وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ
عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَانٍ جَلِيلَةٌ لَيْسَ هَذَا مَقَامُ بَيَانِهَا وَقَدْ شَرَحْتُهَا فِي تَعْلِيقِي عَلَى «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» الْمُسَمَّى: «النَّظَرُ الْفَسِيحُ عِنْدَ مَضَايِقِ الْأَنْظَارِ فِي الْجَامِعِ الصَّحِيحِ».
فَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْكَلَامِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً، أُولَاهَا الْفَاتِحَةُ وَأُخْرَاهَا سُورَةُ النَّاسِ. صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى هَذَا الْوَحْيِ. وَهُوَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَانِ وَهِيَ زِنَةٌ وَرَدَتْ فِي أَسْمَاءِ الْمَصَادِرِ مِثْلَ غُفْرَانٍ، وَشُكْرَانٍ وَبُهْتَانٍ، وَوَرَدَتْ زِيَادَةُ النُّونِ فِي أَسْمَاءِ أَعْلَامٍ مِثْلَ عُثْمَانَ وَحَسَّانَ وَعَدْنَانَ. وَاسْمُ قُرْآنٍ صَالِحٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْقِرَاءَةِ لِأَنَّ أول مَا بدىء بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْوَحْيِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الْإِسْرَاء: ١٠٦] فَهَمْزَةُ قُرْآنٍ أَصْلِيَّةٌ وَوَزْنُهُ فُعْلَانٌ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَلَى قِرَاءَةِ لَفْظِ قُرْآنٍ مَهْمُوزًا حَيْثُمَا وَقَعَ فِي التَّنْزِيلِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا ابْنُ كَثِيرٍ قَرَأَهُ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى لُغَةِ تَخْفِيفِ الْمَهْمُوزِ وَهِيَ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ، وَالْأَصْلُ تَوَافُقُ الْقِرَاءَاتِ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُخْتَلَفِ فِي قِرَاءَتِهِ. وَقِيلَ هُوَ قُرْآنٌ بِوَزْنِ فَعَّالٍ، مِنَ الْقَرْنِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ أَيِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا لِأَنَّهُ قُرِنَتْ سُوَرُهُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ آيَاتُهُ وَحُرُوفُهُ وَسُمِّيَ كِتَابُ اللَّهِ قُرْآنًا كَمَا سُمِّيَ الْإِنْجِيلُ الْإِنْجِيلَ، وَلَيْسَ مَأْخُوذًا مِنْ قَرَأْتُ، وَلِهَذَا يُهْمَزُ قَرَأْتُ وَلَا يُهْمَزُ الْقُرْآنُ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ آخَرُ لِكِتَابِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قُرْآنَ جَمْعُ قَرِينَةٍ أَيِ اسْمُ جَمْعٍ، إِذْ لَا يُجْمَعُ مِثْلُ قَرِينَةٍ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ فِي التَّكْثِيرِ فَإِنَّ الْجُمُوعَ الْوَارِدَةَ عَلَى وَزْنِ فُعَالٍ مَحْصُورَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا، وَالْقَرِينَةُ الْعَلَامَةُ، قَالُوا لِأَنَّ آيَاتِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَهِيَ قَرَائِنُ عَلَى الصِّدْقِ.
فَاسْمُ الْقُرْآنِ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَى الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْبِقْ أَنْ أُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ وَأَكْثَرُهَا وُرُودًا فِي آيَاتِهِ وَأَشْهَرُهَا دَوَرَانًا عَلَى أَلْسِنَةِ السَّلَفِ.
يَجِبُ عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ، وَمِمَّا يُعَدُّ قَدْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى بَيَانِهِ أَنْ تُعَيَّنَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ لِيُعَلِّمَهُمْ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَرَى أَنَّ فِي عِلْمِهِمْ بِهِ مَنْفَعَةً لَهُمْ وَقُدْرَةً عَلَى فَهْمِهِ وَحُسْنِ وَضْعِهِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِلتَّعَلُّمِ أَنْ يُلْقِيَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَهُمْ مَقْدِرَةٌ عَلَى تَلَقِّيهِ وَإِدْرَاكِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْكِتْمَانَ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ أَعْلَاهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَبَقِيَّةُ الْمَرَاتِبِ تُؤْخَذُ بِالْمُقَايَسَةِ، وَهَذَا يَجِيءُ أَيْضًا فِي جَوَابِ الْعَالِمِ عَمَّا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ فَإِنْ كَانَ قَدِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ أَوْ كَانَ قَدْ عُيِّنَ لِلْجَوَابِ مِثْلُ مَنْ يُعَيَّنُ لِلْفَتْوَى فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ فَعَلَيْهِ بَيَانُهُ إِذَا عَلِمَ احْتِيَاجَ السَّائِلِ وَيَجِيءُ فِي انْفِرَادِهِ بِالْعِلْمِ أَوْ تَعْيِينِهِ لِلْجَوَابِ وَفِي عَدَمِ انْفِرَادِهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الْوُجُوبِ الْعَيْنِيِّ وَالْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ.
وَفِي غَيْرِ هَذَا فَهُوَ فِي خيرة أَو يُجِيبَ أَوْ يَتْرُكَ. وَبِهَذَا يَكُونُ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَاهُ أَصْحَابُ «السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَخَصَّصَ عُمُومَهُ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ بِتَخْصِيصَاتٍ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ قَدْ أَشَرْنَا إِلَى جُمَاعِهَا. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّ الْحَدِيثَ وَارِدٌ فِي كِتْمَانِ الشَّاهِدِ بِحَقِّ شَهَادَتِهِ.
وَالْعُهْدَةُ فِي وَضْعِ الْعَالِمِ نَفْسَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا يَأْنَسُهُ مِنْ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ وَمَا يَسْتَبْرِئُ بِهِ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.
وَالْعُهْدَةُ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الطَّالِبِينَ وَالسَّائِلِينَ عَلَيْهِ لِيُجْرِيَهَا عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ إِجْرَاؤُهَا عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ عَلَى مَا يَتَوَسَّمُهُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالْأَحْوَالِ الْمُحِيطَةِ بِهِمْ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي حَالِ نَفْسِهِ أَوْ حَالِ سَائِلِهِ فَلْيَسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ.
وَيَجِبُ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ حِكْمَةِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْهُدى حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ ضَابِطًا لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ كِتْمَانُ مَا يُكْتَمُ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ أَيْ فَهُمْ لَا تَلْحَقُهُمُ اللَّعْنَةُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ مَنْصُوبٌ عَلَى تَمَامِ الْكَلَامِ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا إِلَخْ.
وَشَرْطٌ لِلتَّوْبَةِ أَنْ يُصْلِحُوا مَا كَانُوا أَفْسَدُوا وَهُوَ بِإِظْهَارِ مَا كَتَمُوهُ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ
لَكِنَّ أَئِمَّةَ الْفَنِّ حِينَ ذَكَرُوا أَمْثِلَةَ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ سَوَّوْا فِيهَا بَيْنَ الْإِثْبَاتِ- كَمَا ذَكَرْنَا- وَبَيْنَ النَّفْيِ نَحْوَ لَا فِيها غَوْلٌ [الصافات:
٤٧]، فَقَدْ مَثَّلَ بِهِ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] فَقَالَ: «قَصَدَ تَفْضِيلَ خَمْرِ الْجَنَّةِ عَلَى خُمُورِ الدُّنْيَا»، وَقَالَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِهِ هُنَالِكَ «عُدَّ قَصْرًا لِلْمَوْصُوفِ عَلَى الصِّفَةِ، أَيِ الْغَوْلُ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى عَدَمِ الْحُصُولِ فِيمَا يُقَابِلُهَا، أَوْ عَدَمُ الْغُولِ مَقْصُورٌ عَلَى الْحُصُولِ فِيهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ إِلَى الْحُصُولِ فِي هَذِهِ الْخُمُورِ». وَقَدْ أَحَلْتُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢] عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا، فَبِنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَةَ الْقَصْرِ بِالتَّقْدِيمِ فِي النَّفْيِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَصْرَ لَمَّا كَانَ كَيْفِيَّةً عَارِضَةً لِلتَّرْكِيبِ وَلَمْ يَكُنْ قَيْدًا لَفْظِيًّا بِحَيْثُ يَتَوَجَّهُ النَّفْيُ إِلَيْهِ كَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مُسْتَصْحَبَةً مَعَ النَّفْيِ، فَنَحْوُ لَا فِيها غَوْلٌ يُفِيدُ قَصْرَ الْغَوْلِ عَلَى الِانْتِفَاءِ عَنْ خُمُورِ الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُ نَفْيَ قَصْرِ الْغَوْلِ عَلَى الْكَوْنِ فِي خُمُورِ الْجَنَّةِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ السَّيِّدُ فِي شَرْحِ «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ إِذْ قَالَ «وَبِالْجُمْلَةِ يُجْعَلُ حَرْفُ النَّفْيِ جُزْءًا أَوْ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُسْنَدِ أَوِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ». وَعَلَى هَذَا بَنَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فَجَعَلَ وَجْهَ أَنْ لَمْ يُقَدَّمِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا قُدِّمَ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: لَا فِيها غَوْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ أُوِّلَ لَقُصِدَ أَنَّ كِتَابًا آخَرَ فِيهِ الرَّيْبُ، لَا فِي الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُرَادٍ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ إِذَا أُجْرِيَ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ كَانَ مُفَادُهُ هُدَاهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَيْكَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِفَادَةُ إِبْطَالِ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى غَيْرِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ إِبْطَالُ انْتِفَاءِ كَوْنِهِ عَلَى اللَّهِ، وَكِلَا الْمُفَادَيْنِ غَيْرُ مُرَادٍ إِذْ لَا يعْتَقد الْأَوَّلُ وَلَا الثَّانِي. فَالْوَجْهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيمُ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ كَتَقْدِيمِ يَوْمِ النَّدَى فِي قَوْلِ الْحَرِيرِيِّ:
مَا فِيهِ مِنْ عَيْبٍ سِوَى أَنَّهُ | يَوْمَ النَّدَى قِسْمَتُهُ ضِيزَى |
مُفَوَّضًا إِلَى اللَّهِ فَمِنْ قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ إِيجَادَ الْإِيمَانِ فِي الْكُفَّارِ يَكُونُ بِتَكْوِينِ اللَّهِ وَبِالْإِلْجَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَقَصَرَ هُدَاهُمْ عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي إِلْجَاءِ الْمَخْلُوقِينَ إِيَّاهُمْ لَا عَلَى عَدَمِ الْكَوْنِ فِي أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى اللَّهِ، أَيْ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ.
وَالْأَهْلُ: الزَّوْجُ. وَالْكَلَامُ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ غَدَوْتَ أَيْ مِنْ بَيْتِ أَهْلِكَ وَهُوَ بَيْتُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-.
وتُبَوِّئُ تَجْعَلُ مَبَاءً أَيْ مَكَانَ بَوْءٍ.
وَالْبَوْءُ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ هُنَا الْمَقَرُّ لِأَنَّهُ يَبُوءُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ. وَانْتَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ (تُبَوِّئُ)، ومقاعد مَفْعُولٌ ثَانٍ إِجْرَاء لفعل تبوّىء مَجْرَى تُعْطِي. وَالْمَقَاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ. وَهُوَ مَكَانُ الْقُعُودِ أَيِ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْقُعُودُ ضِدُّ الْوُقُوفِ وَالْقِيَامِ، وَإِضَافَةُ مقاعد لاسم لِلْقِتالِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِالْقِتَالِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْجَيْشُ وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَائِقَةٌ بِحَرَكَاتِهِ، فَأَطْلَقَ الْمَقَاعِدَ هُنَا عَلَى مَوَاضِعِ الْقَرَارِ كِنَايَةً، أَوْ مَجَازًا مُرْسَلًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى سَاوَى الْمَقَرَّ وَالْمَكَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [الْقَمَر: ٥٥].
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ مَقَاعِدَ جَرَى فِيهَا عَلَى الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَقْدٌ إِذْ قَالَ فِي رِثَاءِ أبي إِسْحَاق الصابىء:
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا | عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ |
[١٢٣، ١٢٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٢٣ إِلَى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تَذْيِيلٌ لِحُكْمِ الرُّخْصَةِ إِذْ عَفَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَلَا تَرَقُّبَ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِهِ، حَتَّى تَكْثُرَ عَلَيْهِمُ الصَّلَوَاتُ فَيَعْسُرَ عَلَيْهِم الْقَضَاء.
[٤٤، ٤٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٤٤ إِلَى ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ رَاجِعٌ إِلَى مَهْيَعِ الْآيَاتِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنْ قَوْلِهِ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النِّسَاء: ٣٦] فَإِنَّهُ بَعْدَ نِذَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَجَّهَ الْإِنْذَارَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَوَقَعَتْ آيَاتُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَآيَاتُ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ لَهَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِلْأَمْرِ بِتَرْكِ الْخَمْرِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَمْرِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْهُدَى الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لِلْيَهُودِ نَظِيرُهُ، فَهُمْ يَحْسُدُونَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ حُرِمُوا مِنْ مِثْلِهِ وَفَرَّطُوا فِي هُدًى عَظِيمٍ، وَأَرَادُوا إِضْلَالَ الْمُسْلِمِينَ عَدَاءً مِنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ- إِلَى- الْكِتابِ جُمْلَةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا التَّعْجِيبُ، وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهَا تَقْرِيرِيٌّ عَنْ نَفْيِ فِعْلٍ لَا يَوَدُّ الْمُخَاطَبُ انْتِفَاءَهُ عَنْهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مُحَرِّضًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ
فَعَلَ، وَهُوَ مُفِيدٌ مَعَ ذَلِكَ لِلتَّعْجِيبِ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٣].
وَجُمْلَةُ يَشْتَرُونَ حَالِيَّةٌ فَهِيَ قَيْدٌ لِجُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ، وَحَالَةُ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ بِالْبَصَرِ فَقَدْ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْمُشَاهَدِ الْمَرْئِيِّ، لِأَنَّ شُهْرَةَ الشَّيْءِ وَتَحَقُّقَهُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْئِيِّ.
وَالنَّصِيبُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ولِلرِّجالِ نَصِيبٌ [النِّسَاء: ٧] فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَفِي اخْتِيَارِهِ هُنَا إِلْقَاءُ احْتِمَالِ قِلَّتِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَإِلَّا لَقِيلَ: أُوتُوا الْكِتَابَ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْمَائِدَة: ٣] نَزَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. وَمِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، فَيَقْتَضِي قَوْلُهُمَا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا بَعْدَهُ.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- إِلَى قَوْلِهِ- صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الْمَائِدَة: ١٥، ١٦] ثُمَّ نَزَلَتْ بَقِيَّةُ السُّورَةِ فِي عَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَيَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ أَمْرُ الْعَرَبِ وَأَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يَبْقَ فِي عِنَادِ الْإِسْلَامِ
إِلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَلِأَنَّهُمْ مُخْتَلِطُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلِأَنَّ فُتُوحَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْ تُخُومَ مُلْكِهِمْ فِي حُدُودِ الشَّامِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» : وَكَانَ مَنْ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ قَدِ اسْتَقَامَ لَهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُلْكُ غَسَّانَ بِالشَّامِ كُنَّا نَخَافُ أَنْ يَأْتِيَنَا.
وَقَدِ امْتَازَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِاتِّسَاعِ نِطَاقِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ النَّصَارَى، وَاخْتِصَارِ الْمُجَادَلَةِ مَعَ الْيَهُودِ، عَمَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْيَهُودِ أَخَذَ فِي تَرَاجُعٍ وَوَهْنٍ، وَأَنَّ الِاخْتِلَاطَ مَعَ النَّصَارَى أَصْبَحَ أَشَدَّ مِنْهُ مِنْ ذِي قَبْلُ.
وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ تَحْرِيمُ السُّكْرِ عِنْدَ الصَّلَوَاتِ خَاصَّةً، وَفِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ تَحْرِيمُهُ بَتَاتًا، فَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ بَعْضِ سُورَةِ النِّسَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ لَا تَنْزِلَ سُورَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ نُزُولُ أُخْرَى بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَنْزِلَ سُورَتَانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَهِيَ، أَيْضًا، مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ: لِأَنَّ بَرَاءَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ لَا تَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ إِلَّا مَرَّةً، وَذَلِكَ
(١٠٣)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَاءَ فَارِقًا بَيْنَ مَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَقَائِضِ الْحَنِيفِيَّةِ وَبَيْنَ مَا
نَوَّهَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَجَعَلَ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ قِيَامًا لَهُمْ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّ أُمُورًا مَا جَعَلَهَا اللَّهُ وَلَكِنْ جَعَلَهَا أَهْلُ الضَّلَالَةِ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيَكُونُ كَالْبَيَانِ لِآيَةِ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ [الْمَائِدَة: ١٠٠]، فَإِنَّ الْبَحِيرَةَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا هُنَا تُشْبِهُ الْهَدْيَ فِي أَنَّهَا تُحَرَّرُ مَنَافِعُهَا وَذَوَاتُهَا حَيَّةً لِأَصْنَامِهِمْ كَمَا تُهْدَى الْهَدَايَا لِلْكَعْبَةِ مُذَكَّاةً، فَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُمْ ذَلِكَ وَيَخْلِطُونَ ذَلِكَ بِالْهَدَايَا، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. فَالتَّصَدِّي لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَبَيْنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، كَالتَّصَدِّي لِبَيَانِ عَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَبَيْنَ السَّعْيِ لِلصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١٥٨] كَمَا تَقَدَّمَ هُنَالِكَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَمِمَّا يَزِيدُكَ ثِقَةً بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ اللَّهَ افْتَتَحَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِتَكُونَ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ [الْمَائِدَة: ٩٧]. وَلَوْلَا مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ الْآيِ الْكَثِيرَةِ لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُولَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ إِلَّا أَنَّ الْفَصْلَ هُنَا كَانَ أَوْقَعَ لِيَكُونَ بِهِ اسْتِقْلَالُ الْكَلَامِ فَيُفِيدُ مَزِيدَ اهْتِمَامٍ بِمَا تَضَمَّنَهُ.
وَالْجَعْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، لِأَنَّ أَصْلَ (جَعَلَ) إِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، ثُمَّ يُسْتَعَارُ إِلَى التَّقْدِيرِ وَالْكَتْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: فَرَضَ عَلَيْهِ جَعَالَةً، وَهُوَ هُنَا كَذَلِك فيؤول إِلَى مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ [الْمَائِدَة: ٩٧]. فَالْمَقْصُودُ هُنَا نَفْيُ تَشْرِيعِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ مِنَ الْحَقَائِقِ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْوَاقِعِ. فَنَفَيُ جَعْلِهَا مُتَعَيَّنٌ لِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيَ الْأَمْرِ وَالتَّشْرِيعِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الرِّضَا بِهِ وَالْغَضَبِ عَلَى مَنْ جَعَلَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ فَعَلَ شَيْئًا: مَا أَمَرْتُكَ بِهَذَا. فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِبَاحَتَهُ وَالتَّخْيِيرَ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لَهُمْ. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَن يكون إخراجا مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْكَلَامِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُخَاطَبَةِ الله لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَعَ اعْتِرَاضًا بَيْنَ مَا قَصَّهُ عَلَيْهِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ يَوْمَ الْحَشْرِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ اسْتِثْنَاءٌ إِمَّا مِنْ عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: خالِدِينَ فِيها إِذِ الْخُلُودُ هُوَ إِقَامَةُ الْأَبَدِ وَالْأَبَدُ يَعُمُّ الْأَزْمَانَ كُلَّهَا، فَ (مَا) ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، أَيْ إِلَّا وَقْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِزَالَةَ خُلُودِكُمْ، وَإِمَّا مِنْ عُمُومِ الْخَالِدِينَ الَّذِي فِي ضَمِيرِ خالِدِينَ أَيْ إِلَّا فَرِيقًا شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَخْلُدُوا فِي النَّارِ.
وَبِهَذَا صَارَ مَعْنَى الْآيَةِ مَوْضِعَ إِشْكَالٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْ حَيْثُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ بِدُونِ اسْتِثْنَاءِ فَرِيقٍ وَلَا زَمَانٍ.
وَقَدْ أَحْصَيْتُ لَهُمْ عَشَرَةَ تَأْوِيلَاتٍ، بَعْضُهَا لَا يَتِمُّ، وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ إِذَا جُعِلَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَوْلِيَائِهِمْ فِي الْحَشْرِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنْهَا إِلَّا وَاحِدٌ، إِذَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ حِكَايَةِ مَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ فِي الْحَشْرِ وَبَيْنَ مَا خُوطِبَ بِهِ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ هَذَا الِاعْتِرَاضُ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ التَّهْدِيدَ، إِعْذَارًا لَهُمْ أَنْ يُسْلِمُوا، فَتَكُونُ (مَا) مَصْدَرِيَّةً غَيْرَ ظَرْفِيَّةٍ: أَيْ إِلَّا مَشِيئَةَ اللَّهِ عَدَمَ خُلُودِهِمْ، أَيْ حَالُ مَشِيئَتِهِ. وَهِيَ حَالُ تَوْفِيقِهِ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ لِلْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِمْ، وَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا وَتَحْقِيقًا لِلْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: هَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ الْوَقْفَ فِي جَمِيعِ
كُلُّهُمْ هَذَا حَالُهُمْ، وَهُوَ مِنْ تَغْلِيبِ الْمَوْجُودِ عَلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ وُجُودِ الذُّرِّيَّةِ لَهُمَا فَوَجْهُ الْفَصْلِ أَظْهَرُ وَأَجْدَرُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ إِبْلِيسَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْخِطَابِ هُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْها تُخْرَجُونَ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْأَرْضِ يَقْتَضِي سَبْقَ الدُّخُولِ فِي بَاطِنِهَا، وَذَلِكَ هُوَ الدَّفْنُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالشَّيَاطِينُ لَا يُدْفَنُونَ. وَقَدْ أَمْهَلَ اللَّهُ إِبْلِيسَ بِالْحَيَاةِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهُوَ يُحْشَرُ حِينَئِذٍ أَوْ يَمُوتُ وَيُبْعَثُ، وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ جُعِلَ تَغْيِيرُ الْأُسْلُوبِ وَسِيلَةً لِلتَّخَلُّصِ إِلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى بَنِي آدَمَ عَقِبَ هَذَا.
وَقَدْ دَلَّ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى كَلَامٍ مَطْوِيٍّ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ: وَهُوَ أَنَّ آدَمَ وَزَوْجَهُ اسْتَقَرَّا فِي الْأَرْضِ، وَتَظْهَرَ لَهُمَا ذُرِّيَّةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُمْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِعْلَامِ الْإِلَهِيِّ بِأَنَّ الْأَرْضَ قَرَارُهُمْ، وَمِنْهَا مَبْعَثُهُمْ، يَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْخِطَابِ وَالَّذِينَ سَيُوجَدُونَ مِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ يُجْعَلُ سَبَبُ تَغْيِير الأسلوب تخَالف الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْقَوْلَ السَّابِقَ قَوْلُ مُخَاطَبَةٍ، وَالْقَوْلَ الَّذِي بَعْدَهُ قَوْلُ تَقْدِيرٍ وَقَضَاءٍ أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ تَحْيَوْنَ فِيهَا وَتَمُوتُونَ فِيهَا وَتُخْرَجُونَ مِنْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالْأَرْضِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا قَرَارُهُمْ وَمَتَاعُهُمْ، إِذْ كَانَتْ هِيَ مَقَرُّ جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ.
وَقَدْ جُعِلَ هَذَا التَّقْدِيمُ وَسِيلَةً إِلَى مُرَاعَاةِ النَّظِيرِ، إِذْ جُعِلَتِ الْأَرْضُ جَامِعَةً لِهَاتِهِ
الْأَحْوَالِ، فَالْأَرْضُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ تُدَاوَلَتْ فِيهَا أَحْوَالُ سُكَّانِهَا الْمُتَخَالِفَةُ تَخَالُفًا بَعِيدًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُخْرَجُونَ- بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ- عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ، وَخَلَفٍ: بِالْبِنَاءِ للْفَاعِل.
[٢٦]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٦]
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
مِنْ أَضْدَادِ أَدِلَّتِهَا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْغِمَاسِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَبُعْدِهِمْ عَنِ السَّعَادَةِ وَالتَّوْفِيقِ، فَلَا يَزَالُونَ مُوَرَّطِينَ فِي وَحْلِ الشَّقَاوَةِ.
فَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ، أَيْ: عَدُّ أَنْفُسِهِمْ كُبَرَاءَ، أَيْ تَعَاظُمُهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِمُوسَى وَإِبْطَالِ دِينِهِمْ إِذْ أَعْرَضُوا عَنِ التَّصْدِيقِ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْمُفَصَّلَاتِ.
وَجُمْلَةُ: وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاسْتَكْبَرُوا، فَالْمَعْنَى:
فَاسْتَكْبَرُوا عَنِ الِاعْتِرَافِ بِدَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَأَجْرَمُوا، وَإِنَّمَا صِيَغَ الْخَبَرُ عَنْ إِجْرَامِهِمْ بِصِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ وَصْفِ الْإِجْرَامِ فِيهِمْ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْهُمْ، وَرُسُوخِهِ فِيهِمْ مِنْ قَبْلِ حُدُوثِ الِاسْتِكْبَارِ، وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْإِجْرَامِ الرَّاسِخَ فِيهِمْ هُوَ عِلَّةٌ لِلِاسْتِكْبَارِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ، فِ (كَانَ) دَالَّةٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ وَصْفُ الْإِجْرَامِ.
وَالْإِجْرَامُ: فِعْلُ الْجُرْمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ فِي هَذِه السُّورَة [٤٠].
[١٣٤، ١٣٥]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ١٣٤ إِلَى ١٣٥]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
الرِّجْزُ الْعَذَابُ فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ هُنَا لِلْعَهْدِ أَيِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ- إِلَى قَوْلِهِ- آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [الْأَعْرَاف: ١٣٣] وَالرِّجْزُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّاعُونِ، وَقَدْ تقدم عِنْد قَوْلهم تَعَالَى: فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٩]، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرِّجْزِ الطَّاعُونُ أَيْ أَصَابَهُمْ طَاعُونٌ أَلْجَأَهُمْ إِلَى التَّضَرُّعِ بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَطُوِيَ ذِكْرُهُ لِلْإِيجَازِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّجْزَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ إِلَخ... وَإِنَّمَا لم يُذْكَرُ الرِّجْزُ فِي عِدَادِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ [الْأَعْرَاف: ١٣٣] الْآيَةَ تَخْصِيصًا لَهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ لَهُ نَبَأً عَجِيبًا فَإِنَّهُ كَانَ مُلْجِئَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِآيَاتِ مُوسَى وَوُجُودِ رَبِّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ فِي ضَادِ (ضَعْفٌ) الضَّمُّ وَالْفَتْحُ، كَالْمُكْثِ وَالْمَكْثِ، وَالْفُقْرِ وَالْفَقْرِ، وَقَدْ قُرِئَ بِهِمَا فَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِضَمِّ الضَّادِ- وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَخَلَفٌ- بِفَتْحِ الضَّادِ-.
وَوَقَعَ فِي كِتَابِ «فِقْهِ اللُّغَةِ» لِلثَّعَالِبِيِّ أَنَّ الْفَتْحَ فِي وَهَنِ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ، وَالضَّمَّ فِي وَهَنِ الْجِسْمِ، وَأَحْسَبُ أَنَّهَا تَفْرِقَةٌ طَارِئَةٌ عِنْدَ الْمُوَلَّدِينَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ضُعَفَاءَ- بِضَمِّ الضَّادِ وَبِمَدٍّ فِي آخِرِهِ- جَمْعَ ضَعِيفٍ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ لِتَفْرِيعِ التَّشْرِيعِ عَلَى التَّخْفِيفِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ تَكُنْ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ.
وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ- بِالتَّحْتِيَّةِ- لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَعُبِّرَ عَنْ وُجُوبِ ثَبَاتِ الْعَدَدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِمِثْلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَفْظَيْ عَدَدَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ وَمِثْلَيْهِمَا: لِيَجِيءَ النَّاسِخُ عَلَى وَفْقِ الْمَنْسُوخِ، فَقُوبِلَ ثَبَاتُ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَتَيْنِ بِنَسْخِهِ إِلَى ثَبَاتِ مِائَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْمِائَتَيْنِ فَأُبْقِيَ مِقْدَارُ عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ، إِيمَاءً إِلَى أَنَّ مُوجِبَ التَّخْفِيفِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ، لَا قِلَّةُ الْمُشْرِكِينَ، وَقُوبِلَ ثَبَاتُ عَدَدِ مِائَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِثَبَاتِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَلْفَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ جَيْشُهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَرْتَبَةَ الْمِئَاتِ صَارَ جَيْشُهُمْ يُعَدُّ بِالْآلَافِ.
وَأُعِيدَ وَصْفُ مِائَةِ الْمُسْلِمِينَ بِ صابِرَةٌ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّنْوِيهَ بِالِاتِّصَافِ بِالثَّبَاتِ.
وَلَمْ تُوصَفْ مِائَةُ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ: لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ، وَلَا مقتضي لإعادته.
وبِإِذْنِ اللَّهِ أَمْرُهُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَمْرَهُ التَّكْلِيفِيَّ، بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَهُ الْخَبَرُ مِنَ الْأَمْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ الْخَبَرِ وَالْوَعْدِ.
وَافْتِتَاحُهَا بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَهُمَا اللَّامُ وَ (قَدْ) مَعَ كَوْنِ مَضْمُونِهَا مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الْإِنْكَارُ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَلِأَنَّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مَا يُنْكِرُهُ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ مَا يَجْعَلُ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ مُنَزَّلِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَنْفَعُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الْمَجِيءِ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ مُرَادًا بِهِ الْإِيمَاءُ إِلَى اقْتِرَابِ الرَّحِيلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أُعِيدَ الْإِخْبَارُ بِمَجِيئِهِ وَهُوَ حَاصِلٌ مُنْذُ أَعْوَامٍ طَوِيلَةٍ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ اقْتِرَابِ انْتِهَائِهِ، وَهُوَ تَسْجِيلٌ مِنْهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَإِيدَاعٌ لِلْمُنَافِقِينَ وَمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. عَلَى أَنَّ آيَاتٍ أُخْرَى خُوطِبَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَنَحْوُهُمْ فَأُكِّدَتْ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: ١٥] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النِّسَاء: ١٧٤] فَمَا زِيدَتِ الْجُمْلَةُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُؤَكِّدَةً إِلَّا
لِغَرَضٍ أَهَمَّ مِنْ إِزَالَةِ الْإِنْكَارِ.
وَالْمَجِيءُ: مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْخِطَابِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ. شُبِّهَ تَوَجُّهُهُ إِلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ الَّذِي لَمْ يَكُونُوا يَتَرَقَّبُونَهُ بِمَجِيءِ الْوَافِدِ إِلَى النَّاسِ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْأَنْفُسُ: جَمْعُ نَفْسٍ، وَهِيَ الذَّاتُ. وَيُضَافُ النَّفْسُ إِلَى الضَّمِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى قَبِيلَةٍ مُعَادُ الضَّمِيرِ، أَيْ هُوَ مَعْدُودٌ مِنْ ذَوِي نَسَبِهِمْ وَلَيْسَ عِدَادُهُ فِيهِمْ بِحِلْفٍ أَوْ وَلَاءٍ أَوْ إِلْصَاقٍ.
يُقَالُ: هُوَ قُرَيْشِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَيُقَالُ: الْقُرَيْشِيُّ مَوْلَاهُمْ أَوْ حَلِيفُهُمْ، فَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ صَمِيمِ نَسَبِكُمْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْعَرَبِ لِأَنَّ النَّازِلَ بَيْنَهُمُ الْقُرْآنُ يَوْمَئِذٍ لَا يَعُدُّونَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَالَفَهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ مِثْلَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبِلَالٍ الْحَبَشِيِّ، وَفِيهِ امْتِنَانٌ عَلَى الْعَرَبِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَضِيلَتِهِمْ، وَفِيهِ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَتَرْكِ مُنَاوَأَتِهِ وَأَنَّ الْأَجْدَرَ بِهِمُ الِافْتِخَارُ بِهِ وَالِالْتِفَافُ حَوْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] أَيْ يَبْقَى مِنْهُ لَكُمْ ذِكْرٌ حَسَنٌ.
تَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: وَأَنْشَدَ الطَّبَرْسِيُّ قَوْلَ الشَّاعِرِ. وَهُوَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا | وَنَفْثَأُهَا عَنَّا إِذَا قِدْرُهَا غَلَى |
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ قَوْلَهُ: وَفارَ التَّنُّورُ مَثَلٌ لِبُلُوغِ الشَّيْءِ إِلَى أَقْصَى مَا يُتَحَمَّلُ مِثْلُهُ، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَامْتَلَأَ الصَّاعُ، وَفَاضَتِ الْكَأْسُ وَتَفَاقَمَ.
وَالتَّنُّورُ: مَحْفِلُ الْوَادِي، أَيْ ضَفَّتُهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ طَمَا الْوَادِي مِنْ قَبِيلِ بَلَغَ السَّيْلُ الزُّبَى. وَالْمَعْنَى: بِأَنَّ نَفَاذَ أَمْرِنَا فِيهِمْ وَبَلَغُوا مِنْ طُولِ مُدَّةِ الْكُفْرِ مَبْلَغًا لَا يُغْتَفَرُ لَهُمْ بَعْدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥].
وَالتَّنُّورُ: اسْمٌ لِمَوْقِدِ النَّارِ لِلْخُبْزِ. وَزَعَمَهُ. اللَّيْثُ مِمَّا اتَّفَقَتْ فِيهِ اللُّغَاتُ، أَيْ كَالصَّابُونِ وَالسَّمُّورِ. وَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي شِفَاءِ الْغَلِيلِ هَذَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: كَلَامُ اللَّيْثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَعْجَمِيٌّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فَعُّولٌ مِنْ تَنَرَ وَلَا نَعْرِفُ تَنَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ مُهْمَلٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نُونٌ قَبْلَ رَاءٍ فَإِنَّ نَرْجِسَ مُعَرَّبٌ أَيْضًا. وَقَدْ عُدَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ. وَنَظَمَهَا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَنَسَبَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ دُرَيْدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَزْنُهُ فَعَّولٌ. وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ، قَالَ: وَزْنُهُ تَفْعُولٌ مِنَ النُّورِ (أَيْ فَالتَّاءُ زَايِدَةٌ) وَأَصْلُهُ تَنُوُورٌ بِوَاوَيْنِ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ الْأُولَى هَمْزَةً لِانْضِمَامِهَا ثُمَّ حُذِفَتِ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ثُمَّ شُدِّدَتِ النُّونُ عِوَضًا عَمَّا حُذِفَ أَيْ مِثْلَ قَوْلِهِ: تَقَضَّى الْبَازِيُّ بِمَعْنَى تَقَضَّضَ.
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ١١١]
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)هَذَا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سُورَة يُوسُف: ١٠٢] وَهِيَ تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ مِنَ التَّعْجِيبِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ مَعَ دَلَالَةِ الْأُمِّيَّةِ.
وَهِيَ أَيْضًا تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّذْيِيلِ لِلْجُمَلِ الْمُسْتَطْرَدِ بِهَا لِقَصْدِ الِاعْتِبَارِ بِالْقِصَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يُوسُف: ١٠٣].
فَلَهَا مَوَاقِعُ ثَلَاثَةٌ عَجِيبَةٌ مِنَ النَّظْمِ الْمُعْجِزِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (قَدْ) وَاللَّامِ لِلتَّحْقِيقِ.
وَأُولُو الْأَلْبَابِ: أَصْحَابُ الْعُقُولِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبابِ فِي أَوَاسِطِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٧].
وَالْعِبْرَةُ: اسْمُ مَصْدَرٍ لِلِاعْتِبَارِ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ بِمَعْرِفَةِ الْمُشَاهَدِ الْمَعْلُومِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْغَائِبِ وَتُطْلَقُ الْعِبْرَةُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاعْتِبَارُ الْمَذْكُورُ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا هُنَا. وَمَعْنَى كَوْنِ الْعِبْرَةِ فِي قِصَصِهِمْ أَنَّهَا مَظْرُوفَةٌ فِيهِ ظَرْفِيَّةً مَجَازِيَّةً، وَهِيَ ظَرْفِيَّةُ الْمَدْلُولِ فِي الدَّلِيلِ فَهِيَ قَارَّةٌ فِي قِصَصِهِمْ سَوَاءٌ اعْتَبَرَ بِهَا مَنْ وَفِّقَ لِلِاعْتِبَارِ أَمْ لَمْ يَعْتَبِرْ لَهَا
بَعْضُ النَّاسِ.
وَجُمْلَةُ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى إِلَى آخِرِهَا تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ أَيْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَصَصَ خَبَرُ صِدْقٍ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ وَمَا هُوَ بِقِصَّةٍ
وَالْمَلَائِكَةِ. وَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ وَأَصْحَابَ الْحِجْرِ لِأَنَّهُمْ مِثْلُ قَوْمِ لُوطٍ فِي مَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُشَاهِدُونَ دِيَارَ هَذِهِ الْأُمَمِ الثَّلَاثِ.
وإِنْ مُخَفَّفَةُ (إِنَّ) وَقَدْ أُهْمِلَ عَمَلُهَا بِالتَّخْفِيفِ فَدَخَلَتْ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ. وَاللَّامُ الدَّاخِلَة على (الظَّالِمين) اللَّامُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الَّتِي أَصْلُهَا مُشَدَّدَةٌ وَبَيْنَ (إِنَّ) النَّافِيَةِ.
والْأَيْكَةِ: الْغَيْضَةُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمُلْتَفُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَاسْمُ الْجَمْعِ (أَيْكٌ)، وَأُطْلِقَتْ هُنَا مُرَادًا بِهَا الْجِنْسُ إِذْ قَدْ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ فِي غَيْضَةٍ مِنَ الْأَشْجَارِ الْكَثِيرَةِ الْوَرق.
وَقَدْ تُخَفَّفُ الْأَيْكَةُ فَيُقَالُ: لَيْكَةُ.
وأَصْحابُ الْأَيْكَةِ: هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهُمْ مَدْيَنُ. وَقِيلَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ فَرِيقٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ. فَأَهْلُ مَدين هم سُكَّانُ الْحَاضِرَةِ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ هُمْ بَادِيَتُهُمْ، وَكَانَ شُعَيْبٌ رَسُولًا إِلَيْهِمْ جَمِيعًا. قَالَ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٧٦- ١٧٧]. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على ذَلِك مُسْتَوفى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ.
وَالظَّالِمُونَ: الْمُشْرِكُونَ.
وَالِانْتِقَامُ: الْعُقُوبَةُ لِأَجْلِ ذَنْبٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّقْمِ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ. يُقَالُ:
نَقَمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَنَقَمَ مِنْهُ أَيْضًا. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما تَنْقِمُ مِنَّا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٢٦]. وَأُجْمِلَ الِانْتِقَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَبُيِّنَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِثْلِ آيَةِ هُودٍ.
وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ضَمِيرُ إِنَّهُما لِقَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَأَيْكَةُ قَوْمُ شُعَيْبٍ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-..
وَمَجْمُوعُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٨٨].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الرَّحْمَةِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا. وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيِ الذُّلِّ النَّاشِئِ عَنِ الرَّحْمَةِ لَا عَنِ الْخَوْفِ أَوْ عَنِ الْمُدَاهَنَةِ. وَالْمَقْصُودُ اعْتِيَادُ النَّفْسِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِالرَّحْمَةِ بِاسْتِحْضَارِ وُجُوبِ مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمَا بِهَا حَتَّى يَصِيرَ لَهُ خُلُقًا، كَمَا قِيلَ:
إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ
وَهَذِهِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ فِي الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، وَلَا يُطَاعَانِ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا كُفْرٍ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ.
وَمُقْتَضَى الْآيَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ فِي الْبِرِّ وَإِرْضَاؤُهُمَا مَعًا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ مَوْرِدَهَا لِفِعْلٍ يَصْدُرُ مِنَ الْوَلَدِ نَحْوَ وَالِدَيْهِ وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلتَّسْوِيَةِ. وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لِمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَبَوَانِ وَيَتَشَاحَّانِ فِي طَلَبِ فِعْلِ الْوَلَدِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَ رَغْبَتَيْهِمَا بِأَنْ يَأْمُرَهُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ بِضِدِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ الْآخَرُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى أَحْوَالٍ تُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ بِأَنْ يَسْعَى إِلَى الْعَمَلِ بِطَلَبَيْهِمَا إِنِ اسْتَطَاعَ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ.
قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»
. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْأُمِّ لِأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَبَوَيْهِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: تَرْجِيحُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْمُحَاسِبِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ، فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ ٢٣ عَنْ
وَالْبُلُوغُ: مَجَازٌ فِي حُلُولِ الْإِبَّانِ، وَجَعَلَ نَفْسَهَ هُنَا بَالِغًا الْكِبَرَ وَفِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [٤٠] قَالَ: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ لِأَنَّ الْبُلُوغَ لَمَّا كَانَ مَجَازًا فِي حُصُولِ الْوَصْفِ صَحَّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الْوَصْفِ وَإِلَى الْمَوْصُوفِ.
وَالْعُتِيُّ- بِضَمِّ الْعَيْنِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ- مَصْدَرُ عَتَا الْعُودُ إِذَا يَبُسَ، وَهُوَ بِوَزْنِ فُعُولٍ أَصْلُهُ عُتُووٌ، وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ تُصَحَّحَ الْوَاوُ لِأَنَّهَا إِثْرَ ضَمَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَثْقَلُوا تَوَالِيَ ضَمَّتَيْنِ بَعْدَهُمَا وَاوَانِ وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ- ضَمَّتَيْنِ- تَخَلَّصُوا مِنْ ذَلِكَ الثِّقَلِ بِإِبْدَالِ ضَمَّةِ الْعَيْنِ كَسْرَةً ثُمَّ قَلَبُوا الْوَاوَ الْأُولَى يَاءً لِوُقُوعِهَا سَاكِنَةً إِثْرَ كَسْرَةٍ فَلَمَّا قُلِبَتْ يَاءً اجْتَمَعَتْ تِلْكَ الْيَاءُ مَعَ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ لَامٌ، وَكَأَنَّهُمْ مَا كَسَرُوا التَّاءَ فِي عُتِيٍّ بِمَعْنَى الْيُبْسِ إِلَّا لِدَفْعِ الِالْتِبَاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعُتُوِّ الَّذِي هُوَ الطُّغْيَانُ فَلَا مُوجِبَ لِطَلَبِ تَخْفِيفِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
شَبَّهَ عِظَامَهُ بِالْأَعْوَادِ الْيَابِسَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ وَصْفِ الْعُتِيِّ لَهَا اسْتِعَارَة تخييلية.
[٩]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٩]
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالَ كَذلِكَ لِأَنَّهَا جَرَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ. وَهِيَ جَوَابٌ عَنْ تَعَجُّبِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِبْطَالُ التَّعَجُّبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [مَرْيَم: ٨]. فَضَمِيرُ قالَ عَائِدٌ إِلَى الرَّبِّ مِنْ قَوْلِهِ قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [مَرْيَم: ٨].
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ كَذلِكَ إِلَى قَوْلِ زَكَرِيَّاءَ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مَفْعُولٌ لِفِعْلِ قالَ رَبُّكَ،
وَذِكْرُ الْوُجُوهَ وَالْأَدْبَارَ لِلتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَتَخْوِيفِهِمْ لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا | وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ |
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ يَكُفُّونَ عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْكَفُّ بِمَعْنَى الدَّرْءِ وَالسَّتْرِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، أَيْ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا النَّارَ عَنْ وُجُوهِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. أَيْ حِينَ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مُوَاجَهَةً وَمُدَابَرَةً. وَذِكْرُ الظُّهُورِ بَعْدَ ذِكْرِ الْوُجُوهِ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُفُّونَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ إِنْ لَمْ تَشْتَغِلْ أَيْدِيهِمْ بِكَفِّهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ لَدَيْنَا كُتُبُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ مُنَاسَبَةً تَامَّةً لِلْكَافِرِينَ الْحَاضِرِينَ الْمُقَرَّعِينَ وَلِتَكْذِيبِهِمْ بِالْوَعِيدِ بِالْهَلَاكِ فِي قَوْلِهِمْ مَتى هذَا الْوَعْدُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى سَأُرِيكُمْ آياتِي [الْأَنْبِيَاء: ٣٧] كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ عَطْفٌ عَلَى لَا يَكُفُّونَ أَيْ لَا يَكُفُّ عَنْهُمْ نَفْحُ النَّارِ، أَوْ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ نَفْحَ النَّارِ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ فَهُمْ وَاقِعُونَ فِي وَرْطَةِ الْعَذَابِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ سَتَحُلُّ بِهِمْ هَزِيمَةُ بَدْرٍ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَلَاصًا مِنْهَا وَلَا يَجِدُونَ نَصِيرًا مِنْ أَحْلَافِهِمْ.
وَ (بَلْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ تَهْوِيلِ مَا أُعِدَّ لَهُمْ، إِلَى التَّهْدِيدِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِمْ بَغْتَةً وَفَجْأَةً، وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النُّفُوسِ لِعَدَمِ التَّهَيُّؤِ لَهُ وَالتَّوَطُّنِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ كُثَيِّرٌ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزَّ كُلُّ مُصِيبَةٍ | إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ |
قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الْخِيَارِ تَدَّعِي | عَلَيَّ ذَنْبًا كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ |
وَأُجْرِيَتْ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنِ الْإِطَاعَةِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، لِأَنَّ أَصْحَابَهَا لَيْسُوا أَهْلًا لِأَنْ يُطَاعُوا إِذْ لَا ثِقَةَ بِهِمْ وَلَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِسُوءٍ.
قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُرَادُ بِالْحَلَّافِ الْمَهِينِ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثٍ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ:
أَبُو جَهْلٍ، وَإِنَّمَا عَنَوْا أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْرِيضُ بِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِلَّا فَإِنَّ لَفْظَ كُلَّ الْمُفِيدَ لِلْعُمُومِ لَا يَسْمَحُ بِأَنْ يُرَادَ النَّهْيُ عَنْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أما هَؤُلَاءِ فَلَعَلَّ أَرْبَعَتَهُمُ اشْتَرَكُوا فِي مُعْظَمِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَهُمْ مِمَّنْ أُرِيدُ بِالنَّهْيِ عَنْ إِطَاعَتِهِ وَمَنْ كَانَ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ مِنْ أَمْثَالِهِمْ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْخِلَالَ بَلْ مَنْ كَانَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَالصِّفَةُ الْكَبِيرَةُ مِنْهَا هِيَ التَّكْذِيب بِالْقُرْآنِ الَّتِي خُتِمَ بِهَا قَوْلُهُ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم:
١٥]، لَكِنَّ الَّذِي قَالَ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: ١٥] هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَهُوَ الَّذِي اخْتَلَقَ هَذَا الْبُهْتَانَ فِي قِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ، فَلَمَّا تَلَقَّفَ الْآخَرُونَ مِنْهُ هَذَا الْبُهْتَانَ وَأُعْجِبُوا بِهِ أَخَذُوا يَقُولُونَهُ فَكَانَ جَمِيعُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُهُ وَلِذَلِكَ أَسْنَدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي آيَةِ وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْفرْقَان: ٥].
جَدِيرَةٌ بِزِيَادَةِ إِنْكَارِ الْإِرْجَاعِ إِلَى الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهُمَا إِنْكَارَانِ لِإِظْهَارِ شِدَّةِ إِحَالَتِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَخِرَةً بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ وأبوبكر عَنْ عَاصِمٍ وَرُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ وَخَلَفٍ ناخرة بِالْألف.
[١٢]
[سُورَة النازعات (٧٩) : آيَة ١٢]
قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)
قالُوا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جملَة يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠].
وَأُعِيدَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِمَقَاصِدَ مِنْهَا الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا فِي غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَصْدُهُمْ مِنْهُ الْإِنْكَارُ وَالْإِبْطَالُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَصَدُوا مِنْهُ الِاسْتِهْزَاءَ وَالتَّوَرُّكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِتِلْكَ الْكَرَّةِ فَوَصْفُهُمْ إِيَّاهَا بِ خاسِرَةٌ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، أَيْ لَوْ حَصَلَتْ كَرَّةٌ لَكَانَتْ خَاسِرَةً وَمِنْهَا دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ
خاسِرَةٌ
اسْتِئْنَافًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعُبِّرَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا بِصِيغَةِ الْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ عَلَى عكس يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ [النازعات: ١٠] لِأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَالُوهَا اسْتِهْزَاءً فَلَيْسَتْ مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ بِخِلَاف قَوْلهم: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ نَاهِضَةٌ فِي زَعْمِهِمْ، فَهَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مَقَامٍ. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ التَّعْجِيبَ مِنْ قَوْلِهِمْ هَذَا لِأَنَّ التَّعْجِيبَ يَقْتَضِي الْإِنْكَارَ وَكَوْنُ كَرَّتِهِمْ، أَيْ عَوْدَتِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ عَوْدَةً خَاسِرَةً أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا يُنْكَرُ لِأَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى الْحَيَاةِ خَاسِرِينَ لَا مَحَالَةَ.
وتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرَّدَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ (مَرْدُودُونَ) وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلْمُؤَنَّثِ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُ بِ كَرَّةٌ و (إِذن) جَوَابٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذَنْ تِلْكَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ، فَقُدِّمَ تِلْكَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ لِلْعِنَايَةِ بِالْإِشَارَةِ.
وَالْكَرَّةُ: الْوَاحِدَةُ مِنَ الْكَرِّ، وَهُوَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الذَّهَابِ، أَيْ رَجْعَةٌ.
الصفحة التالية