وَأَنَّهُ لَمَّا سَكَنَ بَغْدَادَ وَعَلِقَتْ نَضَارَةُ النَّاسِ بِخَيَالِهِ قَالَ فِي أَوَّلِ مَا قَالَهُ:
عُيُونُ الْمَهَا بَيْنَ الرَّصَافَةِ وَالْجِسْرِ | جَلَبْنَ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ أَدْرِي وَلَا أَدْرِي (١) |
أَلَا إِنَّمَا لَيْلَى عَصَا خَيْزُرَانَةٌ | إِذَا لَمَسُوهَا بِالْأَكُفِّ تَلِينُ |
إِذَا قَامَتْ لِجَارَتِهَا تَثَنَّتْ | كَأَنَّ عِظَامَهَا مِنْ خَيْزُرَانِ |
وَكَأَنَّهَا لَمَّا مَشَتْ | أَيْمٌ تَأَوَّدَ فِي كَثِيبْ |
وَالِاسْتِحْيَاءُ هُنَا مَنْفِيٌّ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ، وَالتَّعَلُّلُ لِذَلِكَ بِأَنَّ نَفْيَ الْوَصْفِ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الِاتِّصَافِ تَعَلُّلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.
وَالضَّرْبُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ مِنْ قَوْلِهِمْ ضَرَبَ خَيْمَةً وَضَرَبَ بَيْتًا قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةً | بِكُوفَةِ الْجُنْدِ غَالَتْ وُدَّهَا غُولُ |
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا | وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ |
_________
(١) انْظُر: صفحة ٤ جُزْء ٣ من «محاضرات الْأَبْرَار» لِابْنِ عَرَبِيّ طبع حجر بمطبعة شعراوي سنة ١٢٨٢ هـ بِالْقَاهِرَةِ.
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [الْمَائِدَة: ٥]، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ قَوْلَهُمُ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَقَوْلَ الْآخَرِينَ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فَبَقِيَ تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ إِيَّاهُمْ مَشْمُولًا لِعُمُومِ آيَةِ الْبَقَرَةِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ سَلَكَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ مَنْ كَرِهَ تَزَوُّجَ الْكِتَابِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً أَنْ خَلِّ سَبِيلَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ حُذَيْفَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ تَعَاطَوُا الْمُومِسَاتِ مِنْهُنَّ.
وَقَالَ شُذُوذٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِمَنْعِ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ الْكِتَابِيَّةَ، وَزَعَمُوا أَنَّ آيَةَ سُورَةِ الْعُقُودِ نَسَخَتْهَا آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَيَهُودِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَنَصْرَانِيَّةٍ تَزَوَّجَهَا، فَقَالَا لَهُ نُطَلِّقُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا تَغْضَبُ فَقَالَ: لَوْ جَازَ طَلَاقُكُمَا
لَجَازَ نِكَاحُكُمَا، وَلَكِنْ أُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا صَغَرَةً وَقَمَاءَةً، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهَذَا لَا يُسْنَدُ جَيِّدًا وَالْأَثَرُ الْآخَرُ عَنْ عُمَرَ أَسْنَدُ مِنْهُ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الْقَوْلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ وَإِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ لَهُمَا تَزَوُّجَهُمَا حَذَرًا مِنْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا النَّاسُ فَيَزْهَدُوا فِي الْمُسْلِمَاتِ.
وحَتَّى يُؤْمِنَّ غَايَةٌ لِلنَّهْيِ فَإِذَا آمَنَ زَالَ النَّهْيُ وَلِذَلِكَ إِذَا أَسْلَمَ الْمُشْرِكُ وَلَمْ تُسْلِمْ زَوْجَتُهُ تَبِينُ مِنْهُ إِلَّا إِذَا أَسْلَمَتْ عَقِبَ إِسْلَامِهِ بِدُونِ تَأْخِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تَنْبِيهٌ عَلَى دَنَاءَةِ الْمُشْرِكَاتِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ تَزَوُّجِهِنَّ وَمِنَ الِاغْتِرَارِ بِمَا يَكُونُ لِلْمُشْرِكَةِ مِنْ حَسَبٍ أَوْ جَمَالٍ أَوْ مَالٍ وَهَذِهِ طَرَائِقُ الْإِعْجَابِ فِي الْمَرْأَةِ الْمَبَالَغُ عَلَيْهِ بقوله: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ تَزَوُّجَ حُرَّةٍ مُؤْمِنَةٍ فَلْيَتَزَوَّجْ أَمَةً مُؤْمِنَةً خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّةً مُشْرِكَةً، فَالْأَمَةُ هُنَا هِيَ الْمَمْلُوكَةُ، وَالْمُشْرِكَةُ الْحُرَّةُ بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ فَالْكَلَامُ وَارِدٌ مَوْرِدَ التَّنَاهِي فِي تَفْضِيلِ أَقَلِّ أَفْرَادِ هَذَا الصِّنْفِ عَلَى أَتَمِّ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَتِ الْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرًا مِنْ كُلِّ مُشْرِكَةٍ فَالْحُرَّةُ الْمُؤْمِنَةُ خَيْرٌ مِنَ الْمُشْرِكَةِ بِدَلَالَةِ فَحَوَى الْخِطَابِ الَّتِي يَقْتَضِيهَا السِّيَاقُ، وَلِظُهُورِ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَفْضِيلِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ عَلَى الْأَمَةِ الْمُشْرِكَةِ فَإِنَّهُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُخَاطَبُونَ الْمُؤْمِنُونَ وَلقَوْله: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ فَإِنَّ الْإِعْجَابَ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ.
وَجَعَلَ الدَّعْوَةَ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ، لأنّ دَعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَّةٌ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَقَدْ أَشْعَرَ هَذَا بِأَنَّ انْتِفَاءَ سُؤَالِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ لِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لَهُمْ وَنُصْحٌ لِنَفْعِهِمْ فَلَيْسَ مُحْتَاجًا لِجَزَاءٍ مِنْهُمْ، ثَانِيهمَا: أَنَّهُ ذِكْرَى لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ وَلَيْسَ خاصّا بهم.
[٩١]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩١]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١)
وُجُودُ وَاوِ الْعَطف فِي صدر هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ مُتَنَاسِقَةً مَعَ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَنَّهَا وَإِيَّاهَا وَارِدَتَانِ فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ هُوَ إِبْطَالُ مَزَاعِمِ الْمُشْرِكِينَ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ [الْأَنْعَام: ٨٩]، وَأَنَّهَا لَيْسَتِ ابْتِدَائِيَّةً فِي غَرَضٍ آخَرَ. فَوَاوُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ قَدَرُوا عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْله: هؤُلاءِ [الْأَنْعَام:
٨٩] كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اسْتَشْعَرُوا نُهُوضَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِمَّا نَزَلَ عَلَى الرُّسُلِ، وَدَحَضَ قَوْلَهُمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: ٧] تَوَغَّلُوا فِي الْمُكَابَرَةِ وَالْجُحُودِ فَقَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وَتَجَاهَلُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ رِسَالَةِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَكِتَابِهِ. فَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَقَدْ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ كَالنَّتِيجَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالشَّرَائِعِ وَالْكُتُبِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:
ابْتِدَاءً عَجِيبًا فِي بَابِ الْإِيجَازِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي عَمَلٍ نِهَايَتُهُ الْبُلُوغُ إِلَى مَكَانٍ، فَعُلِمَ أَن ذَلِك الْعلم هُوَ سَيْرُ سَفَرٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتَاهُ اسْتَعْظَمَ هَذِهِ الرِّحْلَةَ وَخَشِيَ أَنْ تَنَالَهُمَا فِيهَا مَشَقَّةٌ تَعُوقُهُمَا عَنْ إِتْمَامِهَا، أَوْ هُوَ بِحَيْثُ يَسْتَعْظِمُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا رِحْلَةٌ بَعِيدَةٌ، وَذَلِكَ شَأْنُ أَسْبَابِ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَسِيرُ إِلَيْهِ مَكَانٌ يَجِدُ عِنْدَهُ مَطْلَبَهُ.
وأَبْرَحَ مُضَارِعُ بَرِحَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، بِمَعْنَى زَالَ يَزُولُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَاسْتُعِيرَ لَا أَبْرَحُ لِمَعْنَى: لَا أَتْرُكُ، أَوْ لَا أَكُفُّ عَنِ السَّيْرِ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُضَارِعُ بَرِحَ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ نَاقِصٌ لَا يُسْتَعْمَلُ نَاقِصًا إِلَّا مَعَ النَّفْيِ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا بِقَرِينَةِ الْكَلَامِ، أَيْ لَا أَبْرَحُ سَائِرًا. وَعَنِ الرَّضِيِّ أَنَّ حَذْفَ خَبَرِهَا قَلِيلٌ.
وَحَذْفُ ذِكْرِ الْغَرَضِ الَّذِي سَارَ لِأَجْلِهِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَنَّهُ سَيُذْكَرُ بَعْدُ، وَهُوَ حَذْفُ إِيجَازٍ وَتَشْوِيقٍ، لَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ فِي حِكَايَةِ الْقِصَّةِ، لِإِخْرَاجِهَا عَنْ مَطْرُوقِ الْقِصَصِ إِلَى أُسْلُوبِ بَدِيعِ الْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ قَضَاءً لِحَقِّ بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَارِدٌ
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ حَدِيثِ: «عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَيَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَن النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: أَنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا.
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ.
قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي عَلَمًا أُعَلِّمُ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ مَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ وَقَالَ لِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ، قَالَ (أَيْ فَتَاهُ) : مَا كَلَّفْتَ كَثِيرًا. ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَة وضعا رؤوسهما فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ
هَذِهِ الْأَبَاطِيلِ إِلَى الْإِلَهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَخْ.
وَصَالِحٌ لِأَنْ يَصْدُرُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذين لم يتنصّروا لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَبَقِيَّةَ الْيَهُودِ سَوَاءٌ وَأَنْ لَا فَضْلَ لَهُمَا بِمَا يَزْعُمُونَ مِنَ النُّبُوءَةِ وَيَقْتَضِي إِنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَنَزَلَ شَيْئًا، أَيْ بَعْدَ التَّوْرَاةِ. فَمِنْ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ جَمْعُ مُقَالَةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَاخْتِيَارُ وَصْفِ الرَّحْمنُ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَفَرَةِ وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِعَقِيدَةِ الْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الْيُونَانَ لَا يَعْرِفُونَ اسْمَ اللَّهِ، وَرَبُّ الْأَرْبَابِ عِنْدَهُمْ هُوَ (زِفْس) وَهُوَ مَصْدَرُ الرَّحْمَةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَتَجَنَّبُونَ النُّطْقَ بِاسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ فِي لُغَتِهِمْ (يَهْوَه) فَيُعَوِّضُونَهُ بِالصِّفَاتِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ اسْتِفْهَامٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَخْبَارٍ مَحْذُوفَةٍ فَجُمْلَةُ تَكْذِبُونَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ عَنْ ضمير أَنْتُمْ.
[١٦، ١٧]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧)
حُكِيَتْ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ عَلَى سَنَنِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحِكَايَةِ أَقْوَالِ الْمُتَحَاوِرِينَ دُونَ عَطْفٍ.
ورَبُّنا يَعْلَمُ قَسَمٌ لِأَنَّهُ اسْتِشْهَادٌ بِاللَّهِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ يَمِينٌ قَدِيمَةٌ انْتَقَلَهَا الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنِ عَبَّادٍ:
لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ | هُـ وَإِنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي |
وَهُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَمِينٌ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ فِيهَا كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ لَهُمْ قَوْلًا بِأَنَّ الْحَالِفَ بِهِ كَاذِبًا تَلْزَمُهُ الرِّدَّةُ لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَآلَ إِلَى جَعْلِ عِلْمِ اللَّهِ جَهْلًا. وَهَذَا يَرْمِي إِلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّحْذِيرِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يُكَفِّرُ أَحَدٌ بِلَوَازِمَ بَعِيدَةٍ.
وَأَمَّا خُسْرَانُهُمْ أَهْلِيهِمْ فَهُوَ مِثْلُ خُسْرَانِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَغْرَوْا أَهْلِيهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِالْكُفْرِ كَمَا أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَهْلِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَنْفَعُوهُمْ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: ٣٧]، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا [التَّحْرِيم: ٦]، فَكَانَ خُسْرَانُهُمْ خُسْرَانًا عَظِيمًا.
فَقَوْلُهُ: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ اسْتِئْنَافٌ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَذْلَكَةِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ خَسِرُوا بِأَنَّهُمْ خَسِرُوا أَحَبَّ مَا عِنْدَهُمْ وَبِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْحَصَرَ فِيهِمْ جِنْسُ الْخَاسِرِينَ، يُسْتَخْلَصُ مِنْهُ أَنَّ خَسَارَتَهُمْ أَعْظَمُ خَسَارَةٍ وَأَوْضَحُهَا لِلْعَيَانِ، وَلِذَلِكَ أُوثِرَتْ خَسَارَتُهُمْ بِاسْمِ الْخُسْرَانِ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرِ الْخَسَارَةِ دَالٌّ عَلَى قُوَّةِ الْمَصْدَرِ وَالْمُبَالَغَةِ فِيهِ.
وَأُشِيرَ إِلَى الْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ خَسَارَتِهِمْ، بِأَنِ افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ دَاخِلًا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْمُشَارِ إِلَيْهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِتَوَسُّطِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْحَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
[١٦]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يَا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.
بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الزمر: ١٥]، وَخُصَّ بِالْإِبْدَالِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ خُسْرَانَهِمْ عَلَيْهِمْ لِتَسَلُّطِهِ عَلَى إِهْلَاكِ أَجْسَامِهِمْ. وَالْخُسْرَانُ يَشْتَمِلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخِزْيِ وَغَضَبِ اللَّهِ وَالْيَأْسِ مِنَ النَّجَاةِ. فَضَمِيرُ لَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَجْمُوعِ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ [الزمر: ١٥].
وَالظُّلَلُ: اسْمُ جَمْعِ ظُلَّةٍ، وَهِيَ شَيْءٌ مُرْتَفِعٌ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ مِثْلُ الصُّفَّةِ يَسْتَظِلُّ بِهِ الْجَالِسُ تَحْتَهُ، مُشْتَقَّةُ مِنَ الظِّلِّ لِأَنَّهَا يَكُونُ لَهَا ظِلٌّ فِي الشَّمْسِ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢١٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [٣٢]. وَهِيَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلطَّبَقَةِ الَّتِي تَعْلُو أَهْلَ النَّارِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: مِنَ النَّارِ، شُبِّهَتْ بِالظُّلَّةِ فِي الْعُلُوِّ وَالْغَشَيَانِ
وَأَصْلُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ تَتَذَكَّرُونَ.
فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقِرَاءَتُهُمْ بِقَلْبِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ ذَالًا لِتُقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا قَصْدًا لِلتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا عَاصِمٌ فَقِرَاءَتُهُ عَلَى حَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ.
[٢٤]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ٢٤]
وَقالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
هَذَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
[الجاثية: ٢١] أَيْ بَعْدَ أَنْ جَادَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَسَتَكُونُ عُقْبَاهُمْ خَيْرًا مِنْ عُقْبَى الْمُسْلِمِينَ، يَقُولُونَ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّوَرُّكِ وَهُمْ لَا يُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ بَلْ ضَرَبُوهُ جَدَلًا وَإِنَّمَا يَقِينُهُمْ قَوْلُهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٢٩] وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَالشَّأْنِ، أَيْ قِصَّةِ الْخَوْضِ فِي الْبَعْثِ تَنْحَصِرُ فِي أَنْ لَا حَيَاةَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، أَيِ الْقِصَّةِ هِيَ انْتِفَاءُ الْبَعْثِ كَمَا أَفَادَهُ حَصْرُ الْأَمْرِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، أَيِ الْحَاضِرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَّا، أَيْ فَلَا تُطِيلُوا الْجِدَالَ مَعَنَا فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هِيَ ضَمِيرَ الْحَيَاةِ بِاعْتِبَارِ دِلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ لَفْظِ الْحَيَاةِ فَيَكُونُ حَصْرًا لِجِنْسِ الْحَيَاةِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَجُمْلَةُ نَمُوتُ وَنَحْيا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أَيْ لَيْسَ بَعْدَ هَذَا الْعَالَمِ عَالَمٌ آخَرُ فَالْحَيَاةُ هِيَ حَيَاةُ هَذَا الْعَالَمِ لَا غَيْرَ فَإِذَا مَاتَ مَنْ كَانَ حَيًّا خَلْفَهُ مَنْ يُوجَدُ بَعْدَهُ. فَمَعْنَى نَمُوتُ وَنَحْيا يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضٌ أَيْ يَبْقَى حَيًّا إِلَى أَمَدٍ أَوْ يُولَدُ بَعْدَ مَنْ مَاتُوا. وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا التَّطَوُّرِ عُبِّرَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، أَيْ تَتَجَدَّدُ فِينَا الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ.
فَالْمَعْنَى: نَمُوتُ وَنَحْيَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَيْسَ ثَمَّةَ حَيَاةٌ أُخْرَى. ثُمَّ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْكِيَّةً بِلَفْظِ كَلَامِهِمْ فَلَعَلَّهَا مِمَّا جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ حِكَايَةً لِمَعْنَى كَلَامِهِمْ فَهِيَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا: يَمُوتُ بَعْضُنَا وَيَحْيَا بَعْضُنَا ثُمَّ يَمُوتُ فَصَارَ كَالْمَثَلِ.
وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إِبْرَاهِيم: ٩].
وَقَوْلُهُا عَجُوزٌ عَقِيمٌ خَبَرٌ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنَا عَجُوزٌ عَقِيمٌ.
وَالْعَجُوزُ: فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَهُوَ يَسْتَوِي فِي الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَجْزِ وَيُطْلَقُ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ لِمُلَازِمَةِ الْعَجْزِ لَهُ غَالِبًا.
وَالْعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَهُوَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ إِذَا جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَقَمَهَا اللَّهُ، إِذَا خَلَقَهَا لَا تَحْمَلُ بِجَنِينٍ، وَكَانَتْ سَارَّةُ لَمْ تَحْمِلْ قَطُّ.
وَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَادِثِ وَهُوَ التَّبْشِيرُ بِغُلَامٍ. وَالْكَافُ
لِلتَّشْبِيهِ، أَيْ مِثْلُ قَوْلِنَا: قَالَ رَبُّكِ فَنَحْنُ بَلَّغْنَا مَا أُمِرْنَا بِتَبْلِيغِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ إِلَّا تَبْلِيغًا مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقُ وَعْدِهِ وَأَنَّهُ لَا مَوْقِعَ لِتَعَجُّبِ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ يُدَبِّرُ تَكْوِينَ مَا يُرِيدُهُ، وَعَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهَا مِنَ الْعَجْزِ وَالْعُقْمِ.
وَهَذِهِ الْمُحَاوَرَةُ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَسَارَّةَ امْرَأَةِ إِبْرَاهِيمَ وَقَعَ مِثْلُهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قُصَّ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، فَحُكِيَ هُنَا مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَارَّةَ، وَحُكِيَ هُنَاكَ مَا دَارَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَالْمَقَامُ وَاحِدٌ، وَالْحَالَةُ وَاحِدَةٌ كَمَا بُيِّنَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢] قالَتْ يَا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.
وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِصِفَةِ الْوُجُودِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُ اللَّهِ وَاجِبًا وُجُودُهُ لَمَا كَانَ اللَّهُ مَوْصُوفًا بِالْأَوَّلِيَّةِ، فَالْمَوْجُودَاتُ غَيْرُ اللَّهِ مُمْكِنَةٌ، وَالْمُمْكِنُ لَا يَتَّصِفُ بِالْأَوَّلِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، فَلِذَلِكَ تَثْبُتُ لَهُ الْوَحْدَانِيَّةُ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةُ فِي الْوُجُودِ تَقْتَضِي أَنْ تَثْبُتَ لِلَّهِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ اقْتِضَاءً عَقْلِيًّا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ الْبَيِّنِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ مَلْزُومِهِ وَتَصَوُّرِهِ الْجَزْمُ بِالْمُلَازَمَةِ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا وَصْفُ الْآخِرُ فَهُوَ ضِدُّ الْأَوَّلِ، فَأَصْلُهُ: هُوَ الْمَسْبُوقُ بِمَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ مُتَحَدَّثٍ عَنْهَا فِي الْكَلَامِ أَوْ مُشَارٍ إِلَيْهَا فِيهِ بِمَا يُذْكَرُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، أَوْ تَمْيِيزِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الْأَعْرَاف: ٣٨] أَيْ أُخْرَاهُمْ فِي الْإِدْرَاكِ فِي النَّارِ،
وَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آخِرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ... »
إِلَخْ، وَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الثَّانِيَةِ «وَجَلَسَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ»، أَيِ الْجَمَاعَاتِ الْأُخْرَيَاتِ فِي الْجُلُوسِ، وَهُوَ وَصْفٌ نِسْبِيٌّ.
وَوَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ الْآخِرُ بَعْدَ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ مَعَ كَوْنِ الْوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ يَقْتَضِي انفكاك جهتي الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ كَوْنَهُ الْأَوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَصْفُهُ بِ الْآخِرُ مُتَعَلِّقًا بِانْتِقَاضِ ذَلِكَ الْوُجُودِ، أَيْ هُوَ الْآخِرُ بعد جَمِيع موجودات السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها [مَرْيَم: ٤٠] وَقَوْلِهِ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَص: ٨٨].
فَتَقْدِيرُ الْمَعْنَى: وَالْآخِرُ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ الَّذِي تَقَرَّرَ بِوَصْفِهِ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ. وَلَيْسَ فِي هَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ زَائِلٌ يَنْتَابُهُ الْعَدَمُ، إِذْ لَا يُشْعِرُ وَصْفُ الْآخِرُ بِالزَّوَالِ لَا مُطَابَقَةً وَلَا الْتِزَامًا، وَهَذَا هُوَ صِفَةُ الْبَقَاءِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ. فَآلَ مَعْنَى الْآخِرُ إِلَى مَعْنَى «الْبَاقِي»، وَإِنَّمَا أُوثِرَ وَصْفُ الْآخِرُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْبَلَاغَةِ لِيَتِمَّ الطِّبَاقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَقَدْ عُلِمَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ الْبَقَاءَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي الْحُدُوثَ عَلَى خِلَافٍ فِي تَعْيِينِ الْحَوَادِثِ الْبَاقِيَةِ، بِخِلَافِ وصف الْقدَم فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمُتَنَافٍ مَعَ الْحُدُوثِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ دَلَالَةَ قَصْرٍ مِنْ طَرِيقِ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ.
رَسُولَهُ خَيْرًا مِنْكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ
الْآيَةَ.
وَهِيَ مَوْعِظَةٌ بِأَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ بِطَلَاقِهِنَّ وَأَنَّهُ تَصِيرُ لَهُ أَزْوَاجٌ خَيْرٌ مِنْهُنَّ.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ مَوَاعِظِ هَذِهِ الْآيِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يُبْدِلَهُ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ مُضَارِعِ بَدَّلَ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِتَخْفِيفٍ مُضَارِعِ أَبْدَلَ.
وَالْمُسْلِمَاتُ: الْمُتَّصِفَاتُ بِالْإِسْلَامِ. وَالْمُؤْمِنَاتُ: الْمُصَدِّقَاتُ فِي نُفُوسِهِنَّ.
وَالْقَانِتَاتُ: الْقَائِمَاتُ بِالطَّاعَةِ أَحْسَنَ قِيَامٍ. وَتَقَدَّمَ الْقُنُوتُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٨]. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٣١].
وَفِي هَذَا الْوَصْفِ إِشْعَارٌ بِأَنَّهُنَّ مُطِيعَاتٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِمَا وَقَعَ مِنْ تَقْصِيرِ إِحْدَاهُنَّ فِي ذَلِكَ فَعَاتَبَهَا اللَّهُ وَأَيْقَظَهَا لِلتَّوْبَةِ.
وَالتَّائِبَاتُ: الْمُقْلِعَاتُ عَنِ الذَّنْبِ إِذَا وَقَعْنَ فِيهِ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِإِعَادَةِ التَّحْرِيضِ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِمَا الَّتِي أُمِرَتَا بِهَا بِقَوْلِهِ: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ [التَّحْرِيم: ٤].
وَالْعَابِدَاتُ: الْمُقْبِلَاتُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ تُفِيدُ الْإِشَارَةَ إِلَى فَضْلِ هَذِهِ التَّقْوَى وَهُوَ الْمَعْنَى السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي الْعِبْرَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَالسَّائِحَاتُ: الْمُهَاجِرَاتُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا الْوَصْفُ لِتَنْبِيهِهِنَّ عَلَى أَنَّهُنَّ إِنْ كُنَّ يَمْتُنَّ بِالْهِجْرَةِ فَإِنَّ الْمُهَاجِرَاتِ غَيْرَهُنَّ كَثِيرٌ، وَالْمُهَاجِرَاتُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الْآيِ.
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ انْتَصَبَتْ عَلَى أَنَّهَا نُعُوتٌ لِ أَزْواجاً، وَلَمْ يُعْطَفْ بَعْضُهَا على بعض الْوَاو، لِأَجْلِ التَّنْصِيصِ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ تِلْكَ الصِّفَاتِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَوْ عُطِفَتْ بِالْوَاوِ لِاحْتِمَلِ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلتَّقْسِيمِ، أَيْ تَقْسِيمِ الْأَزْوَاجِ إِلَى مَنْ يَثْبُتُ لَهُنَّ بَعْضُ تِلْكَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَتْ إِفَادَةُ ثُبُوتِ إِحْدَى صِفَتَيْنِ دُونَ أُخْرَى مِنَ النَّعْتَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ عُطِفَ بِالْوَاوِ قَوْلُهُ:
وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَّبَ الرَّسُولَ وَالْقُرْآنَ وَبِالْبَعْثِ، وَتَوَلَّى عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا وَعَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة:
٣٠]، أَيْ فَقَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ وَسِيقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ خَالِيًا مِنَ الْعُدَّةِ لِذَلِكَ اللِّقَاءِ.
وَفِي الْكَلَامِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ وَتَنَدَّمَ عَلَى مَا أَضَاعَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: ٢١- ٢٤].
وَفِعْلُ صَدَّقَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَالْمعْنَى: فَلَا ءامن بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ صَدَّقَ بِمَعْنَى أَعْطَى الصَّدَقَةَ، وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ التَّصْرِيفِ إِذْ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: تَصَدَّقَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ الِاسْتِدْرَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَعُطِفَ وَلا صَلَّى على نفس التَّصْدِيقِ تَشْوِيهًا لَهُ بِأَنَّ حَالَهُ مُبَائِنُ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ.
وَلَا نَافِيَةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْمَاضِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا نَفْيٌ آخَرُ وَذَلِكَ حِينَ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَمْرَيْنِ مِثْلَ مَا هُنَا وَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ « (لَا) بِمَعْنَى (لَمْ) وَلَكِنَّهُ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَبْدُ اللَّهِ خَارِجٌ وَلَا فُلَانٌ، وَلَا يَقُولُونَ: مَرَّرْتُ بِرَجُلٍ لَا مُحْسِنٍ حَتَّى يُقَالَ: وَلَا مُجْمِلٍ» اهـ فَإِذَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ نَفْيٌ آخَرُ فَلَا يُؤْتَى بَعْدَهَا بِفِعْلِ مُضِيٍّ إِلَّا فِي إِرَادَةِ الدُّعَاءِ نَحْوَ: «لَا فُضَّ فُوكَ» وَشَذَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: ١١] فَإِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِحَرْفِ لَا وَهُوَ الْعَقَبَةُ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مَنْفِيَّةً بَيَّنَهَا قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ
رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ فَقَالَ لي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»
وَالتَّحَنُّثُ: التَّعَبُّدُ يَعْنِي
أَنَّ دُخُولَهُ فِي الْإِسْلَام أَفَادَهُ إِعْطَاءَ ثَوَابٍ عَلَى أَعْمَالِهِ كَأَنَّهُ عَمِلَهَا فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا دُونَ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ كَانَ مُؤْمِنًا، لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أَدَلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِيمَانِ مِنَ الْوَصْفِ بِمُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَمَاعَةِ أَقْوَى مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْمَوْصُوفِينَ بِهَا فَإِنَّ كَثْرَةَ الْخَيْرِ خَيْرٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٧]، ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَقْوِيَةٌ أُخْرَى لِلْوَصْفِ، وَهُوَ جَعْلُهُ بِالْمَوْصُولِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْإِيمَانِ بَيْنَ الْفِرَقِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ آمَنُوا لِلْعِلْمِ بِهِ أَيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ. فَجُعِلَ الْفِعْلُ كَالْمُسْتَغْنِي عَنِ الْمُتَعَلَّقِ.
وَأَيْضًا لِيَتَأَتَّى مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا تَخَلُّصٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وَلِبِشَارَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ.
وَخَصَّ بِالذِّكْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْمُؤْمِنِينَ تَوَاصِيَهِمْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصِيَهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَشْرَفُ صِفَاتِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الصَّبْرَ مِلَاكُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ كَبْحِ الشَّهْوَةِ النَّفْسَانِيَّةِ وَذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ.
وَالْمَرْحَمَةُ مِلَاكُ صَلَاحِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الْفَتْح: ٢٩].
وَالتَّوَاصِي بِالرَّحْمَةِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنِ اتِّصَافِهِمْ بِالْمَرْحَمَةِ لِأَنَّ مَنْ يُوصِي بِالْمَرْحَمَةِ هُوَ الَّذِي عَرَفَ قَدْرَهَا وَفَضْلَهَا، فَهُوَ يَفْعَلُهَا قَبْلَ أَنْ يُوصِيَ بِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٨].
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الصَّبْرِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْمَرْحَمَةِ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت: ٣٣- ٣٥] وَقَوْلِهِ: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الْفجْر: ١٧، ١٨].