وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ، فَهُوَ التَّمَلِّي مِنْ أَسَالِيبِهِمْ فِي خُطَبِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَمُحَادَثَاتِهِمْ، لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ لِمُمَارَسَةِ الْمُوَلَّدِ ذَوْقٌ يَقُومُ عِنْدَهُ مَقَامَ السَّلِيقَةِ وَالسَّجِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ «وَالذَّوْقُ كَيْفِيَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا تُدْرِكُ الْخَوَاصَّ وَالْمَزَايَا الَّتِي لِلْكَلَامِ الْبَلِيغِ» قَالَ شَيْخُنَا الْجَدُّ الْوَزِيرُ «وَهِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ تَتَبُّعِ اسْتِعْمَالِ الْبُلَغَاءِ فَتَحْصُلُ لِغَيْرِ الْعَرَبِيِّ بِتَتَبُّعِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْكَلَامِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ، فَدَعْوَى مَعْرِفَةِ الذَّوْقِ لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنَ الْخَاصَّةِ وَهُوَ يَضْعُفُ وَيَقْوَى بِحَسَبِ مُثَافَنَةِ ذَلِكَ التَّدَبُّرِ» اهـ.
وَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي قَوْلِهِ الْمَقْطُوعِ بِبُلُوغِهِ غَايَةَ الْبَلَاغَةِ الْمُشِيرِ إِلَى وُجُوبِ اخْتِيَارِ الْمُمَارِسِ لِمَا يُطَالِعُهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْبَلَاغَةِ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ، نَحْوَ «المعلقات» و «الحماسة» وَنَحْوَ «نَهْجِ الْبَلَاغَةِ» وَ «مَقَامَاتِ الْحَرِيرِيِّ» وَ «رَسَائِلِ بَدِيعِ الزَّمَانِ».
قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» قُبَيْلَ الْكَلَامِ عَلَى اعْتِبَارَاتِ الْإِسْنَادِ الْخَبَرِيِّ «لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ فِي صِنَاعَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْجِعُ فِي أُصُولِهَا وَتَفَارِيعِهَا إِلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ، أَنْ يَكُونَ الدخيل فِيهَا كالناشىء عَلَيْهَا فِي اسْتِفَادَةِ الذَّوْقِ مِنْهَا، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الصِّنَاعَةُ مُسْتَنِدَةً إِلَى تَحْكِيمَاتٍ وَضْعِيَّةٍ وَاعْتِبَارَاتٍ إِلْفِيَّةٍ، فَلَا بَأْسَ عَلَى الدَّخِيلِ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، أَنْ يُقَلِّدَ صَاحِبَهُ فِي بَعْضِ فَتَاوَاهُ إِنْ فَاتَهُ الذَّوْقُ هُنَاكَ إِلَى أَنْ يَتَكَامَلَ لَهُ عَلَى مَهْلٍ مُوجِبَاتُ ذَلِكَ الذَّوْقِ اهـ».
وَلِذَلِكَ- أَيْ لِإِيجَادِ الذَّوْقِ أَوْ تَكْمِيلِهِ- لَمْ يَكُنْ غِنًى لِلْمُفَسِّرِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْآيَةِ بِبَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لِتَكْمِيلِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الذَّوْقِ، عِنْدَ خَفَاءِ الْمَعْنَى، وَلِإِقْنَاعِ السَّامع والمتعلم الَّذين لَمْ يَكْمُلْ لَهُمَا الذَّوْقُ فِي الْمُشْكِلَاتِ.
وَهَذَا- كَمَا قُلْنَاهُ آنِفًا- شَيْءٌ وَرَاءَ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِلْمُ الْبَلَاغَةِ بِهِ يَحْصُلُ انْكِشَافُ بَعْضِ الْمَعَانِي وَاطْمِئْنَانُ النَّفْسِ لَهَا، وَبِهِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: ١١]، وَعَرَضَ لَدَيْهِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ قَوْلِهِ: وَلا نِساءٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَوْمٌ عطف مباين، أَوْ عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ فَاسْتَشْهَدَ الْمُفَسِّرُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ زُهَيْرٍ:
وَمِنْ مُكَمِّلَاتِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وُجُوبُ دَعْوَتِنَا الْأُمَمَ لِلْإِسْلَامِ، لِيَقُومَ ذَلِكَ مَقَامَ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إِيَّاهُمْ حَتَّى تَتِمَّ الشَّهَادَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ.
وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْأُمَمِ تَكُونُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ اكْتَفَى فِي الْآيَةِ بِتَعْدِيَتِهَا بِعَلَى إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مُعْظَمَ شَهَادَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَهَمُّهَا شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُعْرِضِينَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ شَهِدَ لَهُمْ إِيمَانُهُمْ فَالِاكْتِفَاءُ بِعَلَى تَحْذِيرٌ لِلْأُمَمِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَتَنْوِيهٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِحَالَةِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ وَصْمَةِ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ يُشْهَدُ عَلَيْهِمْ وَبِحَالَةِ تَشْرِيفِهِمْ بِهَاتِهِ الْمَنْقَبَةِ وَهِيَ إِثْقَافُ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً مَعْطُوفٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَلَيْسَ عِلَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ بَلْ هُوَ تَكْمِيلٌ لِلشَّهَادَةِ الْأُولَى لِأَنَّ جَعْلَنَا وَسَطًا يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى
الشَّهَادَةِ لَنَا وَانْتِفَاءُ الشَّهَادَةِ عَلَيْنَا، فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَشَهَادَةُ الرَّسُولِ عَلَيْنَا فِيهَا هِيَ شَهَادَتُهُ بِذَاتِهِ عَلَى مُعَاصِرِيهِ وَشَهَادَةُ شَرْعِهِ عَلَى الَّذِينَ أَتَوا بعده إِنَّمَا بِوَفَائِهِمْ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ شَرْعُهُ وَإِمَّا بِعَكْسِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَهِيَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّسُولِ بِصِدْقِ الْأُمَّةِ فِيمَا شَهِدَتْ بِهِ، وَمَا
رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصِّحَاح» :«فَلَيُذَادَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ حَوْضِي فَأَقُولُ يَا رَبِّ أُمَّتِي فَيُقَالُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ إِنَّهُمْ بَدَّلُوا وَغَيَّرُوا فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي»
. وَتَعْدِيَةُ شَهَادَةِ الرَّسُولِ عَلَى الْأُمَّةِ بِحَرْفِ عَلَى مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَإِلَّا فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ لِلْأُمَّةِ وَقِيلَ بَلْ لِتَضْمِينِ شَهِيداً مَعْنَى رَقِيبًا وَمُهَيْمِنًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى التَّنْوِيهِ بِالشَّهَادَةِ وَتَشْرِيفِهَا حَتَّى أَظْهَرَ الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلّا بعد حصطولها. وَيُؤْخَذُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ شَهِيدٌ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى الْعِلْمِ بِالسَّمَاعِ وَالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ وَإِنْ لم ير بِعَيْنِه أَوْ يَسْمَعْ بِأُذُنَيْهِ، وَأَنَّ التَّزْكِيَةَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الشَّهَادَةِ، وَأَنَّ الْمُزَكِّيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ وَأَعْدَلَ مِنَ الْمُزَكَّى، وَأَنَّ الْمُزَكَّى لَا يَحْتَاجُ لِلتَّزْكِيَةِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَشْهَدُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا
كَانَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَاَ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ اللَّهُمَّ اشْهَدْ»
فَجَعَلَ اللَّهَ هُوَ الشَّاهِدَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ النُّكَتِ.
وَتَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ لَا أُرَاهُ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ
أُلُوهِيَّةً تَامَّةً، بَلْ قَالُوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُس: ١٨] وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣]، فَأَكَّدَ هَذَا الْمَدْلُولَ بِالصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَمَّا قَبْلَهَا.
وذَا مَزِيدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مُشَارٌ إِلَيْهِ مُعَيَّنٌ، وَالْعَرَبُ تَزِيدُ (ذَا) لِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِنْ وُجُودِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِفْهَامِ، حَتَّى إِذا أظهر عَدَمُ وُجُودِهِ كَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى أَنْ لَيْسَ ثَمَّةَ مُتَطَلِّعٍ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِادِّعَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي (مَنْ ذَا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الْبَقَرَة: ٢٤٥]. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ وَالنَّفْيِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وَالشَّفَاعَةُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ [الْبَقَرَة: ٥٤].
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِحَقٍّ وَإِدْلَالٍ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِلْكُهُ، وَلَكِنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ مَنْ أَرَادَ هُوَ أَنْ يُظْهِرَ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَيَأْذَنَهُ بِأَنْ يَشْفَعَ فِيمَنْ أَرَادَ هُوَ الْعَفْوَ عَنْهُ، كَمَا يُسْنَدُ إِلَى الْكُبَرَاءِ مُنَاوَلَةُ الْمَكْرُمَاتِ إِلَى نُبَغَاءِ التَّلَامِذَةِ فِي مَوَاكِبِ الِامْتِحَانِ، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيهِ النَّاسُ لِيُكَلِّمَ رَبَّهُ فَيُخَفِّفَ عَنْهُمْ هَوْلَ مَوْقِفِ
الْحِسَابِ، فَيَأْتِي حَتَّى يَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ وَيَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهُ اللَّهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، فَيُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَسُجُودُهُ اسْتِيذَانٌ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يَشْفَعُ حَتَّى يُقَالَ اشْفَعْ، وَتَعْلِيمُهُ الْكَلِمَاتِ مُقَدَّمَةٌ لِلْإِذْنِ.
وَجُمْلَةُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ تَقْرِيرٌ وَتَكْمِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَجْمُوعُ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ وَلِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ جُمْلَتَيْ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ دَلَّتَا عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ بِمَا حَدَثَ وَوُجِدَ مِنَ الْأَكْوَانِ وَلَمْ تَدُلَّا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا سَيَكُونُ فَأَكَّدَ وَكَمَّلَ بِقَوْلِهِ يَعْلَمُ الْآيَةَ، وَهِيَ أَيْضًا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِذْ قَدْ يتّجه سُؤال لماذَا حُرِمُوا الشَّفَاعَةَ إِلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَنْ يَسْتَحِقُّ
وَهُوَ تَنْظِيرٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ بَيْتَ جَرِيرٍ ظَهَرَ مِنْهُ الثُّلُثُ الثَّالِثُ، فَهُمُ الصَّمِيمُ، بِخِلَافِ الْآيَةِ فَإِنَّ بَقِيَّةَ الْآيَاتِ لَمْ يُعْرَفْ. وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إِلَخْ مُتَضَمِّنًا الثَّالِثَةَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ.
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.
حُكْمٌ أَعْقَبَ بِهِ الِامْتِنَانَ: لِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْبَيْتِ فَلِذَلِكَ حَسُنَ عَطْفُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: مُبَارَكًا وَهُدًى، وَوَاجِبًا حَجُّهُ. فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْأَحْوَالِ.
وَالْحَجُّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٧]، وَفِيهِ لُغَتَانِ- فَتْحُ الْحَاءِ وَكَسْرُهَا- وَلَمْ يُقْرَأْ فِي جَمِيعِ مَوَاقِعِهِ فِي الْقُرْآنِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ- إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِكَسْرِ الْحَاءِ-.
وَيَتَّجِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الَّتِي فُرِضَ بِهَا الْحَجُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدِ اسْتَدِلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ، فَمَا كَانَ يَقَعُ مِنْ حَجِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّمَا كَانَ تَقَرُّبًا إِلَى الله، واستصحابا للحنيفية. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّ مَرَّتَيْنِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَوَقَفَ مَعَ النَّاسِ. فَأَمَّا إِيجَابُ الْحَجِّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ وَقَدْ تَمَالَأَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ، فَلَا يُعَدُّ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَجِّ قَبْلَ نُزُولِهَا، وَبَعْدَ الْبَعْثَةِ إِلَّا تَحَنُّثًا وَتَقَرُّبًا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، عَقِبَ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فَيَكُونُ الْحَجُّ فُرِضَ يَوْمَئِذٍ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الِاخْتِلَافَ فِي وَقْتِ فَرْضِيَّةِ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ، وَلَمْ يَعْزُ الْأَقْوَالَ إِلَى أَصْحَابِهَا، سِوَى أَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ فُرِضَ
فَإِذَا تَزُولُ تَزُولُ عَنْ مُتَخَمِّطٍ | تُخْشَى بَوَادِرُهُ عَلَى الْأَقْرَانِ |
وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيَدُلَّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْإِضَافِيِّ. أَيِ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، أَيْ يُحَرِّضَكُمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَمَّا الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فَيُرِيدُونَ انْصِرَافَكُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَمَيْلَكُمْ عَنْهُ إِلَى الْمَعَاصِي. وَإِطْلَاقُ الْإِرَادَةِ عَلَى رَغْبَةِ أَصْحَابِ الشَّهَوَاتِ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ لِمُشَاكَلَةِ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاء: ٢٦]. وَالْمَقْصُودُ: وَيُحِبُّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا. وَلَمَّا كَانَتْ رَغْبَتُهُمْ فِي مَيْلِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْحَقِّ رَغْبَةً لَا تَخْلُو عَنْ سَعْيِهِمْ لِحُصُولِ ذَلِكَ، أَشْبَهَتْ رَغْبَتُهُمْ إِرَادَةَ الْمُرِيدِ لِلْفِعْلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى- بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ- يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النِّسَاء: ٤٤].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَمِيلُوا لِظُهُورِهِ مِنْ قَرِينَةِ الْمَقَامِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الَّذِينَ تَغْلِبُهُمْ شَهَوَاتُهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُمْ: مِنَ الَّذِينَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ فِي عَوَاقِبِ الذُّنُوبِ وَمَفَاسِدِهَا وَعُقُوبَتِهَا، وَلَكِنَّهُمْ يُرْضُونَ شَهَوَاتِهِمُ الدَّاعِيَةَ إِلَيْهَا. وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَةِ هُنَا تَشْنِيعٌ لِحَالِهِمْ، فَفِي الْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ.
وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُشْرِكُونَ: أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَالْيَهُودُ أَرَادُوا أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَنِكَاحِ الْعَمَّاتِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ. وَالْمِيلُ الْعَظِيمُ هُوَ الْبُعْدُ عَنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالطَّعْنُ فِيهَا. فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَبِّبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الزِّنَى وَيَعْرِضُونَ عَلَيْهِمُ الْبَغَايَا. وَكَانَ الْمَجُوسُ يَطْعَنُونَ فِي تَحْرِيمِ ابْنَةِ الْأَخِ وَابْنَةِ الْأُخْت وَيَقُولُونَ: لماذَا أَحَلَّ دِينُكُمُ ابْنَةَ الْعَمَّةِ وَابْنَةَ الْخَالَةِ. وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ: لَا تَحْرُمُ الْأُخْتُ الَّتِي لِلْأَبِ وَلَا تَحْرُمُ الْعَمَّةُ وَلَا الْخَالَةُ وَلَا الْعَمُّ وَلَا الْخَالُ. وَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالشَّهَوَاتِ لِأَنَّ مَجِيءَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَيَّنَ انْتِهَاءَ إِبَاحَةِ مَا أُبِيحَ فِي الشَّرَائِعِ الْأُخْرَى، بَلْهَ مَا كَانَ حَرَامًا فِي الشَّرَائِعِ كُلِّهَا وَتَسَاهَلَ فِيهِ أهل الشّرك.
أَنَّهُمْ قَتَلُوا الْمَسِيحَ، وَهِيَ مَا رَأَوْهُ ظَاهِرًا مِنْ وُقُوعِ قَتْلٍ وَصَلْبٍ عَلَى ذَاتٍ يَعْتَقِدُونَهَا ذَاتَ الْمَسِيحِ، وَبِهَذَا وَرَدَتِ الْآثَارُ فِي تَأْوِيلِ كَيْفِيَّةِ مَعْنَى الشَّبَهِ.
وَقَوْلُهُ: شُبِّهَ لَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْيَهُودَ الَّذِينَ زَعَمُوا قَتْلَهُمُ الْمَسِيحَ فِي زَمَانِهِمْ قَدْ شُبِّهَ لَهُمْ مُشَبَّهٌ بِالْمَسِيحِ فَقَتَلُوهُ، وَنَجَّى اللَّهُ الْمَسِيحَ مِنْ إِهَانَةِ الْقَتْلِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: شُبِّهَ فِعْلًا مَبْنِيًّا لِلْمَجْهُولِ، مُشْتَقًّا مِنَ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الصُّورَةِ. وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَ فَاعل (شبّه) للدلالة فِعْلِ (شُبِّهَ) عَلَيْهِ فَالتَّقْدِيرُ: شُبِّهَ مُشَبَّهٌ فَيَكُونُ «لَهُمْ» نَائِبًا عَنِ الْفَاعِلِ. وَضَمِيرُ (لَهُمْ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ قَالُوا:
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَهُمْ يَهُودُ زَمَانِهِ، أَيْ وَقَعَتْ لَهُمُ الْمُشَابَهَةُ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى عِنْدَ كَمَا تَقُولُ: حَصَلَ لِي ظَنٌّ بِكَذَا. وَالِاسْتِدْرَاكُ بَيِّنٌ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَلَكِنْ شُبِّهَ لِلْيَهُودِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ خَبَرُ صَلْبِ الْمَسِيحِ، أَيِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ بِالصِّدْقِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ: خُيِّلَ إِلَيْكَ، وَاخْتَلَطَ عَلَى فُلَانٍ. وَلَيْسَ ثَمَّةَ شَبِيهٌ بِعِيسَى وَلَكِنَّ الْكَذِبَ فِي خَبَرِهِ شَبِيهٌ بِالصِّدْقِ، وَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَامُ الْأَجَل: أَي لَيْسَ الْخَبَرُ كَذِبُهُ بِالصِّدْقِ لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِتَضْلِيلِهِمْ، أَيْ أَنَّ كُبَرَاءَهُمُ اخْتَلَقُوهُ لَهُمْ لِيُبَرِّدُوا غَلِيلَهُمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَى عِيسَى إِذْ جَاءَ بِإِبْطَالِ ضَلَالَاتِهِمْ. أَوْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى- عَلَى- لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاء: ٧]. وَنُكْتَةُ الْعُدُولِ عَنْ حَرْفٍ- عَلَى- تَضْمِينِ فِعْلِ شُبِّهَ مَعْنَى صُنِعَ، أَيْ صَنَعَ الْأَحْبَارُ هَذَا الْخَبَرَ لِأَجْلِ إِدْخَالِ الشُّبْهَةِ عَلَى عَامَّتِهِمْ.
وَفِي الْأَخْبَارِ أَنَّ (يَهُوذَا الِاسْخِرْيُوطِيَّ) أَحَدُ أَصْحَابِ الْمَسِيحِ، وَكَانَ قَدْ ضَلَّ وَنَافَقَ، هُوَ الَّذِي وَشَى بِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُوَ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، وَأَنَّهُ الَّذِي صُلِبَ، وَهَذَا أَصْلُهُ فِي إِنْجِيلِ بِرَنَابِي أَحَدُ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ، وَهَذَا يُلَائِمُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ (بِيلَاطِسَ)، وَالِيَ فِلَسْطِينَ، سُئِلَ فِي رُومَةَ عَنْ قَضِيَّةِ قَتْلِ عِيسَى وَصَلْبِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَتَأَيَّدَ بِذَلِكَ اضْطِرَابُ
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢١].
[٩٠، ٩١]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٩٠ إِلَى ٩١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)
اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَقْفِيَةً عَلَى الْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَهُ لِيُنْظَمَ مَضْمُونُهُ فِي السِّلْكِ الَّذِي انْتَظَمَ فِيهِ مَضْمُونُ الْخِطَابِ السَّابِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تَعْتَدُوا [الْمَائِدَة: ٨٧] الْمُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ، كَمَا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، نَهَى عَنِ اسْتِحْلَالِ الْحَرَامِ وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَحَلَّ الطَّيِّبَاتِ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى مَفَاسِدَ، فَإِنَّ الْخَمْرَ كَانَ طَيِّبًا عِنْدَ النَّاسِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النَّحْل: ٦٧]. وَالْمَيْسِرُ كَانَ وَسِيلَةً لِإِطْعَامِ اللَّحْمِ مَنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَالِاحْتِرَاسِ عَمَّا قَدْ يُسَاءُ تَأْوِيلُهُ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [الْأَنْعَام: ٨٧].
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْخَمْرِ وَقَعَ مُدَرَّجًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: الْأُولَى حِينَ نزلت آيَة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [الْبَقَرَة: ٢١٩]، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ نَهْيًا غَيْرَ جَازِمٍ، فَتَرَكَ شُرْبَ الْخَمْرِ نَاسٌ كَانُوا أَشَدَّ تَقْوًى. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا.
ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٣] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، فَتَجَنَّبَ الْمُسْلِمُونَ شُرْبَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُظَنُّ بَقَاءُ السُّكْرِ مِنْهَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا.
عَهِدْتُ بِهَا حَيًّا كِرَامًا فَبُدِّلَتْ | خَنَاظِيلَ آجَالِ النِّعَاجِ الْجَوَافِلِ |
وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي إِبْطَالِ الشَّيْءِ وَنَقْضِهِ، قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ
[الْفَتْح: ١٥] أَيْ يُخَالِفُوهُ وَيَنْقُضُوا مَا اقْتَضَاهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح: ١٥]. وَذَلِكَ أَنَّ النَّقْضَ يَسْتَلْزِمُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ ضِدِّ الشَّيْءِ الْمَنْقُوضِ. فَكَانَ ذَلِكَ اللُّزُومُ هُوَ علاقَة الْمجَاز. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨١]. وَقَدِ اسْتَعْمَلَ فِي قَوْلِهِ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ أَوِ النَّقْضِ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى التَّمَامِ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ وَنَفْيُ الْمُبَدِّلِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ التَّبْدِيلِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَلِمَاتِ الْقُرْآنَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ: انْتِفَاءُ الْإِتْيَانِ بِمَا يَنْقُضُهُ وَيُبْطِلُهُ أَوْ يُعَارِضُهُ، بِأَنْ يُظْهِرَ أَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ بِتَمَامٍ. فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ بِمَا يَنْقُضُهُ كَذِبًا وَزُورًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَقْضٍ. وَإِنَّمَا هُوَ مُكَابَرَةٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ، وَانْتِفَاءُ مَا يُبْطِلُ مَعَانِيَهُ وَحَقَائِقَ حِكْمَتِهِ، وَانْتِفَاءُ تَغْيِيرِ مَا شَرَّعَهُ وَحَكَمَ بِهِ. وَهَذَا الِانْتِفَاءُ الْأَخِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنْ أَنْ يُخَالِفَهُ الْمُسْلِمُونَ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّبْدِيلُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ وَكِنَايَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ: وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ: جَعَلْنَا لِكُلِّ نبيء عدوا [الْأَنْعَام: ١١٢] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضًا، فَالْكَلِمَاتُ مُرَادٌ بِهَا مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ: مِنْ جَعْلِ أَعدَاء لكلّ نَبِي يُزَخْرِفُونَ الْقَوْلَ فِي التَّضْلِيلِ، لِتَصْغَى إِلَيْهِمْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، وَيَتْبَعُوهُمْ، وَيَقْتَرِفُوا السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَامِ التَّحَقُّقُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيٌ أَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ سُنَّةَ اللَّهِ وَمَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ، كَقَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [فاطر: ٤٣]
اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيُرِيدُ إِهْلَاكَهُمْ، فَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ المهلّة لِئَلَّا يتباطأوا فِي تَدَارُكِ أَمْرِهِمْ وَالتَّعْجِيلِ بِالتَّوْبَةِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي فَاءِ الْعَطْفِ قَدْ يَكُونُ التَّرْتِيبَ الذِّكْرِيَّ، أَيْ تَرْتِيبَ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَنِ الْإِخْبَارِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. فَفِي الْآيَةِ أَخْبَرَ عَنْ كَيْفِيَّةِ إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ الْخَبَرِ بِالْإِهْلَاكِ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ هُوَ فِي الْغَالِبِ تَفْصِيلٌ بَعْدَ إِجْمَالٍ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ، وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ»، وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً [الْوَاقِعَة: ٣٥، ٣٧] الْآيَةَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: ٧٢]- أَوْ قَوْلُهُ- فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ [الْبَقَرَة: ٣٦] لِأَنَّ الْإِزْلَالَ عَنِ الْجَنَّةِ فُصِّلَ بِأَنَّهُ الْإِخْرَاجُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [الْقَمَر: ٥٤] وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْإِطْنَابِ وَقَدْ يُغْفَلُ عَنْهُ.
وَالْبَأْسُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْأَلَمُ، وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ على شدّة الْحساب وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحَرْبُ الْبَأْسَاءَ، وَقَدْ مَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا.
وَاسْتُعِيرَ الْمَجِيءُ لِحُدُوثِ الشَّيْءِ وَحُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا لِحُلُولِ الشَّيْءِ بِوُصُولِ الْقَادِمِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِتَنَقُّلِ خُطُوَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٣].
وَالْبَيَاتُ مَصْدَرُ بَاتَ، وَهُوَ هُنَا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَأْسِ، أَيْ جَاءَهُمُ الْبَأْسُ مُبَيِّتًا لَهُمْ، أَيْ جَاءَهُمْ لَيْلًا، وَيُطْلَقُ الْبَيَاتُ عَلَى ضَرْبٍ مِنَ الْغَارَةِ تَقَعُ لَيْلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْبَأْسِ الِاسْتِعَارَةَ لشدّة الْحَرْب كَمَا الْمُرَادُ مِنَ الْبَيَاتِ حَالَةً مِنْ حَالِ الْحَرْبِ، هِيَ أَشَدُّ عَلَى الْمَغْزُوِّ، فَكَانَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَياتاً مَنْصُوبًا عَلَى
النِّيَابَةِ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ أَيْ فِي وَقْتِ الْبَيَاتِ.
مُقْتَرِنَةً بِحَرْفِ (أَنَّ) الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمَصْدَرِيَّةِ، وَكَانَ خَبَرُ (أَنَّ) فِعْلًا مَاضِيًا تَوَفَّرَ مَعْنَى الْمُضِيِّ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فِيمَا مَضَى لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ.
وَالتَّقْوَى: هِيَ تَقْوَى اللَّهِ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقُرى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، فَإِضَافَةُ أَهْلُ إِلَيْهِ تُفِيدُ عُمُومَهُ بِقَدْرِ مَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا أَفْهَمَهُ الْإِيجَازُ فِي قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: ٩٤] الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَعْرِيضٌ بِإِنْذَارِ الَّذِينَ كذبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَتَعْرِيضٌ بِبِشَارَةِ أَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ مَضَى فِي صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا يُقَرِّبُ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَقِيلَ، إِنَّ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ التَّعْرِيضِ بِالنِّذَارَةِ وَالْبِشَارَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى، وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا فَأَصَابَهُمْ بِسَبْعِ سِنِينَ مِنَ الْقَحْطِ، وَبَارَكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَغْنَاهُمْ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْحُمَّى إِلَى الْجُحْفَةِ، وَالْجُحْفَةُ يَوْمَئِذٍ بِلَادُ شِرْكٍ.
وَالْفَتْحُ: إِزَالَةُ حَجْزِ شَيْءٍ حَاجِزٍ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى مَكَانٍ، يُقَالُ: فَتَحَ الْبَابَ وَفَتَحَ الْبَيْتَ، وَتَعْدِيَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّوَسُّعِ، وَأَصْلُهُ فَتْحٌ لِلْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا:
لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ وَقَوْلُهُ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [فاطر: ٢]، وَيُقَالُ: فَتَحَ كُوَّةً، أَيْ: جَعَلَهَا فَتْحَةً، وَالْفَتْحُ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِلتَّمْكِينِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤].
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ الْفَتْحِ إِلَى الْبَرَكَاتِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الْبَرَكَاتِ بِالْبُيُوتِ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا تَحْتَوِيهِ، فَهُنَا اسْتِعَارَتَانِ مَكْنِيَّةٌ وَتَبَعِيَّةٌ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: لَفَتَحْنا- بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- وَهُوَ يُفِيدُ الْمُبَالِغَةَ.
وَالْبَرَكَاتُ: جَمْعُ بَرَكَةٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْجَمْعِ تَعَدُّدُهَا، بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَارَكَةِ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْبَرَكَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٢]. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً
وَالْهَلَاكُ: الْمَوْتُ وَالِاضْمِحْلَالُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالْحَيَاةِ. وَالْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ مُسْتَعَارَانِ لِمَعْنَى ذَهَابِ الشَّوْكَةِ، وَلِمَعْنَى نُهُوضِ الْأُمَّةِ وَقُوَّتِهَا، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهَلَاكِ الْمَوْتُ، وَهُوَ أَشَدُّ الضُّرِّ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِالْهَلَاكِ كُلُّ مَا كَانَ ضُرًّا شَدِيدًا، قَالَ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ [التَّوْبَة:
٤٢]، وَبِضِدِّهِ الْحَيَاةُ هِيَ أَنْفَعُ شَيْءٍ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ فَلِذَلِكَ يُشَبَّهُ بِهَا مَا كَانَ مَرْغُوبًا، قَالَ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا [يس: ٧٠] وَقَدْ جَمَعَ التَّشْبِيهَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الْأَنْعَام: ١٢٢]. فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي عِزَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي قِلَّةٍ، فَلَمَّا قَضَى اللَّهُ بِالنَّصْرِ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَخْفَقَ أَمْرُ الْمُشْرِكِينَ وَوَهَنُوا، وَصَارَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى جِدَّةٍ وَنُهُوضٍ، وَكَانَ كُلُّ ذَلِكَ، عَنْ بَيِّنَةٍ، أَيْ عَنْ حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَأْيِيدِ اللَّهِ قَوْمًا وَخَذْلِهِ آخَرِينَ بِدُونِ رَيْبٍ.
وَمِنَ الْبَعِيدِ حمل لِيَهْلِكَ ويَحْيى عَلَى الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ تَحَمَّلَهُ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ فَلَا يَتَحَمَّلُهُ فِي قَوْله: وَيَحْيى مَنْ حَيَّ لِأَنَّ حَيَاةَ الْأَحْيَاءِ ثَابِتَةٌ لَهُمْ
مِنْ قَبْلِ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَدَلَّ مَعْنَى الْمُجَاوَزَةِ الَّذِي فِي عَنْ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى، أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ وَالْحَيَاةُ صَادِرَيْنِ عَنْ بَيِّنَةٍ وَبَارِزَيْنِ مِنْهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ «حَيِيَ» بِإِظْهَارِ الْيَاءَيْنِ، وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ: «حَيَّ» بِإِدْغَامِ إِحْدَى الْيَاءَيْنِ فِي الْأُخْرَى عَلَى قِيَاسِ الْإِدْغَامِ وَهُمَا وَجْهَانِ فَصِيحَانِ.
وعَنْ لِلْمُجَاوَزَةِ الْمَجَازِيَّةِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (بَعْدَ)، أَيْ: بَعْدَ بَيِّنَةٍ يَتَبَيَّنُ بِهَا سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ: هَلَاكِ مَنْ هَلَكَ، وَحَيَاةِ مَنْ حَيِيَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ دُعَاءَ الْمُسْلِمِينَ طَلَبَ النَّصْرِ، وَسَمِيعٌ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْحِوَارِ فِي شَأْنِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمِنْ مَوَدَّتِهِمْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ هِيَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الَّتِي يُلَاقُونَهَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَعَلِيمٌ بِمَا يَجُولُ فِي خَوَاطِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمُورِ الْمَسْمُوعَةِ وَبِمَا يصلح بهم وَيَبْنِي عَلَيْهِ مجد مستقبلهم.
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ [التَّوْبَة:
١٠١]، أَيْ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ آخَرُونَ أَذْنَبُوا بِالتَّخَلُّفِ فَاعْتَرَفُوا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بالتقصير. فَقَوله: إِيجَازٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَذْنَبُوا وَاعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالذُّنُوبِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي أَنَّهَا أَعْمَالٌ سَيِّئَةٌ فِي حَالَةِ الْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ التَّعْبِيرُ عَنِ ارْتِكَابِ الذُّنُوبِ بِخَلْطِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالسَّيِّئِ.
وَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَكَرْدَمٌ، وَأَرْسُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَوَدِيعَةُ بْنُ حِزَامٍ، وَمِرْدَاسٌ، وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو لُبَابَةَ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَتَابُوا إِلَى اللَّهِ وَرَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَوَارِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيَّامًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَالِاعْتِرَافُ: افْتِعَالٌ مِنْ عَرَفَ. وَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَلِذَلِكَ صَارَ بِمَعْنَى الْإِقْرَارِ بِالشَّيْءِ وَتَرْكِ إِنْكَارِهِ، فَالِاعْتِرَافُ بِالذَّنْبِ كِنَايَةٌ عَنِ التَّوْبَةِ مِنْهُ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالذَّنْبِ الْفَائِتِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النَّدَمِ وَالْعَزْمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِقْلَاعُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ ذَنْبٌ مَضَى، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ.
وَخَلْطُهُمُ الْعَمَل الصَّالح والسيّء هُوَ خَلْطُهُمْ حَسَنَاتِ أَعْمَالِهِمْ بِسَيِّئَاتِ التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْجَيْشِ.
وَقَوْلُهُ: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً جَاءَ ذِكْرُ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ عَلَى اعْتِبَارِ اسْتِوَائِهِمَا فِي وُقُوعِ فِعْلِ الْخَلْطِ عَلَيْهِمَا. وَيُقَالُ: خَلَطَ كَذَا بِكَذَا عَلَى اعْتِبَارِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ الْمُخْتَلِطَيْنِ مُتَلَابِسَيْنِ بِالْخَلْطِ، وَالتَّرْكِيبَانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ أَوْضَحُ وَأَحْسَنُ فَهُوَ أَفْصَحُ.
اسْتَطَاعُوا أَكَّدَ أَنَّهُمْ دُونَ اللَّهِ فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِكُلِّ مَنْ عَدَا اللَّهَ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَمَعْنَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أَيْ فِي قَوْلِكُمُ افْتَراهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ:
فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ. وُوَجْهُ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَزَائِهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِافْتِرَاءُ يَأْتِي بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا لَكَمَ لَا تَفْتَرُونَ أَنْتُمْ مِثْلَهُ فتنهض حجتكم.
[١٤]
[سُورَة هود (١١) : آيَة ١٤]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ [هود: ١٣] أَيْ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لكم من تَدْعُو لَهُمْ فَأَنْتُمْ أَعْجَزُ مِنْهُمْ لِأَنَّكُمْ مَا تَدْعُونَهُمْ إِلَّا حِينَ تَشْعُرُونَ بِعَجْزِكُمْ دُونَ مُعَاوِنٍ فَلَا جَرَمَ يَكُونُ عَجْزُ هَؤُلَاءِ مُوقِعًا فِي يَأْسِ الدَّاعِينَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْإِجَابَةُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ. وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُظَاهَرَةِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَعَانِ فِيهِ، وَهِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ لِأَنَّ الْمُعَاوَنَةَ تَنْشَأُ عَنِ النِّدَاءِ إِلَى الْإِعَانَةِ غَالِبًا فَإِذَا انْتُدِبَ الْمُسْتَعَانُ بِهِ إِلَى الْإِعَانَةِ أَجَابَ النِّدَاءَ بِحُضُورِهِ فَسُمِّيَتِ اسْتِجَابَةً.
وَالْعِلْمُ: الِاعْتِقَادُ الْيَقِينُ، أَيْ فَأَيْقِنُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مَا أُنْزِلَ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ، أَيْ مُلَابِسًا لِعِلْمِ اللَّهِ. أَيْ لِأَثَرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ جَعْلُهُ بِهَذَا النَّظْمِ لِلْبَشَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَعْلَ أَثَرٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ. وَقَدْ أَفَادَتْ (أَنَّمَا) الْحَصْرَ، أَيْ حَصْرَ أَحْوَالِ الْقُرْآنِ فِي حَالَةِ إِنْزَالِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَطْفٌ عَلَى أَنَّما أُنْزِلَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَجَزُوا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنِ اسْتَنْصَرُوهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ بِطَلَبِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِعَانَةِ أَتْبَاعِهِمْ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُمْ.
أَوْ رَصَدُوا الْأَعْيُنَ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ضُرًّا لَهُمْ وَحَائِلًا دُونَ سُرْعَةِ وُصُولِهِمْ إِلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَدُونَ قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: «اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِالْكِتْمَانِ».
وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ إِقَامَةِ الْحُرَّاسِ وَالْأَرْصَادِ أَنْ تَكُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ اقْتَصَرَ عَلَى تَحْذِيرِهِمْ مِنَ الدُّخُولِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ دُونَ أَنْ يُحَذِّرَهُمْ مِنَ الْمَشْيِ فِي سِكَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، وَوَثِقَ بِأَنَّهُمْ عَارِفُونَ بِسِكَكِ الْمَدِينَةِ فَلَمْ يَخْشَ ضَلَالَهُمْ فِيهَا، وَعَلِمَ أَنَّ (بِنْيَامِينَ) يَكُونُ فِي صُحْبَةِ أَحَدِ إِخْوَتِهِ لِئَلَّا يَضِلَّ فِي الْمَدِينَةِ.
وَالْمُتَفَرِّقَةُ أَرَادَ بِهَا الْمُتَعَدِّدَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ. وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنِ الْمُتَعَدِّدَةِ إِلَى الْمُتَفَرِّقَةِ الْإِيمَاءُ إِلَى عِلَّةِ الْأَمْرِ وَهِيَ إِخْفَاءُ كَوْنِهِمْ جَمَاعَةً وَاحِدَةً.
وَجُمْلَةُ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مُعْتَرِضَةٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ، أَيْ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ بِوَصِيَّتِي هَذِهِ شَيْئًا. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أُغْنِي، أَيْ لَا يَكُونُ مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُغْنِيًا غَنَاءً مُبْتَدِئًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَلْ هُوَ الْأَدَبُ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ مَا أَمَرَ اللَّهُ، فَإِنْ صَادَفَ مَا قَدَّرَهُ فَقَدْ حَصَلَ فَائِدَتَانِ، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَدَّرَهُ حَصَلَتْ فَائِدَةُ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاقْتِنَاعُ النَّفْسِ بِعَدَمِ التَّفْرِيطِ.
وَتَقَدَّمَ وَجْهُ تَرْكِيبِ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٤١].
وَأَرَادَ بِهَذَا تَعْلِيمَهُمُ الِاعْتِمَادَ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ مَعَ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ الظَّاهِرَةِ تَأَدُّبًا مَعَ وَاضِعِ الْأَسْبَابِ وَمُقَدِّرِ الْأَلْطَافِ فِي رِعَايَةِ الْحَالَيْنِ، لِأَنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَطَّلِعَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَعَرَّفَهَا بِعَلَامَاتِهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّعْيِ لَهَا.
وَهَذَا سِرُّ مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
وَفِي الْأَثَرِ «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا يَسَّرَ أَسْبَابَهُ»
ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ ارْتِقَاءً وَنِكَايَةً لَهُمْ بِأَنَّ مُنْزِلَ الذَّكَرِ هُوَ حَافِظُهُ مِنْ كَيْدِ الْأَعْدَاءِ فَجُمْلَةُ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ عَائِدٌ إِلَى الذِّكْرَ، وَاللَّامُ لِتَقْوِيَةِ عَمَلِ الْعَامِلِ لِضَعْفِهِ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ مَعْمُولِهِ.
وَشَمَلَ حَفِظُهُ الْحِفْظَ مِنَ التَّلَاشِي، وَالْحِفْظَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ، بِأَنْ يَسَّرَ تَوَاتُرَهُ وَأَسْبَابَ ذَلِكَ، وَسَلَّمَهُ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ حَتَّى حَفِظَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ ظُهُورِ قُلُوبِهَا مِنْ حَيَاةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقَرَّ بَيْنَ الْأُمَّةِ بِمَسْمَعٍ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَارَ حُفَّاظُهُ بِالِغِينَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ فِي كُلِّ مِصْرٍ.
وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ فِي «الْمَدَارِكِ» : أَنَّ الْقَاضِيَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَالِكِيَّ
الْبَصْرِيَّ (١) سُئِلَ عَنْ السِّرِّ فِي تَطَرُّقِ التَّغْيِيرِ لِلْكُتُبِ السَّالِفَةِ وَسَلَامَةِ الْقُرْآنِ مِنْ طرقِ التَّغْيِيرِ لَهُ. فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْكَلَ لِلْأَحْبَارِ حِفْظَ كُتُبِهِمْ فَقَالَ: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ [سُورَة الْمَائِدَة: ٤٤] وَتَوَلَّى حِفْظَ الْقُرْآنِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَقَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنِ الْمُنْتَابِ ذَكَرْتُ هَذَا الْكَلَامَ لِلْمُحَامِلِيِّ فَقَالَ لِي: لَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ (٢).
_________
(١) هُوَ القَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق بن إِسْمَاعِيل بن حمّاد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ ثمَّ الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي الإِمَام المفسّر قَاضِي بَغْدَاد ولد سنة ٢٠٠ وَتُوفِّي فِي ذِي الْحجَّة سنة ٣٨٢ أَخذ عَن أَصْحَاب مَالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعْنبِي، وَأخذ عَن أيمة الحَدِيث مثل إِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأبي بكر بن أبي شيبَة. قَالَ الْبَاجِيّ لم تحصل دَرَجَة الِاجْتِهَاد واجتماع آلَته بعد مَالك إِلَّا لإسماعيل القَاضِي.
(٢) أَبُو الْحسن عبيد الله بن المنتاب الْبَغْدَادِيّ الْمَالِكِي قَاضِي الْمَدِينَة المنورة فِي زمن المقتدر (من سنة ٢٩٥ إِلَى سنة ٣٢٠) كَانَ من أَصْحَاب القَاضِي إِسْمَاعِيل. والمحاملي نِسْبَة إِلَى صنع المحامل فَهُوَ بِفَتْح الْمِيم، وَهُوَ الْحُسَيْن بن إِسْمَاعِيل. روى عَن البُخَارِيّ. وَولي قَضَاء الْكُوفَة وَتُوفِّي سنة ٣٨٠.
الْحَاصِلِ مِنْ قَبْلِ الرُّؤْيَةِ. قَالَ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الْأَنْعَام: ٧٥].
فَإِنَّ فِطْرَةَ اللَّهِ جَعَلَتْ إِدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ أَثْبَتَ مِنْ إِدْرَاكِ الْمَدْلُولَاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَة: ٢٦٠]، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّعْلِيل أَو لم يَطْمَئِنَّ قَلْبُكَ، لِأَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ مُتَّسِعُ الْمَدَى لَا حَدَّ لَهُ فَقَدْ أَنْطَقَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حِكْمَةِ نُبُوءَةٍ، وَقَدْ بَادر مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِرَاءَةِ الْآيَاتِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهَا تَوْفِيرًا فِي الْفَضْلِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَأَجَادَ:
وَلَكِنْ لِلْعِيَانِ لَطِيفُ مَعْنَى | لَهُ سَأَلَ الْمُعَايَنَةَ الْكَلِيمُ |
وَفِي تَغْيِيرِ الْأُسْلُوبِ مِنَ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ وَضَمِيرَيْهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ:
بارَكْنا... ولِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا سُلُوكٌ لِطَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ الْمُتَّبَعَةِ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فِي [الْفَاتِحَةِ: ٥].
وَالِالْتِفَاتُ هُنَا امتاز بلطائف:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا اسْتُحْضِرَتِ الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ بِجُمْلَةِ التَّسْبِيحِ وَجُمْلَةِ الْمَوْصُولِيَّةِ صَارَ مَقَامُ الْغَيْبَةِ مَقَامَ مُشَاهَدَةٍ فَنَاسَبَ أَنْ يُغَيِّرَ الْإِضْمَارَ إِلَى ضَمَائِرِ الْمُشَاهَدَةِ وَهُوَ مَقَامُ التَّكَلُّمِ.
وَمِنْهَا: الْإِيمَاءُ إِلَى أَن النبيء- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- عِنْدَ حُلُولِهِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى قَدِ انْتَقَلَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَالَمِ الْغَيْبِ إِلَى مَقَامِ مَصِيرِهِ فِي عَالَمِ الْمُشَاهَدَةِ.
الْقَصَّاصُونَ أَنَّ ذَلِكَ السَّدَّ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ بِنَائِهِ، كَمَا تَوَهَّمَ الْعَرَبُ أَنَّ مَدِينَةَ تَدْمُرَ بَنَاهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ هِيرُودُوتِسَ الْيُونَانِيَّ الْمُؤَرِّخَ ذَكَرَ أَنَّ الْإِسْكَنْدَرَ حَارَبَ أُمَّهُ (سِكْيُثُوسَ). وَهَذَا الِاسْمُ هُوَ اسْمُ مَاجُوجَ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (١).
وَأَحْسَبُ أَنَّ لِتَرْكِيبِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى اسْمِ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيِّ أَثَرًا فِي اشْتِهَارِ نِسْبَةِ السَّدِّ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ مِنْ أَوْهَامِ الْمُؤَرِّخِينَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَلَا يُعْرَفُ أَنَّ مَمْلَكَةَ إِسْكَنْدَرَ كَانَتْ تَبْلُغُ فِي الْغَرْبِ إِلَى عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَفِي الشَّرْقِ إِلَى قَوْمٍ مَجْهُولِينَ عُرَاةٍ أَوْ عَدِيمِي الْمَسَاكِنِ، وَلَا أَنَّ أُمَّتَهُ كَانَتْ تُلَقِّبُهُ بِذِي الْقَرْنَيْنِ. وَإِنَّمَا انْتُحِلَ هَذَا اللَّقَبُ لَهُ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّهُ الْمَعْنِيُّ بِذِي الْقَرْنَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَمَنْحُهُ هَذَا اللَّقَبَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ مُؤَرِّخِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ رَسْمُ وَجْهِهِ عَلَى النُّقُودِ بِقَرْنَيْنِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُلَقَّبَ بِهِ.
وَأَيْضًا فَالْإِسْكَنْدَرُ كَانَتْ أَخْبَارُهُ مَشْهُورَةً لِأَنَّهُ حَارَبَ الْفُرْسَ وَالْقِبْطَ وَهُمَا أُمَّتَانِ مُجَاوِرَتَانِ لِلْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُبْطِلَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا تَتَأَتَّى لِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ هُوَ أَفْرِيدُونُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ تَبَابِعَةِ حِمْيَرَ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرٍ مُتَوَغِّلٍ فِي الْقِدَمِ.
وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ مُعَاصِرًا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ بِلَادُهُ الَّتِي فَتَحَهَا مَجْهُولَةَ الْمَوَاقِعِ. وَلَكِنْ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ خَبَرِهِ مِثْلَ هَذَا، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّوَهُّمِ هُوَ وُجُودُ كَلِمَةِ (ذُو) الَّتِي اشْتُهِرَ وُجُودُ مِثْلِهَا فِي أَلْقَابِ مُلُوكِ الْيَمَنِ وَتَبَابِعَتِهِ.
_________
(١) انْظُر الْقَامُوس الْجَدِيد تأليف لاروس فِي مَادَّة سكيتس.
إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَهَذَا الْحَذْفُ شَائِعٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا فِي الْمَثَلِ «صَدَقَنِي سِنَّ بَكْرِهِ» (١).
وَالْإِتْيَانُ بِصِيغَةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَنْ نَشاءُ احْتِبَاكٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ شِئْنَا وَنُنْجِي رَسُولَنَا وَمَنْ نَشَاءُ مِنْكُمْ، وَهُوَ تَأْمِيلٌ لَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ آمَنُوا فِيمَا بَعْدُ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ فِي تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَنُهْلِكُ الْمُسْرِفِينَ، بَلْ عَادَ إِلَى صِيغَةِ الْمُضِيِّ الَّذِي هُوَ حِكَايَةٌ لِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَبَقِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا وَهُوَ التَّعْرِيضُ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أُولَئِكَ مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ.
وَالْمُسْرِفُونَ: الْمُفْرِطُونَ فِي التَّكْذِيبِ بِالْإِصْرَارِ وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ حَتَّى حَلَّ بهم الْعَذَاب.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٠]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
اسْتِئْنَافُ جَوَابٍ عَنْ قَوْلِهِمْ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَاءَتْهُمْ هِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا
_________
(١) فِي «مجمع الْأَمْثَال» للميداني يضْرب مثلا فِي الصدْق. وَأَصله أَن رجلا ساوم آخر فِي بكر وَهُوَ الْفَتى من الْإِبِل، وَقَالَ: مَا سنه؟ قَالَ: بازل، وَهُوَ الكهل من الْإِبِل فنفر الْبَعِير فَدَعَاهُ صَاحبه هدع هدع وَهُوَ صَوت تسكن بِهِ الصغار من الْإِبِل، فَقَالَ المساوم: «صدقني سنّ بكره».
وَالْفِرْدَوْسُ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَنَّةِ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنْ أَسْمَاءِ أَشْرَفِ جِهَاتِ الْجَنَّاتِ، وَأَصْلُ الْفِرْدَوْسِ: الْبُسْتَانُ الْوَاسِعُ الْجَامِعُ لِأَصْنَافِ الثَّمَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلَهُ، وَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ فَقَالَ لَهَا: «وَيحك أهبلت أَو جنّة وَاحِدَةٌ هِيَ، إِنَّهَا لَجِنَانٍ كَثِيرَةٍ وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ»
. وَقَدْ
وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِه الْآيَات حَدِيث عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ
. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هِيَ الْعَاشِرَةُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ.
[١٢- ١٤]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ غَرَضًا عَلَى غَرَضٍ وَيُسَمَّى عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ، فَلِلْجُمْلَةِ حُكْمُ الِاسْتِينَافِ لِأَنَّهَا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] الَّتِي هِيَ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبِعَظِيمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَعَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَرْبُوبٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالِاعْتِبَارُ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ
دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَمِنْ عَظِيمِ النِّعْمَةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ الشِّرْكِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ فِي ضَلَالِ الْمُعْرِضِينَ عَنِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ،
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٣]
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)لَمَّا اسْتَقْصَى أَكْثَرَ مَعَاذِيرِهِمْ وَتَعَلُّلَاتِهِمْ وَأَلْقَمَهُمْ أَحْجَارَ الرَّدِّ إِلَى لَهَوَاتِهِمْ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ فَذْلَكَةً جَامِعَةً تَعُمُّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتُوا بِهِ مِنَ الشُّكُوكِ وَالتَّمْوِيهِ بِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَدْحُوضٌ بِالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ الْكَاشِفَةِ لِتُرَّهَاتِهِمْ.
وَالْمِثْلُ: الْمُشَابِهُ. وَفِعْلُ الْإِتْيَانِ مَجَازٌ فِي أَقْوَالِهِمْ وَالْمُحَاجَّةِ بِهِ، وَتَنْكِيرُ (مَثَلٍ) فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ بِكُلِّ مَثَلٍ. وَالْمَقْصُودُ: مَثَلٌ مِنْ نَوْعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْثَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمَةِ ابْتِدَاءً من قَوْله [تَعَالَى] : وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفرْقَان: ٤]، وقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النَّحْل: ٢٤] بِقَرِينَةِ سَوْقِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَقِبَ اسْتِقْصَاءِ شُبْهَتِهِمْ، وقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الْفرْقَان: ٧] وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨] وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الْفرْقَان: ٢١] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان:
٣٢]. وَدَلَّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ: بِمَثَلٍ قَوْلُهُ آنِفًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الْفرْقَان: ٩] عَقِبَ قَوْلِهِ: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان:
٨]. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَأْتُونَكَ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِفَادَةِ أَنَّ إِتْيَانَهُمْ بالْأَمْثَالِ يَقْصِدُونَ بِهِ أَنْ يُفْحِمُوهُ.
وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِظْهَارِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَأْتُونَكَ بِشَبَهٍ يُشَبِّهُونَ بِهِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِكَ يَبْتَغُونَ إِظْهَارَ أَنَّ حَالَكَ لَا يُشْبِهُ حَالَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ إِلَّا أَبْطَلْنَا تَشْبِيهَهُمْ وَأَرَيْنَاهُمْ أَنَّ حَالَةَ الرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ لَا تُلَازِمُ مَا زَعَمُوهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا أَتَوْا بِهِ تَشْبِيهًا صَرِيحًا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الرُّسُلِ كَقَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها [الْفرْقَان: ٥] وَقَوْلِهِمْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٧]، وَقَوْلِهِمْ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الْفرْقَان: ٨]، أَمْ كَانَ نَفْيُ مُشَابَهَةِ حَالِهِ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّ نَفْيَ مُشَابَهَةِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الْفرْقَان: ٢١] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان: ٣٢] إِذَا كَانُوا قَالُوهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ
مُخَالِفٌ لِحَالِ نُزُولِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. فَهَذَا نَفِيُ تَمْثِيلِ حَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ الرُّسُلِ الْأَسْبَقِينَ فِي زَعْمِهِمْ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ مَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ تَقْتَضِيهِ النُّبُوءَةُ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَهُ، فَيُجَابَ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [الْفرْقَان: ٧، ٨].
هَمْزُ الْوَصْلِ لِلنُّطْقِ بِالسَّاكِنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَشَمِرٌ: وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرَكِ بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ اللَّحَاقُ.
وَقَدِ امْتَلَكَتِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْمُفَسِّرِينَ حَيْرَةٌ فِي تَصْوِيرِ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تُثَارُ مِنْهُ حَيْرَةٌ لِلنَّاظِرِ فِي تَوْجِيهِ الْإِضْرَابَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْإِضْرَابِ وَكَيْفَ يَكُونَانِ ارْتِقَاءً عَلَى مَضْمُونِ هَذَا الِانْتِقَالِ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا مُثْقَلَةً بِالتَّكَلُّفِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ اللُّغَوِيِّ أَنَّ مَعْنَى التَّدَارُكِ هُوَ أَنَّ عِلْمَ بَعْضِهِمْ لَحِقَ عِلْمَ بَعْضٍ آخَرَ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ لِأَنَّ الْعِلْمَ، وَهُوَ جِنْسٌ، لَمَّا أُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ حَصَلَ مِنْ مَعْنَاهُ عُلُومٌ عَدِيدَةٌ بِعَدَدِ أَصْنَافِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الضَّمِيرِ فَصَارَ الْمَعْنَى: تَدَارَكَتْ عُلُومُهُمْ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَذَلِكَ صَالِحٌ لِمَعْنَيَيْنِ: أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ وَهُوَ التَّلَاحُقُ الَّذِي هُوَ اسْتِعْمَالٌ مَجَازِيٌّ يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ، أَيْ تَدَارَكَتْ عُلُومُ الْحَاضِرِينَ مَعَ عُلُومِ أَسْلَافِهِمْ، أَيْ تَلَاحَقَتْ وَتَتَابَعَتْ فَتَلَقَّى الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ عِلْمَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَتَقَلَّدُوهَا عَنْ غَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا نَظَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ وَيُشْعِرُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً
وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[النَّمْل: ٦٧- ٦٨]. وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٨١] بَلْ قالُوا مِثْلَ مَا قالَ الْأَوَّلُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ التَّدَارُكُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فِي الِاخْتِلَاطِ وَالِاضْطِرَابِ لِأَنَّ التَّدَارُكَ وَالتَّلَاحُقَ يَلْزَمُهُ التَّدَاخُلُ كَمَا إِذَا لَحِقَتْ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى أَيْ لَمْ يُرْسُوا عَلَى أَمْرٍ وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمُ اخْتِلَافًا يُؤْذِنُ بِتَنَاقُضِهَا، فَهُمْ يَنْفُونَ الْبَعْثَ ثُمَّ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْبَعْثِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ ثُمَّ يَتَزَوَّدُونَ تَارَةً لِلْآخِرَةِ بِبَعْضِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْبِسُونَ الرَّاحِلَةَ عَلَى قَبْرِ صَاحِبِهَا وَيَتْرُكُونَهَا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ حَتَّى تَمُوتَ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرْكَبُهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْبَلِيَّةَ، فَذَلِكَ مِنِ اضْطِرَابِ أَمْرِهِمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَفِعْلُ الْمُضِيِّ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَصْلِهِ. وَحَرْفُ (فِي) على هاذين الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُسْتَعْمَلٌ فِي السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ادَّارَكَ مُبَالَغَةً فِي (أَدْرَكَ) وَمَفْعُولُهُ مَحْذُوفًا
وَمَعْنَى: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَمَّا كَانَ بِقَدْرِ الْمَجْزِيِّ أُطْلِقُ عَلَيْهِ
اسْمُهُ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ مجَازًا بالحذف.
[٥٦]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٥٦]
يَا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ: جُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: ٥٢]، وَجُمْلَةِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: ٥٨] الْآيَةَ. وَهَذَا أَمْرٌ بِالْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ. وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ذَكَرَ عِنَادَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِهِ آذَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى دَارِ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ مَا بَيْنَ مُسْلِمِينَ وَبَيْنَ يَهُودٍ فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ فِي جِوَارِهِمْ آمَنِينَ مِنَ الْفِتَنِ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ غَيْرَ مَفْتُونِينَ. وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُسْتَضْعَفِينَ قَدْ آمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا إِظْهَارَ إِيمَانِهِمْ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي أَوَّلِ هَذِه السُّورَة [العنكبوت: ١٠]، وَكَانَ لَهُمُ الْعُذْرُ حِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَلْجَأً سَالِمًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَطَاعُوا الْهِجْرَةَ إِلَى الْحَبَشَةِ مِنْ قَبْلُ، فَلَمَّا أَسَلَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ زَالَ عُذْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ إِذْ أَصْبَحَ فِي اسْتِطَاعَتِهِمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
. فَقَوْلُهُ: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
كَلَامٌ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرَكَّبًا فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ فِي الْأَرْضِ بِلَادًا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَقْطُنَهَا آمِنًا، فَهُوَ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ | فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا |
وَجْهُ تِعْدَادِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ التَّسْوِيَةُ فِي خُصُوصِ صِفَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَسُلِكَ مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ فِي تِعْدَادِ الْأَوْصَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ لِاخْتِلَافِ أَفْهَامِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ فِي هَذَا التِّعْدَادِ إِيمَاءً إِلَى أُصُولِ التَّشْرِيعِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَبِهَذِهِ الْآثَارِ يَظْهَرُ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالَّتِي قَبْلَهَا. وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَأْكِيدِ هَذَا الْخَبَرِ
بِحَرْفِ إِنَّ لِدَفْعِ شَكِّ مَنْ شَكَّ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنَ النِّسَاءِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ شَرَعًا.
وَالْإِسْلَامُ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحِجُّ الْبَيْتِ، وَلَا يَعْتَبِرُ إِسْلَامًا إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ. وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بَعْدَهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فِي الْبَقَرَةِ [١٣٢].
وَالْمرَاد ب الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ الَّذين آمنُوا. وَالْإِيمَان: أَن يُؤمن بالله وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر ويؤمن بِالْقدرِ خَيره وشره. وَتقدم الْكَلَام على الْإِيمَان فِي أَوَائِل سُورَة الْبَقَرَة.
و (الْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) : أَصْحَابُ الْقُنُوتِ وَهُوَ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَعِبَادَتُهُ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [الْأَحْزَاب: ٣١] والصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُمْ صِدْقُ الْقَوْلِ وَهُوَ ضِدُّ الْكَذِبِ، وَالصِّدْقُ كُلُّهُ حَسَنٌ، وَالْكَذِبُ لَا خَيْرَ فِيهِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَشَمَلَ ذَلِكَ الْوَفَاءَ بِمَا يُلْتَزَمُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ كَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْوَفَاءِ بِالنذرِ، وَتقدم عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وب الصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ: أَهْلُ الصَّبْرِ وَالصَّبْرُ مَحْمُودٌ فِي ذَاتِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا هُوَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ فِي أُمُورِ الدِّينِ، وَتَحَمُّلُ الْمَكَارِهِ فِي
يَنْقَطِعُ سَيْرُهَا فِي إِبَّانِ انْقِطَاعِهِ وَذَلِكَ حِينَ تَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَيْ حِينَ يَنْقَطِعُ سَيْرُ الْأَرْضِ حَوْلَ شُعَاعِهَا لِأَنَّ حَرَكَةَ الْأَجْرَامِ التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا تَنْقَطِعُ تَبَعًا لِانْقِطَاعِ حَرَكَتِهَا هِيَ وَذَلِكَ نِهَايَةُ بَقَاء هَذَا الْعَالم الدُّنْيَوِيِّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَها لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ صِفَةٌ لِمُسْتَقَرٍّ. وَعُدِلَ عَنْ إِضَافَةِ مُسْتَقَرٍّ لِضَمِيرِ الشَّمْسِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِظْهَارِ اللَّامِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِاللَّامِ لِيَتَأَتَّى تَنْكِيرُ «مُسْتَقَرٍّ» تَنْكِيرًا مُشْعِرًا بِتَعْظِيمِ ذَلِكَ الْمُسْتَقَرِّ.
وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْغُرُوبِ وَالشُّرُوقِ الْيَوْمِيَّيْنِ. وَجُعِلَ سُجُودُ الشَّمْسِ تَمْثِيلًا لِتَسْخِرِهَا لِتَسْخِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا كَمَا جُعِلَ الْقَوْلُ تَمْثِيلًا لَهُ فِي آيَةِ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لِمُسْتَقَرٍّ لَها إِدْمَاجٌ لِلتَّعْلِيمِ فِي التَّذْكِيرِ وَلَيْسَ مِنْ آيَةِ الشَّمْسِ لِلنَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى [الْأَنْعَام: ٦٠] عَقِبَ الِامْتِنَانِ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ [الْأَنْعَام: ٦٠].
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ إِلَى الْمَذْكُورِ: إِمَّا مِنْ قَوْلِهِ: وَالشَّمْسُ
تَجْرِي
أَيْ ذَلِكَ الْجَرْيِ، وَإِمَّا مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ [يس: ٣٧] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ تَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَذِكْرُ صِفَتِي الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لِمُنَاسَبَةِ مَعْنَاهُمَا لِلتَّعَلُّقِ بِنِظَامِ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ، فَالْعِزَّةُ تُنَاسِبُ تَسْخِيرَ هَذَا الْكَوْكَبِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ يُنَاسِبُ النِّظَامَ الْبَدِيعَ الدَّقِيقَ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً فِي سُورَة الْفرْقَان [٦١].
[٣٩]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٩]
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩)
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِرَفْعِ وَالْقَمَرَ فَهُوَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى وَالشَّمْسُ تَجْرِي [يس: ٣٨] عَطْفَ الْمُفْرَدَاتِ، وَإِمَّا مُبْتَدَأٌ وَالْعَطْفُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ.
وَالْعَذَابُ الْمُخْزِي هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عَذَابُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْعَذَابُ الْمُقِيمُ هُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَإِقَامَتُهُ خُلُودُهُ. وَتَنْوِينُ عَذابٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلتَّعْظِيمِ الْمُرَادِ بِهِ التَّهْوِيلُ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ يَأْتِيهِ إِلَى الْعَذَابِ الْمُخْزِي لِأَنَّ الْإِتْيَانَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ يُفَاجِئُهُمْ كَمَا يَأْتِي الطَّارِقُ. وَكَذَلِكَ إِسْنَادُ فِعْلِ يَحِلُّ إِلَى الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْحُلُولَ مُشْعِرٌ بِالْمُلَازَمَةِ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ، وَهُوَ عَذَابُ الْخُلُودِ، وَلِذَلِكَ يُسمى منزل القَوْل حِلَّةً، وَيُقَالُ لِلْقَوْمِ الْقَاطِنِينَ غَيْرِ الْمُسَافِرِينَ هُمْ حِلَالٌ، فَكَانَ الْفِعْلُ مُنَاسِبًا لِوَصْفِهِ بِالْمُقِيمِ. وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَحِلُّ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ على تمكنه.
[٤١]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمُ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ الْمُفِيدِ مُوَادَعَتَهُمْ وَتَهْوِينَ تَصْمِيمِ كُفْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَتَثْبِيتِهِ عَلَى دَعْوَتِهِ. وَالْمَعْنَى: لِأَنَّا نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِفَائِدَةِ النَّاسِ وَكَفَاكَ ذَلِكَ شَرَفًا وَهِدَايَةً وَكَفَاكَ تَبْلِيغُهُ إِلَيْهِمْ فَمَنِ اهْتَدَى مِنَ النَّاسِ فَهِدَايَتُهُ لِنَفْسِهِ بِوَاسِطَتِكَ وَمَنْ ضَلَّ فَلَمْ يَهْتَدِ بِهِ فَضَلَالُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَا عَلَيْكَ مِنْ ضَلَالِهِمْ تَبِعَةٌ لِأَنَّكَ بَلَّغْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ. وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [الزمر: ٢]، لِأَنَّ تِلْكَ فِي غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ إِنْزَالُ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، ولِلنَّاسِ مُتَعَلق ب- أَنْزَلْنا، وبِالْحَقِّ حَالٌ مِنَ الْكِتابَ،
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، وَاللَّامُ فِي لِلنَّاسِ لِلْعِلَّةِ، أَيْ لِأَجْلِ النَّاسِ. وَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَفْهُومٌ مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ مَعْنَى الْفَائِدَةِ وَالنَّفْعِ أَيْ لِنَفْعِ النَّاسِ، أَوْ مِمَّا يُؤْذَنُ بِهِ التَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَمَنِ اهْتَدى إِلَخْ. وَفَاءُ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ لِلتَّفْرِيعِ وَهُوَ تَفْرِيع ناشىء مِنْ مَعْنَى اللَّامِ. وَ (مَنْ) شَرْطِيَّةٌ، أَيْ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الِاهْتِدَاءُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ اهْتِدَاءَهُ لِفَائِدَةِ
تَصْدِيقِهِمْ بِالْقَسَمِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرَّعْد: ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً [العنكبوت: ٥٢].
وَلَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِشَهَادَةِ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى صدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ بِذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ تَوَجُّهُ الْإِنْكَارِ إِلَيْهِمْ. وَلَقَدْ دَلَّتْ كَلِمَاتُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ مَعْنَاهَا مِنْ لَفْظِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ بِرَبِّكَ وَالتَّقْدِير: أَو لم يَكْفِهِمْ رَبُّكَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، أَيْ فَهُوَ يُحَقِّقُ مَا وَعَدَكَ مِنْ دَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِكَ، أَوْ فَمَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَدْ صَدَقَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ مَنِ اسْتَشْهَدَ بِهِ كَاذِبًا فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَأْخُذَهُ.
وَفِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُصَدِّقُ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ وَهُوَ معنى قَول أيّمة أُصُولِ الدِّينِ: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى الصِّدْقِ أَنَّ تَغْيِيرَ اللَّهِ الْعَادَةَ لِأَجْلِ تحدّي الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عني.
[٥٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : آيَة ٥٤]
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
تَذْيِيلَانِ لِلسُّورَةِ وَفَذْلَكَتَانِ افْتُتِحَا بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ اهْتِمَامًا بِمَا تَضَمَّنَاهُ. فَأَمَّا التَّذْيِيلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ جِمَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ إِذْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا نَاشِئَةً عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ فَكَانُوا فِي مَأْمَنٍ مِنَ التَّفْكِيرِ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَانْحَصَرَتْ مَسَاعِيهُمْ فِي تَدْبِيرِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَانْكَبُّوا عَلَى مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ فِيهَا.
الشَّعْبِيُّ مِثْلَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَأُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِخْبَارًا مِنَ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقَعُ مِنْ إِيمَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَيَكُونُ هُوَ الْمُرَادَ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ مَكِّيَّةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الَّذِي جَرَّأَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى إِنْكَارِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: ٣١] وَقَالُوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١] حِينَ عَلِمُوا أَنْ قَدْ لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ بِنُزُولِ مَا سَلَفَ مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ الْقُرْآنِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَعْلِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمَحْذُوفِ الدَّالِّ عَلَيْهِ مَا قبله مَا عَلِمْتَهُ آنِفًا، أَيْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا لَا يُرْجَى لَهُ زَوَالٌ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَالله لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَهَذَا تَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ. وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّرْطِ غَيْرِ الْمَجْزُومِ بِوُقُوعِهِ مُجَارَاةً لِحَالِ الْمُخَاطَبِينَ اسْتِنْزَالًا لِطَائِرِ جِمَاحِهِمْ لِيَنْزِلُوا لِلتَّأَمُّلِ وَالْمُحَاوَرَةِ.
[١١]
[سُورَة الْأَحْقَاف (٤٦) : آيَة ١١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ.
هَذَا حِكَايَةُ خَطَأٍ آخَرَ مِنْ أَخْطَاءِ حُجَجِ الْمُشْرِكِينَ الْبَاطِلَةِ وَهُوَ خَطَأٌ مَنْشَؤُهُ الْإِعْجَابُ بِأَنْفُسِهِمْ وَغُرُورُهُمْ بِدِينِهِمْ فَاسْتَدَلُّوا عَلَى أَنْ لَا خَيْرَ فِي الْإِسْلَامِ بِأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَرُوا الْأَخْذَ بِهِ ضُعَفَاءُ الْقَوْمِ وَهُمْ يَعُدُّونَهُمْ مُنْحَطِّينَ عَنْهُمْ، فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَنْعَامِ [٥٣]، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ قَوْمِ نُوحٍ وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود ٢٧]، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ مِنْ آثَارِ اسْتِكْبَارِهِمْ فَنَاسَبَ قَوْله:
وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الْأَحْقَاف: ١٠].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ آمَنُوا لَامُ التَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، هُوَ حَالٌ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا تَقْدِيرُهُ: مُخَصِّصِينَ أَوْ مُرِيدِينَ كَاللَّامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمرَان: ١٥٦]، وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: ٨] الْآيَةَ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ، أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِمُ الْمُخْتَلِفِ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لَمَّا جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ فِي مَحَلِّ حَالٍ وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ هَؤُلَاءِ كَحَالِ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ مِمَّنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ أَنْ يَصِفُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ فَكَذَلِكَ سَيُجِيبُ هَؤُلَاءِ عَنْ قَوْلِكَ:
«فِرُّوا إِلَى اللَّهِ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ» بِمِثْلِ جَوَابِ مَنْ قَبْلَهُمْ فَلَا مَطْمَعَ فِي ارْعِوَائِهِمْ عَنْ عِنَادِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْأُمَمُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَغَيْرُهُمْ، وَضَمِيرُ
قَبْلِهِمْ عَائِدٌ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الْحَاضِرِينَ.
وَزِيَادَةُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَسُولٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، أَيْ أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ قَالَ فِيهِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِهِ: هُوَ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ: سَاحِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَجْنُونٌ، مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ دُونَ السِّحْرِ إِذْ لَمْ يَكُنِ السِّحْرُ مَعْرُوفًا فِي زَمَانِهِمْ قَالُوا:
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٥]. وَقَدْ يَجْمَعُونَ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ قَوْلِ فِرْعَوْنَ فِي مُوسَى.
وَهَذَا الْعُمُومُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ قَوْمٌ مِنَ الْأَقْوَامِ الْمَذْكُورِينَ إِلَّا قَالُوا لِرَسُولِهِمْ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ، وَمَا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي آيَاتٍ أُخْرَى بِلَفْظِهِ أَوْ بِمُرَادِفِهِ كَقَوْلِ قَوْمِ هُودٍ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: ٥٤].
وَأَوَّلُ الرُّسُلِ هُوَ نُوحٌ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الشَّفَاعَةِ. فَلَا يُرَدُّ أَنَّ آدَمَ لَمْ يُكَذِّبْهُ أَهْلُهُ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَأَشْعِيَا، لَمْ يُكَذِّبْهُمْ قَوْمُهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: مِنْ رَسُولٍ، وَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيءِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ أَحْوَالٍ مَحْذُوفَةٍ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَقْوَالِهِمْ إِلَّا فِي حَالِ قَوْلِهِمْ: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ.
وَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ الشِّبَعَ بِمُدَّيْنِ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلعه رَاعَى الشِّبَعَ فِي مُعْظَمِ الْأَقْطَارِ غَيْرَ الْمَدِينَةِ، وَقَدَّرَهُ الشَّافِعِيُّ بِمُدٍّ وَاحِدٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ قِيَاسًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ فِي كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ.
وَلَمْ يُذْكَرْ مَعَ الْإِطْعَامِ قَيْدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا اكْتِفَاءً بِذِكْرِهِ مَعَ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَصِيَامِ الشَّهْرَيْنِ وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الصِّيَامِ وَمُجَزَّأٌ لِمِثْلِ أَيَّامِ الصِّيَامِ. هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِطْعَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ وُقُوعُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا.
ثُمَّ إِنَّ وَقْعَ الْمَسِيسِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِهَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ آثِمٌ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرٌ آخَرُ، وَهَذَا مَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الَّذِي شَكَا إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ بَعْدَ أَنْ ظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَمَرَهُ بِأَنْ لَا يَعُودَ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَتَّى يُكَفِّرَ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ.
وَصَرِيحُ الْآيَةِ أَنَّ تَتَابُعَ الصِّيَامِ شَرْطٌ فِي التَّكْفِيرِ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ أَفْطَرَ فِي خِلَالِهِ دُونَ عُذْرٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ.
وَلَا يَمَسُّ امْرَأَتَهُ حَتَّى يتم الشهران مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ مَسَّهَا فِي خِلَالِ الشَّهْرَيْنِ أَثِمَ وَوَجَبَ
عَلَيْهِ إِعَادَةُ الشَّهْرَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا كَانَ الْوَطْءُ لَيْلًا لَمْ يَبْطُلِ التَّتَابُعُ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ، وَهَذَا هُوَ الْجَارِي عَلَى الْقِيَاسِ وَعَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْر.
وَأما كَون آثِمًا بِالْمَسِيسِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَفَّارَةِ فَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى، فَمِنَ الْعَجَبِ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الْفِقْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ الْوَاقِعَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ لَيْسَ بِالْمَحَلِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِالْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ وَطْءُ تَعَدٍّ فَلَا بُدَّ مِنَ الِامْتِثَالِ لِلْأَمْرِ بِصَوْمٍ لَا يَكُونُ فِي أَثْنَائِهِ وَطْءٌ اه.
وَالْمِسْكِينُ: الشَّدِيدُ الْفَقْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
وَالْمُظَاهِرُ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى بَعْضِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَأَبَى أَنْ يُكَفِّرَ انْقَلَبَ ظِهَارُهُ إِيلَاءً.
فَإِنْ لَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ بِالْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ أَجَلُ الْإِيلَاءِ فَإِنِ انْقَضَى الْأَجَلُ
(٥)
انْتَقَلَ مِنْ دَلَائِلَ انْتِفَاءِ الْخَلَلِ عَنْ خِلْقَةِ السَّمَاوَاتِ، إِلَى بَيَانِ مَا فِي إِحْدَى السَّمَاوَاتِ مِنْ إِتْقَانِ الصُّنْعِ فَهُوَ مِمَّا شَمِلَهُ عُمُومُ الْإِتْقَانِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَذِكْرُهُ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ كَذِكْرِ الْمِثَالِ بَعْدَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، فَدَقَائِقُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا أَوْضَحُ دَلَالَةً عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ لِكَوْنِهَا نُصْبَ أَعْيُنِ الْمُخَاطَبِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ بَعْضِهَا يَحْصُلُ تَخَلُّصٌ إِلَى التَّحْذِيرِ مِنْ حِيَلِ الشَّيَاطِينِ وَسُوءِ عَوَاقِبِ أَتْبَاعِهِمْ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) لِأَنَّهُ إِلَى أَنَّهُ نَتِيجَةُ الْاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُؤَكَّدِ بِ (هَلْ) أُخْتُ (قَدْ) فِي الْاسْتِفْهَامِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى السَّمَاء الدُّنْيَا وَلماذَا وُصِفَتْ بِالدُّنْيَا وَعَنِ الْكَوَاكِبِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَسُمِّيَتِ النُّجُومُ هُنَا مَصَابِيحَ عَلَى التَّشْبِيهِ فِي حُسْنِ الْمَنْظَرِ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ.
وَذِكْرُ التَّزْيِينِ إِدْمَاجٌ لِلْامْتِنَانِ فِي أَثْنَاءِ الْاسْتِدْلَالِ، أَيْ زَيَّنَّاهَا لَكُمْ مِثْلُ الْامْتِنَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٦].
وَالْمَقْصِدُ: التَّخَلُّصُ إِلَى ذِكْرِ رَجْمِ الشَّيَاطِينَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِهِمْ وَوَعِيدِ مُتَّبِعِيهِمْ.
وَعَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِ (مَصَابِيحَ) بِالْلَّامِ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّعْظِيمِ.
وَالرُّجُومُ: جَمْعُ رَجْمٍ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُرْجَمُ بِهِ، أَيْ مَا يَرْمِي بِهِ الرَّامِي مِنْ حَجَرٍ وَنَحْوِهِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ مِثْلُ الْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١].
وَالَّذِي جُعِلَ رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ هُوَ بَعْضُ النُّجُومِ الَّتِي تَبْدُو مُضِيئَةً ثُمَّ تَلُوحُ مُنْقَضَّةً، وَتُسَمَّى الشُّهُبُ وَمَضَى الْقَوْلُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَضَمِيرُ الْغَائِبَةِ فِي جَعَلْناها الْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمَصَابِيحِ، أَيْ أَنَّ الْمَصَابِيحَ رُجُومٌ لِلشَّيَاطِينِ.
وَمَعْنَى جَعْلِ الْمَصَابِيحِ رُجُومًا جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ إِسْنَادِ عَمَلِ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى جَمِيعِهِ مِثْلُ إِسْنَادِ الْأَعْمَالِ إِلَى الْقَبَائِلِ لِأَنَّ الْعَامِلِينَ مِنْ أَفْرَادِ الْقَبِيلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
شُبِّهَ بِاللِّبَاسِ فِي ذَلِكَ. وَنُسِبَ مُجْمَلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والسّدي وَقَتَادَةَ إِذْ فسروا سُباتاً [النبأ: ٩] سَكَنًا.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَن وَجه شبه بِاللِّبَاسِ هُوَ الْوِقَايَةُ، فَاللَّيْلُ يَقِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْأَخْطَارِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْعَرَبُ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي اللَّيْلِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْغَارَةُ صَبَاحًا وَلِذَلِكَ إِذَا غِيرَ عَلَيْهِمْ يَصْرُخُ الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: يَا صَبَاحَاهُ. وَيُقَالُ: صَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ.
وَكَانُوا إِذَا أَقَامُوا حَرَسًا عَلَى الرُّبَى نَاظُورَةَ عَلَى مَا عَسَى أَنْ يَطْرُقَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُقِيمُونَهُ نَهَارًا فَإِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ نَزَلَ الْحَرَسُ، كَمَا قَالَ لَبِيدٌ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ فَرَسَهُ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ | وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا |
أَسْهَلْتُ وَانْتَصَبَتْ كَجِذْعٍ مُنِيفَةٍ | جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دونهَا جرّامها |
[سُورَة النبإ (٧٨) : آيَة ١١]
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١)
لَمَّا ذُكِرَ خَلْقُ نِظَامِ اللَّيْل قوبل بِذكر خلق نِظَامِ النَّهَارِ، فَالنَّهَارُ: الزَّمَانُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ ضَوْءُ الشَّمْسِ مُنْتَشِرًا عَلَى جُزْءٍ كَبِيرٍ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. وَفِيهِ عِبْرَةٌ بِدِقَّةِ الصُّنْعِ وَإِحْكَامِهِ إِذْ جُعِلَ نِظَامَانِ مُخْتَلِفَانِ مَنْشَؤُهُمَا سُطُوعُ نُورِ الشَّمْسِ وَاحْتِجَابُهُ فَوْقَ الْأَرْضِ، وَهُمَا نعمتان للبشر مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْآثَارِ فَنِعْمَةُ اللَّيْلِ رَاجِعَةٌ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، وَنِعْمَةُ النَّهَارِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ، لِأَنَّ النَّهَارَ يَعْقُبُ اللَّيْلَ فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ قَدِ اسْتَجَدَّ رَاحَتَهُ وَاسْتَعَادَ نَشَاطَهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَعْمَالِ بِسَبَبِ إِبْصَارِ الشُّخُوصِ وَالطُّرُقِ.
وَلَمَّا كَانَ مُعْظَمُ الْعَمَلِ فِي النَّهَارِ لِأَجْلِ الْمَعَاشِ أُخْبِرَ عَنِ النَّهَارِ بِأَنَّهُ مَعَاشٌ وَقَدْ أَشْعَرَ ذِكْرُ النَّهَارِ بَعْدَ ذِكْرِ كُلٍّ مِنَ النَّوْمِ وَاللَّيْلِ بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ النَّهَارَ ابْتِدَاءُ وَقْتِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ ضِدُّ النَّوْمِ فَصَارَتْ مُقَابَلَتُهُمَا بِالنَّهَارِ فِي تَقْدِيرِ: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ وَالْيَقَظَةَ فِيهِ مَعَاشًا، فَفِي الْكَلَامِ اكْتِفَاءٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ، وَبِذَلِكَ حَصَلَ بَيْنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُطَابَقَتَانِ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ لَفْظًا وَضِمْنًا.