لَا يَعْرِفُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الثِّمَارِ فَيَقْتَضِي تَحْدِيدَ الْأَصْنَافِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّشَابُهَ بَيْنَ الْمَأْتِيِّ بِهِ لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثِمَارِ الدُّنْيَا. ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ التَّأَنُّسِ بِالْأَزْوَاجِ وَنَزَّهَ النِّسَاءَ عَنْ عَوَارِضِ نِسَاءِ الدُّنْيَا مِمَّا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ النَّفْسُ لَوْلَا النِّسْيَانُ فَجَمَعَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ اللَّذَّاتِ عَلَى نَحْوِ مَا أَلِفُوهُ فَكَانَتْ نِعْمَةً عَلَى نِعْمَةٍ.
وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ يُقَالُ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّهُ جَعَلَ الْآخَرَ بَعْدَ أَن كَانَ مُفردا زَوْجًا وَقَدْ يُقَالُ لِلْأُنْثَى زَوْجَةً بِالتَّاءِ وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي الْبُخَارِيِّ: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» يَعْنِي عَائِشَةَ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي | كَسَاعٍ إِلَى أَسد الشّرى يستمليها |
أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ | تَحَقَّقَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا |
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : الْآيَات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها.
قَدْ يَبْدُو فِي بادىء النَّظَرِ عَدَمُ التَّنَاسُبِ بَيْنَ مَسَاقِ الْآيَاتِ السَّالِفَةِ وَمَسَاقِ هَاتِهِ الْآيَةِ، فَبَيْنَمَا كَانَتِ الْآيَةُ السَّابِقَةُ ثَنَاءً عَلَى هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَوَصْفَ حَالَيِ الْمُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ وَالنَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِهِ وَبَيَانَ إِعْجَازِهِ وَالتَّحَدِّي بِهِ مَعَ مَا تَخَلَّلَ وَأَعْقَبَ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ النَّافِعَةِ وَالْبَيَانَاتِ الْبَالِغَةِ وَالتَّمْثِيلَاتِ الرَّائِعَةِ، إِذَا بِالْكَلَامِ قد جَاءَ يخبر بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْبَأُ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بِشَيْءٍ حَقِيرٍ أَوْ غَيْرِ حَقِيرٍ، فَحَقِيقٌ بِالنَّاظِرِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَنْ تَظْهَرَ لَهُ الْمُنَاسِبَةُ لِهَذَا الِانْتِقَالِ، ذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحَدِّي الْبُلَغَاءِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ النَّظْمِ سَلَكُوا فِي الْمُعَارَضَةِ طَرِيقَةَ الطَّعْنِ فِي الْمَعَانِي فَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ سَخِيفِ الْمَعْنَى مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ لِيَصِلُوا بِذَلِكَ إِلَى إِبْطَالُُِ
عَلَى هَذَا: التَّشْرِيعُ وَالتَّعْرِيضُ إِذِ التَّعْرِيضُ يُجَامِعُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تَقَعُ مَعَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ.
وَجُمْلَةُ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَالْمُخَالَطَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْخَلْطِ وَهُوَ جَمْعُ الْأَشْيَاءِ جَمْعًا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ تَمْيِيزُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِيمَا تُرَادُ لَهُ، فَمِنْهُ خَلْطُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ والقمح وَالشعِير وَخَلْطُ النَّاسِ وَمِنْهُ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا زَادَ عَلَى إِصْلَاحِ الْمَالِ وَالتَّرْبِيَةِ عَنْ بُعْدٍ فَيَشْمَلُ الْمُصَاحَبَةَ وَالْمُشَارَكَةَ وَالْكَفَالَةَ وَالْمُصَاهَرَةَ إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُخَالَطَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِخْوانُكُمْ جَوَابُ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ قُرِنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِمُبَاشَرَةِ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَلِذَلِكَ فَ (إِخْوَانُكُمْ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ،
وَهُوَ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُخُوَّةِ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الْمُشَاوَرَةَ وَالرِّفْقَ وَالنُّصْحَ. وَنَقَلَ الْفَخْرُ عَنِ الْفَرَّاءِ «لَوْ نَصَبْتَهُ كَانَ صَوَابًا بِتَقْدِيرِ فَإِخْوَانَكُمْ تُخَالِطُونَ» وَهُوَ تَقْدِيرٌ سَمِجٌ، وَوُجُودُ الْفَاءِ فِي الْجَوَابِ يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَبَعْدُ فَمَحْمَلُ كَلَامِ الْفَرَّاءِ عَلَى إِرَادَةِ جَوَازِ تَرْكِيبِ مِثْلِهِ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ لَا عَلَى أَنْ يُقْرَأَ بِهِ، وَلَعَلَّ الْفَرَّاءُ كَانَ جَرِيئًا عَلَى إِسَاغَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا يُسَوَّغُ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ دُونَ اشْتِرَاطِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَثُّ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُمْ إِخْوَانًا كَانَ مِنَ الْمُتَأَكَّدِ مُخَالَطَتُهُمْ وَالْوِصَايَةُ بِهِمْ فِي هَاتِهِ الْمُخَالَطَةِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا إِخْوَانًا وَجَبَ بَذْلُ النُّصْحِ لَهُمْ كَمَا يُبْذَلُ لِلْأَخِ
وَفِي الْحَدِيثِ «حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
، وَيُتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّعْرِيضَ بِإِبْطَالِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنِ احْتِقَارِ الْيَتَامَى وَالتَّرَفُّعِ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُصَاهَرَتِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النِّسَاء: ١٢٧] أَيْ عَنْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فَيَبْطُلُ التَّرَفُّعُ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَعْدٌ وَوَعِيدٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنِ الْإِخْبَارِ بِعِلْمِ اللَّهِ الْإِخْبَارُ بِتَرَتُّبِ آثَارِ الْعِلْمِ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَجَنُّبِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى تَنَزُّهٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْمُتَصَرِّفَ بِصَلَاحٍ وَالْمُتَصَرِّفَ بِغَيْرِ صَلَاحٍ وَفِيهِ أَيْضًا تَرْضِيَةٌ لِوُلَاةِ الْأَيْتَامِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنْ كَرَاهِيَةِ بَعْضِ مَحَاجِيرِهِمْ وَضَرْبِهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَمَا يُلَاقُونَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَصَاصَةِ، فَإِنَّ الْمَقْصِدَ الْأَعْظَمَ هُوَ إِرْضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لَا إِرْضَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ لَا يَهْتَمُّونَ إِلَّا بِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانُوا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى
وَيَشْمَلُ هُدَاهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ رَاجِعًا إِلَى زَكَاءِ النَّفْسِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ تَفَارِيعُ عَنْ ذَلِكَ وَأَحْكَامًا جُزْئِيَّةً مِنْ كُلِّ مَا أَبْلَغَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِاتِّبَاعِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا بَيَّنَ لَهُ نَسْخَهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي أَنَّ الشَّرَائِعَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ هَلْ تُعْتَبَرُ أَحْكَامُهَا مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِذَا أَبْلَغَهَا اللَّهُ إِلَى الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْعَلْ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَنْسَخُهَا.
وَأَرَى أَنَّ أَصْلَ الِاسْتِدْلَالِ لِهَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَوْحَى إِلَى رَسُولِهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حِكَايَةَ حُكْمٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ فِي مَقَامِ التَّنْوِيهِ بِذَلِكَ وَالِامْتِنَانِ وَلَمْ يُقَارِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّشْدِيدِ عَلَى أَصْحَابِهِ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَمَلَ بِمِثْلِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا مِنْ أُصُولِهِ مَا يَأْبَاهُ، مِثْلُ أَصْلِ التَّيْسِيرِ وَلَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى حُكْمٍ إِسْلَامِيٍّ مَا يُنَاقِضُ حُكْمًا مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا. وَلَا حُجَّةً فِي الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا أَمر النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ مَنْ قَبْلَهُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: ١٢٣] وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣]، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ أُصُولُ الدِّيَانَةِ وَأُسُسُ التَّشْرِيعِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فَاسْتِدْلَالُهُ ضَعِيفٌ. قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» «أَرَادَ بِالْهُدَى التَّوْحِيدَ وَدَلَالَةَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَحدَانِيَّةِ وَالصِّفَاتِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهُدَاهُمْ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى شَرَائِعَهُمْ لَكَانَ أَمْرًا بِشَرَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ وَنَاسِخَةٍ وَمَنْسُوخَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكَ بَين جَمِيعهم» اهـ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْمُخَالِفِ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهَا اسْتِئْنَاسٌ لِمَنْ رَأَى حُجِّيَّةَ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا آنِفًا. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ (ص) عَنِ الْعَوَّامِ قَالَ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ ص فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ
وَالْغَفُورُ: اسْمٌ يَتَضَمَّنُ مُبَالَغَةَ الغفران لِأَنَّهُ تَعَالَى وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ إِذْ يَغْفِرُ لِمَنْ لَا يُحْصَوْنَ وَيَغْفِرُ ذُنُوبًا لَا تُحْصَى إِنْ جَاءَهُ عَبده تَائِبًا مقلعا مُنْكَسِرًا، عَلَى أَنَّ إِمْهَالَهُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ هُوَ أَيْضًا مِنْ أَثَرِ الْمَغْفِرَةِ إِذْ هُوَ مَغْفِرَةٌ مُؤَقَّتَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ذُو الرَّحْمَةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ تَمْهِيدًا لِجُمْلَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا، فَلِذَلِكَ كَانَتْ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِجُمْلَةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْغَفُورُ الْخَبَرُ وَهُوَ الْوَصْفُ الثَّانِي.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فِيمَا كَسَبُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْعِنَادِ أَحْرِيَاءُ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لَكِن اللَّهَ يُمْهِلُهُمْ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ مُقَدَّرٍ. وَفِي ذَلِكَ التَّأْجِيلِ رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ بِتَمْكِينِ بَعْضِهِمْ مِنْ مُهْلَةِ التَّدَارُكِ وَإِعَادَةِ النَّظَرِ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاؤُهُمْ عَلَى حَالِهِمْ زَمَنًا.
فَوَصْفُ ذُو الرَّحْمَةِ يُسَاوِي وَصْفَ (الرَّحِيمِ) لِأَن (ذُو) تَقْتَضِي رُسُوخُ النِّسْبَةِ بَيْنَ مَوْصُوفِهَا وَمَا تُضَافُ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ وَصْفِ (الرَّحِيمِ) إِلَى ذُو الرَّحْمَةِ لِلتَّنْبِيهِ على أَنه خبر لَا نَعْتَ تَنْبِيهًا بِطَرِيقَةِ تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ، فَإِنَّ اسْمَ (الرَّحِيمِ) صَارَ شَبِيهًا بِالْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ، لِأَنَّهُ صِيغَ بِصِيغَةِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَبَعُدَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الِاشْتِقَاقِ فِيهِ وَاقْتَرَبَ مِنْ صِنْفِ الصِّفَةِ الذَّاتِيَّةِ.
وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ. عَنْ مَضْمُونِ جَوَابِ (لَوْ)، أَيْ لَمْ يُعَجِّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ إِذْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لِلْعَذَابِ مُتَأَخِّرٌ، وَهَذَا تَهْدِيدٌ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْمَوْئِلُ: مَفْعِلٌ مِنْ وَأَلَ بِمَعْنَى لَجَأَ، فَهُوَ اسْمُ مَكَانٍ بِمَعْنَى الْمَلْجَأِ.
وَأَكَّدَ النَّفْيَ بِ (لَنْ) رَدًّا عَلَى إِنْكَارِهِمْ، إِذْ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُفْلِتُونَ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُ تَأَخَّرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، أَيْ لِأَنْ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ دُونَ وَقْتِ وَعْدِهِ أَوْ مَكَانِ وَعْدِهِ، فَهُوَ مَلْجَؤُهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، أَيْ هُمْ غَيْرُ مفلتين مِنْهُ.
بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ أَطْلَقَ الْإِمَامَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُتَّبَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالشُّرُوطِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاء |
فَكَلِمَةُ كُلَّ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، وَمُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهَا دُونَ فَصْلِهَا مُرَاعًى فِيهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ شَيْءٍ كَلُّ مَا يُوجَدُ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ الْإِحْصَاءُ إِحْصَاءَ عِلْمٍ، أَيْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ الْمُبِينُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ إِحَاطَةٍ، أَيْ عَدَمُ تَفَلُّتِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَا يَنْفَلِتُ الْمَظْرُوفُ عَنِ الظَّرْفِ.
وَجُعِلَ عِلْمُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَنَّهُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِهِ تَعَلُقَاتُ الْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا مُفِيدًا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّكَالِيفِ أَوْ ضِدِّهَا بَلْ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَادِفُ الْمَوْجُودَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِ كُلَّ شَيْءٍ الْمَوْجُودُ بِالْفِعْلِ أَو مَا يقبل الْإِيجَادِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ، فَيَكُونُ إِحْصَاؤُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَمَقَادِيرُ كَوْنِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: ٢٨].
[١٣، ١٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
أَعْقَبَ وَصْفَ إِعْرَاضِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢)بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِطَابِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ يَا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا [الزمر: ١٠] أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ قَوْلًا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَقُولٌ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
نَقَلَ الْفَخْرُ عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْش قَالُوا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ
الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وَجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.
وَحَقًّا فَإِنَّ إِخْبَارَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى صَرِيحِهِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ تَوْجِيهَهُ إِلَى الْمُشْركين الَّذِي يَبْتَغُونَ صَرْفَهُ عَنْ ذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ عَلَى أَنَّهُ تَوْجِيهٌ لِبَقَائِهِ بِمَكَّةَ لَا يُهَاجِرُ مَعَهُمْ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ لِلْأَمْنِ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، فَلَعَلَّهُمْ تَرَقَّبُوا أَنْ يُهَاجِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ فَآذَنَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَيْ أَنَّ يُوَحِّدُهُ فِي مَكَّةَ فَتَكُونُ الْآيَةُ نَاظِرَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: ٩٤- ٩٥]، أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِأَنْ يُقِيمَ عَلَى التَّبْلِيغِ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ لَوْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ لَانْقَطَعَتِ الدَّعْوَةُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَتُهُمْ إِلَى الْحَبَشَةِ رُخْصَةً لَهُمْ إِذْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَمْ يُرَخَّصْ ذَلِكَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ جَاءَ قَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ ذِكْرِ أَنَّ حَيَاةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَمَاتَهُ لِلَّهِ، أَيْ فَلَا يَفْرَقَ مِنَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ الدِّينِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٢، ١٦٣] : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ.
مُمَاثَلَةٌ فِي النَّوْعِ، وَأَمَّا تَقْدِيرُ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمُرَاعًى فِيهِ عَظَمَةُ عَالَمِ الْجَزَاءِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمِقْدَارُ تَمَرُّدِ الْمُسِيءِ وَامْتِثَالِ الْمُحْسِنِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمَا يُنَاسِبُ عَالَمَ الدُّنْيَا مِنَ الضَّعْفِ. وَلِهَذَا أَعْقَبَهُ بقوله: وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَضَمِيرُ وَهُمْ عَائِدٌ إِلَى كُلُّ نَفْسٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْجَزَاءَ مِمَّا اقْتَضَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي جُعِلَ سَبَبًا أَوْ مُلَابِسًا لِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، فَهُوَ عَدْلٌ، فَلَيْسَ مِنَ الظُّلْمِ فِي شَيْءٍ
فَالْمُجَازَى غَيْرُ مَظْلُومٍ، وَبِالْجَزَاءِ أَيْضًا يَنْتَفِي أَثَرُ ظُلْمِ الظَّالِمِ عَنِ الْمَظْلُومِ إِذْ لَوْ تُرِكَ الْجَزَاءُ لَاسْتَمَرَّ الْمَظْلُوم مَظْلُوما.
[٢٣]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ٢٣]
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)
لَمَّا كَانَ الَّذِينَ حَسِبُوا أَنْ يَكُونُوا فِي الْآخِرَةِ فِي نِعْمَةٍ وَعِزَّةٍ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا قَالُوا ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا نَظَرٍ وَلَكِنْ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَشْتَهُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ دَوَامِ الْحَالِ الْحَسَنِ تَفَرَّعَ عَلَى حُسْبَانِهِمُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِهِمْ، فَعُطِفَ بِالْفَاءِ الِاسْتِفْهَامُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْجِيبِ، وَجُعِلَ اسْتِفْهَامًا عَنْ رُؤْيَةِ حَالِهِمْ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى بُلُوغِ حَالِهِمْ مِنَ الظُّهُورِ إِلَى حَدِّ أَن تكون مرثية.
وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إِلَخْ، فَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَقْصُودُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ تَنَاهَتْ حَالُهُمْ فِي الظُّهُورِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهَا مُخَاطَبٌ.
ومَنِ الْمَوْصُولَةُ صَادِقَةٌ عَلَى فَرِيقِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ حَسِبُوا أَنْ يَكُونَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَوَاءً بِقَرِينَةِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِقَوْلِهِ: وَقالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الجاثية: ٢٤] إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ حِجَاجَهُمُ الْمُسْلِمِينَ مُرَكَّزٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالْمُغَالَطَةِ، فَلَا نُهُوضَ
الْمُشْرِكِينَ وُصِفُوا آنِفًا بِأَنَّهُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ فَكَانُوا فِي تِلْكَ الْغَمْرَةِ أَشْبَهَ بِقَوْمِ لُوطٍ إِذْ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الْحجر: ٧٢]، وَلِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي عُذِّبَ بِهِ قَوْمُ لُوطٍ كَانَ حِجَارَةً أُنْزِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مُشَبَّهَةً بِالْمَطَرِ. وَقَدْ سُمِّيَتْ مَطَرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [الْفرْقَان: ٤٠] وَقَوْلِهِ: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: ٨٢] وَلِأَنَّ فِي قِصَّةِ حُضُورِ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ وَزَوْجِهِ عِبْرَةً بِإِمْكَانِ الْبَعْثِ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ بِشَارَتَهَا بِمَوْلُودٍ يُولَدُ لَهَا بَعْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْوِلَادَةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَعْثِ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَمَاتِ.
وَلَمَّا وُجِّهَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: هَلْ أَتاكَ عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ تَسْلِيَتُهُ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالسَّامِعِينَ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ أَوْ يُبَلِّغُهُمْ بِأَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ لِاتِّحَادِ الْأَسْبَابِ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فِي سُورَةِ ص [٢١]، وَأَنَّهُ يُفْتَتَحُ بِهِ الْأَخْبَارُ الْفَخْمَةُ الْمُهِمَّةُ.
وَالضَّيْفُ: اسْمٌ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَلِلْجَمْعِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرُ ضَافَ، إِذَا مَالَ فَأُطْلِقَ عَلَى الَّذِي يَمِيلُ إِلَى بَيْتِ أَحَدٍ لِيَنْزِلَ عِنْدَهُ. ثُمَّ صَارَ اسْمًا فَإِذَا لُوحِظَ أَصْلُهُ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ وَلَمْ يُؤَنِّثُوهُ وَلَا يَجْمَعُونَهُ وَإِذَا لُوحِظَ الِاسْمُ جَمَعُوهُ لِلْجَمَاعَةِ وَأَنَّثُوهُ لِلْأُنْثَى فَقَالُوا أَضْيَافٌ وَضُيُوفٌ وَامْرَأَةٌ ضَيْفَةٌ وَهُوَ هُنَا اسْمُ جَمْعٍ وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِ الْمُكْرَمِينَ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٦٨] قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.
وَالْمَعْنِيُّ بِهِ الْمَلَائِكَة الَّذِي أَظْهَرَهُمُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ مِنَ اللَّهِ لِتَنْفِيذِ الْعَذَابِ لِقَوْمِ لُوطٍ وَسَمَّاهُمُ اللَّهُ ضَيْفًا نَظَرًا لِصُورَةِ مَجِيئِهِمْ فِي هَيْئَةِ الضَّيْفِ كَمَا سمى الْملكَيْنِ الَّذين جَاءَا دَاوُدَ خَصْمًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: ٢١]، وَذَلِكَ مِنَ الِاسْتِعَارَةِ الصُّورِيَّةِ.
وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ: أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ.
وَلَعَلَّ سَبَبَ إِرْسَالِ ثَلَاثَةٍ لِيَقَعَ تَشَكُّلُهُمْ فِي شَكْلِ الرِّجَالِ لِمَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي أَسْفَارِهِمْ أَنْ لَا يَقِلَّ رَكْبُ الْمُسَافِرِينَ عَنْ ثَلَاثَةِ رِفَاقٍ. وَذَلِكَ أَصْلُ جَرَيَانِ الْمُخَاطَبَةِ
«اللَّهَ» لِمَا عَلِمْتَ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ الْإِلَهُ، أَيِ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَأَتْبَعَ هَذَا الِاسْمَ بِصِفَاتٍ رَبَّانِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنَزُّهِهِ عَنِ النَّقْصِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْفَاتِحَةُ بَرَاعَةَ اسْتِهْلَالٍ لِهَذِهِ السُّورَةِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ اسْمَهُ الْعَلَمَ بِعَشْرِ صِفَاتٍ هِيَ جَامِعَةٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَهِيَ: الْعَزِيزُ، الْحَكِيمُ، لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يُحْيِي، وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَصِيغَ فِعْلُ التَّسْبِيحِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى أَمْرٌ مُقَرَّرٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ مِنْ قَبْلُ وَأَلْهَمَهُ النَّاسَ وَأَوْدَعَ دَلَائِلَهُ فِي أَحْوَالِ مَا لَا اخْتِيَارَ لَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرَّعْد: ١٥] وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاء:
٤٤].
فَفِي قَوْلِهِ: سَبَّحَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَهْمَلُوا أَهَمَّ التَّسْبِيحِ وَهُوَ تَسْبِيحُهُ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنِّدِّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّهِ لَامُ التَّبْيِينِ. وَفَائِدَتُهَا زِيَادَةَ بَيَانِ ارْتِبَاطِ الْمَعْمُولِ بِعَامِلِهِ لِأَنَّ فِعْلَ التَّسْبِيحِ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْدِيَةِ بِحَرْفٍ، قَالَ تَعَالَى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ [الْإِنْسَان: ٢٦]، فَاللَّامُ هُنَا نَظِيرُهُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِمْ: شَكَرْتُ لَكَ، وَنَصَحْتُ لَكَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَة: ٣٠]، وَقَوْلِهِمْ سَقْيًا لَكَ وَرَعْيًا لَكَ، وَأَصْلُهُ: سَقْيُكَ وَرَعْيُكَ.
وَمَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَعُمُّ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا فَإِنَّ مَا اسْمُ مَوْصُولٍ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ فَجَرَى هُنَا عَلَى التَّغْلِيبِ، وَكُلُّهَا دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ فَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِالْقَوْلِ كَتَسْبِيحِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِالْفِعْلِ كَتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْهَا دَلَالَةٌ بِشَهَادَةِ الْحَال كَمَا تنبىء بِهِ أَحْوَالُ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّدْبِيرِ، فَإِنْ جُعِلَ عُمُومُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَخْصُوصًا بِمَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُمُ النُّطْقُ بِالتَّسْبِيحِ وَهُمُ الْعُقَلَاءُ كَانَ إِطْلَاقُ التَّسْبِيحِ عَلَى تَسْبِيحِهِمْ حَقِيقَةً.
وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ لِلْعَرَبِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ اسْمٍ مُثَنَّى أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ مُثَنَّى فَإِنَّ الْمُضَافَ يَصِيرُ جَمْعًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُ خِطَامِ الْمُجَاشِعِيِّ:
وَمَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ | ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ |
وَذَكَرَ لَهُ أَبُو حَيَّانَ شَاهِدًا قَوْلَ الشَّاعِرِ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي | سَقَاكِ مِنَ الْغُرِّ الْغَوَادِي مَطِيرُهَا |
التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ الْمُثَنَّى. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : إِنَّ ابْنَ مَالِكٍ غَلَطَ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَزَعْمَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ «الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ»، أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: اشْتَرِ رَأْسَ كَبْشَيْنِ يُرِيدُ رَأْسَيْ كَبْشَيْنِ خَطَأٌ. قَالَ: لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ اه. وَذَلِكَ يُؤَيِّدُ قَوْلَ ابْنِ عُصْفُورٍ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْمُضَافِ الْمُثَنَّى بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، أَيْ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ. وَقَيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُفَصَّلِ» هَذَا التَّعْبِيرَ بِقَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظَانِ مُتَّصِلَيْنِ. فَقَالَ: «وَيُجْعَلُ الِاثْنَانِ عَلَى لَفْظِ جَمْعٍ إِذَا كَانَا مُتَّصِلَيْنِ كَقَوْلِهِ: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَلَمْ يَقُولُوا فِي الْمُنْفَصِلَيْنِ: أَفَرَاسُهُمَا وَلَا غِلْمَانُهُمَا. وَقَدْ جَاءَ وَضَعَا رِحَالَهُمَا». فَخَالَفَ إِطْلَاقَ ابْنِ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» وَطَرِيقَةُ صَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ هُوَ ضِدُّ إِنْ تَتُوبا أَيْ وَإِنْ تُصِرَّا عَلَى الْعَوْدِ إِلَى تَأَلُّبِكُمَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْلَاهُ إِلَخْ.
وَالْمُظَاهَرَةُ: التَّعَاوُنُ، يُقَالُ: ظَاهَرَهُ، أَيْ أَيَّدَهُ وَأَعَانَهُ. قَالَ تَعَالَى: وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٤]. وَلَعَلَّ أَفْعَالَ الْمُظَاهِرِ وَوَصْفَ ظَهِيرٍ كُلَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ، وَهُوَ الظَّهْرُ لِأَنَّ الْمُعِينَ وَالْمُؤَيِّدَ كَأَنَّهُ يَشُدُّ ظَهْرَ مَنْ يُعِينُهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْمَعْ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الْفَرْعِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنْهَا فِعْلٌ مُجَرَّدٌ. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِعْلُ عَضَدَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: شَدَّ عَضُدَهُ.
وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يَقُولُونَ: الْقِيَامَةُ الْقِيَامَةُ، وَإِنَّمَا قِيَامَةُ أَحَدِهِمْ مَوْتُهُ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ
أَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَةً فَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ»، فَحَالَةُ الِاحْتِضَارِ هِيَ آخِرُ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَعْقُبُهَا مَصِيرُ الرُّوحِ إِلَى تَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى مُبَاشَرَةً.
وَهُوَ رَدْعٌ عَنْ إِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: ارْتَدِعُوا وَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي عِنْدَهُ تَنْقَطِعُ الْعَاجِلَةُ وَتَنْتَقِلُونَ إِلَى الْآجِلَةِ، فَيَكُونُ رَدْعًا عَلَى مَحَبَّةِ الْعَاجِلَةِ وَتَرْكِ الْعِنَايَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ مُؤَكِّدًا لِلرَّدْعِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: ٢٠] بَلْ هُوَ رَدْعٌ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الرَّدْعُ مِنْ إِيثَارِ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْآخِرَةِ.
وإِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَوْنِ الَّذِي يُقَدَرُ فِي الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلى رَبِّكَ.
وَالْمَعْنَى: الْمَسَاقُ يَكُونُ إِلَى رَبِّكَ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي.
وَجُمْلَةُ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ بَيَانٌ لِلرَّدْعِ وَتَقْرِيبٌ لِإِبْطَالِ الِاسْتِبْعَادِ الْمَحْكِيِّ عَنْ مُنْكِرِي الْبَعْث بقوله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦].
وإِذا ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ بِجَوَابِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.
وَتَقْدِيمُ إِلى رَبِّكَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ الْمَساقُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ.
وَضَمِيرُ بَلَغَتِ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِ بَلَغَتِ وَمِنْ ذِكْرِ التَّراقِيَ فَإِنَّ فِعْلَ بَلَغَتِ التَّراقِيَ يَدُلُّ أَنَّهَا رُوحُ الْإِنْسَانِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا بَلَغَتِ الرُّوحُ أَوِ النَّفْسُ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَى الضَّمِيرِ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَمَثَلُهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:
أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى | إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ |
وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ عَلَى عَدَمِ اهْتِدَاءِ هَؤُلَاءِ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِ الِاهْتِدَاءِ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالنُّطْقِ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ حَالٌ مِنَ الْعَقَبَةَ فِي قَوْلِهِ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ لِلتَّنْوِيهِ بِهَا وَأَنَّهَا لِأَهَمِّيَّتِهَا يُسْأَلُ عَنْهَا الْمُخَاطَبُ هَلْ أَعْلَمَهُ مُعْلِمٌ مَا هِيَ، أَيْ لَمْ يَقْتَحِمِ الْعَقَبَةَ فِي حَالِ جَدَارَتِهَا بِأَنْ تُقْتَحَمَ. وَهَذَا التَّنْوِيهُ يُفِيدُ التَّشْوِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنَ الْعَقَبَةِ.
وَمَا الْأُولَى اسْتِفْهَامٌ. وَمَا الثَّانِيَةُ مِثْلُهَا. وَالتَّقْدِيرُ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ مَا هِيَ الْعَقَبَةُ، أَيْ أَعْلَمَكَ جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ أَمْرًا عَزِيزًا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعْلِمُكَ بِهِ.
وَالْخِطَابُ فِي مَا أَدْراكَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ.
وَفِعْلُ أَدْراكَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولَيْنِ لِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ، فَكُّ رَقَبَةٍ بِرَفْعِ فَكُّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى رَقَبَةٍ وَرَفْعِ إِطْعامٌ عَطْفًا عَلَى فَكُّ وَجُمْلَةُ: فَكُّ رَقَبَةٍ بَيَانٌ لِلْعَقَبَةِ وَالتَّقْدِيرُ: هِيَ فَكُّ رَقَبَةٍ، فَحُذَفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ حَذْفًا لِمُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَتَبْيِينُ الْعَقَبَةِ بِأَنَّهَا: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِعَارَةِ الْعَقَبَةِ
لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الشَّاقَّةِ عَلَى النَّفْسِ. وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، فَلَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ مَنْ قَدَّرَ مُضَافًا فَقَالَ: أَيْ وَمَا أَدْرَاكَ مَا اقْتِحَامُ الْعَقَبَةِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ فَكَّ بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى صِيغَةِ فِعْلِ الْمُضِيِّ، وَبِنَصْبِ رَقَبَةً عَلَى الْمَفْعُولِ لِ فَكَّ أَوْ «أَطْعَمَ» بِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ عَيْنِ إِطْعامٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مُضِيٍّ عَطْفًا عَلَى فَكَّ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ: فَكُّ رَقَبَةٍ بَيَانًا لِجُمْلَةِ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، أَوْ تَكُونُ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَلَا فَكَّ رَقَبَةً أَوْ أَطْعَمَ. وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا تَقَرَّرَ آنِفًا.