: «كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ»
أَيْ يَعْمَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ٣] فَلِذَلِكَ جَمَعَ فِي دُعَائِهِ التَّسْبِيحَ وَالْحَمْدَ وَذِكْرَ لَفْظِ الرَّبِّ وَطَلَبَ الْمَغْفِرَةِ فَقَوْلُهَا «يَتَأَوَّلُ» صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْآيَةَ بِالظَّاهِرِ مِنْهَا وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى مَا تُشِيرُ إِلَيْهِ مِنِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الرِّسَالَةِ وَقُرْبِ انْتِقَالِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي فَهِمَهُ مِنْهَا عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً عَلَى مَا فَسَّرَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ التنويه بالْخبر فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَرُومُ الْمُتَكَلِّمُ تَشْبِيهَهُ ثُمَّ لَا يَجِدُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا قَطْعٌ لِلنَّظَرِ عَنِ التَّشْبِيهِ فِي الْوَاقِعِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ أَحَدِ شُعَرَاءِ فَزَارَةَ فِي الْأَدَبِ من «الحماسة» :

كَذَلِك أُدِّبْتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي أَنِّي رَأَيْتُ مِلَاكَ الشِّيمَةِ الْأَدَبَا
أَيْ أُدِّبْتُ هَذَا الْأَدَبَ الْكَامِنَ الْعَجِيبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
كَذَلِكَ خِيمُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ إِذَا مَسَّتْهُمُ الضَّرَّاءُ خِيمُ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عِنْدَ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ الْحَقُّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الْأَنْعَام:
٥٣] فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ ذِكْرُ شَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِتْنَةً أَخْذًا مِنْ فِعْلِ فَتَنَّا. وَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامٍ مُتَأَخِّرٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا علمت آنِفا لِأَنَّهُ الْجعل الْمَأْخُوذِ مِنْ جَعَلْناكُمْ، وَتَأْخِيرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ عَنِ الْإِشَارَةِ اسْتِعْمَالٌ بَلِيغٌ فِي مَقَامِ التَّشْوِيقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْف: ٧٨] أَوْ مِنْ كَلَامٍ مُتَقَدِّمٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا لِلْبَيْضَاوِيِّ إِذْ جَعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْهَدْيَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ١٤٢] وَلَعَلَّهُ رَأَى لُزُومَ تَقَدُّمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَالْوَسَطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَمْكِنَةٍ تُحِيطُ بِهِ أَوْ لِلشَّيْءِ الْوَاقِعِ بَيْنَ أَشْيَاءَ مُحِيطَةٍ بِهِ لَيْسَ هُوَ إِلَى بَعْضِهَا أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى بَعْضٍ عُرْفًا وَلَمَّا كَانَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ اخْتِرَاقِ مَا يُحِيطُ بِهِ أَخَذَ فِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ وَالْعِزَّةِ طَبْعًا كَوَسَطِ الْوَادِي لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الرُّعَاةُ وَالدَّوَابُّ إِلَّا بَعْدَ أَكْلِ مَا فِي الْجَوَانِبِ فَيَبْقَى كَثِيرُ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ، وَوَضْعًا كَوَسَطِ الْمَمْلَكَةِ يُجْعَلُ مَحَلَّ قَاعِدَتِهَا وَوَسَطُ الْمَدِينَةِ يُجْعَلُ مَوْضِعَ قَصَبَتِهَا لِأَنَّ الْمَكَانَ الْوَسَطَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَدُوَّ بِسُهُولَةٍ، وَكَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ لِأَنْفَسِ لُؤْلُؤَةٍ فِيهِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ مَعْنَى النَّفَاسَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْخِيَارِ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَى الْوَسَطِ عُرْفًا فَأَطْلَقُوهُ عَلَى الْخِيَارِ النَّفِيسِ كِنَايَةً قَالَ زُهَيْرٌ:
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْضِلِ
وَقَالَ تَعَالَى: قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [الْقَلَم: ٢٨].
وَيُقَالُ أَوْسَطُ الْقَبِيلَةِ لِصَمِيمِهَا.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْوَسَطِ عَلَى الصِّفَةِ الْوَاقِعَةِ عَدْلًا بَيْنَ خُلُقَيْنِ

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٥٥]

اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
لَمَّا ذَكَرَ هَوْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ اسْتَأْنَفَ بِذِكْرِ تمجيد الله تعلى وَذِكْرِ صِفَاتِهِ إِبْطَالًا لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَطْعًا لِرَجَائِهِمْ، لِأَنَّ فِيهَا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءً لِآيَاتِ تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ، وَأُودِعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ هُنَا لِأَنَّهَا كَالْبَرْزَخِ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الذَّاتِ هُنَا لِأَنَّهُ طَرِيقٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُسَمَّى الْمُنْفَرِدِ بِهَذَا الِاسْمِ، فَإِنَّ الْعَلَمَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ لِعَدَمِ احْتِيَاجِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ إِلَى قَرِينَةٍ أَوْ مَعُونَةٍ لَوْلَا احْتِمَالُ تَعَدُّدِ التَّسْمِيَةِ، فَلَمَّا انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي اسْمِ الْجَلَالَةِ كَانَ أَعْرَفَ الْمَعَارِفِ لَا مَحَالَةَ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الْقَرَائِنِ وَالْمَعُونَاتِ، فَالْقَرَائِنُ كَالتَّكَلُّمِ وَالْخِطَابِ، وَالْمَعُونَاتُ كَالْمَعَادِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ وَالصِّلَةِ وَسَبْقِ الْعَهْدِ وَالْإِضَافَةِ.
وَجُمْلَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ» خَبَرٌ أَوَّلُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إِثْبَاتُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى دَلَالَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْآلِهَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الْبَقَرَة: ١٦٣].
وَقَوْلُهُ: الْحَيُّ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والْقَيُّومُ خَبَرٌ ثَانٍ لِذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ الْمَحْذُوفِ، وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَإِبْطَالُ اسْتِحْقَاقِ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ وَصْفَ الْإِلَهِيَّةِ لِانْتِفَاءِ الْحَيَاةِ، عَنْهُمْ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مَرْيَم: ٤٢] وَفُصِلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا لِأَنَّهَا لَوْ عُطِفَتْ لَكَانَتْ كَالتَّبَعِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْكَشَّافِ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مِنْ أَنَّهُ الْقَائِمُ
الْآيَاتِ هِيَ مَا يَسَرَّهُ اللَّهُ لِسُكَّانِ الْحَرَمِ وَزَائِرِيهِ مِنْ طُرُقِ الْخَيْرِ، وَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَضْرَارِ، عَلَى حَالَةٍ اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَائِرُ الْعَرَبِ، وَقَمَعُوا بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، مَعَ تَكَالُبِهِمْ عَلَى إِرْضَاءِ نُفُوسِهِمْ.
وَأَعْظَمُهَا الْأَمْنُ، الَّذِي وُطِّنَ عَلَيْهِ نُفُوسُ جَمِيعِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَعَ عَدَمِ تَدَيُّنِهِمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يُلَاقِي قَاتِلَ أَبِيهِ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَنَالُهُ بِسُوءٍ، وَتَوَاضُعُ مِثْلِ هَذَا بَيْنَ مُخْتَلِفِ الْقَبَائِلِ، ذَاتِ اخْتِلَافِ الْأَنْسَابِ وَالْعَوَائِدِ وَالْأَدْيَانِ، آيَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَكَذَلِكَ تَأْمِينُ وَحْشِهِ مَعَ افْتِتَانِ الْعَرَبِ بِحُبِّ الصَّيْدِ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ مَنْ قَصْمِ كُلِّ مَنْ رَامَهُ بِسُوءٍ، وَمَا انْصِرَافُ الْأَحْبَاشِ عَنْهُ بَعْدَ امْتِلَاكِهِمْ جَمِيعَ الْيَمَنِ وَتِهَامَةَ إِلَّا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِيهِ. وَمِنْهَا انْبِثَاقُ الْمَاءِ فِيهِ لِإِسْمَاعِيلَ حِينَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ. وَافْتِدَاءُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ حِينَ أَرَادَ أَبُوهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- قُرْبَانَهُ. وَمِنْهَا مَا شَاعَ بَيْنَ الْعَرَبِ
وَتَوَارَثُوا خَبَرَهُ أَبًا عَنْ جَدٍّ مِنْ نُزُولِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى أَبِي قَبِيسٍ بِمَرْأَى إِبْرَاهِيمَ، وَلَعَلَّهُ حَجَرٌ كَوْكَبِيٌّ. وَمِنْهَا تَيْسِيرُ الرِّزْقِ لِسَاكِنِيهِ مَعَ قُحُولَةِ أَرْضِهِ، وَمُلُوحَةِ مَائِهِ.
وَقَوْلُهُ: مَقامُ إِبْراهِيمَ أَصْلُ الْمَقَامِ أَنَّهُ مَفْعَلٌ مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِيَامُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّائِعِ وَهُوَ ضِدُّ الْقُعُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى خُصُوصِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَرَفْعُ مَقَامٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِضَمِيرٍ مَحْذُوفٍ يَعُودُ عَلَى لَلَّذِي بِبَكَّةَ، أَيْ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ الْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةٍ. وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ عَلَى الْحَذْفِ الَّذِي سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي، التَّابِعِينَ لِاصْطِلَاحِ السَّكَّاكِيِّ، بِالْحَذْفِ لِلِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ فِي الرَّفْعِ عَلَى الْمَدْحِ، أَوِ الذَّمِّ، أَوِ التَّرَحُّمِ، بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوْصَافِ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ كَقَوْلِ أَبِي الطَّمْحَانِ الْقَيْنِيِّ:
فَإِنَّ بَنِي لَأْمِ بْنِ عَمْرٍو أَرُومَةٌ سَمَتْ فَوْقَ صَعْبٍ لَا تُنَالُ مَرَاقِبُهُ
نُجُومُ سَمَاءٍ كُلَّمَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ بَدَا كَوْكَبٌ تَأْوِي إِلَيْهِ كَوَاكِبُهُ
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقامُ إِبْراهِيمَ.
مِمَّا أُلْحِقَ بِهَذِهِ السُّورَةِ إِكْمَالًا لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِمَاءِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي نَظَائِرَ عَدِيدَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدَّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَحَيَّرَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُونَ لِاقْتِضَائِهَا أَنْ لَا تُحَدَّ الْأَمَةُ فِي الزِّنَى إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً، فَتَأَوَّلَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ بِأَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا الْإِسْلَامُ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَمَةَ تحدّ فِي الزِّنَا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً أَمْ عَزْبَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَيِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ. وَلَا أَظُنُّ أَنَّ دَلِيلَ الْأَيِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ حَمْلُ الْإِحْصَانِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْإِسْلَامِ، بَلْ مَا
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا الْحَدَّ
. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَالْأَمَةُ الْمُتَزَوِّجَةُ مَحْدُودَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَالْأَمَةُ غَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَحْدُودَةٌ بِالسُّنَّةِ. وَنِعْمَ هَذَا الْكَلَامُ. قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: فِي حَمْلِ الْإِحْصَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بُعْدٌ لِأَنَّ ذِكْرَ إِيمَانِهِنَّ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَهُوَ تَدْقِيقٌ، وَإِنْ أَبَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ الْجَلْدُ، وَلَمْ تَذْكُرِ الرَّجْمَ، فَإِذَا كَانَ الرَّجْمُ مَشْرُوعًا قَبْلَ نُزُولِهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَا رَجْمَ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ قَدْ شُرِعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى نَفْيِ رَجْمِ الْأَمَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَصْدَ التَّنْصِيفِ فِي حَدِّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا يُبْلَغُ بِهَا حَدُّ الْحُرَّةِ، فَالرَّجْمُ يَنْتَفِي لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ، وَهُوَ مَا ذُهِلَ عَنْهُ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْأَمَةِ فَقَالَ: «الْأَمَةُ أَلْقَتْ فَرْوَةَ رَأْسِهَا مِنْ وَرَاءِ الدَّارِ» أَيْ أَلْقَتْ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا قِنَاعَهَا، أَيْ
أَنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُرْسِلُهَا أَهْلُهَا إِلَيْهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ، فَتَصِيرُ إِلَى حَيْثُ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْفُجُورِ، قَالُوا: فَكَانَ يَرَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا إِذَا فَجَرَتْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَكَأَنَّهُ رَأَى أَنَّهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ مَنَعَهَا زَوْجُهَا. وَقَوْلُهُ هَذَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَلَكِنَّنَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ لِلْمُتَبَصِّرِ بِتَصْرِيفِ الشَّرِيعَةِ عِبْرَةً فِي تَغْلِيظِ الْعُقُوبَةِ بِمِقْدَارِ قُوَّةِ الْخِيَانَةِ وَضَعْفِ الْمَعْذِرَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ:
أُحْصِنَّ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَبْنِيًّا لِلنَّائِبِ، وَهُوَ بِمَعْنَى مُحْصَنَاتٍ- الْمَفْتُوحِ الصَّادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ، وَهُوَ مَعْنَى مُحْصِنَاتٍ- بِكَسْرِ الصَّادِ-.
فِيهِ لَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ فِي نَحْوِ: تَعْدُوا. لِأَنَّ مَا بَيْنَ حَرْفِ اللِّينِ وَغَيْرِهِ يَسِيرٌ، أَيْ مَعَ عَدَمِ تَعَذُّرِ النُّطْق بِهِ.
[١٥٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ١٥٥]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥)
التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [النِّسَاء: ١٥٤] وَالْبَاءُ لِلسَّبِيبَةِ جَارَّةٌ لِ نَقْضِهِمْ، وَ (وَمَا) مَزِيدَةٌ بَعْدَ الْبَاءِ لِتَوْكِيدِ التَّسَبُّبِ. وَحَرْفُ (مَا) الْمَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ لَا يَكُفُّ الْبَاءَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ وَكَذَلِكَ إِذَا زِيدَ (مَا) بَعْدَ (مِنْ) وَبَعْدَ (عَنْ). وَأَمَّا إِذَا زِيدَ بَعْدَ كَافِ الْجَرِّ وَبَعْدَ رُبَّ فَإِنَّهُ يَكُفُّ الْحَرْفَ عَنْ عَمَلِ الْجَرِّ.
ومتعلّق قَوْله فَبِما نَقْضِهِمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحْذُوفًا، لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي مَذَاهِبِ الْهَوْلِ، وَتَقْدِيرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ مَا فَعَلْنَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النِّسَاء: ١٦٠]، وَمَا بَيْنَهُمَا مُسْتَطْرَدَاتٌ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا [النِّسَاء: ١٦٠] كَالْفَذْلَكَةِ الْجَامِعَةِ لِجَرَائِمِهِمُ الْمَعْدُودَةِ مِنْ قَبْلُ. وَلَا يَصْلُحُ تَعْلِيقُ الْمَجْرُورِ بِ طَبَعَ لِأَنَّهُ وَقَعَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: قُلُوبُنا غُلْفٌ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْطُوفَاتِ الطَّالِبَةِ لِلتَّعَلُّقِ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «طَبَعَ» دَلِيلًا عَلَى الْجَوَابِ الْمَحْذُوفِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي موَاضعهَا. وتقدّم الْمُتَعَلِّقُ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ: وَهُوَ أَنْ لَيْسَ التَّحْرِيمُ إِلَّا لِأَجْلِ مَا صَنَعُوهُ، فَالْمَعْنَى: مَا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ إِلَّا بِسَبَبِ نَقْضِهِمْ، وَأَكَّدَ معنى الْحصْر والسّبب بِمَا الزَّائِدَةِ، فَأَفَادَتِ الْجُمْلَةُ حَصْرًا وَتَأْكِيدًا.
وَقَوْلُهُ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمَعَاطِيفِ. وَالطَّبْعُ: إِحْكَامُ الْغَلْقِ بِجَعْلِ طِينٍ وَنَحْوِهِ عَلَى سَدِّ الْمَغْلُوقِ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ إِلَيْهِ مُسْتَخْرِجُ
وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النَّصْر: ٢]. وَكَانَ قِصَرُ الزَّمَانِ وَاتِّسَاعُ الْمَكَانِ حَائِلَيْنِ دُونَ رُسُوخِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَكَانُوا فِي حَاجَةٍ إِلَى الِانْتِهَاءِ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَاشِيَةٍ فِيهِمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهِيَ أَيَّامُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمَا تَقَدَّمَهَا وَمَا
تَأَخَّرَ عَنْهَا.
وَجُمْلَةُ وَلا تَعْتَدُوا مُعْتَرِضَةٌ، لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ تَحْرِيمَ الطَّيِّبَاتِ اعْتِدَاءٌ عَلَى مَا شَرْعَ اللَّهِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَبِمَا فِي هَذَا النَّهْيِ مِنَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.
وَالِاعْتِدَاءُ افْتِعَالُ الْعَدُوِّ، أَيِ الظُّلْمُ. وَذِكْرُهُ فِي مُقَابَلَةِ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ النَّهْيُ عَنْ تَجَاوُزِ حَدِّ الْإِذْنِ الْمَشْرُوعِ، كَمَا قَالَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [الْبَقَرَة: ٢٢٩]. فَلَمَّا نَهَى عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ أَرْدَفَهُ بِالنَّهْيِ عَنِ اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَهُوَ أَشَدُّ الِاعْتِدَاءِ، أَوْ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ دُونَ حَقِّ النَّاسِ، كَتَنَاوُلِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْمَيْتَةِ. وَيَعُمُّ الِاعْتِدَاءُ فِي سِيَاقِ النَّهْيِ جَمِيعَ جِنْسِهِ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْعُدْوَانِ، وَأَعْظَمُهُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الضُّعَفَاءِ كَالْوَأْدِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَعَضْلِ الْأَيَامَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِلتَّحْذِيرِ مِنْ كُلِّ اعْتِدَاءٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ تَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أَيْ أَنَّ اللَّهَ وَسَّعَ عَلَيْكُمْ بِالْحَلَالِ فَلَا تَعْتَدُوهُ إِلَى الْحَرَامِ فَتَكْفُرُوا النِّعْمَةَ وَلَا تَتْرُكُوهُ بِالتَّحْرِيمِ فَتُعْرِضُوا عَنِ النِّعْمَةِ.
وَاقْتُصِرَ عَلَى الْأَكْلِ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَا حَرَّمَهُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هُوَ الْمَآكِلُ. وَكَأَنَّ اللَّهَ يُعَرِّضُ بِهِمْ بِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِالْمُهِمَّاتِ خَيْرٌ مِنَ التَّهَمُّمِ بِالْأَكْلِ، كَمَا قَالَ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [الْمَائِدَة: ٩٣] الْآيَةَ. وَبِذَلِكَ أَبْطَلَ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مُنَزَّلٌ- بِتَخْفِيفِ الزَّايِ- وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ- بِالتَّشْدِيدِ- وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ أَوْ مُتَّحِدٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فِي أَوَّلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣].
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [الْبَقَرَة: ١٤٧] يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خطابا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ الْخَبَرِ: هَذَا مَا لَا شَكَّ فِيهِ، فَالِامْتِرَاءُ الْمَنْفِيُّ هُوَ الِامْتِرَاءُ فِي أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، لِأَنَّ غَرِيبًا اجْتِمَاعُ عِلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى
مِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، أَيْ فَلَا تَكُونَنَّ- أَيُّهَا السَّامِعُ- مِنَ الْمُمْتَرِينَ، أَيِ الشَّاكِّينَ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ فَهَذَا أَمْرٌ قَدِ اتَّضَحَ. فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فِيهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُشْرِكُونَ الْمُمْتَرُونَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، كَمَا يُقَالُ:
(إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥]. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ، وَالتَّفْرِيعُ فِيهِ كَمَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.
وَعَلَى كُلِّ الْوُجُوهِ كَانَ حَذْفُ مُتَعَلِّقِ الِامْتِرَاءِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ تَعْوِيلًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَإِذْ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ غَيْرُ مُتَعَارِضَةٍ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا مَقْصُودًا مِنَ الْآيَةِ.
لِتَذْهَبَ أَفْهَامُ السَّامِعِينَ إِلَى مَا تَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ مِنْهَا. وَهَذَا- فِيمَا أَرَى- مِنْ مَقَاصِدِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ الْجَامِعِ، وَيَجِيءُ مِثْلُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ مِنْ خَصَائِص الْقُرْآن.
[١١٥]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١١٥]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ فَاعل تَتَّبِعُوا، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا أَوْلِيَاءَ مُتَّخِذِينَهَا دُونَهُ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا لِلَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاتَّبَعُوا أَمْرَهُ بِزَعْمِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ: كَالْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، وَالْحَلِفِ بِاسْمِهِ، فَهُمْ أَيْضًا اتَّبَعُوا الْأَصْنَامَ بِعِبَادَتِهَا أَوْ نِسْبَةِ الدِّينِ إِلَيْهَا، فَكُلُّ عَمَلٍ تَقَرَّبُوا بِهِ إِلَى الْأَصْنَامِ، وَكُلُّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ امْتِثَالًا لِأَمْرٍ يُنْسَبُ إِلَى الْأَصْنَامِ، فَهُمْ عِنْدَ عَمَلِهِ يَكُونُونَ مُتَّبِعِينَ اتِّبَاعًا فِيهِ إِعْرَاضٌ عَنِ اللَّهِ وَتَرْكٌ لِلتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ، وَبِهَذَا النَّهْيِ قَدْ سُدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الشِّرْكِ وَتَأْوِيلَاتُهُ كَقَوْلِهِمْ: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] فَقَدْ جَاءَ قَوْلُهُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْإِيجَازِ وَاسْتِيعَابِ الْمَقْصُودِ.
وَأَفَادَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَفَادُ صِيغَةِ قَصْرٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّبِعُوا إِلَّا مَا أَمَرَ بِهِ رَبُّكُمْ، أَيْ دُونَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ أَوْلِيَاؤُكُمْ، فَعَدَلَ عَنْ طَرِيقِ الْقَصْرِ لِتَكُونَ جُمْلَةُ: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مُسْتَقِلَّةً صَرِيحَةَ الدَّلَالَةِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا عَلَى نَحْو قَول السّموأل أَوِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
وَجُمْلَةُ: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ لَا تَتَّبِعُوا، وَهِيَ حَالٌ سَبَبِيَّةٌ وكاشفة لِصَاحِبِهَا، وَلَيْسَتْ مُقَيِّدَةٌ لِلنَّهْيِ: لِظُهُورِ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ أَوْلِيَاءُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسُوا إِلَّا قَلِيلِي التَّذَكُّرِ. وَيَجُوزُ جَعْلُ الْجُمْلَةِ اعْتِرَاضًا تَذْيِيلِيًّا. وَلَفْظُ (قَلِيلًا) يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَذَكَّرُونَ ثُمَّ يُعْرِضُونَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِمْ فَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (قَلِيلًا) مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى النَّفْيِ وَالْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّلْمِيحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨] (فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوصَفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ).
وَالتَّذَكُّرُ مَصْدَرُ الذُّكْرِ- بِضَمِّ الذَّالِ- وَهُوَ حُضُورُ الصُّورَةِ فِي الذِّهْنِ.
الْبَوَادِي فَقَدْ جَاءَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْسٍ، وَأَمَّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ نَبِيءُ أَهْلِ الرَّسِّ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَسُولٌ لِأَنَّ اللَّهَ ذكر أهل الرُّسُل فِي عِدَادِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ظَهَرَ بِقَرْيَةِ الرَّسِّ الَّتِي تُسَمَّى أَيْضًا (فَتْحَ) بِالْمُهْمَلَةِ أَوْ (فَتْخَ) بِالْمُعْجَمَةِ أَوْ (فَيْجَ) بِتَحْتِيَّةٍ وَجِيمٍ، أَوْ فَلْجَ (بِلَامٍ وَجِيمٍ) مِنَ الْيَمَامَةِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا نَبِيًّا فِي قَرْيَةٍ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِي حَالِ أَنَّنَا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَضَّرَّعُوا قَبْلَ الْأَخْذِ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَالتَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا كَذَّبَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَخَوَّفْنَاهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذِلُّونَ لِلَّهِ وَيَتْرُكُونَ الْعِنَادَ إِلَخْ...
وَالْأَخْذُ: هُنَا مَجَازٌ فِي التَّنَاوُلِ وَالْإِصَابَةِ بِالْمَكْرُوهِ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ، وَهُوَ مَعْنَى
الْغَلَبَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٢].
وَقَوْلُهُ: بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ تَقَدَّمَ مَا يُفَسِّرُهَا فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٢].
وَيُفَسَّرُ بَعْضُهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧].
وَاسْتَغْنَتْ جُمْلَةُ الْحَالِ الْمَاضَوِيَّةُ على الْوَاو و (قد) بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ (قَدْ) إِلَّا نَادِرًا، أَيْ: ابْتَدَأْنَاهُمْ بِالتَّخْوِيفِ وَالْمَصَائِبِ لِتَفُلَّ مِنْ حِدَّتِهِمْ وَتَصْرِفَ تَأَمُّلَهُمْ إِلَى تَطَلُّبِ أَسْبَابِ الْمَصَائِبِ فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَيَتُوبُوا.
وَالتَّبْدِيلُ: التَّعْوِيضُ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْبَاءِ الْمُفِيدَةِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي الْمَدْخُولُ لِلْبَاءِ هُوَ الْمَتْرُوكَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمَأْخُوذَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١]، وَقَوْلِهِ: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢]، لِذَلِكَ انْتَصَبَ الْحَسَنَةَ هُنَا لِأَنَّهَا الْمَأْخُوذَةُ لَهُمْ بَعْدَ السَّيِّئَةِ فَهِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالسَّيِّئَةُ هِيَ الْمَتْرُوكَةُ، وَعَدَلَ عَنْ جَرِّ السَّيِّئَةِ بِالْبَاءِ إِلَى لَفْظٍ يُؤَدِّي مُؤَدَّى بَاءِ الْبَدَلِيَّةِ وَهُوَ
تَرَكُوا مَاءَ بَدْرٍ عَنْ يَسَارِهِمْ. ذَلِكَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا لِتَلَقِّي عِيرِهِ رَجَعَ بِالْعِيرِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَمُرُّ بِبَدْرٍ، وَسَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ لِيَنْجُوَ بِالْعِيرِ، فَكَانَ مَسِيرُهُ فِي السُّهُولِ الْمُنْخَفِضَةِ، وَكَانَ رِجَالُ الرَّكْبِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا.
وَالْمَعْنَى: وَالرَّكْبُ بِالْجِهَةِ السُّفْلَى مِنْكُمْ، وَهِيَ جِهَةُ الْبَحْرِ وَضَمِيرُ مِنْكُمْ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَالْمَعْنَى أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُمَا جَيش أبي سُفْيَان بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَعِيرُ الْقَوْمِ أَسْفَلَ مِنَ الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا، فَلَوْ عَلِمَ الْعَدُوُّ بِهَذَا الْوَضْعِ لَطَبَقَ جَمَاعَتَيْهِ عَلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّفَطُّنِ لِذَلِكَ وَصَرَفَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يُصَادِفُوا الْعِيرَ فَيَنْتَهِبُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٧] وَلَوْ حَاوَلُوا ذَلِكَ لَوَقَعُوا بَيْنَ جَمَاعَتَيْنِ مِنَ الْعَدُوِّ.
وَانْتَصَبَ أَسْفَلَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الْمَكَانِيَّةِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرٌ عَنِ (الرَّكْبِ) أَيْ وَالرَّكْبُ قَدْ فَاتَكُمْ وَكُنْتُمْ تَأْمُلُونَ أَنْ تُدْرِكُوهُ فَتَنْتَهِبُوا مَا فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ.
وَالْغَرَضُ مِنَ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْوَقْتِ، وَبِتِلْكَ الْحَالَةِ: إِحْضَارُهَا فِي ذِكْرِهِمْ، لِأَجْلِ مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ، وَمِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِوَعْدِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ فِي أَشَدِّ مَا يَكُونُ فِيهِ جَيْشٌ تُجَاهَ عَدُوِّهِ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ كَانَ ظَاهِرُهَا مُلَائِمًا لِلْعَدُوِّ، إِذْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي شَوْكَةٍ وَاكْتِمَالِ عُدَّةٍ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْغَلَبَةِ بِحُسْنِ مَوْقِعِ جَيْشِهِ، إِذْ كَانَ بِالْعُدْوَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لِسُقْيَاهُمْ وَالَّتِي أَرْضُهَا مُتَوَسِّطَةُ الصَّلَابَةِ، فَأَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ أَمَامَ الْعَدُوِّ فِي عُدْوَةٍ تَسُوخُ فِي أَرْضِهَا الْأَرْجُلُ مِنْ لِينِ رَمْلِهَا، مَعَ قِلَّةِ مَائِهَا، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ فَاتَتِ الْمُسْلِمِينَ وَحَلَّتْ وَرَاءَ ظُهُورِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَتْ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يَنَالَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَاثِقِينَ بِمُكْنَةِ الذَّبِّ عَنْ عِيرِهِمْ، فَكَانَتْ ظَاهِرَةُ هَذِهِ الْحَالَةِ ظَاهِرَةَ خَيْبَةٍ وَخَوْفٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَظَاهِرَةَ فَوْزٍ وَقُوَّةٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِنْ عَجِيبِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ قَلَبَ تِلْكَ الْحَالَةَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، فَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا تَعَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَسَارُوا فِيهَا غَيْرَ مَشْفُوقٍ عَلَيْهِمْ، وَتَطَهَّرُوا وَسَقَوْا، وَصَارَتْ بِهِ الْأَرْضُ لِجَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَحْلًا يَثْقُلُ فِيهَا السَّيْرُ وَفَاضَتِ الْمِيَاهُ عَلَيْهِمْ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُرْبَةٌ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ وَرْشٌ وَحْدَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ لاتباع الْقَاف.
[١٠٠]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
عُقِّبَ ذِكْرُ الْفِرَقِ الْمُتَلَبِّسَةِ بِالنَّقَائِصِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ بِذِكْرِ الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ وَالْمَثَلِ الْكَامِلِ فِي الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالنُّصْرَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِيَحْتَذِيَ مُتَطَلِّبُ الصَّلَاحِ حَذْوَهُمْ، وَلِئَلَّا يَخْلُوَ تَقْسِيمُ الْقَبَائِلِ السَّاكِنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَحَوَالَيْهَا وَبَوَادِيهَا، عَنْ ذِكْرِ أَفْضَلِ الْأَقْسَامِ تَنْوِيهًا بِهِ. وَبِهَذَا تَمَّ اسْتِقْرَاءُ الْفِرَقِ وَأَحْوَالِهَا.
فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً [التَّوْبَة: ٩٨].
وَالْمَقْصُودُ بِالسَّبْقِ السَّبْقُ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ قَبْلَهَا فِي تَمْيِيزِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصِينَ، وَالْكُفَّارِ الصُّرَحَاءِ، وَالْكُفَّارِ الْمُنَافِقِينَ فَتَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ الَّذِينَ سَبَقُوا غَيْرَهُمْ مِنْ صِنْفِهِمْ، فَالسَّابِقُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالسَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا قَوْمَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَهُمْ أَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ الَّتِي عِنْدَهَا يَنْتَهِي وَصْفُ السَّابِقِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَعًا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ: مَنْ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ شَهِدَ بَدْرًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ أَدْرَكُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَعْتَبِرُ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَالْأَنْصارِ لِلْجَمْعِ فِي وَصْفِ السَّبَقِ لِأَنَّهُ مُتَّحِدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَهَذَا يَخُصُّ الْمُهَاجِرِينَ. وَفِي «أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ» مَا يُشْبِهُ أَنَّ رَأْيَهُ
أَنَّ السَّابِقِينَ أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ، وَذَلِكَ يَخُصُّ الْأَنْصَارَ. وَعَنِ الْجُبَّائِيِّ: أَنَّ السَّابِقِينَ مَنْ
وضائِقٌ عَطْفٌ عَلَى تارِكٌ فَهُوَ وَفَاعِلُهُ جُمْلَةُ خَبَرٍ عَنْ (لَعَلَّكَ) فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ.
وَالْبَاءُ فِي بِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ عَائِدٌ عَلَى مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَنْ يَقُولُوا. وأَنْ يَقُولُوا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاء: ٣]، فَيَكُونُ تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ لِاقْتِرَاحِهِمُ الْآيَاتِ بِأَنْ يَقُولُوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، وَيَحْصُلُ مَعَ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود: ٧]، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: مَا يَحْبِسُ الْعَذَابَ عَنَّا، بِوَاسِطَةِ كَوْنِ ضائِقٌ دَاخِلًا فِي تَفْرِيعِ التَّحْذِيرِ عَلَى قَوْلَيْهِمُ السَّابِقَيْنِ. وَإِنَّمَا جِيءَ بِالضَّمِيرِ ثُمَّ أُبْدِلَ مِنْهُ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُعْقِبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَكُونَ أَشَدُّ تَمَكُّنًا فِي الذِّهْنِ، وَلِقَصْدِ تَقْدِيمِ الْمَجْرُورِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ عَلَى فَاعِلِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الِاهْتِمَامِ بِالْمُتَعَلِّقِ لِأَنَّهُ سَبَبُ صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْ فَاعِلِهِ فَجِيءَ بِالضَّمِيرِ الْمُفَسِّرِ فِيمَا بَعْدُ لِمَا فِي لَفْظِ التَّفْسِيرِ مِنَ الطُّولِ، فَيَحْصُلُ بِذِكْرِهِ بُعْدٌ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَمَرْفُوعِهِ، فَلِذَلِكَ اخْتُصِرَ فِي ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ الِاهْتِمَامُ وَقَوِيَ الِاهْتِمَامُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِهِ فِي الذِّهْنِ.
وَمُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا ضَمِيرَ بِهِ عَائِدًا إِلَى بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ. عَلَى أَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِ سَبَبٌ لِضِيقِ صَدْرِهِ، أَيْ لَا يَضِيقُ لَهُ صَدْرُكَ، وَجَعَلُوا أَنْ يَقُولُوا مَجْرُورًا بِلَامِ التَّعْلِيلِ مُقَدَّرَةً. وَعَلَيْهِ فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولُوا بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ. وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِ ضائِقٌ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ بِالْمَتِينِ.
ولَوْلا: لِلتَّحْضِيضِ، والكنز: المَال الْكُنُوز أَيِ الْمَخْبُوءُ.
وَإِنْزَالُهُ: إِتْيَانُهُ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ أَيْ مِنَ السَّمَاءِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلِذَلِكَ فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ مُرَادٌ بِهِ تَجَدُّدُ هَذَا الْقَوْلِ وَتُكَرُّرُهُ مِنْهُمْ بِقَرِينَةِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُمْ فِي

[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٦٥]

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)
أَصْلُ الْمَتَاعِ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الْعُرُوضِ وَالثِّيَابِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢]. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى أَعْدَالِ الْمَتَاعِ وَأَحْمَالِهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ الْحَالِّ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ قالُوا يَا أَبانا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَرَقُّبِ السَّامِعِ أَنْ يَعْلَمَ مَاذَا صَدَرَ مِنْهُمْ حِينَ فَجَأَهُمْ وِجْدَانُ بِضَاعَتِهِمْ فِي ضمن مَتَاعهمْ لِأَنَّهُ مُفَاجَأَةٌ غَرِيبَةٌ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُعْطَفْ بِالْفَاءِ.
وَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا نَبْغِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ بِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَطَلَّبُ مِنْهُمْ تَحْصِيلَ بُغْيَةٍ فَيُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ بُغْيَةٌ أُخْرَى، أَيْ مَاذَا نَطْلُبُ بَعْدَ هَذَا. وَيَجُوزُ كَوْنُ مَا نَافِيَةً، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِيَّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ.
وَجُمْلَةُ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا نَبْغِي عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ. وَإِنَّمَا عَلِمُوا أَنَّهَا رُدَّتْ إِلَيْهِمْ بِقَرِينَةِ وَضْعِهَا فِي الْعِدْلِ بَعْدَ وَضْعِ الطَّعَامِ وَهُمْ قَدْ كَانُوا دَفَعُوهَا إِلَى الْكَيَّالِينَ، أَوْ بِقَرِينَةِ مَا شَاهَدُوا فِي يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الْعَطْفِ عَلَيْهِمْ، وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ إِنْ هُمْ أَتَوْا بِأَخِيهِمْ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [سُورَة يُوسُف: ٥٩].
وَجُمْلَةُ وَنَمِيرُ أَهْلَنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا، لِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ هَذَا ثَمَنُ مَا نَحْتَاجُهُ مِنَ الْمِيرَةِ صَارَ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ بِهِ أَهْلَنَا، أَيْ نَأْتِيهِمْ بِالْمِيرَةِ.
وَالْمِيرَةُ- بِكَسْرِ الْمِيمِ بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ-: هِيَ الطَّعَامُ الْمَجْلُوبُ.
فَتَسْمِيَةُ الْقُرْآنِ ذِكْرًا تَسْمِيَةٌ جَامِعَةٌ عَجِيبَةٌ لَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ عِلْمٌ بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرِدَ فِي الْقُرْآنِ.
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُ قُرْآنًا لِأَنَّهُ قَصَدَ مِنْ إِنْزَالِهِ أَنْ يُقْرَأَ، فَصَارَ الذِّكْرُ وَالْقُرْآنُ صِنْفَيْنِ مِنْ أَصْنَافِ الْكَلَامِ الَّذِي يُلْقَى لِلنَّاسِ لِقَصْدِ وَعْيِهِ وَتِلَاوَتِهِ، كَمَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الشِّعْرُ وَالْخُطْبَةُ وَالْقِصَّةُ وَالْأُسْطُورَةُ.
وَيَدُلُّكَ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [سُورَة يس: ٦٩]، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَصْفَهُ بِذَلِكَ يَقْتَضِي مُغَايَرَةً بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ، وَهِيَ مُغَايِرَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي الصِّفَتَيْنِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ. فَالْمُرَادُ: أَنَّهُ مِنْ صِنْفِ الذِّكْرِ وَمِنْ صِنْفِ الْقُرْآنِ، لَا مِنْ صِنْفِ الشِّعْرِ وَلَا مِنْ صِنْفِ الْأَسَاطِيرِ.
ثُمَّ صَارَ «الْقُرْآنُ» بِالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَإِنَّمَا وَصَفُوهُ بِالْجُنُونِ لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّ ادِّعَاءَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ لَا يَصْدُرُ مِنْ عَاقِلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ مَا لَا تَقْبَلُهُ عُقُولُهُمُ الَّتِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقْبَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَالدَّاعِي بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ.
وَالْمَجْنُونُ: الَّذِي جُنَّ، أَيْ أَصَابَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْلِ مِنْ أَثَرِ مَسِّ الْجِنِّ إِيَّاهُ فِي
اعْتِقَادِهِمْ، فَالْمَجْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ وَهُوَ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ إِلَّا مُسْنَدَةً لِلْمَجْهُولِ.
وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ (إِنَّ) وَاللَّامِ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَ ذَلِكَ لَهُ لَعَلَّهُ يَرْتَدِعُ عَنِ الِاسْتِمْرَارِ فِيهِ أَوْ لِقَصْدِهِمْ تَحْقِيقَهُ لِلسَّامِعِينَ حَاضِرِي مَجَالِسِهِمْ.
بِأَرْضِ كَنْعَانَ اسْمُهُ (نَابُو) وَأَنه هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي ابْتَنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ الْهَيْكَلَ وَهُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بِهِ الصَّخْرَةُ.
وَقِصَّةُ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ إِيَّاهُ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الْأَوَّلِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ.
وَقَدِ انْتَابَهُ التَّخْرِيبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ:
- أُولَاهَا: حِينَ خَرَّبَهُ بُخْتُنَصَّرَ مَلِكُ بَابِلَ سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ الْمَسِيحِ ثُمَّ جَدَّدَهُ الْيَهُودُ تَحْتَ حُكْمِ الْفُرْسِ.
- الثَّانِيَةُ: خَرَّبَهُ الرُّومَانُ فِي مُدَّةِ طِيطُوسَ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَأُعِيدَ بِنَاؤُهُ، فَأَكْمَلَ تَخْرِيبَهُ أَدْرِيَانُوسُ سَنَةَ ١٣٥ لِلْمَسِيحِ وَعَفَّى آثَارَهُ فَلَمْ تَبْقَ مِنْهُ إِلَّا أَطْلَالٌ.
- الثَّالِثَةُ لَمَّا تَنَصَّرَتِ الْمَلِكَةُ هيلانة أم الإنبراطور قُسْطَنْطِينَ مَلِكِ الرُّومِ (بِيزَنْطَةَ) وَصَارَتْ مُتَصَلِّبَةً فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَأُشْرِبَ قَلْبُهَا بُغْضَ الْيَهُودِ بِمَا تَعْتَقِدُهُ مِنْ قَتْلِهِمُ الْمَسِيحَ كَانَ مِمَّا اعْتَدَتْ عَلَيْهِ حِينَ زَارَتْ أُورْشَلِيمَ أَنْ أَمَرَتْ بِتَعْفِيَةِ أَطْلَالِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ وَأَنْ يُنْقَلَ مَا بَقِيَ مِنَ الْأَسَاطِينِ وَنَحْوِهَا فَتُبْنَى بِهَا كَنِيسَةٌ عَلَى قَبْرِ الْمَسِيحِ الْمَزْعُومِ عِنْدَهُمْ فِي مَوْضِعٍ تَوَسَّمُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَوْضِعَ الْقَبْرِ (وَالْمُؤَرِّخُونَ مِنَ النَّصَارَى يَشُكُّونَ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُدْعَى أَنَّ الْمَسِيحَ دُفِنَ فِيهِ) وَأَنْ تُسَمِّيَهَا كَنِيسَةَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَتْ بِأَنْ يُجْعَلَ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَرْمَى أَزْبَالِ الْبَلَدِ وَقِمَامَاتِهِ فَصَارَ مَوْضِعُ الصَّخْرَةِ مَزْبَلَةً تَرَاكَمَتْ عَلَيْهَا الْأَزْبَالُ فَغَطَّتْهَا وَانْحَدَرَتْ عَلَى دَرَجِهَا.
وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَقِيَّةَ أَرْضِ الشَّامِ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِيَشْهَدَ فَتْحَ مَدِينَة إيلياء (١) وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ قَبْلِ (أُورْشَلِيمَ)
_________
(١) انْظُر «الْإِنْس الْجَلِيل فِي تَارِيخ الْقُدس والخليل» فِي ذكر خراب الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَلم أَقف على وَجه تَسْمِيَة أورشليم باسم إيلياء الْمَذْكُور، وَلَعَلَّه هُوَ، سمي باسم الْمَدِينَة المقدسة عِنْدهم.

[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٨٣ إِلَى ٨٤]

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤)
افْتِتَاحُ هَذِهِ الْقِصَّة ب وَيَسْئَلُونَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَتِ السُّورَةُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ كَمَا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِقِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ اقْتِضَابًا تَنْبِيهًا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٨٥] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ سَأَلُوا النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم ثَلَاثَةَ أَسْئِلَةٍ بِإِغْرَاءٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي يَثْرِبَ. فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَعَنِ الرُّوحِ، فَإِنْ أَجَابَ عَنْهَا كُلِّهَا فَلَيْسَ بِنَبِيءٍ». وَإِنْ أَجَابَ عَنْ بَعْضِهَا وَأَمْسَكَ عَنْ بَعْضٍ فَهُوَ نَبِيءٌ؟. وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ وَجْهَ التَّعْجِيلِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ النَّازِلَةِ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ بِالْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ وَتَأْخِيرِ الْجَوَابِ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ إِلَى سُورَةِ الْكَهْفِ.
وَأَعْقَبْنَا ذَلِكَ بِمَا رَأَيْنَاهُ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ سَوْقِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ فِي مَوَاقِعَ مُخْتَلِفَةٍ.
فَالسَّائِلُونَ: قُرَيْشٌ لَا مَحَالَةَ، وَالْمَسْئُولُ عَنْهُ: خَبَرُ رَجُلٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْعَالَمِ عُرِفَ بِلَقَبِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَانَتْ أَخْبَارُ سِيرَتِهِ خَفِيَّةً مُجْمَلَةً مُغْلَقَةً، فَسَأَلُوا النَّبِيءَ عَنْ تَحْقِيقِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَأَذِنَ لَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَيِّنَ مِنْهَا مَا هُوَ مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ للنَّاس فِي شؤون الصَّلَاحِ وَالْعَدْلِ، وَفِي عَجِيبِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ، فَكَانَ أَحْبَارُ الْيَهُودِ مُنْفَرِدِينَ بِمَعْرِفَةٍ إِجْمَالِيَّةٍ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ وَكَانَتْ مِنْ أَسْرَارِهِمْ فَلِذَلِكَ جرّبوا بهَا نبوءة مُحَمَّد صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم.
رِسَالَتَهُ رِسَالَةَ الْأَوَّلِينَ، وَالْمُشَبَّهُ ذَاتٌ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ وَاسِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ النَّابِغَةُ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ مِنْ ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ أَوْ حَالَةِ كَوْنِ الْآيَةِ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، أَي بِهِ.
[٦]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٦]
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ جَوَابًا عَلَى قَوْلِهِمْ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ الَّتِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا الْأَوَّلُونَ مَا أَغْنَتْ فِيهِمُ الْآيَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُمْ كَمَا وَدِدْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ مِثْلُهَا فَمَا آمَنُوا، وَلِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْإِهْلَاكُ فَشَأْنُكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ كَشَأْنِهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ:
٥٩].
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ الْآيَاتِ الْخَوَارِقَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُ أَرَادَ اسْتِبْقَاءَهُمْ لِيَكُونَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَتَكُونَ ذُرِّيَّاتُهُمْ حَمَلَةَ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ لَكَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ أَنْ يَعْقُبَهَا عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا.
وَ (مَا) نَافِيةٌ. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ قَرْيَةٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حَرْفِ (مَا).
وَمُتَعَلِّقُ آمَنَتْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، أَيْ مَا آمَنَتْ بِالْآيَاتِ قَرْيَةٌ.
وَجُمْلَةُ أَهْلَكْناها صِفَةٌ لِ قَرْيَةٍ، وَرَدَتْ مُسْتَطْرَدَةً لِلتَّعْرِيضِ بِالْوَعِيدِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَيْضًا يَتَرَقَّبُونَ الْإِهْلَاكَ.
وَالْعَهْدُ: الْتِزَامٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى شَيْءٍ يُعَامِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ الْآخَرَ بِهِ.
وَسمي عهدا لِأَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ بعد اللَّهِ، أَيْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّهُ رَقِيبًا عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ لَا يُفِيتُهُمُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى تَخَلُّفِهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧].
وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مِنْ أَعْظَمِ الْخُلُقِ الْكَرِيمِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى شَرَفِ النَّفْسِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَيْنِ قَدْ يَلْتَزِمُ كُلُّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ عَمَلًا عَظِيمًا فَيُصَادِفُ أَنْ يَتَوَجَّهَ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الِالْتِزَامِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَشَّمَ عَمَلًا لِنَفْعِ غَيْرِهِ بِدُونِ مُقَابِلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ هُوَ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْخَتْرَ بِالْعَهْدِ شُحًّا أَوْ خَوْرًا فِي الْعَزِيمَةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ عَلَامَةً عَلَى عِظَمٍ النَّفْسِ قَالَ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٤].
وَالرَّعْيُ: مُرَاقَبَةُ شَيْءٍ بِحِفْظِهِ مِنَ التَّلَاشِي وَبِإِصْلَاحِ مَا يَفْسَدُ مِنْهُ، فَمِنْهُ رَعْيُ الْمَاشِيَةِ، وَمِنْهُ رَعْيُ النَّاسِ، وَمِنْهُ أُطْلِقَتِ الْمُرَاعَاةُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ ذُو الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ. وَالْقَائِمُ بِالرَّعْيِ رَاعٍ.
فَرَعْيُ الْأَمَانَةِ: حِفْظُهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحِفْظُ مَقْصُودًا لِأَجْلِ صَاحِبِهَا كَانَ رَدُّهَا إِلَيْهِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِهَا. وَرَعْيُ الْعَهْدِ مَجَازٌ، أَيْ مُلَاحَظَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ.
وَالْقَوْلُ فِي تَقْدِيمٍ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ عَلَى راعُونَ كالقول فِي نظايره السَّابِقَةِ، وَكَذَلِكَ إِعَادَةُ اسْمِ الْمَوْصُولِ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ رَعْيِ الْأَمَانَاتِ وَرَعْيِ الْعَهْدِ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَالْأَمَانَةِ لِأَنَّ الَّذِي عَاهَدَكَ قَدِ ائْتَمَنَكَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الْعَهْدُ.
وَذَكَرَهُمَا عَقِبَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ أَمَانَةُ اللَّهِ عِنْدَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ: حَقَّ اللَّهِ، وَحَقَّ الْمَالِ، وَحقّ الْمِسْكِين.
[٩]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٩]
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ
وَصْفِ الشَّيْطَانِ بِخَذْلِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكِيدُ الْإِنْسَانَ فَيُوَرِّطُهُ فِي الضُّرِّ فَهُوَ خذول.
[٣٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣٠]
وَقالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠)
عَطْفٌ عَلَى أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الْفرْقَان: ٢٩] أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ الْقُرْآنُ فَحُكِيَتْ شِكَايَةُ الرَّسُولِ إِلَى رَبِّهِ قَوْمَهُ مِنْ نَبْذِهِمُ الْقُرْآنَ بِتَسْوِيلِ زُعَمَائِهِمْ وَسَادَتِهِمُ الَّذِينَ أَضَلُّوهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ، أَيْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنَ النَّظَرِ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا وَالرَّسُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشِّكَايَةِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ الرَّسُولِ إِنْذَارُ قُرَيْشٍ بِأَنَّ الرَّسُولَ تَوَجَّهَ إِلَى رَبِّهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ فَهُوَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيُوشِكُ أَنْ يَنْصُرَهُ، وَتَأْكِيدُهُ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِيَكُونَ التَّشَكِّي
أَقْوَى. وَالتَّعْبِيرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِ قَوْمِي لِزِيَادَةِ التَّذَمُّرِ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَهُ لِأَنَّ شَأْنَ قَوْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقُوهُ.
وَفِعْلُ الِاتِّخَاذِ إِذَا قُيِّدَ بِحَالَةٍ يُفِيدُ شِدَّةَ اعْتِنَاءِ الْمُتَّخِذِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ بِحَيْثُ ارْتَكَبَ الْفِعْلَ لِأَجْلِهَا وَجَعَلَهُ لَهَا قَصْدًا. فَهَذَا أَشَدُّ مُبَالَغَةً فِي هَجْرِهِمُ الْقُرْآنَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْمِي هَجَرُوا الْقُرْآنَ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي هذَا الْقُرْآنَ لِتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَّخَذُ مَهْجُورًا بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَالْمَهْجُورُ: الْمَتْرُوكُ وَالْمُفَارَقُ. وَالْمُرَادُ هَنَا تُرْكُ الِاعْتِنَاءِ بِهِ وسماعه.
[٣١]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٣١]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ بَعْضِ قَوْمِهِ هُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُشْرِكِينَ لِيَعْرِضُوا أَحْوَالَهُمْ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ التَّارِيخِيِّ فَيَعْلَمُوا
دَلَائِلِ التَّصَرُّفِ فِي أَحْوَالِ الْمُسَافِرِينَ مِنْهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ وَأَقْدَرُ لِمَا فِي خِلَالِهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ.
ذِكْرُ الْهِدَايَةِ فِي ظُلُمَاتِ اللَّيْلِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَإِضَافَةُ الظُّلُمَاتِ إِلَى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى مَعْنَى (فِي). وَالْهُدَى فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ بِسَيْرِ النُّجُومِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الْأَنْعَام: ٩٧]. فَاللَّهُ الْهَادِي لِلسَّيْرِ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ بِأَنْ خَلَقَ النُّجُومَ عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ لِلْهِدَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَبِأَنْ رَكَّبَ فِي النَّاسِ مَدَارِكَ لِلْمَعْرِفَةِ بِإِرْصَادِ سَيْرِهَا وَصُعُودِهَا وَهُبُوطِهَا، وَهَدَاهُمْ أَيْضًا بِمَهَابِّ الرِّيَاحِ، وَخَوَّلَهُمْ مَعْرِفَةَ اخْتِلَافِهَا بِإِحْسَاسِ جَفَافِهَا وَرُطُوبَتِهَا، وَحَرَارَتِهَا وَبَرْدِهَا.
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أُدْمِجَ الِامْتِنَانُ بِفَوَائِدِ الرِّيَاحِ فِي إِثَارَةِ السَّحَابِ الَّذِي بِهِ الْمَطَرُ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِرَحْمَةِ اللَّهِ. وَإِرْسَالُهُ الرِّيَاحَ هُوَ خَلْقُ أَسْبَابِ تَكَوُّنِهَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو نَشْراً بِضَمَّتَيْنِ وَبِالنُّونِ. وَقَرَأَهُ ابْن عَامر بالنُّون بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بُشْراً بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِسُكُونِ الشِّينِ مَعَ التَّنْوِينِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٤٨] وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٧] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ هُنَالِكَ.
وَذُيِّلَ هَذَا الدَّلِيلُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ آلِهَةً لِأَنَّ هَذَا خَاتِمَةُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ بِمَا لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّهُ مِنْ تَصَرُّفِ اللَّهِ فَجِيءَ بَعْدَهُ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الشِّرْكِ كُلِّهِ وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ التذييلات السَّابِقَة.
[٦٤]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ٦٤]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
هَذَا انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِتَصَرُّفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَيَاةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَبِإِعْطَاءِ
وَالشَّهِيدُ: الشَّاهِدُ، وَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَى الْحَاكِمِ عُدِّيَ بِظَرْفِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ الْمَلِكِ:
وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الْحِيَارَيْنِ وَالْبَلَاءُ بَلَاءُ
وَجُمْلَةُ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الِاكْتِفَاءِ بِهِ شَهِيدًا فَهِيَ تَتَنَزَّلُ مِنْهَا مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
بَعْدَ أَنْ أَنْصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ: كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً اسْتَمَرَّ فِي الِانْتِصَافِ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ وَهُوَ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الْبَاطِلَ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الْحُكُومَةِ وَالْقَضِيَّةِ الْمَوْكُولَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُمْ إِنْ تَأَمَّلُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِإِلَهِيَّتِهِ لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ مَا لَيْسَ حَقِيقًا بِالْإِلَهِيَّةِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَتَعَيَّنَ
أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ فَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ كَقَوْلِهِ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: ٢٤]، وَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَيَّامَ جَاهِلِيَّتِهِ:
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ آمَنُوا وكَفَرُوا مُحَسِّنُ الْمُضَادَّةِ وَهُوَ الطِّبَاقُ.
وَالْبَاطِلُ: ضِدُّ الْحَقِّ، أَيْ مَا لَيْسَ بِحَقِيقٍ أَنْ يُؤْمَنَ بِهِ، أَيْ مَا لَيْسَ بِإِلَهٍ حَقٍّ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الْإِلَهِيَّةَ وَذَلِكَ إِيمَانُهُمْ بِإِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ. وَأَمَّا كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ فَلِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَكَفَرُوا بِأَعْظَمِ صِفَاتِهِ وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفِيدُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْوَارِدِ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَجْلِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُمْ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيْ جُمْلَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ فِي جَانِبِ خُسْرَانِهِمْ كَالْعَدَمِ
وَأَمَّا مَا وَقَعَ مِنْ
قَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟... فَقَالَ: «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ»
. فَقَدْ وَهَمَ فِيهِ الشِّيعَةُ فَظَنُّوا أَنَّهُ مَنَعَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهَذِهِ جَهَالَة لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرَادَ أَن مَا سَأَلَتْهُ مِنَ الْحَاصِلِ، لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا وَفِي ضَرَائِرِهَا، فَلَيْسَتْ هِيَ بِحَاجَةٍ إِلَى إِلْحَاقِهَا بِهِمْ، فَالدُّعَاءُ لَهَا بِأَنْ يُذْهِبَ اللَّهُ عَنْهَا الرِّجْسَ وَيُطَهِّرَهَا دُعَاءٌ بِتَحْصِيلِ أَمْرٍ حَصَلَ وَهُوَ مُنَافٍ بِآدَابِ الدُّعَاءِ كَمَا حَرَّرَهُ شِهَابُ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ، فَكَانَ جَوَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْلِيمًا لَهَا. وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: «إِنَّكِ من أَزوَاج النبيء»
. وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ
بِقَوْلِهِ: «إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ».
وَلَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ دعاءه كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْلِقُ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ وَعَلِيٍّ وَابْنَيْهِمَا، فَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»
، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُذْهِبَ لَامُ جَرٍّ تُزَادُ لِلتَّأْكِيدِ غَالِبًا بَعْدَ مَادَّتَيِ الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ، وَيَنْتَصِبُ الْفِعْلُ الْمُضَارع بعْدهَا ب (أَن) مُضْمَرَةً إِضْمَارًا وَاجِبًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: ٧١]، وَقَوْلُ كُثَيْرٌ:
أُرِيدُ لِأَنْسَى حُبَّهَا فَكَأَنَّمَا تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ مَكَانِ
وَعَنِ النَّحَاسِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ سَمَّاهَا (لَامَ أَنْ) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٦].
وَقَوْلُهُ: أَهْلَ الْبَيْتِ نِدَاءٌ لِلْمُخَاطَبِينَ من نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ حَضْرَة النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ شَمِلَ كُلَّ من ألحق النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِنَّ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَهُمْ: فَاطِمَةُ وَابْنَاهَا وَزَوْجُهَا وَسَلْمَانُ لَا يعدو هَؤُلَاءِ.
الثَّانِي لِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَصْنَاف والأنواع المتمايزة كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: ٥٣] كَانَتْ مِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بَيَانِيَّةً، وَالْمَجْرُورُ بِهَا فِي فَحْوَى عَطْفِ الْبَيَانِ، أَوْ بَدَلِ مُفَصَّلٍ من مُجمل مِنْ قَوْلِهِ: الْأَزْواجَ وَالْمَعْنَى:
الْأَزْوَاجُ كُلُّهَا الَّتِي هِيَ: مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، وَأَنْفُسُهُمْ، وَمَا لَا يَعْلَمُونَ. وَيَدُلُّ قَوْلُهُ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: وَمَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ.
فَخَصَّ بِالذِّكْرِ أَصْنَافَ النَّبَاتِ لِأَنَّ بِهَا قِوَامَ مَعَاشِ النَّاسِ وَمَعَاشِ أَنْعَامِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَأَصْنَافِ أَنْفُسِ النَّاسِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِهَا أَقْوَى، قَالَ تَعَالَى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١]. ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَعْلَمُونَهُ فِي مُخْتَلَفِ الْأَقْطَارِ وَالْأَجْيَالِ وَالْعُصُورِ. وَقَدَّمَ ذِكْرَ النَّبَاتِ إِيثَارًا لَهُ بِالْأَهَمِّيَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِالْبَعْثِ الَّذِي أَوْمَأَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: ٣٢].
وَتَكْرِيرُ حَرْفِ مِنْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِلتَّوْكِيدِ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ.
وَضَمِيرُ أَنْفُسِهِمْ عَائِدٌ إِلَى الْعِبادِ فِي قَوْلِهِ: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: ٣٠].
وَالْمُرَادُ بِهِمُ: المكذبون للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٣٧]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
انْتِقَالٌ إِلَى دَلَالَةِ مظَاهر العوالم العلوية عَلَى دَقِيق نظام الْخَالِق فِيهَا مِمَّا تُؤْذِنُ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ التَّبَصُّرِ. وَابْتُدِئَ مِنْهَا بِنِظَامِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِتَكَرُّرِ وُقُوعِهِ أَمَامَ الْمُشَاهَدَةِ لِكُلِّ رَاءٍ. وَجُمْلَةُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ تَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي جملَة أَحْيَيْناها [يس: ٣٣] آنِفًا.
وَالسَّلْخُ: إِزَالَةُ الْجِلْدِ عَنْ حَيَوَانِهِ، وَفِعْلُهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْجِلْدِ الْمُزَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْجِلْدِ الْمُزَالِ مِنْ جِسْمِ الْحَيَوَانِ: سِلْخٌ (بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ) بِمَعْنَى مَسْلُوخٍ، وَلَا يُقَالُ لِلْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ: سِلْخٌ. وَيَتَعَدَّى فِعْلُ سَلَخَ إِلَى الْجِسْمِ الَّذِي أُزِيلَ جِلْدُهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ (مِنْ)
وَجُمْلَةُ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ جَوَابُ إِنْ. وَاسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ إِذَا صُدِّرَ الْجَوَابُ بِأَدَاةِ اسْتِفْهَامٍ غَيْرِ الْهَمْزَةِ يَجُوزُ تَجَرُّدُهُ عَنِ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِلْجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الْأَنْعَام:
٤٧]، وَيَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: ٦٣]. فَأَمَّا الْمُصَدَّرُ بِالْهَمْزَةِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى [العلق: ١٣، ١٤].
وَجَوَابُ الشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ الرُّؤْيَةِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَاتٍ ضُرَّهُ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا لِهَذَا الظَّنِّ.
وَجِيءَ بِحَرْفِ هَلْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ وَهِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ أَيْضًا تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَتْهُ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ مَا فِي (هَلْ) مِنْ إِفَادَةِ التَّحْقِيقِ. وَضَمِيرُ هُنَّ عَائِدٌ إِلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَكَذَلِكَ الضَّمَائِرُ الْمُؤَنَّثَةُ الْوَارِدَةُ بَعْدَهُ ظَاهِرَةً وَمُسْتَتِرَةً، إِمَّا لِأَن (مَا) صدق مَا الْمَوْصُولَةُ هُنَا أَحْجَارٌ غَيْرُ عَاقِلَةٍ وَجَمْعُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يَجْرِي عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُ الْكَلَامَ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ كَالْإِنَاثِ لَا تَقْدِرُ عَلَى النَّصْرِ.
وَالْكَاشِفَاتُ: الْمُزِيلَاتُ، فَالْكَشْفُ مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ وَهُوَ الضُّرُّ بِشَيْءٍ مُسْتَتِرٍ، وَتَشْبِيهُ إِزَالَتِهِ بِكَشْفِ الشَّيْءِ الْمَسْتُورِ، أَيْ إِخْرَاجِهِ، وَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَالْكَشْفُ اسْتِعَارَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ.
وَالْإِمْسَاكُ أَيْضًا مَكْنِيَّةٌ بِتَشْبِيهِ الرَّحْمَةِ بِمَا يُسْعَفُ بِهِ، وَتَشْبِيهُ التَّعَرُّضِ لِحُصُولِهَا بِإِمْسَاكِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُ عَنْ طَالِبِيهِ.
وَعَدَلَ عَنْ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِرَادَةِ لِلضُّرِّ وَالرَّحْمَةِ، إِلَى تَعْدِيَتِهِ لِضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ ذَاتِ الْمَضْرُورِ وَالْمَرْحُومِ مَعَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَاتِ الْمَعَانِي دُونَ الذَّوَاتِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَادَ ضُرِّي أَوْ أَرَادَ رَحْمَتِي فَحَقُّ فِعْلِ الْإِرَادَةِ إِذَا قُصِدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى شَيْئَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمَفْعُولُ، وَأَنْ يَكُونَ مَا مَعَهُ مُعَدَّى إِلَيْهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوَ أَرَدْتُ خَيْرًا لِزَيْدٍ، أَوْ أَرَدْتُ بِهِ خَيْرًا، فَإِذَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ
يَنْظُرُوا فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يُطِيلُوا النَّظَرَ وَلَمْ يَبْلُغُوا بِهِ حَدَّ الِاسْتِدْلَالِ.
وَأَمَّا قَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الْعُقُولِ مِنْهُمْ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الرِّئَاسَةِ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَدٍّ قَرِيبٍ مِنْ حَالَةِ الدَّهْمَاءِ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ أَلْقَى بَيْنَهُمْ هَذَا التَّشْكِيكَ تَغْلِيبًا وَمُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِ الْمُعَانِدِينَ وَمُجَارَاةً لَهُمُ ادِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا نَظَرًا لِقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: ٥].
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ كَفَرْتُمْ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْرُهُ أَخْطَرُ مِنْ كَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
ومِنْ الْأُولَى لِلِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَضَلَّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ.
ومِنْ الثَّانِيَة مَوْصُولَة وَمَا صدقهَا الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ بِهِ فَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى طَرِيقِ الْمَوْصُولِ لِمَا تَأْذَنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنْ تَعْلِيلِ أَنَّهُمْ أَضَلُّ الضَّالِّينَ بِكَوْنِهِمْ
شَدِيدِي الشِّقَاقِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أَشَدَّ الْخَلْقِ عُقُوبَةً لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَنَّ الضَّلَالَ سَبَبٌ لِلْخُسْرَانِ.
وَالشِّقَاقُ: الْعِصْيَانُ. وَالْمُرَادُ: عِصْيَانُ أَمْرِ اللَّهِ لِظُهُورِ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ بَيْنَنَا.
وَالْبَعِيدُ: الْوَاسِعُ الْمَسَافَةِ، واستعير هُنَا للشديد فِي جِنْسِهِ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ لِلضَّلَالِ لِأَنَّ الضَّلَالَ أَصْلُهُ عَدَمُ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَأَنَّ الْبُعْدَ مُنَاسِبٌ لِلشِّقَاقِ لِأَنَّ الْمُنْشَقَّ قَدْ فَارَقَ الْمُنْشَقَّ عَنْهُ فَكَانَ فِرَاقُهُ بَعِيدًا لَا رَجَاءَ مَعَهُ لِلدُّنُوِّ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٦].
وَفِعْلُ أَرَأَيْتُمْ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ لِوُجُودِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ، وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ
يَزِلُّ الْغُلَامُ الْخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ
وَمِنْهُ: الْخِلُّ بِمَعْنَى الْخَلِيلِ. فَالْبِدْعُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بِمَعْنَى الْبَادِعِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى:
«الْبَدِيعُ» خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمُخْتَرِعُهَا. فَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ مُحْدِثًا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرُّسُلِ.
ومِنَ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ مَا كُنْتُ آتِيًا مِنْهُمْ بَدِيعًا غَيْرَ مُمَاثِلٍ لَهُمْ فَكَمَا سَمِعْتُمْ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ أَخْبَرُوا عَنْ رِسَالَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَكَذَلِك أَنا فَلَمَّا ذَا يَعْجَبُونَ مِنْ دَعْوَتِي. وَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى نَصَارَى زَمَانِنَا الَّذِينَ طَعَنُوا فِي نُبُوَّتِهِ بِمَطَاعِنَ لَا مَنْشَأَ لَهَا إِلَّا تَضْلِيلٌ وَتَمْوِيهٌ عَلَى عَامَّتِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعِنِينَ لَيْسُوا مِنَ الْغَبَاوَةِ بِالَّذِينَ يَخْفَى عَلَيْهِمْ بُهْتَانُهُمْ كَقَوْلِهِمْ إِنَّهُ تَزَوَّجَ النِّسَاءَ، أَوْ أَنَّهُ قَاتَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ أَنَّهُ أَحَبَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَاضِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يسْأَلُون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُغَيَّبَاتٍ اسْتِهْزَاءً فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ إِذَا ضَلَّتْ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَنْ أَبِي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الله الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِهِمْ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الْأَعْرَاف: ١٨٨].
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا وَإِتْمَامًا لِمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ بِأَنَّ قُصَارَى مَا يَدْرِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا يُعْلِمُهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِهِ، وَمِثْلُ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ فِي النَّارِ وَأَنَّ وَرَاءَ الْمَوْتِ بَعْثًا.
وَمِثْلُ أَنَّهُ سَيُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: ١]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَدَعْ مَا أَطَالَ بِهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا مِنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وَمِنْ كَوْنِهَا مَنْسُوخَةً أَوْ مُحْكَمَةً وَمِنْ حُكْمِ نَسْخِ الْخَبَرِ.
وَوَجْهُ عَطْفِ وَلا بِكُمْ عَلَى بِي بِإِقْحَامِ (لَا) النَّافِيَةِ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِفِعْلِ صِلَةِ مَا الْمَوْصُولَةِ وَلَيْسَ فِي الصِّلَة نفي، فَلَمَّا ذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُفْعَلُ بِي وَبِكُمْ
وَاسْتَغْنَى هُنَا عَنْ إِعَادَة بِأَيْدٍ [الذاريات: ٤٧] لِدِلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْشُ: بَسْطُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِلْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَفِي فَرَشْناها اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، شَبَّهَ تَكْوِينَ اللَّهِ الْأَرْضَ عَلَى حَالَةِ الْبَسْطِ بِفَرْشِ الْبِسَاطِ وَنَحْوِهِ.
وَفِي هَذَا الْفَرْشِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ إِذْ جَعَلَ الْأَرْضَ مَبْسُوطَةً لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى سَطْحِهَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ يَمْشِي عَلَيْهَا وَيَتَوَسَّدُهَا وَيَضْطَجِعُ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَتَ مُحْدَوْدِبَةً تُؤْلِمُ الْمَاشِيَ بَلْهَ الْمُتَوَسِّدُ وَالْمُضْطَجِعُ.
وَلَمَّا كَانَ فِي فَرْشِهَا إِرَادَةً جَعَلَهَا مَهْدًا لِمَنْ عَلَيْهَا مِنَ الْإِنْسَانِ أَتْبَعَ فَرَشْناها بِتَفْرِيعِ ثَنَاءِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى إِجَادَةِ تَمْهِيدِهَا تَذْكِيرًا بِعَظَمَتْهِ وَنِعْمَتِهِ، أَيْ فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ نَحْنُ.
وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: الْماهِدُونَ لِلتَّعْظِيمِ مِثْلِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي [... ] (١)،
وَرُوعِيَ فِي وَصْفِ خَلْقِ الْأَرْضِ مَا يَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ سَطْحِهَا لِأَنَّهُ الَّذِي يَهُمُّ النَّاسَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَفِي الامتنان عَلَيْهِم بِمَا فِيهِ لُطْفِهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، دُونَ تَعَرُّضٍ إِلَى تَكْوِيرِهَا إِذْ لَا يَبْلُغُونَ إِلَى إِدْرَاكِهِ، كَمَا رُوعِيَ فِي ذِكْرِ السَّمَاءِ مَا يَبْدُو مِنْ قُبَّةِ أَجْوَائِهَا دُونَ بَحْثٍ عَنْ تَرَامِي أَطْرَافِهَا وَتَعَدُّدِ عَوَالِمِهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ الِاعْتِرَاضَ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ:
فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَلْقِينُ النَّاسِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا صَنَعَ لَهُمْ فِيهَا مِنْ مِنَّةٍ
لِيَشْكُرُوهُ بِذَلِكَ الثَّنَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: ٢].
[٤٩]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٤٩]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
لَمَّا أَشْعَرَ قَوْلُهُ: فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ [الذاريات: ٤٨] بِأَنَّ فِي ذَلِكَ نِعْمَةً عَلَى الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِصِفَةِ خَلْقِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بالخلق المستلزم لِتَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ فَقَالَ: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وَالزَّوْجُ: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِالشَّيْءِ: النَّوْعُ مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ. وَتَثْنِيَةُ زَوْجٍ هُنَا لِأَنَّهُ أُرِيدُ بِهِ مَا يُزَوَّجُ مِنْ ذِكْرٍ وَأُنْثَى.
_________
(١) كلمة غير وَاضِحَة فِي المطبوعة.
وَتِلْكَ هِيَ قَضِيَّةُ سَبَبِ النُّزُولِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَا جَاءَتْ مُجَادِلَةً إِلَّا لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ زَوْجَهَا الْمُظَاهِرَ مِنْهَا لَمْ يُرِدْ فِرَاقَهَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ
الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ خُوَيْلَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَجِئْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إِلَيْهِ وَرَسُولُ اللَّهِ يُجَادِلُنِي وَيَقُولُ: اتَّقِي اللَّهَ. فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ؟ فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ. فَقَالَ: «يُعْتِقُ رَقَبَةً». قَالَتْ: لَا يَجِدُ. قَالَ: «فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ»
. قَالَتْ: إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: «فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا». قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ. فَأَتَى سَاعَتَئِذٍ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنِّي أُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَالَ: «قَدْ أَحْسَنْتِ اذْهَبِي فَأَطْعِمِي بِهِمَا عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ»
. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا: إِنَّهَا كَفَّرَتْ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَأْمِرَهُ.
وَالْمُرَادُ «بِمَا قَالُوا» مَا قَالُوا بِلَفْظِ الظِّهَارِ وَهُوَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ الْمُفَادِ مِنْ لَفْظِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لِأَنَّ: أَنْتِ عَلَيَّ. فِي مَعْنَى: قُرْبَانِكِ وَنَحْوِهِ عَلَيَّ كَمِثْلِهِ مِنْ ظَهْرِ أُمِّي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ [مَرْيَم: ٨٠]، أَيْ مَالًا وَوَلَدًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَداً [مَرْيَم: ٧٧]، وَقَوْلِهِ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ [آل عمرَان: ١٨٣] أَيْ قَوْلُكُمْ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. فَفِعْلُ الْقَوْلِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ نَاصِبٌ لِمُفْرَدٍ لوُقُوعه فِي خلاف جُمْلَةٍ مَقُولَةٍ، وَإِيثَارُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ التَّحْرِيمُ لَهُ. فَلَفْظُ الظِّهَارِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ هَذِهِ إِيجَازٌ وَتَنْزِيهٌ لِلْكَلَامِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ.
فَالْمَعْنَى: ثُمَّ يَرُومُونَ أَنْ يَرْجِعُوا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِأَزْوَاجِهِمْ بَعْدَ أَنْ حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَنَّ مَنْ لَمْ يُرِدِ الْعَوْدَ إِلَى امْرَأَتِهِ لَا يَخْلُو حَالَهُ: فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقَهَا فَلَهُ أَنْ يُوَقِّعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا آخَرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ الظِّهَارُ طَلَاقًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يُرِيدَ طَلَاقًا وَلَا عَوْدًا. فَهَذَا قَدْ صَارَ مُمْتَنِعًا مِنْ مُعَاشَرَةِ زَوْجِهِ مُضِرًّا بِهَا فَلَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ [الْبَقَرَة: ٢٢٦] الْآيَةَ. وَقَدْ كَانُوا يَجْعَلُونَ الظِّهَارَ إِيلَاءً كَمَا فِي قِصَّةِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ.
ثُمَّ الزُّرَقِيِّ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: «كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَا يُصِيبُ غَيْرِي فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنِ امْرَأَتِي شَيْئًا يُتَايِعُ بِي (بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ ثُمَّ أَلِفٍ ثُمَّ تَحْتِيَّةٍ، وَالظَّاهِرُ
وَجَاءَتْ جُمْلَةُ مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ تَقْرِيرًا لِقَوْلِهِ:
خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً.
فَإِنَّ نَفْيَ التَّفَاوُتِ يُحَقِّقُ مَعْنَى التَّطَابُقِ، أَيِ التَّمَاثُلِ. وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ اللَّهِ السَّمَاوَاتِ تَفَاوُتًا. وَأَصْلُ الْكَلَامِ: مَا تَرَى فِيهِنَّ وَلَا فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ فَعبر بِخلق الرحمان لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، لِأَنَّ انْتِفَاءَ التَّفَاوُتِ عَمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ طِبَاقًا لِأَنَّهَا من خلق الرحمان، وَلَيْسَ فِيمَا خلق الرحمان مِنْ تَفَاوَتٍ وَمِنْ ذَلِكَ نِظَامُ السَّمَاوَاتِ.
وَالتَّفَاوُتُ بِوَزْنِ التَّفَاعُلِ: شِدَّةُ الْفَوْتِ، وَالْفَوْتُ: الْبُعْدُ، وَلَيْسَتْ صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فِيهِ لِحُصُولِ فِعْلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلَكِنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَيُقَالُ: تَفَوَّتَ الْأَمْرُ أَيْضًا، وَقِيلَ: إِنْ تَفَوَّتَ، بِمَعْنَى حَصَلَ فِيهِ عَيْبٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْ تَفاوُتٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مِنْ تَفَوُّتٍ بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ دُونَ أَلِفٍ بَعْدَ الْفَاءِ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ أَلِفٍ كَمَا هُوَ كَثِيرٌ فِي رَسْمِ الْفَتَحَاتِ الْمُشْبَعَةِ.
وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّخَالُفِ وَانْعِدَامِ التَّنَاسُقِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ يُشَبِّهُ الْبُعْدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، أَيْ لَا تَرَى أَيُّهَا الرَّائِي تَفَاوُتًا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ إِذْ أَضَاعُوا النَّظَرَ وَالْاسْتِدْلَالَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا تُشَاهِدُهُ أَبْصَارُهُمْ مِنْ نِظَامِ الْكَوَاكِبِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ لِكُلِّ مَنْ يُبْصِرُ، قَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق:
٦] فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي خلق الرحمان مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَلْقِ الرَّحْمنِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: ١١]، وَيُرَادُ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ، وَالْمَعْنَى: مَا تَرَى فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ لِتَتَأَتَّى الْإِضَافَةُ إِلَى اسْمه الرَّحْمنِ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ فِيهَا رَحْمَةٌ بِالنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي.
الِابْتِدَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَهِيَ أَنَّ مِنَ الْأَرْضِ يَخْرُجُ النَّاسُ لِلْبَعْثِ فَكَذَلِك ثني باستدلال بِخَلْقِ النَّاسِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَيُعَادُ خَلْقُهُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ وَهُمُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً [مَرْيَم: ٦٦، ٦٧].
وَانْتَصَبَ أَزْواجاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِاسْتِدْلَالُ بِخَلْقِ النَّاسِ وَبِكَوْنِ النَّاسِ أَزْوَاجًا، فَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِفِعْلِ خَلَقْنَا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ جِيءَ بِمَفْعُولِهِ ضَمِيرَ ذَوَاتِ النَّاسِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُنَاسِبُ لِكَوْنِهِمْ أَزْوَاجًا أَنْ يُسَاقَ مَسَاقَ إِيجَادِ الْأَحْوَالِ جِيءَ بِهِ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ فِي خَلَقْناكُمْ، وَلَوْ صُرِّحَ لَهُ بِفِعْلٍ لَقِيلَ: وَخَلَقْنَاكُمْ وَجَعَلْنَاكُمْ أَزْوَاجًا، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: ٦] وَمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [النبأ: ٩].
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ اسْمٌ لِلْعَدَدِ الَّذِي يُكَرِّرُ الْوَاحِدَ تَكْرِيرَةً وَاحِدَةً وَقَدْ وُصِفَ بِهِ كَمَا يُوصَفُ بِأَسْمَاءِ الْعَدَدِ فِي نَحْوِ قَوْلِ لَبِيدٍ:
حَتَّى إِذَا سَلَخَا جُمَادَى سِتَّةً ثُمَّ غَلَبَ الزَّوَاجُ عَلَى كُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَأُنْثَاهُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، فَقَوْلُهُ: أَزْواجاً أَفَادَ أَنْ يَكُونَ الذَّكَرُ زَوْجًا لِلْأُنْثَى وَالْعَكْسُ، فَالذَّكَرُ زَوْجٌ لِأُنْثَاهُ وَالْأُنْثَى زَوْجٌ لِذَكَرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٥].
وَفِي قَوْلِهِ: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً إِيمَاءٌ إِلَى مَا فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ مِنْ حِكْمَةِ إِيجَادِ قُوَّةِ التَّنَاسُلِ مِنَ اقْتِرَانِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَهُوَ مَنَاطُ الْإِيمَاءِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِيجَادِ هَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ ابْتِدَاءً بِقُوَّةِ التَّنَاسُلِ قَادِرٌ عَلَى إِيجَادِ مِثْلِهِ بِمِثْلِ تِلْكَ الدِّقَّةِ أَوْ أَدَقَّ.
وَفِيهِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَامْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِأَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُمْ بِحَالَةٍ تَجْعَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصِّنْفَيْنِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجًا


الصفحة التالية
Icon