وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» نَقْلًا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ الْقُرْآنَ كَمَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ فَصَاحَةِ أَلْفَاظِهِ وَشَرَفِ مَعَانِيهِ هُوَ أَيْضًا مُعْجِزٌ بِسَبَبِ تَرْتِيبِهِ وَنَظْمِ آيَاتِهِ، وَلَعَلَّ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ مُعْجِزٌ بِسَبَبِ أُسْلُوبِهِ أَرَادُوا ذَلِكَ».
إِنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ لَا تَنْحَصِرُ فِي أَحْوَالِ تَرَاكِيبِهِ اللَّفْظِيَّةِ، بَلْ تَتَجَاوَزُ إِلَى الْكَيْفِيَّاتِ الَّتِي تُؤَدَّى بِهَا تِلْكَ التَّرَاكِيبُ. فَإِنَّ سُكُوتَ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ فِي جُمْلَةٍ سُكُوتًا خَفِيفًا قَدْ يُفِيدُ مِنَ
التَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مَا يُفِيدُهُ إِبْهَامُ بَعْضِ كَلَامِهِ ثُمَّ تَعْقِيبُهُ بِبَيَانِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ مَوَاقِعِ الْبَلَاغَةِ نَحْوَ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ كَلِمَةٍ وَتَعْقِيبَهَا بِمَا بَعْدَهَا يَجْعَلُ مَا بَعْدَهَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ عَيْنَهُ، مِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات: ١٦] فَإِنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ (مُوسَى) يُحْدِثُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ تَرَقُّبًا لِمَا يُبَيِّنُ حَدِيثَ مُوسَى، فَإِذَا جَاءَ بَعْدَهُ إِذْ ناداهُ رَبُّهُ إِلَخْ حَصَلَ الْبَيَانُ مَعَ مَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى كَلِمَةِ (مُوسَى) مِنْ قَرِينَةٍ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ عَلَى سَجْعَةِ الْأَلِفِ مِثْلَ قَوْلِهِ: طُوىً، طَغى [النازعات: ١٧]، تَزَكَّى [النازعات: ١٨]، إِلَخْ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة:
٢] أَنَّكَ إِنْ وَقَفْتَ عَلَى كَلِمَةِ رَيْبَ كَانَ مِنْ قَبِيلِ إِيجَازِ الْحَذْفِ أَيْ لَا رَيْبَ فِي أَنَّهُ الْكِتَابُ فَكَانَتْ جُمْلَةُ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَكَانَ مُفَادُ حَرْفِ (فِي) اسْتِنْزَالَ طَائِرِ الْمُعَانِدِينَ أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّهُ هُدًى فَإِنَّ فِيهِ هُدًى، وَإِنْ وَصَلْتَ فِيهِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْإِطْنَابِ وَكَانَ مَا بَعْدَهُ مُفِيدًا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ كُلَّهُ هُدًى.
وَمِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْعُدُولُ عَنْ تَكْرِيرِ اللَّفْظِ وَالصِّيغَةِ فِيمَا عَدَا الْمَقَامَاتِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّكْرِيرَ مِنْ تَهْوِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَمِمَّا عُدِلَ فِيهِ عَنْ تَكْرِيرِ الصِّيغَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤] فَجَاءَ بِلَفْظِ قُلُوبٍ جَمْعًا مَعَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ امْرَأَتَانِ فَلم يقل قلبا كَمَا تَجَنُّبًا لِتَعَدُّدِ صِيغَةِ الْمُثَنَّى.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الْأَنْعَام: ١٣٩] فَرُوعِيَ مَعْنَى مَا الْمَوْصُولَةِ مَرَّةً فَأَتَى بِضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ خالِصَةٌ، وَرُوعِيَ لَفْظُ مَا الموصولة فَأتي بِمحرم مُذَكَّرًا مُفْرَدًا.
لِأَنَّ الدَّبْغَ يُزِيلُ مَا فِي الْجِلْدِ مِنْ تَوَقُّعِ الْعُفُونَةِ الْعَارِضَةِ لِلْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمُذَكَّى فَهُوَ مُزِيلٌ لِمَعْنَى الْقَذَارَةِ وَالْخَبَاثَةِ الْعَارِضَتَيْنِ لِلْمَيْتَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ عُمُومِ الْمَيْتَةِ مَيْتَةُ الْحُوتِ وَنَحْوِهِ مِنْ دَوَابِّ الْبَحْرِ الَّتِي لَا تَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [الْمَائِدَة: ٩٦] فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ فِيمَا أَرَى هِيَ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَمُوتُ غَالِبًا إِلَّا وَقَدْ أُصِيبَ بِعِلَّةٍ وَالْعِلَلُ مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ تَتْرُكُ فِي لَحْمِ الْحَيَوَانِ أَجْزَاءً مِنْهَا فَإِذَا أَكَلَهَا الْإِنْسَانُ قَدْ يُخَالِطُ جُزْءًا مِنْ دَمِهِ جَرَاثِيمُ الْأَمْرَاضِ، مَعَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي فِي الْحَيَوَانِ إِذَا وَقَفَتْ دَوْرَتُهُ غُلِّبَتْ فِيهِ الْأَجْزَاءُ الضَّارَّةُ عَلَى الْأَجْزَاءِ النَّافِعَةِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتِ الذَّكَاةُ لِأَنَّ الْمُذَكَّى مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ غَالِبًا وَلِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ الَّذِي فِيهِ تَجْعَلُ لَحْمَهُ نَقِيًّا مِمَّا يُخْشَى مِنْهُ أَضْرَارٌ.
وَمِنْ أَجْلِ هَذَا قَالَ مَالِكٌ فِي الْجَنِينِ: أَنَّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمِّهِ (١) لِأَنَّهُ لِاتِّصَالِهِ بِأَجْزَاءِ أَمِّهِ صَارَ اسْتِفْرَاغُ دَمِ أُمِّهِ اسْتِفْرَاغًا لِدَمِهِ وَلِذَلِكَ يَمُوتُ بِمَوْتِهَا فَسَلِمَ مِنْ عَاهَةِ الْمَيْتَةِ وَهُوَ مَدْلُولُ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ»
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إِذَا خَرَجَ مَيْتًا فَاعْتَبَرَ أَنَّهُ مَيْتَةٌ لَمْ يُذَكَّ، وَتَنَاوَلَ الْحَدِيثُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ، وَلَكِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَأْيِيدِ مَذْهَبِ مَالِكٍ لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا.
وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْحُوتِ الْجَرَادَ تُؤْكَلُ مَيْتَتُهُ لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ ذَكَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ وَابْن عبد الحكم مِنَ الْمَالِكِيَّةِ تَمَسُّكًا بِمَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ كُنَّا نَأْكُلُ الْجَرَادَ مَعَهُ»
اه.
وَسَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِنَأْكُلُ أَمْ كَانَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا حَالا من ضمير «كُنَّا» فَهُوَ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ إِمَّا بِأَكْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ وَإِمَّا بِتَقْرِيرِهِ ذَلِكَ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا
حَدِيثُ «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ وَالْجَرَادُ»
فَلَا يَصْلُحُ لِلتَّخْصِيصِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» (٢)، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ إِلَّا أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةَ أَمْثَالِهِ كَالطَّرْحِ فِي المَاء السخن أَوْ قَطْعِ مَا لَا يَعِيشُ بِقطعِهِ.
وَلَعَلَّ مَالك رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَضْعَفَ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي مُسْلِمٍ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الِاضْطِرَارِ فِي السَّفَرِ أَوْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذَّكَاةِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: إِنَّ ضَمَّ
الْجَرَادِ فِي غَرَائِرَ
_________
(١) الْمصدر السَّابِق (١/ ٤٤٢)، دَار الْمعرفَة.
(٢) وَابْن رشد أَيْضا كَمَا فِي الْمصدر السَّابِق (١/ ٨٠)، دَار الْمعرفَة، وَقَالَ فِي (١/ ٤٦٧)، دَار الْمعرفَة: «هَذَا الحَدِيث فِي غَالب ظَنِّي لَيْسَ هُوَ فِي الْكتب الْمَشْهُورَة من كتب الحَدِيث». [.....]
وَعَطَاءٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَجَابِرِ بن زيد، وداوود الظَّاهِرِيِّ، وَالطَّبَرِيِّ.
وَقَدْ أَشْهَدَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعِ عَبْدٍ بَاعَهُ لِلْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ، وَكَتَبَ فِي ذَلِك «باسم الله الرحمان الرَّحِيمِ، هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ وَلَا خِبْثَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ»
وَقِيلَ: هُوَ لِلنَّدْبِ وَذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَتَمَسَّكُوا بِالسُّنَّةِ: أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ وَلَمْ يُشْهِدْ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِ الِائْتِمَانِ، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الْبَقَرَة: ٢٨٣] الْآيَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِابْنِ عَطِيَّةَ فِي تَوْجِيهِ عَدَمِ الْوُجُوبِ وَرَدُّنَا لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاكْتُبُوهُ.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ.
نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارَّةِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْكَاتِبُ وَالشَّهِيدُ مَصْدَرًا لِلْإِضْرَارِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ لَهُ وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَصْدَرًا لِلْإِضْرَارِ: لِأَنَّ يُضَارَّ يَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْمَعْلُومِ وَلِلْمَجْهُولِ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ هَذِهِ الْمَادَّةِ هُنَا مَقْصُودٌ، لِاحْتِمَالِهَا حُكْمَيْنِ، لِيَكُونَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا فَيُحْمَلُ عَلَى كِلَا مَعْنَيَيْهِ لِعَدَمِ تَنَافِيهِمَا، وَهَذَا مِنْ وَجْهِ الْإِعْجَازِ.
والمضارّة: إِدْخَال الضرّ بِأَنْ يُوقِعَ الْمُتَعَاقِدَانِ الشَّاهِدَيْنِ وَالْكَاتِبَ فِي الْحَرَجِ وَالْخَسَارَةِ، أَوْ مَا يجر إِلَى الْعقُوبَة، وَأَن يُوقع الشَّاهِدَانِ أحد الْمُتَعَاقدين فِي إِضَاعَة حق أَو تَعب فِي الْإِجَابَة إِلَى الشَّهَادَةِ. وَقَدْ أَخَذَ فُقَهَاؤُنَا مِنْ هَاتِهِ الْآيَةِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً تَتَفَرَّعُ عَنِ الْإِضْرَارِ: مِنْهَا رُكُوبُ الشَّاهِدِ مِنَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَمِنْهَا تَرْكُ اسْتِفْسَارِهِ بَعْدَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ النِّسْيَانِ، وَمِنْهَا اسْتِفْسَارُهُ اسْتِفْسَارًا يُوقِعُهُ فِي الِاضْطِرَابِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِوُلَاةِ الْأُمُورِ جَعْلُ جَانِبٍ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ لِدَفْعِ مَصَارِيفِ انْتِقَالِ الشُّهُودِ وَإِقَامَتِهِمْ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمْ وَتَعْوِيضِ مَا سَيَنَالُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَالِ مِنَ الْخَسَائِرِ الْمَالِيَّةِ فِي إِضَاعَةِ عَائِلَاتِهِمْ، إِعَانَةً عَلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَالسَّعَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ
يُوسُفَ السُّلَمِيُّ الْكِنَانِيُّ، قَالَ: قُلْتُ لِشَيْخِنَا ابْنِ عُصْفُورٍ: لِمَ أَكْثَرْتَ فِي شَرْحِكَ لِلْإِيضَاحِ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى كَائِنٍ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ الْمُسْتَنْصِرِ (يَعْنِي مُحَمَّدَ الْمُسْتَنْصِرَ ابْنَ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْحَفْصِيَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ وَلِيُّ الْعَهْدِ) فَوَجَدْتُ ابْنَ هِشَامٍ (يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيَّ نَزِيلَ تُونُسَ وَدَفِينَهَا الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٤٦) فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَمَّا يَحْفَظُ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى قِرَاءَةِ كَأَيِّنْ فَلَمْ يَسْتَحْضِرْ غَيْرَ بَيْتِ الْإِيضَاحِ:
وَكَائِنٍ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ | يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هُوَ الْمُصَابَا |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ وَيَاءٍ تَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، عَلَى وَزْنِ كَلِمَةِ كَصَيِّبٍ وَقَرَأَهُ ابْنُ كثير كَأَيِّنْ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْكَافِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَ الْأَلِفِ بِوَزْنِ كَاهِنٍ.
وَالتَّكْثِيرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ كَأَيِّنْ وَاقِعٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا وَهُوَ لَفْظُ (نَبِيءٍ) فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا بِمَعْنَى مُطْلَقِ الْعَدَدِ، فَلَا يَتَجَاوَزُ جَمْعَ الْقِلَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَكْثِيرًا فِي مَعْنَى جَمْعِ الْكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَلِمْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَعْلَمْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وَيَحْضُرُنِي أَسْمَاءُ سِتَّةٍ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْأَنْبِيَاء: أرمياء قتلته بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَحَزْقِيَالُ قَتَلُوهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى سُوءِ أَعْمَالِهِمْ، وَأَشْعِيَاءُ قَتَلَهُ منسا بن حزقيال مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ وَبَّخَهُ وَوَعَظَهُ عَلَى سُوءِ فِعْلِهِ فَنَشَرَهُ بِمِنْشَارٍ، وزكرياء، وَيحيى، قتلتهما بَنُو إِسْرَائِيلَ لِإِيمَانِهِمَا بِالْمَسِيحِ، وَقَتَلَ أَهْلُ الرَّسِّ مِنَ الْعَرَبِ نَبِيئَهُمْ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ فِي مُدَّةِ عَدْنَانَ، وَالْحَوَارِيُّونَ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمَسِيحَ قُتِلَ وَلَمْ يَهِنُوا فِي إِقَامَةِ دِينِهِ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ مُرَادًا هُنَا وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِثَبَاتِ أَتْبَاعِهِ عَلَى دِينِهِ مَعَ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ إِذِ الْعِبْرَةُ فِي خُلُوِّ الرَّسُولِ وَبَقَاءِ أَتْبَاعِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ رَسُولٌ إِلَّا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانٍ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَيْضًا مَنْ قُتِلَ فِي جِهَادٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا سَمِعْنَا بِنَبِيءٍ قُتِلَ فِي الْقِتَالِ.
[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣)اسْتِئْنَافٌ وَانْتِقَالٌ إِلَى التَّحْرِيضِ عَلَى الْجِهَادِ بِمُنَاسَبَةٍ لَطِيفَةٍ، فَإِنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ طَاعَةِ الرَّسُولِ إِلَى ذِكْرِ أَشَدِّ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ ذِكْرِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيئِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَالُ أَدْعَى إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الشَّهَادَةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْخِلَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهَا الْمُمْكِنَةِ النَّوَالِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تُشِيرُ لَا مَحَالَةَ إِلَى تَهْيِئَةِ غَزْوَةٍ مِنْ غَزَوَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذِكْرُ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ غَزْوَةٍ لِأَنَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ وَقَعَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَكَذَلِكَ غَزْوَةُ أُحُدٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ، وَلَيْسَتْ نَازِلَةً فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَانْفِرُوا ثُباتٍ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَازُونَ لَا مَغْزُوُّونَ، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ إِلَى قَوَاعِدِ الِاسْتِعْدَادِ لِغَزْوِ الْعَدُوِّ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ
الْعَدُوِّ الْكَاشِحِ، وَمِنَ الْعَدُوِّ الْكَائِدِ، وَلَعَلَّهَا إِعْدَادٌ لِغَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ، وَكَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْمُدَّةَ كَانَتْ مُدَّةَ اشْتِدَادِ التَّأَلُّبِ مِنَ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ لِنُصْرَةِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَالذَّبِّ عَنْ آلِهَتِهِمْ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ وَما لَكُمْ لَا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النِّسَاء: ٧٥] إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النِّسَاء: ١٤١] فَإِنَّ اسْمَ الْفَتْحِ أُرِيدَ بِهِ فَتْحُ مَكَّةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ٢٧].
وَابْتَدَأَ بِالْأَمْرِ بِأَخْذِ الْحَذَرِ. وَهِيَ أَكْبَرُ قَوَاعِدِ الْقِتَالِ لِاتِّقَاءِ خُدَعِ الْأَعْدَاءِ. وَالْحَذَرُ:
هُوَ تَوَقِّي الْمَكْرُوهِ.
وَأَمَّا شَرْطُ الْإِمْسَاكِ لِأَجْلِ الصَّائِدِ: فَهُوَ يُعْرَفُ بِإِمْسَاكِهَا الصَّيْدِ بَعْدَ إِشْلَاءِ الصَّائِدِ إِيَّاهَا، وَهُوَ الْإِرْسَالُ مِنْ يَدِهِ إِذَا كَانَ مَشْدُودًا، أَوْ أَمْرِهِ إيّاها بِلَفْظ اعْتدت أَنْ تَفْهَمَ مِنْهُ الْأَمْرَ كَقَوْلِهِ: «هَذَا لَكِ» لِأَنَّ الْإِرْسَالَ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الذَّكَاةِ. ثُمَّ الْجَارِحُ مَا دَامَ فِي اسْتِرْسَالِهِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى رَبِّهِ بِالصَّيْدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْلِ الْجَارِحِ مِنَ الصَّيْدِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ إِلَى رَبِّهِ هَلْ يُبْطِلُ حُكْمَ الْإِمْسَاكِ عَلَى رَبِّهِ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ لَمْ تُؤْكَلِ الْبَقِيَّةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، لَا عَلَى رَبِّهِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى
حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: «وَإِذَا أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ»
. وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَإِسْحَاقُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: إِذَا أَكَلَ الْجَارِحُ لَمْ يَضُرَّ أَكْلُهُ، وَيُؤْكَلْ مَا بَقِيَ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابُهُ: لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ،
فِي «كتاب أبي دَاوُود» : أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ»
. وَرَامَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنْ يَحْتَجَّ لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ حَيْثُ جَاءَ بِمن الْمُفِيدَةِ لِلتَّبْعِيضِ، الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّهُ يُؤْكَلُ إِذَا بَقِيَ بَعْضُهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاهٍ فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ (مِنْ) تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ فِي مِثْلِ هَذَا وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ التَّبْعِيضُ، وَالْكَلْبُ أَوِ الْجَارِحُ، إِذَا أَشْلَاهُ الْقَنَّاصُ فَانْشَلَى، وَجَاءَ بِالصَّيْدِ إِلَى رَبِّهِ. فَهُوَ قَدْ أَمْسَكَهُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَ مِنْهُ، فَقَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ. وَنَحَا بَعْضُهُمْ فِي هَذَا إِلَى تَحْقِيقِ أَنَّ أَكْلَ الْجَارِحِ مِنَ الصَّيْدِ هَلْ يَقْدَحُ فِي تَعْلِيمِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي تَعْلِيمِهِ، إِذَا كَانَتْ أَفْعَالُهُ جَارِيَةً عَلَى وَفْقِ أَفْعَالِ الصَّيْدِ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْفَلْتَةِ أَوْ مِنَ التَّهَوُّرِ. وَمَالَ جَمَاعَةٌ إِلَى التَّرْخِيصِ فِي ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ خَاصَّةً، لِأَنَّهَا لَا تَفْقَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَمَّادٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَقَدْ نَشَأَ عَنْ شَرْطِ تَحَقُّقِ إِمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ مَسْأَلَةُ لَوْ أَمْسَكَ الْكَلْبُ أَوِ الْجَارِحُ صَيْدًا لَمْ يَرَهُ صَاحِبُهُ وَتَرَكَهُ وَرَجَعَ دُونَهُ، ثُمَّ وَجَدَ الصَّائِدُ
وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَنْهُ قَوْلَهَ: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، أَيْ فَلَمَّا قَضَيْتَ بِوَفَاتِي، لِأَنَّ مُبَاشِرَ الْوَفَاةِ هُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ. وَالْوَفَاةُ الْمَوْتُ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ أَمَاتَهُ، أَيْ قَضَى بِهِ وَتَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ قَبَضَ رُوحَهُ وَأَمَاتَهُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥]. وَالْمَعْنَى:
أَنَّكَ لَمَّا تَوَفَّيْتَنِي قَدْ صَارَتِ الْوَفَاةُ حَائِلًا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ لِي أَنْ أُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ضَلَالَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ، فجَاء بتضير الْفَصْلِ الدَّالِّ عَلَى الْقَصْرِ، أَيْ كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ لَا أَنَا إِذْ لَمْ يَبْقَ بَيْنِي وَبَيْنَ الدُّنْيَا اتِّصَالٌ. وَالْمَعْنَى أَنَّكَ تَعْلَمُ أَمْرَهُمْ وَتُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ مَتَى شِئْتَ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِم مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدَاهُمْ بِكُلِّ وُجُوهِ الِاهْتِدَاءِ.
وَأَقْصَى وُجُوهِ الِاهْتِدَاءِ إِبْلَاغُهُمْ مَا سَيَكُونُ فِي شَأْنِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ إِذْ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِئَلَّا يَكُونَ فِي حكم جَوَاب فَلَمَّا.
وَقَوْلُهُ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَوَّضَ أَمْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يُجَازِيهِمْ بِهِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِمْسَاكٍ عَنْ إِبْدَاءِ رَغْبَةٍ لِشِدَّةِ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَغَايَةُ مَا عَرَّضَ بِهِ عِيسَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذِكْرُ الْعَزِيزِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَغْفِرُ عَنْ مَقْدِرَةٍ، وَذِكْرُ الْحَكِيمِ لِمُنَاسَبَتِهِ لِلتَّفْوِيضِ، أَيِ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ الْعَالِمُ بِمَا يَلِيق بهم.
[١١٩]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١١٩]
قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْحِوَارِ.
الْوَاوُ فِي: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لِلْعَطْفِ، فَيَكُونُ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ
وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ١٤٠] تَذْكِيرًا بِمِنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِمَا أَنْشَأَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِمَا يَنْفَعُهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سُوءَ تَصَرُّفِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا مَنَّ بِهِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ تَسْفِيهِ آرَائِهِمْ فِي تَحْرِيمِ بَعْضِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، عَطَفَ عَلَيْهِ الْمِنَّةَ بِذَلِكَ اسْتِنْزَالًا بِهِمْ إِلَى إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْغَيِّ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَالِبُ مَا ذُكِرَ فِي نَظِيرَتِهَا الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الْأَنْعَام: ٩٩] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ الْأُولَى الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهُ الصَّانِعُ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ٩٩]، وَعَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَام: ١٠٠] الْآيَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ: الِامْتِنَانُ وَإِبْطَالُ مَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ:
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ وَامْتِنَانٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ الْحَظُّ الْعَظِيمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ حَقِّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ إِذْ لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، أَيْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَا غَيْرُهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَصْرِ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ حَظٌّ فِيهَا، لِإِبْطَالِ مَا جَعَلُوهُ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ من نصيب أنصابهم مَعَ أَنَّ اللَّهَ أَنْشَأَهُ.
وَالْإِنْشَاءُ: الْإِيجَادُ وَالْخَلْقُ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً [الْوَاقِعَة: ٣٥] أَيْ نِسَاءَ الْجَنَّةِ.
بِشَدَائِدِ الْمَوْتِ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْهَبُونَهُ. وَالرُّسُلُ هُمُ الْمَلَائِكَةُ قَالَ
تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السَّجْدَة: ١١]- وَقَالَ- وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ [الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ: يَتَوَفَّوْنَهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ رُسُلُنا وَهِيَ حَالٌ مُعَلِّلَةٌ لِعَامِلِهَا، كَقَوْلِهِ: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ [الْأَعْرَاف: ٦١، ٦٢] أَيْ رَسُولٌ لِأُبَلِّغَكُمْ وَلِأَنْصَحَ لَكُمْ.
وَالتَّوَفِّي نَزْعُ الرُّوحِ مِنَ الْجَسَدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٥٥] وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَلَا جَدْوَى فِي حَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، مِمَّا تَرَدَّدَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ، إِلَّا أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى مَعْنَى الْغَايَةِ لِحَرْفِ (حَتَّى) فَتَوَفِّي الرُّسُلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ أَنْ يَتَوَفَّوْهُمْ جَمِيعًا، إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الْكِتَابِ الِاسْتِئْصَالَ، أَيْ حِينَ تُبْعَثُ طَوَائِفُ الْمَلَائِكَةِ لِإِهْلَاكِ جَمِيعِ أُمَّةِ الشِّرْكِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكون المُرَاد حَتَّى يَتَوَفَّوْنَ آحَادَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنَّصِيبِ مِنَ الْكِتَابِ وَعِيدَ الْعَذَابِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْزِيعُ أَيْ قَالَ كُلُّ مَلَكٍ لِمَنْ وُكِّلَ بِتَوَفِّيهِ، عَلَى طَرِيقَةِ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
وَقَدْ حُكِيَ كَلَامُ الرُّسُلِ مَعَهُمْ وَجَوَابُهُمْ إِيَّاهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، لِأَنَّ وُجُودَ ظَرْفِ الْمُسْتَقْبَلِ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّأْيِيسِ.
وَ (مَا) الْوَاقِعَةُ بَعْدَ أَيْنَ مَوْصُولَةٌ، يَعْنِي: أَيْنَ آلِهَتُكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْفَعُونَكُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَيَرُدُّونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَحْضُرُوكُمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَشْهَدُونَ الْعَذَابَ عِنْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، فَقَدْ جَاءَ
ثُمَّ قَالَ، بَعْدَ ذَلِكَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي فَهُمَا كَلَامَانِ مُتَعَاقِبَانِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَأَنَّ مَا فِي سُورَةِ طَهَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ بِهِ هَارُونُ، لِأَنَّهُ كَانَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ مُوسَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه: ٩٢، ٩٣].
وَاخْتِيَارُ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ لِتَضَمُّنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَعْنَى التَّذْكِيرِ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، لِأَنَّ إِخْوَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ أَوَاصِرِ الْقَرَابَةِ لِاشْتِرَاكِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِلْفِ مِنْ وَقْتِ الصِّبَا وَالرَّضَاعِ.
وَفَتْحُ الْمِيمِ فِي ابْنَ أُمَّ قِرَاءَةُ نَافِعٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى أُمٍّ أَوْ عَمٍّ، وَذَلِكَ بِحَذْفِ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَتَعْوِيضِ أَلْفٍ عَنْهَا فِي آخِرِ الْمُنَادَى، ثُمَّ يُحْذَفُ ذَلِكَ الْأَلِفُ تَخْفِيفًا، وَيَجُوزُ بَقَاءُ كَسْرَةِ الْمِيمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ أَيْضًا، وَبِهَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٍ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْأُمِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٣].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِتَحْقِيقِهِ لَدَى مُوسَى، لِأَنَّهُ بِحَيْثُ يَتَرَدَّدُ فِيهِ قَبْلَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَالتَّأْكِيدُ يَسْتَدْعِيهِ قَبُولُ الْخَبَرِ لِلتَّرَدُّدِ مِنْ قِبَلِ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ، أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مِنْ حَالِ قَوْمِهِ، وَكَانَتْ حَالُهُمْ دُونَ ذَلِكَ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي اسْتَضْعَفُونِي لِلْحُسْبَانِ أَيْ حَسِبُونِي ضَعِيفًا لَا نَاصِرَ لي، لأَنهم تمالؤوا عَلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ إِلَّا هَارُونُ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَارَضَهُمْ مُعَارَضَةً شَدِيدَةً ثُمَّ سَلَّمَ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.
وَالتَّفْرِيعُ فِي قَوْلِهِ: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ تَفْرِيعٌ عَلَى تَبَيُّنِ عُذْرِهِ فِي إِقْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَ مِنْ أَخِيهِ الْكَفَّ عَنْ عِقَابِهِ الَّذِي يَشْمَتُ بِهِ الْأَعْدَاءُ لِأَجْلِهِ، وَيَجْعَلُهُ مَعَ عِدَادِ الظَّالِمِينَ فَطَلَبُ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعِقَابِ.
وَالشَّمَاتَةُ: سُرُورُ النَّفْسِ بِمَا يُصِيبُ غَيْرَهَا مِنَ الْأَضْرَارِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ. وَفِعْلُهَا قَاصِرٌ كَفَرِحَ، وَمَصْدَرُهَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، وَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِالْبَاءِ يُقَالُ: شَمِتَ بِهِ: أَيْ: كَانَ شَامِتًا بِسَبَبِهِ، وَأَشْمَتَهُ بِهِ جَعَلَهُ شَامِتًا بِهِ، وَأَرَادَ بِالْأَعْدَاءِ
وَهُوَ مُقَابِلٌ لِلتَّمْثِيلِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَذْيِيلٌ أُرِيدَ بِهِ حَثُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ بِالسُّوءِ لِلَّذِينَ يُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ، فَالْمَعْنَى اغْفِرُوا لَهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُمْ وَهُوَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أَوِ اقْتَدُوا بِفِعْلِ اللَّهِ إِذْ غَفَرَ لَهُمْ مَا فَرَطَ مِنْهُم كَمَا تعلمُونَ فَكُونُوا أَنْتُمْ بِتِلْكَ الْمَثَابَةِ فِي الْإِغْضَاءِ عمّا مضى.
[٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: فَإِنْ تابُوا [التَّوْبَة: ٥] لِتَفْصِيلِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٥] لِتَخْصِيصِ عُمُومِهِ، أَيْ إِلَّا مُشْرِكًا اسْتَجَارَكَ لِمَصْلَحَةٍ لِلسِّفَارَةِ عَنْ قَوْمِهِ أَوْ لِمَعْرِفَةِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. وَصِيغَ الْكَلَامُ بِطَرِيقَةِ الشَّرْطِ لِتَأْكِيدِ حُكْمِ الْجَوَابِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أنّ الشَّأْن أَنْ تَقَعَ الرَّغْبَةُ فِي الْجِوَارِ مِنْ جَانِبِ الْمُشْرِكِينَ.
وَجِيءَ بِحِرَفِ إِنْ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يَكُونَ شَرْطُهَا نَادِرَ الْوُقُوعِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطٌ فَرْضِيٌّ لِكَيْلَا يَزْعُمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ لِقَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَّخِذُوهُ عُذْرًا
لِلِاسْتِمْرَارِ عَلَى الشِّرْكِ إِذَا غَزَاهُمُ الْمُسْلِمُونَ.
وَوَقَعَ فِي «تَفْسِيرِ الْفَخْرِ» أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ الرَّسُولَ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذَا الْأَجَلِ لِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى فَهَلْ نُقْتَلُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ
. أَيْ فَأَمِّنْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ إِلَخْ، شَرْطٌ فَرْضِيٌّ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ مَقَالَةَ هَذَا الرَّجُلِ وَقَعَتْ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْوِيَّ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَجِيءَ بِلَفْظِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ دُونَ لَفْظِ مُشْرِكٍ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى عُمُومِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ مِثْلُهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ- إِذَا لَمْ تُبْنَ عَلَى الْفَتْحِ احْتَمَلَتْ إِرَادَةَ
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جِدًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدُوا بِهِ الِاسْتِهْزَاءَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَقَدْ أَمر الله نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ بِمَا يُقْلِعُ شُبْهَتَهُمْ مِنْ نُفُوسِهِمْ إِنْ كَانُوا جَادِّينَ، أَوْ مِنْ نُفُوسِ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ دَهْمَائِهِمْ فَيَحْسَبُوا كَلَامَهُمْ جِدًّا فَيَتَرَقَّبُوا تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ إِلَى النَّاسِ الْمُرَادِ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ أَوْ رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: ٧].
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: إِذا تُتْلى عَلَى عَامِلِهِ وَهُوَ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا
لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي تُتْلَى فِيهِ الْآيَاتُ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلَ تَعْجِيبًا مِنْ كَلَامِهِمْ وَوَهَنِ أَحْلَامِهِمْ.
وَلِكَوْنِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ فِعْلًا مَاضِيًا عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا وَاقِعٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَكَانَتْ إِضَافَةُ الظَّرْفِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلُهَا مُضَارِعٌ وَهُوَ تُتْلى دَالَّةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُضَارِعَ لَمْ يُرَدْ بِهِ الْحَالُ أَوِ الِاسْتِقْبَالُ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي وَاقِعًا فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ اجْتِلَابَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّكَرُّرِ وَالتَّجَدُّدِ، أَيْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كُلَّمَا تُتْلَى عَلَيْهِم الْآيَات.
وَمَا صدق الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا هُوَ مَا صدق الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: (عَلَيْهِمْ)، فَكَانَ الْمَقَامُ لِلْإِضْمَارِ، فَمَا كَانَ الْإِظْهَارُ بِالْمَوْصُولِيَّةِ إِلَّا لِأَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ اشْتَهَرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَصَارَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ كَالْعَلَمِ عَلَيْهِمْ. كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: ٧]، وَلَيْسَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ هُنَا عَلَاقَةُ تَعْلِيلٍ فَلَا يَكُونُ الْمَوْصُولُ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ.
وَلَمَّا كَانَ لِاقْتِرَاحِهِمْ مَعْنًى صَرِيحٌ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ أَوْ تَبْدِيلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمَوْجُودِ، وَمَعْنًى الْتِزَامِيٌّ كِنَائِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ، كَانَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ جَوَابَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مَا لَقَّنَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:
فَحُكِيَ ذَلِكَ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَدَاءً لِمَعْنَى كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي الْكَلْدَانِيَّةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قالَ سَلامٌ- بِفَتْحِ السِّينِ وَبِأَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ-. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخلف: قالَ سَلامٌ- بِكَسْرِ السِّينِ وَبِدُونِ أَلْفٍ بَعْدِ اللَّامِ- وَهُوَ اسْمُ الْمُسَالَمَةِ. وَسُمِّيَتْ بِهِ التَّحِيَّةُ كَمَا سُمِّيَتْ بِمُرَادِفِهِ (سَلَامٌ) فَهُوَ مِنْ بَابِ اتِّحَادِ وَزْنِ فَعَّالٍ وَفِعْلٍ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ مِثْلَ: حَرَامٌ وَحَرْمٌ، وَحَلَالٌ وَحَلٌّ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَما لَبِثَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْقِيبِ إِسْرَاعًا فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَتَعْجِيلِ الْقِرَى سُنَّةٌ عَرَبِيَّةٌ: ظَنَّهُمْ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- نَاسًا فَبَادَرَ إِلَى قِرَاهِمْ.
وَاللُّبْثُ فِي الْمَكَانِ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ عَنْهُ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ. وأَنْ جاءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلَ لَبِثَ، أَيْ فَمَا لَبِثَ مَجِيئُهُ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، أَيْ فَمَا أَبْطَأَ مَجِيئُهُ مُصَاحِبًا لَهُ، أَيْ بَلْ عَجَّلَ. وَيَجُوزُ جَعْلُ فَاعِلِ لَبِثَ ضَمِيرُ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَيُقَدَّرُ جَارٌّ لِ جاءَ.
وَالتَّقْدِيرُ: فَمَا لَبِثَ بِأَنْ جَاءَ بِهِ. وَانْتِفَاءُ اللُّبْثِ مُبَالَغَةٌ فِي الْعَجَلِ.
وَالْحَنِيذُ: الْمَشْوِيُّ، وَهُوَ المحنوذ. وَالشَّيْء أَسْرَعُ مِنَ الطَّبْخِ، فَهُوَ أَعْوَنُ عَلَى تَعْجِيلِ إِحْضَارِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ.
وَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ أَشَدُّ فِي عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ (لَا تَتَنَاوَلُهُ).
وَيُقَالُ: نَكِرَ الشَّيْءَ إِذَا أَنْكَرَهُ أَيْ كَرِهَهُ.
وَإِنَّمَا نَكِرَهُمْ لِأَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ إِمْسَاكَهُمْ عَنِ الْأَكْلِ لِأَجْلِ التَّبَرُّؤِ مِنْ طَعَامِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ فِي عَادَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا كَانَ النَّازِلُ بِالْبَيْتِ يُضْمِرُ شَرًّا لِمُضِيفِهِ، لِأَنَّ أَكْلَ طَعَامِ الْقِرَى كَالْعَهْدِ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ الْأَذَى، لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ، فَإِذَا انْكَفَّ أَحَدٌ عَنْ تَنَاوُلِ الْإِحْسَانِ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الْمُسَالَمَةَ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ كَفُورًا لِلْإِحْسَانِ.
شُبِّهَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي بِهِ الْهُدَى مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ النَّفْعُ وَالْحَيَاةُ مِنَ السَّمَاءِ. وَشُبِّهَ وُرُودُ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ بِالسَّيْلِ يَمُرُّ عَلَى مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ فَهُوَ يَمُرُّ عَلَى التِّلَالِ وَالْجِبَالِ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَمْضِي إِلَى الْأَوْدِيَةِ وَالْوِهَادِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلٌّ بِقَدْرِ سَعَتِهِ. وَتِلْكَ السُّيُولُ فِي حَالِ نُزُولِهَا تَحْمِلُ فِي أَعَالِيهَا زَبَدًا، وَهُوَ رَغْوَةُ الْمَاءِ الَّتِي تَرْبُو
وَتَطْفُو عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَيَبْقَى الْمَاءُ الْخَالِصُ الصَّافِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ لِلشَّرَابِ وَالسَّقْيِ.
ثُمَّ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ نُزُولِ الْآيَاتِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاظِ النَّظَرِ فِيهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ دَخَلَ الْإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَيَمُرُّ عَلَى قُلُوبِ قَوْمٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ الْمُعْرِضُونَ، وَيُخَالِطُ قُلُوبَ قَوْمٍ فَيَتَأَمَّلُونَهُ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا يُثِيرُ لَهُمْ شُبُهَاتٍ وَإِلْحَادًا. كَقَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمِنْهُ الْأَخْذُ بِالْمُتَشَابِهِ قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [سُورَة آل عمرَان: ٧].
شُبِّهَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِهَيْئَةِ نُزُولِ الْمَاءِ فَانْحِدَارُهُ عَلَى الْجِبَالِ وَالتِّلَالِ وَسَيَلَانُهُ فِي الْأَوْدِيَةِ عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرِهَا، ثُمَّ مَا يَدْفَعُ مِنْ نَفْسِهِ زَبَدًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الزَّبَدُ أَنْ ذَهَبَ وَفَنِيَ وَالْمَاءُ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ لِلنَّفْعِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْبِيهَ بِالْهَيْئَةِ كُلِّهَا جِيءَ فِي حِكَايَةِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْعَطْفِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: فَسالَتْ وَقَوْلِهِ: فَاحْتَمَلَ فَهَذَا تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِتَجْزِئَةِ التَّشْبِيهَاتِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ التَّمْثِيلِ.
وَعَلَى نَحْوِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَتَفْسِيرِهِ جَاءَ مَا يُبَيِّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ الَّذِي
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقُوا
أَوَّلًا وَثَالِثًا يَرْجِعُ إِلَى مَا نَجَمَ مِنَ الْأَرْضِ، فَجَمِيعُهُ آيَةٌ وَاحِدَةٌ تَابِعَةٌ لِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِيهِ (أَيْ وَهُوَ كُلُّهُ ذُو حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَالَةُ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ فِي الْأَوَّلِ وَحَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الذَّرْءِ فِي التَّنَاسُلِ فِي الْحَيَوَانِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ) وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا نِظَامٌ يَخُصُّهُ وَدَلَائِلُ تُخَالِفُ دَلَائِلَ غَيْرِهِ، فَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ مَجْمُوعُ آيَاتٍ (أَيْ لِأَنَّ بَعْضَهَا أَعْرَاضٌ كَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبَعْضَهَا أَجْرَامٌ لَهَا أَنْظِمَةٌ مُخْتَلِفَةٌ ودلالات مُتعَدِّدَة).
[١٣]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
عَطْفٌ عَلَى اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [سُورَة النَّحْل: ١٢]، أَيْ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وأومئ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ مِنَّةٍ بِقَوْلِهِ لَكُمْ.
وَالذَّرْءُ: الْخَلْقُ بِالتَّنَاسُلِ وَالتَّوَلُّدُ بِالْحَمْلِ وَالتَّفْرِيخِ، فَلَيْسَ الْإِنْبَاتُ ذَرْءًا، وَهُوَ شَامِلٌ لِلْأَنْعَامِ وَالْكُرَاعِ (وَقَدْ مَضَتِ الْمِنَّةُ بِهِ) وَلِغَيْرِهَا مِثْلِ كِلَابِ الصَّيْدِ وَالْحِرَاسَةِ، وَجَوَارِحِ الصَّيْدِ، وَالطُّيُورِ، وَالْوُحُوشِ الْمَأْكُولَةِ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ.
وَزِيدَ هُنَا وَصْفُ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ وَهُوَ زِيَادَةٌ لِلتَّعْجِيبِ وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الِامْتِنَانِ، فَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: تسقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [٢٧]. وَبِذَلِكَ صَارَ هَذَا آيَةً مُسْتَقِلَّةً فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، وَلِكَوْنِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ اخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ مَعَ اتِّحَادِ أَصْلِ الذَّرْءِ أُفْرِدَتِ الْآيَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً.
وَوَصْفُ الْحِجَابِ بِالْمَسْتُورِ مُبَالَغَةٌ فِي حَقِيقَةِ جِنْسِهِ، أَيْ حِجَابًا بَالِغًا الْغَايَةَ فِي حَجْبِ مَا يَحْجُبُهُ هُوَ حَتَّى كَأَنَّهُ مَسْتُورٌ بِسَاتِرٍ آخَرَ، فَذَلِكَ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: جَعَلْنَا حِجَابًا فَوْقَ حِجَابٍ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً [الْفرْقَان: ٢٢].
أَوْ أُرِيدَ أَنَّهُ حِجَابٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْحُجُبِ الْمَعْرُوفَةِ فَهُوَ حِجَابٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ وَلَكِنَّهَا تَرَى آثَارَ أَمْثَالِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ نَفَرًا هَمُّوا الْإِضْرَار بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ حَدَثَ لَهُ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَمِّهِ وَكفى الله نبيئه شَرَّهُمْ، قَالَ تَعَالَى:
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [الْبَقَرَة: ١٣٧] وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي أَخْبَارِ السِّيرَةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ حِجاباً ومَسْتُوراً مِنَ الْبَدِيعِ الطِّبَاقُ.
[٤٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤٦]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً
عَطْفُ جَعَلَ عَلَى جَعَلَ.
وَالتَّصْرِيحُ بِإِعَادَةِ فِعْلِ الْجَعْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ هَذَا جَعْلٌ آخَرُ فَيُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ جَعْلُ الْحِجَابِ الْمَسْتُورِ جَعْلَ الصِّرْفَةِ عَنِ الْإِضْرَارِ، وَيَكُونُ هَذَا جَعْلَ عَدَمِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ خِلْقَةً فِي نُفُوسِهِمْ. وَالْقَوْلُ فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعَانِيهَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ آثَارِ وَسْوَسَتِهِ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِصْيَانِ لِلرَّبِّ الْوَاسِعِ الرَّحْمَةِ. وَذِكْرُ وَصْفِ عَصِيًّا الَّذِي هُوَ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْعِصْيَانِ مَعَ زِيَادَةِ فِعْلِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُ عِصْيَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا يُنَافِي الرَّحْمَةَ، أَيْ بِمَا يُفْضِي إِلَى النِّقْمَةِ، وَلِذَلِكَ اختير وصف الرحمان مِنْ بَيْنِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تُوجِبُ غَضَبَ اللَّهِ فَتُفْضِي إِلَى الْحِرْمَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يُتْبَعَ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الشَّيْطَانِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّه كَانَ للرحمان عَصِيًّا، لِإِيضَاحِ إِسْنَادِ الْخَبَرِ إِلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَلِزِيَادَةِ التَّنْفِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ صَرِيحِ اسْمِهِ تَنْبِيهًا إِلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ، وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مَوْعِظَةً قَائِمَةً بِنَفْسِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى يَا أَبَتِ قَرِيبا.
[٤٥]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٤٥]
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
لَا جَرَمَ أَنَّهُ لما قرر لَهُ أَنَّ عِبَادَتَهُ الْأَصْنَامَ اتِّبَاعٌ لِأَمْرِ الشَّيْطَان عصيّ الرحمان انْتَقَلَ إِلَى تَوَقُّعِ حِرْمَانِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ، فَحَذَّرَهُ مِنْ عَاقِبَةِ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِفُ الْبَشَرُ فِي مَذَمَّتِهِمْ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يَنْدَمِجُونَ فِيهِمْ عَنْ ضَلَالٍ بِمَآلِ حَالِهِمْ.
وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ أَصْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِمَنْ يَحُلُّ بِهِ هُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَبَّرَ عَنِ الْجَلالَة بِوَصْف الرحمان لِلْإِشَارَةِ إِلَى
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضى عطف دَاوُود وَسُلَيْمَانَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أَيْ عَالِمِينَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَمُقْتَضَى وُقُوعِ الْحُكْمَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، إِذْ إِنَّ الْحُكْمَيْنِ لَمْ يَكُونَا عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهُمَا إِنَّمَا كَانَا عَنْ علم أوتيه دَاوُود وَسُلَيْمَانُ، فَذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالِاجْتِهَادِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ جَوَازِ الِاجْتِهَاد للأنبياء ولنبينا عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَوُقُوعِهِ فِي مُخْتَلِفِ الْمَسَائِلِ.
وَقَدْ كَانَ قَضَاء دَاوُود حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى غُرْمِ الْأَضْرَارِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِينَ فِي إِهْمَالِ الْغَنَمِ، وَأَصْلُ الْغُرْمِ أَنْ يَكُونَ تَعْوِيضًا نَاجِزًا فَكَانَ ذَلِكَ الْقَضَاءُ حَقًّا. وَحَسْبُكَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فِي إِفْسَادِ الْمَوَاشِي.
وَكَانَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ حَقًّا لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى إِعْطَاءِ الْحَقِّ لِذَوِيهِ مَعَ إِرْفَاقِ الْمَحْقُوقِينَ بِاسْتِيفَاءِ مَالِهِمْ إِلَى حِينٍ فَهُوَ يُشْبِهُ الصُّلْحَ. وَلَعَلَّ أَصْحَابَ الْغَنَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سِوَاهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، وَقَدْ رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِحُكْمِ سُلَيْمَانَ لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْإِنْصَافِ لَا مِنْ أَهْلِ الِاعْتِسَافِ، وَلَوْ لَمْ يَرْضَيَا لَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى حكم دَاوُود إِذْ لَيْسَ الْإِرْفَاقُ بِوَاجِبٍ.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَضَاءُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ بِأَنْ يَمُرَّ الْمَاءُ مِنَ (الْعُرَيْضِ) عَلَى أَرْضِهِ إِلَى أَرْضِ الضَّحَّاكِ بْنِ خَلِيفَةَ وَقَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ، فَفَعَلَ الضَّحَّاكُ.
وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَأَنَّهُمَا يَرْضَيَانِ لِمَا عَزَمَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ قَضَاءُ سُلَيْمَانَ أَرْجَحَ.
وَتُشْبِهُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَالْأَنْصَارِيِّ فِي السَّقْيِ مِنْ مَاءِ شِرَاجِ الْحَرَّةِ إِذْ قَضَى أَوَّلَ مَرَّةٍ بِأَنْ
الدَّلِيلِ. وَمَا يَصِفُونَهُ بِهِ هُوَ مَا اخْتَصُّوا بِوَصْفِهِمُ اللَّهَ بِهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي الْإِلَهِيَّةِ وَمِنْ تَعَذُّرِ الْبَعْثِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي جَرَى فِيهِ غَرَضُ الْكَلَامِ.
وَإِنَّمَا أَتْبَعَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى انْتِفَاءِ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْمُرَادِ بِهِ عُمُومَ الْعِلْمِ وَإِحَاطَتِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَفَادَتْهُ لَامُ التَّعْرِيفِ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ عَالِمُ كُلِّ مَغِيبٍ وَكُلِّ ظَاهِرٍ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اسْتِقْلَالَ كُلِّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ قَدْ لَا يُفْضِي إِلَى عُلُوِّ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مِنَ الْآلِهَةِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَلَكُوتِهِ عَلَى مَلَكُوتِ الْآخَرِ فَلَا يَحْصُلُ عُلُوُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِاشْتِغَالِ كُلِّ إِلَهٍ بِمَلَكُوتِهِ. وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّ الْإِلَهَ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ خَالِقٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا غَيْرُهُ لِئَلَّا تَتَدَاخَلَ الْقُدَرُ فِي مَقْدُورَاتٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا خَلَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ صِفَاتِ الْعِلْمِ لَا تَتَدَاخَلُ، فَإِذَا عَلِمَ أَحَدُ الْآلِهَةِ مِقْدَارَ مَلَكُوتِ شُرَكَائِهِ فَالْعَالِمُ بِأَشَدِّيَّةِ مَلَكُوتِهِ يَعْلُو عَلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَلَكُوتِ. فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّرَكَاءِ، وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَنْهُ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ عالِمِ الْغَيْبِ بِرَفْعِ عالِمِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ مِنَ الْحَذْفِ الشَّائِعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِذَا أُرِيدَ الْإِخْبَارُ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارٌ أَوْ صِفَاتٌ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ بِجَرِّ عالِمِ عَلَى الْوَصْفِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى فَتَعَالَى عَنْ إِشْرَاكِهِمْ، أَيْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ مُشَارِكًا فِي وَصْفِهِ الْعَظِيمِ، أَيْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَن ذَلِك.
[٩٣- ٩٥]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ٩٣ إِلَى ٩٥]
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ
صُوَرًا لِلْأُمَمِ غَيْرَ صُوَرِ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ يَغْزُوهُمْ فِرْعَوْنُ وَيَأْتِي بِأَسْرَاهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ خَاضِعِينَ عَابِدِينَ حَتَّى يُخَيِّلَ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ أُولَئِكَ فَقَدْ كَانَ قَهَّارَ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، وَيُخْفِي أَخْبَارَ انْكِسَارِهِ إِلَّا إِذَا لَحِقَهُ غَلَبٌ عَظِيمٌ مِنْ أُمَّةٍ كُبْرَى بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ إِخْفَاءَهُ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ أُسْلُوبُ التَّارِيخِ عِنْدَهُمْ وَتَنْتَحِلُ الدَّوْلَةُ الْجَدِيدَةُ أَسَالِيبَ الدَّوْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَتَنْسَى حَوَادِثَ الْمَاضِي وَتَغْلِبُ عَلَى
مُخَيَّلَاتِهِمُ الْحَالَةُ الْحَاضِرَةُ، وَلِلدُّعَاةِ وَالْمُرَوِّجِينَ أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي ذَلِكَ. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ بَاعِثُ فِرْعَوْنَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي أَلْقَاهُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَشُوبٌ بِتَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ هَذِهِ الْمُجَادَلَةِ أَنَّ الِاسْتِفْسَارَ مُقَدَّمٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَلِذَلِكَ ابْتَدَأَ فِرْعَوْنُ بِالسُّؤَالِ عَنْ حَقِيقَةِ الَّذِي أَرْسَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ جَوَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانًا لِحَقِيقَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا يَصِيرُ وَصْفُهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ نَصًّا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ مَا أَرَادَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ، فَأَتَى بِشَرْحِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ تَفْصِيلٌ لِمَعْنَاهُ، إِذْ قَالَ: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، فبذكر السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَبِعُمُومِ مَا بَيْنَهُمَا حَصَلَ بَيَانُ حَقِيقَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِ مَا وَمَرْجِعُ هَذَا الْبَيَانِ إِلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِحَقِيقَةِ الرَّبِّ بِخَصَائِصِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْعُقُولُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَنْ يُعْرَفَ بِآثَارِ خَلْقِهِ، فَهُوَ تَعْرِيفٌ رَسْمِيٌّ فِي الِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ.
وَانْتَظَمَ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّؤَالِ بِكَلِمَةِ مَا عَنِ الْجِنْسِ. وَهُوَ جَارٍ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابُ مِنْ كَلَامِ «الْكَشَّافِ»، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَارُ السَّكَّاكِيِّ فِي قَانُونِ الطَّلَبِ مِنْ كِتَابِ «الْمِفْتَاحِ»، وَطَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ تَمَامَ الْمُطَابَقَةِ.
وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَصَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» بِأَنَّ جَوَابَ مُوسَى بِمَا يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ رَبُّ الْعالَمِينَ تَضَمَّنَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى ثَبَاتِ الْخَالِقِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا نَظَرًا يُؤَدِّي إِلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الْمُمْتَازَةِ عَنْ حَقَائِقِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَلِهَذَا أَتْبَعَ بَيَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، أَي إِن كُنْتُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيقَانِ طَالِبِينَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ غَيْرَ مُكَابِرِينَ. وَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ إِيقَانًا لِأَنَّ شَأْنَ الْيَقِينِ
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٣٥]
قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥)اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَيْهِ وَزَادَهُ تَفَضُّلًا بِمَا لَمْ يَسْأَلْهُ فَاسْتِجَابَةُ الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، وَاسْتِجَابَةُ الْأُولَى بِقَوْلِهِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما، وَالتَّفَضُّلُ بِقَوْلِهِ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً، فَأَعْطَى مُوسَى مَا يُمَاثِلُ مَا لِهَارُونَ مِنَ الْمَقْدِرَةِ عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ إِذْ قَالَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُجَجٍ فِي مُجَادَلَةِ فِرْعَوْنَ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَهُنَا وَمَا خَاطَبَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّا حُكِيَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَلَمْ يُحْكَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَارُونَ تَكَلَّمَ بِدَعْوَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى أَنَّ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَحْلُلَ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ كَمَا فِي سُورَةِ طه، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ.
وَالشَّدُّ: الرَّبْطُ، وَشَأْنُ الْعَامِلِ بِعُضْوٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ عَمَلًا مُتْعِبًا لِلْعُضْوِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَفَكَّكَ أَوْ يَعْتَرِيَهُ كَسْرٌ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٤٩] وَقَوْلُهُمْ: فَتَّ فِي عَضُدِهِ، وَجُعِلَ الْأَخُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الرِّبَاطِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُؤَيِّدُهُ بِفَصَاحَتِهِ، فَتَعْلِيقُهُ بِالشَّدِّ مُلْحَقٌ بِبَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِحَالِ إِيضَاحِ حُجَّتِهِ بِحَالِ تَقْوِيَةِ مَنْ يُرِيدُ عَمَلًا عَظِيمًا أَنْ يُشَدَّ عَلَى يَدِهِ وَهُوَ التَّأْيِيدُ الَّذِي شَاعَ فِي مَعْنَى الْإِعَانَةِ وَالْإِمْدَادِ، وَإِلَّا فَالتَّأْيِيدُ أَيْضًا مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَدِ. فَأَصْلُ مَعْنَى (أَيَّدَ) جَعَلَ
يَدًا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ لِإِيجَادِ الْإِعَانَةِ.
وَالسُّلْطَانُ هُنَا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّسَلُّطِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ، أَيْ مَهَابَةً فِي قُلُوبِ الْأَعْدَاءِ وَرُعْبًا مِنْكُمَا كَمَا أَلْقَى عَلَى مُوسَى مُحِبَّةً حِينَ الْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى السُّلْطَانِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٣].
وَفَرَّعَ عَلَى جَعْلِ السُّلْطَانِ فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما أَيْ لَا يُؤْذُونَكُمَا بِسُوءٍ وَهُوَ الْقَتْلُ وَنَحْوُهُ. فَالْوُصُولُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْإِصَابَةِ. وَالْمُرَادُ: الْإِصَابَةُ بِسُوءٍ، بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَقَوْلُهُ بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِآياتِنا مُتَعَلِّقًا
الصَّالِحِ عَنْ ذِكْرِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُهُ، وَلِتَحْرِيضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِئَلَّا يَتَّكِلُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ فَتَفُوتُهُمُ النَّجَاةُ التَّامَّةُ. وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الرّوم: ١٤- ١٦] حَتَّى تَوَهَّمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ.
وَتَقْدِيمُ فَلِأَنْفُسِهِمْ عَلَى يَمْهَدُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ وَلَيْسَ لِلِاخْتِصَاصِ.
ويَمْهَدُونَ يَجْعَلُونَ مِهَادًا، وَالْمِهَادُ: الْفِرَاشُ. مُثِّلَتْ حَالَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ بِحَالِ مَنْ يَتَطَلَّبُ رَاحَة رقاده فيوطىء فِرَاشَهُ وَيُسَوِّيهُ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُ فِي مَضْجَعِهِ مِنَ النُّتُوءِ أَوِ الْيَبْسِ مَا يَسْتَفِزُّ مَنَامه.
وَتَقْدِيم فَلِأَنْفُسِهِمْ عَلَى يَمْهَدُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ قَرِينَةَ عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ وَاضِحَةٌ. وَرَوْعِيَ فِي جَمْعِ ضَمِيرِ يَمْهَدُونَ مَعْنَى مَنْ دُونَ لَفْظِهَا مَعَ مَا تَقْتَضِيهِ الْفَاصِلَةُ مِنْ تَرْجِيحِ تِلْكَ الْمُرَاعَاةِ.
وَيَتَعَلَّقُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بِ يَمْهَدُونَ أَيْ يُمَهِّدُونَ لِعِلَّةٍ أَنْ يَجْزِيَ اللَّهُ إِيَّاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. وَعَدَلَ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ صِلَةِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَنَّ جَزَاءَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ لِتَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي الْأَذْهَانِ، مَعَ التَّنْوِيهِ بِوَصْفِهِمْ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِهِ وَتَقْرِيرِهِ كَمَا أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَقِبَهُ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ.
وَقَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ يُجَازِيهِمْ أَضْعَافًا لِرِضَاهُ عَنْهُمْ وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا اقْتَضَاهُ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ الْمُقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فَحَصَلَ بِقَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تَقْرِيرٌ بَعْدَ تَقْرِيرٍ عَلَى الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا دَلَّ بِصَرِيحِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَزَاءِ بِالْفَضْلِ، وَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ.
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٦٨]
وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨)عَطْفٌ عَلَى جملَة يَقُولُونَ [الْأَحْزَاب: ٦٦] فَهِيَ حَالٌ. وَجِيءَ بِهَا فِي صِيغَةِ الْمَاضِي لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى قَوْلِهِمْ: يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ [الْأَحْزَاب: ٦٦]، فَذَلِكَ التَّمَنِّي نَشَأَ لَهُمْ وَقْتَ أَنْ مَسَّهُمُ الْعَذَابُ، وَهَذَا التَّنَصُّلُ وَالدُّعَاءُ اعْتَذَرُوا بِهِ حِينَ مُشَاهَدَةِ الْعَذَابِ وَحَشْرِهِمْ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ، قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَاف: ٣٨]. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهُمُ الْعَذَابُ بَلْ حِينَ رُصِفُوا وَنُسِقُوا قَبْلَ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ وَيُطْلَقُ إِلَيْهِمْ حَرُّ النَّارِ.
وَالِابْتِدَاءُ بِالنِّدَاءِ وَوَصْفُ الرُّبُوبِيَّةِ إِظْهَارٌ لِلتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ.
وَالسَّادَةُ: جَمْعُ سَيِّدٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَزْنُهُ فَعَلَةٌ، أَيْ مِثْلُ كَمَلَةٍ لَكِنْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَلَةٍ تَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ لَا فِي جَمْعِ فَيْعِلٍ، فَقُلِبَتِ الْوَاو ألفا لَا نفتاحها وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا. وَأَمَّا السَّادَاتُ فَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ وَتَاءٍ بِزِنَةِ جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ.
وَالسَّادَةُ: عُظَمَاءُ الْقَوْمِ وَالْقَبَائِلِ مِثْلُ الْمُلُوكِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سادَتَنا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ سَادَاتِنَا بِأَلْفٍ بَعْدَ الدَّالِّ وَبِكَسْرِ التَّاءِ لِأَنَّهُ جُمِعَ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ مَزِيدَتَيْنِ عَلَى بِنَاءِ مُفْرَدِهِ. وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ الَّذِي هُوَ سَادَةٌ.
وَالْكُبَرَاءُ: جَمْعُ كَبِيرٍ وَهُوَ عَظِيمُ الْعَشِيرَةِ، وَهُمْ دُونَ السَّادَةِ فَإِنَّ كَبِيرًا يُطْلَقُ عَلَى رَأْسِ الْعَائِلَةِ فَيَقُولُ الْمَرْءُ لِأَبِيهِ: كَبِيرِي، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ قَوْلُهُمْ: يَا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الْأَحْزَاب: ٦٦] بِقَوْلِهِمْ: أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا.
وَجُمْلَةُ إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الشِّكَايَةِ وَالتَّذَمُّرِ، وَهُوَ تَمْهِيدٌ لِطَلَبِ الِانْتِصَافِ مِنْ سَادَتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ. فَالْمَقْصُودُ الْإِفْضَاءُ إِلَى جُمْلَةِ رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ. وَمَقْصُودٌ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا الِاعْتِذَارُ وَالتَّنَصُّلُ مِنْ تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مَخْدُوعُونَ، وَهَذَا الِاعْتِذَارُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْطَقَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا
قِرَاءَتِهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ إِنَّا لَمَدِينُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ اكْتِفَاءً بِالِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ على شَرطهَا. وقرأه الْبَاقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ قَوْلَهُ:
هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ الْمَحْكِيَّ بِهَا هُوَ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ إِذْ هُوَ تَكْمِلَةٌ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِقَوْلِهِ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ، عَرَضَ عَلَى رُفَقَائِهِ أَنْ يَتَطَلَّعُوا إِلَى رُؤْيَةِ قَرِينِهِ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ: إِمَّا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ قَرِينَهُ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ سَبَقَهُ بِالْمَوْتِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَنَّ قَرِينَهُ صَارَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ مُوقِنٌ بِأَنَّ خَازِنَ النَّارِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَرِينِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا يَتَسَاءَلُونَ قَالَ تَعَالَى:
وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: ٥٧].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مُطَّلِعُونَ لِدَلَالَةِ آخِرِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ.
فَالتَّقْدِيرُ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ لِنَنْظُرَهُ فِيهِمْ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَاطَّلَعَ اكْتِفَاءٌ، أَي فاطّلع واطّلعوا فَرَآهُ وَرَأَوْهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ إِذْ هُوَ إِنَّمَا عَرَضَ عَلَيْهِمُ الِاطِّلَاعَ لِيَعْلَمُوا تَحْقِيقَ مَا حَدَّثَهُمْ عَنْ قَرِينِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اطِّلَاعِهِ هُوَ دُونَ ذِكْرِ اطِّلَاعِ رُفَقَائِهِ لِأَنَّهُ ابْتَدَأَ بِالِاطِّلَاعِ لِيُمَيِّزَ قَرِينَهُ فَيُرِيَهُ لِرُفَقَائِهِ.
وسَواءِ الْجَحِيمِ وَسَطُهَا قَالَ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسٍ:
عَضْبًا أَصَابَ سَوَاءَ الرَّأْسِ فَانْفَلَقَا وَجُمْلَةُ قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ وَصْفَ هَذِهِ الْحَالَةِ
يُثِيرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ أَنْ يَسْأَلَ: فَمَاذَا حَصَلَ حِينَ اطَّلَعَ؟ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ حِينَ رَأَى قَرِينَهُ أَخَذَ يُوَبِّخُهُ عَلَى مَا كَانَ يحاوله مِنْهُ حَتَّى كَادَ أَنْ يُلْقِيَهُ فِي النَّارِ مِثْلَهُ. وَهَذَا التَّوْبِيخُ يَتَضَمَّنُ تَنْدِيمَهُ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِرْجَاعِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ.
وَالْقَسَمُ بِالتَّاءِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا جَوَابُ قَسَمِهِ غَرِيبٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٧٣]، وَقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٥٧]. وَمَحَلُّ الْغَرَابَةِ هُوَ خَلَاصُهُ مِنْ شَبَكَةِ قَرِينِهِ وَاخْتِلَافُ
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٠]
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِجُمْلَةِ يَقْضِي بِالْحَقِّ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩] فَيُقَالُ: وَيَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِي الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْعَارِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
[الرَّعْد: ٤١]. وَلِيَحْصُلَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ تَقَوِّي الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
[الْأَنْفَال: ٣٦] أُعِيدَ الْمَوْصُولُ وَلَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ تَقَوِّي الْحُكْمِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ إِلَيْهِ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩] كَمَا تَقَدَّمَ، وَكِلْتَاهُمَا نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: ١٨] أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فَنَاظِرَةٌ إِلَى جُمْلَةِ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: ١٨] فَبَعْدَ أَنْ نُفِيَ عَنْ أَصْنَامِهِمُ الشَّفَاعَةُ، نُفِيَ عَنْهَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مَا بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِعَجْزِهَا. وَلَا تَحْسَبَّنَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ مَسُوقَةً ضَمِيمَةً إِلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لِيُفِيدَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أُفِيدَ الْقَصْرُ مِنْ ضَمِّ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قَول السموأل أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا | وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ |
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤].
عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْمِلْ جَانِبَ رَدْعِ الظَّالِمِ فَأَنْبَأَ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُ بِمَحَلٍّ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَا يَنْحَصِرُ مَا فِي طَيِّ هَذَا مِنْ هَوْلِ الْوَعِيدِ.
وَتَنْشَأُ عَلَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ غَرَّاءُ تَجَاذَبَتْهَا أَنْظَارُ السَّلَفِ بِالِاعْتِبَارِ، وَهِيَ:
تَحْلِيلُ الْمَظْلُومِ ظَالِمَهُ مِنْ مَظْلِمَتِهِ. قَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي «الْأَحْكَامِ» : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: لَا أُحَلِّلُ أَحَدًا، فَقَالَ: ذَلِكَ يَخْتَلِفُ. فَقُلْتُ: الرَّجُلُ يُسَلِّفُ الرَّجُلَ فَيَهْلِكُ وَلَا وَفَاءَ لَهُ قَالَ: أَرَى أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: ١٨]، وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ فَقِيلَ لَهُ: الرَّجُلُ يَظْلِمُ الرَّجُلَ، فَقَالَ: لَا أَرَى ذَلِكَ، وَهُوَ عِنْدِي مُخَالِفٌ لِلْأَوَّلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشورى: ٤٢]، وَيَقُولُ تَعَالَى:
مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١] فَلَا أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ مِنْ ظُلْمِهِ فِي حِلٍّ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: لَا يُحَلِّلُهُ بِحَالٍ قَالَه ابْنُ الْمُسَيَّبِ. وَالثَّانِي: يُحَلِّلُهُ، قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ، زَادَ الْقُرْطُبِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ مَالًا حَلَّلَهُ وَإِنْ كَانَ ظُلْمًا لَمْ يُحَلِّلْهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ: أَنْ لَا يُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَكُونَ كَالتَّبْدِيلِ لِحُكْمِ اللَّهِ.
وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنه حَقه لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ.
وَوَجْهُ الثَّالِثِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَلَبَ عَلَى حَقِّكَ فَمِنَ الرِّفْقِ بِهِ أَنْ تُحَلِّلَهُ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَمِنَ الْحَقِّ أَنْ لَا تَتْرُكَهُ لِئَلَّا يَغْتَرَّ الظَّلَمَةُ وَيَسْتَرْسِلُوا فِي أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ.
وَذَكَرَ حَدِيثَ مُسْلِمٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي لِطَلَبِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَنَا أَبُو الْيُسْرِ صَاحِبُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ أَبِي: أَرَى فِي وَجْهِكَ سِنْعَةً مَنْ غَضَبٍ فَقَالَ: أَجَلْ كَانَ لِي عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَقُلْتُ: أَثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا:
الْمَدِينَةِ اشْتَدَّ تَعَهُّدُ أَهْلِ مَكَّةَ لِأَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ لِيَتَطَلَّعُوا أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّهُمْ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ كَانُوا يَكِيدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلثَّأْرِ مِنْهُمُ الَّذِي أَنْجَزُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وَإِمَّا الْيَهُودُ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ فَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ [الْحَشْر: ١١].
فَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَحْمَلِ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: ٢٥] إِفْشَاءُ بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَإِشْعَارُهُمْ بِوَفْرَةِ عَدَدِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْقِتَالَ. وَالْمُرَادُ بِ بَعْضِ الْأَمْرِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي بَعْضُ أَمْرِ الْقِتَالِ، يَعْنُونَ تِلْكَ الْمَكِيدَةُ الَّتِي دَبَّرُوهَا لِلِانْخِزَالِ عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْأَمْرُ هُوَ: شَأْنُ الشِّرْكِ وَمَا يُلَائِمُ أَهْلَهُ، أَيْ نُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْكُفْرِ وَلَا نُطِيعُكُمْ فِي جَمِيع الشؤون لِأَنَّ ذَلِكَ يَفْضَحُ نِفَاقَهُمْ، أَوِ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا تَأْمُرُونَنَا بِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُمْ قَالُوا ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ سِرًّا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ إِسْرارَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ سِرٍّ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مصدر أسرّ.
[٢٧]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٢٧]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
الْفَاءُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ [مُحَمَّد: ٢٥] الْآيَةَ وَمَا بَيْنَهُمَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ [مُحَمَّد: ٢٥] بِنَاءً عَلَى الْمَحْمَلِ الْأَوَّلِ لِلِارْتِدَادِ فَيَكُونُ التَّفْرِيعُ لِبَيَانِ مَا سَيَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ اسْتِهْلَالٌ لِمَا يَتَوَاصَلُ مِنْ عَذَابِهِمْ عَنْ مَبْدَأِ الْمَوْتِ إِلَى اسْتِقْرَارِهِمْ فِي الْعَذَابِ الْخَالِدِ.
التَّوَلِّي عَنِ الذِّكْرِ فَحُقَّ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ إِعْرَاضًا عَنْهُمْ فَإِنَّ الْإِعْرَاضَ وَالتَّوَلِّيَ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَقَارِبَانِ فَالْمُرَادُ بِ مَنْ تَوَلَّى الْفَرِيقُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ آنِفًا بِقَوْلِهِ: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النَّجْم: ٢] وَقَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم:
١٩] وَالْمُخْبَرُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النَّجْم: ٢٨] إِلَخْ وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [النَّجْم: ٢٧] إِلَخْ.
وَالْإِعْرَاضُ وَالتَّوَلِّي كِلَاهُمَا مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي مَجَازِهِ فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِتَرْكِ الْمُجَادَلَةِ أَوْ لِتَرْكِ الِاهْتِمَامِ بِسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَغَضَبِ اللَّهِ، وَأَمَّا التَّوَلِّي فَهُوَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الِاسْتِمَاعِ أَوْ لِعَدَمِ الِامْتِثَالِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِعْرَاضِ: لَفْتُ الْوَجْهِ عَنِ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَارِضِ وَهُوَ صَفْحَةُ الْخَدِّ لِأَنَّ الْكَارِهَ لِشَيْءٍ يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ.
وَحَقِيقَةُ التَّوَلِّي: الْإِدْبَارُ وَالِانْصِرَافُ، وَإِعْرَاضُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُرَادٌ بِهِ عَدَمُ الِاهْتِمَامِ بِنَجَاتِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوا الْإِرْشَادَ وَإِلَّا فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِإِدَامَةِ دَعَوْتِهِمْ لِلْإِيمَانِ فَكَمَا كَانَ يَدْعُوهُمْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَدْ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ بَعْدَ نُزُولِهَا، عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَخْتَصُّ بِهِمْ فَإِنَّهَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَمَنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إِعْرَاضٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ يَسْمَعُونَ مَا أُنْذِرَ بِهِ الْمُعْرِضُونَ وَيَتَأَمَّلُونَ فِيمَا تَصِفُهُمْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بِالْمُتَارَكَةِ وَلَا هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ الْقِتَالِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٦٣] وَقَوْلِهِ: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٦]، فَضُمَّ إِلَيْهِ مَا هُنَا.
وَمَا صدق مَنْ تَوَلَّى الْقَوْمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا وَإِنَّمَا جَرَى الْفِعْلُ عَلَى صِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ مَنْ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ.
وَجِيءَ بِالِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فَقِيلَ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا دُونَ: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ عِلَّةِ الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَمِنْ تَرَتُّبِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَبَقَ وَصْفُهُ مِنْ ضَلَالِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وَصْفُهُمْ بِالتَّوَلِي عَنِ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ أَسْبَابِهِ.
وَالْخُشُوعُ: التَّطَأْطُؤُ وَالرُّكُوعُ، أَيْ لَرَأَيْتَهُ يَنْزِلُ أَعْلَاهُ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالتَّصَدُّعُ: التَّشَقُّقُ، أَيْ لَتَزَلْزَلَ وَتَشَقَّقَ مِنْ خَوْفِهِ اللَّهَ تَعَالَى.
وَالْخِطَابُ فِي لَرَأَيْتَهُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْكَلَامَ وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَهِيَ مَنْفِيَّةٌ لِوِقُوعِهَا جَوَابًا لِحَرْفِ لَوْ الِامْتِنَاعَيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَرَأَيْتَ الْجَبَلَ فِي حَالَةِ الْخُشُوعِ وَالتَّصَدُّعِ.
وَجُمْلَةُ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا سِيقَ مَسَاقَ الْمَثَلِ فَذُيِّلَ بِأَنَّ الْأَمْثَالَ الَّتِي يَضْرِبُهَا اللَّهُ فِي كَلَامِهِ مِثْلُ الْمَثَلِ أَرَادَ مِنْهَا أَنْ يَتَفَكَّرُوا فَإِنْ لَمْ يَتَفَكَّرُوا بِهَا فَقَدْ سُجِّلَ عَلَيْهِمْ عِنَادُهُمْ وَمُكَابَرَتُهُمْ، فَالْإِشَارَةُ بِتِلْكَ إِلَى مَجْمُوعِ مَا مَرَّ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنَ الْأَمْثَالِ الْكَثِيرَةِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: ضَرَبْنَا هَذَا مَثَلًا، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ سَوْقُهُ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ الضَّرْبَ بِمَعْنَى الْوَضْعِ كَمَا يُقَالُ: ضَرَبَ بَيْتًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢٦].
[٢٢]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ٢٢]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢)
لَمَّا تَكَرَّرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ وَضَمَائِرِهِ وَصِفَاتِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً مِنْهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بِذِكْرِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَسِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً بِذِكْرِ ضَمِيرِهِ الظَّاهِرِ، أَوْ صِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ. وَكَانَ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ دَلَائِلُ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبَدِيعِ تَصَرُّفِهِ وحكمته.
وَكَانَ مِمَّا حَوَتْهُ السُّورَةُ الِاعْتِبَارُ بِعَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ إِذْ أيد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَنَصَرَهُمْ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ ذَلِكَ النَّصْرَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، وَذَكَرَ مَا حَلَّ بِالْمُنَافِقِينَ أَنْصَارِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقُوبِلَ ذَلِكَ بِالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّه وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ نَصَرُوا الدِّينَ، ثُمَّ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْجَزَاءِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِمْ، وَخَتْمُ ذَلِكَ
وَالتَّسْخِيرُ: الْغَصْبُ عَلَى عَمَلٍ وَاسْتُعِيرَ لِتَكْوِينِ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ تَكْوِينًا مُتَجَاوِزًا الْمُتَعَارَفَ فِي قُوَّةِ جِنْسِهَا فَكَأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَيْهِ.
وَعُلِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى أرسلها.
و (حسوم) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَاسِمٍ مِثْلُ قُعُودٍ جَمْعُ قَاعِدٍ، وَشُهُودٍ جَمْعُ شَاهِدٍ، غُلِّبَ فِيهِ الْأَيَّامُ عَلَى اللَّيَالِي لِأَنَّهَا أَكْثَرُ عَدَدًا إِذْ هِيَ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ وَهَذَا لَهُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يُتَابِعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، أَيْ لَا فَصْلَ بَيْنِهَا كَمَا يُقَالُ: صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ زُرَارَةَ الْكِلَابِيُّ (١) :
فَفَرَّقَ بَيْنَ بَيْنِهِمُ زَمَانٌ | تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُومُ |
الْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَسْمِ وَهُوَ الْقَطْعُ، أَيْ حَاسِمَةً مُسْتَأْصِلَةً. وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّيْفُ حُسَامًا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ، أَيْ حَسَمَتْهُمْ فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ صِفَةٌ لِ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ أَوْ حَالٌ مِنْهَا.
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُسُومٌ مَصْدَرًا كَالشُّكُورِ وَالدُّخُولِ فَيَنْتَصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ وَعَامِلُهُ سَخَّرَها، أَيْ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ لْاسْتِئْصَالِهِمْ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَالِحٌ لِأَنْ يُذْكَرَ مَعَ هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَإِيثَارُ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ تَمَامِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ.
وَقَدْ سَمَّى أَصْحَابُ الْمِيقَاتِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيَّامًا ثَمَانِيَةً مُنَصَّفَةً بَيْنَ أَوَاخِرِ فَبْرَايِرَ وَأَوَائِلِ مَارِسَ مَعْرُوفَةٌ فِي عَادَةِ نِظَامِ الْجَوِّ بِأَنْ تَشْتَدَّ فِيهَا الرِّيَاحُ غَالِبًا، أَيَّامَ الْحُسُومِ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا تُقَابِلُ أَمْثَالَهَا مِنَ الْعَامِ الَّذِي أُصِيبَتْ فِيهِ عَادٌ بِالرِّيَاحِ، وَهُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي رَصَدَ تِلْكَ الْأَيَّامَ.
_________
(١) شَاعِر من شعراء صدر الدولة الأموية، كَانَ لِأَبِيهِ وَله حظوة عِنْد الْخَلِيفَة مُعَاوِيَة وَكَانَ سيد أهل الْبَادِيَة توفّي فِي غَزْوَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة سنة ٤٦ هـ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النَّمْل: ٢٩]. وَتَشْرِيفِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] وَقُدْسِيَّةِ مَعَانِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [الْبَقَرَة: ١٢٩]، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالصُّحُفِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ رُقُوقٍ وَقَرَاطِيسَ، وَأَكْتَافٍ، وَلِخَافٍ، وَجَرِيدٍ.
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ كُتَّابَ الْوَحْيِ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهَا كَمَا جَاءَ فِي خَبَرِ جَمْعِ أَبِي بَكْرٍ لِلْمُصْحَفِ حِينَ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ فِي رُقُوقٍ أَوْ قَرَاطِيسَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا تَغْلِيبًا وَيَكُونُ حَرْفُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالسَّفَرَةِ جَمْعَ سَافِرٍ، أَيْ كَاتِبٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْكِتَابِ سِفْرٌ (بِكَسْرِ السِّينِ) وَلِلْكَاتِبِ سَافِرٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَيِّنُ الشَّيْءَ وَيُوَضِّحُهُ يُقَالُ: أَسْفَرَ الصُّبْحُ، إِذَا أَضَاءَ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ كُتُبُ الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ تَأْيِيدًا لِلْقُرْآنِ بِأَنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ السَّابِقَةَ جَاءَتْ بِمَا جَاءَ بِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ التَّذْكِرَةِ فِي كُتُبِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ: أَنَّ أَمْثَالَ مَعَانِيهَا وَأُصُولِهَا فِي كُتُبِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى: ١٨- ١٩] وَكَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٩٦] وَكَمَا قَالَ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى [الشورى: ١٣].
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالصُّحُفِ صُحُفٌ مَجَازِيَّةٌ، أَيْ ذَوَاتٌ مَوْجُودَةٌ قُدْسِيَّةٌ يَتَلَقَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا الْقُرْآنَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِتَبْلِيغِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ إِطْلَاقُ الصُّحُفِ عَلَيْهَا لِشِبْهِهَا بِالصُّحُفِ الَّتِي يَكْتُبُ النَّاسُ فِيهَا. وَمَعْنَى مُكَرَّمَةٍ عِنَايَةُ اللَّهِ بِهَا، وَمَعْنَى مَرْفُوعَةٍ أَنَّهَا مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَمَعْنَى مُطَهَّرَةٍ مُقَدَّسَةٌ مُبَارَكَةٌ، أَيْ هَذِهِ التَّذْكِرَةُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ عِلْمُ اللَّهِ وَمَا كَتَبَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي صُحُفٍ قُدْسِيَّةٍ.
وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالصُّحُفِ (فَسَفَرَةٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ سَافِرٍ، مِثْلَ كَاتِبٍ وَكَتَبَةٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعِ سَفِيرٍ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ فِي أَمْرٍ