشَأَ عَمَّا فَهِمَهُ الْقَائِلُ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
أَغْرَاضُ هَاتِهِ السُّورَةِ
أَوَّلُهَا: التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُمْ كذبُوا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَشَرِ، وَثَالِثُهَا: الِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهَا وَخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَنَشْأَةُ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ لِلْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
الرَّابِعُ: تَنْظِيرُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ بِبَعْضِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الْمَعْلُومَةِ لَدَيْهِمْ، وَوَعِيدُ هَؤُلَاءِ أَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
الْخَامِسُ: الْوَعِيدُ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ ابْتِدَاءً مِنْ وَقْتِ احْتِضَارِ الْوَاحِدِ، وَذِكْرُ هَوْلِ يَوْمِ
الْحِسَابِ.
السَّادِسُ: وَعْدُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَعِيمِ الْآخِرَةِ.
السَّابِعُ: تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَأَمْرُهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ وَإِرْجَاءِ أَمْرِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَأَخَذَهُمْ مِنَ الْآنَ وَلَكِنْ حِكْمَةُ اللَّهِ قَضَتْ بِإِرْجَائِهِمْ وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَلَّفْ بِأَنْ يُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالتَّذْكِيرِ بِالْقُرْآنِ.
الثَّامِنُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِالْقُرْآنِ.
التَّاسِعُ: إِحَاطَةُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَفِيَّاتِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاطِرِ النُّفُوسِ.
[١- ٣]
[سُورَة ق (٥٠) : الْآيَات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)
ق الْقَوْلُ فِيهِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي أَمْثَالِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. فَهُوَ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّهَجِّي وَقَدْ رَسَمُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِصُورَةِ حَرْفِ الْقَافِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا فِي الْمَكْتَبِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِاسْمِ الْحَرْفِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ يَنْطِقُونَ بِقَافٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، بَعْدَهُ فَاءٌ.
حَتَّى كَأَنَّ رِيَاضَ الْقُفِّ أَلْبَسَهَا مِنْ وَشْيِ عَبْقَرٍ تَجْلِيلٌ وَتَنْجِيدُ
فَوَصْفُهَا فِي الْآيَةِ بِأَنَّهَا خُضْرٍ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِاسْتِحْضَارِ اللَّوْنِ الْأَخْضَرِ لِأَنَّهُ يَسُرُّ النَّاظِرَ.
وَكَانَتِ الثِّيَابُ الْخُضْرُ عَزِيزَةٌ وَهِيَ لِبَاسُ الْمُلُوكِ وَالْكُبَرَاءِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَصُونُونَ أَجْسَادًا قَدِيمًا نَعِيمُهَا بِخَالِصَةِ الْأَرْدَانِ خُضْرِ الْمَنَاكِبِ
وَكَانَت الثِّيَاب المصبوغة بِالْأَلْوَانِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا يزيلها الْغسْل نادرة لِقِلَّةِ الْأَصْبَاغِ الثَّابِتَةِ وَلَا تَكَادُ تَعْدُو الْأَخْضَرَ وَالْأَحْمَرَ وَيُسَمَّى الْأُرْجُوَانِيَّ.
وَأَمَّا الْمُتَدَاوَلُ مِنْ أَصْبَاغِ الثِّيَابِ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ مَا صُبِغَ بِالْوَرَسِ وَالزَّعْفَرَانِ فَيَكُونُ أَصْفَرَ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّمَا لَوْنُهُ لَوْنُ مَا يُنْسَجُ مِنْهُ مِنْ صُوفِ الْغَنَمِ أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ مِنْ وَبَرٍ أَوْ مِنْ كَتَّانٍ أَبْيَضَ أَوْ كَانَ مِنْ شِعْرِ الْمَعِزِ الْأَسْوَدِ.
وحِسانٍ: جَمْعُ حَسْنَاءُ وَهُوَ صِفَةٌ لِ رَفْرَفٍ إِذْ هُوَ اسْمُ جَمْعٍ.
وَعَبْقَرِيٍّ: وَصْفٌ لِمَا كَانَ فَائِقًا فِي صِنْفِهِ عَزِيزَ الْوُجُودِ وَهُوَ نِسْبَةٌ إِلَى عَبْقَرٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَتَحَ اسْمَ بِلَادِ الْجِنِّ فِي مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فَنَسَبُوا إِلَيْهِ كُلَّ مَا تَجَاوَزَ الْعَادَةَ فِي الْإِتْقَانِ وَالْحُسْنِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَرْضِ الْبَشَرِ، قَالَ زُهَيْرٌ:
بِخَيْلٍ عَلَيْهَا جِنَّةٌ عَبْقَرِيَّةٌ جَدِيرُونَ يَوْمًا أَنْ يَنَالُوا وَيَسْتَعْلُوا
فَشَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ الْعَبْقَرِيُّ وَصْفًا لِلْفَائِقِ فِي صِنْفِهِ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حَكَاهُ مِنْ رُؤْيَا الْقَلِيبِ الَّذِي اسْتَسْقَى مِنْهُ «ثُمَّ أَخَذَهَا (أَيِ الذُّنُوبِ) عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ»
. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمَعَرِّيُّ بِقَوْلِهِ:
وَقَدْ كَانَ أَرْبَابُ الْفَصَاحَةِ كُلَّمَا رَأَوْا حُسْنًا عَدُّوهُ مِنْ صَنْعَةِ الْجِنِّ
فَضَرَبَهُ الْقُرْآنُ مَثَلًا لِمَا هُوَ مَأْلُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي إِطْلَاقه.
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاقْتِرَابِ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى (عِنْدَ)، وَيُفِيدُ هُنَا: أَنَّهُمْ مَجْمُوعُونَ فِي الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ دُونَ تَأْخِيرٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: ٧]، فَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ:
لِيَوْمِ الْجَمْعِ بِفِعْلِ يَجْمَعُكُمْ.
فِ «يَوْمَ الْجَمْعِ» هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»
إِلَخْ.
جُعِلَ هَذَا الْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ لَقَبًا لِيَوْمِ الْحَشْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْمَعُكُمْ بياء الْغَائِب. وقرأه يَعْقُوبُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: ٧] بِمُتَعَلِّقِهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ اعْتِرَاضًا يُفِيدُ تَهْوِيلَ هَذَا الْيَوْمَ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَسَارَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ بِسُوءِ الْمُنْقَلَبِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مَقَامِ الضَّمِيرِ لقصد الاهتمام بِهَذَا الْيَوْم بِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ مَعَ مَا يفِيدهُ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ مِنْ عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
والتَّغابُنِ: مَصْدَرُ غَابَنَهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَالْغَبْنُ أَنْ يُعْطَى البَائِع ثمنا لمبيعه دُونَ حَقِّ قِيمَتِهِ الَّتِي يُعَوِّضُ بِهَا مثله.
فالغبن يؤول إِلَى خَسَارَةِ الْبَائِعِ فِي بَيْعِهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْغَبْنُ عَلَى مُطْلَقِ الْخُسْرَانِ مَجَازًا مُرْسَلًا كَمَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
فَفِعْلُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ كَفَرْتُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْطُ مِنَ الِاسْتِقْبَالِ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنَى الدَّوَامِ مِنْ فِعْلِ كَفَرْتُمْ وَإِلَّا فَإِنَّ كُفْرَهُمْ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
ويَوْماً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ تَتَّقُونَ. واتقاء الْيَوْم باتقاء مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ عَذَابٍ أَيْ عَلَى الْكُفْرِ.
وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وَصْفٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْأَحْزَانِ، لِأَنَّهُ شَاعَ أَنَّ الْهَمَّ مِمَّا يُسْرِعُ بِهِ الشَّيْبُ فَلَمَّا أُرِيدَ وَصْفُ هَمِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالشِّدَّةِ الْبَالِغَةِ أَقْوَاهَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ يَشِيبُ الْوِلْدَانُ الَّذِينَ شَعْرُهُمْ فِي أَوَّلِ سَوَادِهِ. وَهَذِهِ مُبَالَغَةٌ عَجِيبَةٌ وَهِيَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فِيمَا أَحْسَبُ، لِأَنِّي لَمْ أَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَمَّا الْبَيْتُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي شَوَاهِدِ النَّحْوِ وَهُوَ:
لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ وَلَا يُبَالِي غَبْنَ الْخَاسِرِ
إِذَنْ وَاللَّهِ نَرْمِيهُمْ بِحَرْبٍ تُشِيبُ الطِّفْلَ مِنْ قَبْلِ الْمَشِيبِ
فَلَا ثُبُوتَ لِنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ كَانُوا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ، وَنَسَبَهُ بَعْضُ الْمُؤَلِّفِينَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ الْعَيْنِيُّ: لَمْ أَجِدْهُ فِي دِيوَانِهِ. وَقَدْ أَخَذَ الْمَعْنَى الصَّمَّةُ ابْن عَبْدِ اللَّهِ الْقُشَيْرِيُّ فِي قَوْلِهِ:
دَعَانِي مِنْ نَجْدٍ فَإِنَّ سِنِينَهُ لَعِبْنَ بِنَا شِيبًا وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَا
وَهُوَ مِنْ شُعَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَإِسْنَادُ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً إِلَى الْيَوْمِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ
بِمَرْتَبَتَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ زَمَنُ الْأَهْوَالِ الَّتِي تَشِيبُ لِمِثْلِهَا الْأَطْفَالُ، وَالْأَهْوَالُ سَبَبٌ لِلشَّيْبِ عُرْفًا.
وَالشَّيْبُ كِنَايَةٌ عَنْ هَذَا الْهَوْلِ فَاجْتَمَعَ فِي الْآيَةِ مَجَازَانِ عَقْلِيَّانِ وَكِنَايَةٌ وَمُبَالَغَةٌ فِي قَوْلِهِ: يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً.
وَجُمْلَةُ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ.
وَالْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) وَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ الْيَوْمِ بِحُدُوثِ الْأَهْوَالِ فِيهِ فَإِنَّ انْفِطَارَ السَّمَاء أَشد هُوَ لَا وَرُعْبًا مِمَّا كُنِّيَ عَنْهُ بِجُمْلَةِ يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً. أَيِ السَّمَاءُ عَلَى عِظَمِهَا وَسُمْكِهَا تَنْفَطِرُ لِذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ وَأَمْثَالِكُمْ مِنَ الْخَلَائِقِ فِيهِ.
وَالْعُلُوُّ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ وَصْفُهُ تَعَالَى: الْأَعْلَى عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ الْكَمَالُ التَّامُّ الدَّائِمُ.
وَلَمْ يُعَدَّ وَصْفُهُ تَعَالَى: الْأَعْلَى فِي عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى اسْتِغْنَاءً عَنِ اسْمِهِ الْعَلِيُّ لِأَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ فَلَا يُعَدُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ إِلَّا مَا كَثُرَ إِطْلَاقُهُ إِطْلَاقَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ أَوْغَلُ مِنَ الصِّفَاتِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْعُلُوُّ فِي الرُّتْبَةِ الْعَقْلِيَّةِ مِثْلُ الْعُلُوِّ فِي التَّدْرِيجَاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَمِثَالُ الدَّرَجَةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ وَالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ وَالْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ اهـ.
وَإِيثَارُ هَذَا الْوَصْفِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتِ التَّنْوِيهَ بِالْقُرْآنِ وَالتَّثْبِيتَ عَلَى تَلَقِّيهِ
وَمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ التَّذْكِيرِ وَذَلِكَ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ فَهُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ وَصْفِ الْعُلُوِّ الْإِلَهِيِّ إِذْ هُوَ كَلَامُهُ.
وَهَذَا الْوَصْفُ هُوَ مَلَاكُ الْقَانُونِ فِي تَفْسِيرِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَامِلِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِوَصْفِ الْأَعْلَى فَلِذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ جُعِلَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى دُعَاءُ السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ إِذْ وَرَدَ أَنْ يَقُولَ السَّاجِدُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، لِيَقْرِنَ أَثَرَ التَّنْزِيهِ الْفِعْلِيِّ بِأَثَرِ التَّنْزِيهِ الْقَوْلِيِّ.
وَجُمْلَةُ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى اشْتَمَلَتْ عَلَى وَصْفَيْنِ: وَصْفِ الْخَلْقِ وَوَصْفِ تَسْوِيَةِ الْخَلْقِ، وَحُذِفَ مَفْعُولُ خَلَقَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ عَامًّا، وَهُوَ مَا قَدَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَهُوَ شَأْنُ حَذْفِ الْمَفْعُولِ إِذَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، أَيْ خَلَقَ كُلَّ مَخْلُوقٍ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ مُوسَى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠].
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ خَاصًّا، أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ، أَوْ خَلَقَ آدَمَ كَمَا رُوِيَ عَنِ الضَّحَّاكِ، أَيْ بِقَرِينَةِ قَرْنِ فِعْلِ خَلَقَ بِفِعْلِ «سَوَّى» قَالَ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الْحجر: ٢٩] الْآيَةَ.
وَعَطَفَ جُمْلَةَ: فَسَوَّى بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَهَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ زَيَّابَةَ:


الصفحة التالية
Icon