التَّمْثِيلُ إِلَّا مُكَابَرَةً وَمُعَانِدَةً فَإِنَّهُمْ لَمَّا غُلِبُوا بِالتَّحَدِّي وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ تَعَلَّقُوا فِي مَعَاذِيرِهِمْ بِهَاتِهِ السَّفَاسِفِ، وَالْمُكَابِرُ يَقُولُ مَا لَا يَعْتَقِدُ، وَالْمَحْجُوجُ الْمَبْهُوتُ يَسْتَعْوِجُ الْمُسْتَقِيمَ وَيُخْفِي الْوَاضِحَ، وَإِلَى هَذَا الثَّانِي يَنْزِعُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَوْفَقُ بِالسِّيَاقِ. وَالسُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ
يَزَالُوا يُلْقُونَ الشُّبَهَ فِي صِحَّةِ الرِّسَالَةِ وَيُشِيعُونَ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِوَاسِطَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى قَوْلِهِ: وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً.
فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنِ الرَّدُّ عَقِبَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْوَاقِعِ فِيهَا التَّمْثِيلُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ فَإِنَّ الْبِدَارَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ فِي مقاله شُبْهَة رائجة يَكُونُ أَقْطَعَ لِشُبْهَتِهِ مِنْ تَأْخِيرِهِ زَمَانًا.
قُلْنَا: الْوَجْهُ فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهَا أَنْ يَقَعَ الرَّدُّ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثَالٍ مُعْجَبَةٍ اقْتَضَاهَا مقَام تَشْبِيه الهيآت، فَذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُ الْكَرِيمُ عَدُوَّهُ مِنْ عَطَاءٍ فَيَلْمِزُهُ الْمَمْنُوعُ بِلَمْزِ الْبُخْلِ، أَوْ يَتَأَخَّرُ الْكَمِيُّ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ مَكِيدَةً فَيَظُنُّهُ نَاسٌ جُبْنًا فَيُسِرُّهَا الْأَوَّلُ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْقَاصِدُ فَيُعْطَيهِ عَطَاءً جَزْلًا، وَالثَّانِي حَتَّى يَكُرَّ كَرَّةً تَكُونُ الْقَاضِيَةَ عَلَى قَرْنِهِ. فَكَذَلِكَ لَمَّا أَتَى الْقُرْآنُ بِأَعْظَمِ الْأَمْثَالِ وَأَرْوَعِهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [الْبَقَرَة: ١٧] أَوْ كَصَيِّبٍ [الْبَقَرَة: ١٩] الْآيَاتِ وَقَوْلُهُ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [الْبَقَرَة: ١٨] أَتَى إِثْرَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ مُنَاسِبَةَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ غَفَلَ عَنْ بَيَانِهِ الْمُفَسِّرُونَ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَثَلِ هُنَا الشَّبَهُ مُطْلَقًا لَا خُصُوصَ الْمركب من هَيْئَة، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ هُنَا مَا طَعَنُوا بِهِ فِي تَشَابِيهِ الْقُرْآنِ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً [الْحَج: ٧٣] وَقَوْلِهِ: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: ٤١].
وَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا بَيِّنٌ.
وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فَلِأَنَّ هَذَا الْعَلَمَ جَامِعٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَذِكْرُهُ أَوْقَعُ فِي الْإِقْنَاعِ بِأَنَّ كَلَامَهُ هُوَ أَعْلَى كَلَامٍ فِي مُرَاعَاةِ مَا هُوَ حَقِيقٌ بِالْمُرَاعَاةِ وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا إِبْطَالٌ لِتَمْوِيهِهِمْ بِأَنَّ اشْتِمَالَ الْقُرْآنِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَثَلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ غَيْرَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَهُ أَن يستحي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَلِهَذَا أَيْضًا اخْتِيرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْنَدُ خُصُوصَ فِعْلِ الِاسْتِحْيَاءِ زِيَادَةً فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّمْثِيلَ بِهَاتِهِ الْأَشْيَاءِ لِمُرَاعَاةِ كَرَاهَةِ النَّاسِ وَمِثْلُ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
وَفِي جَمْعِ الصِّفَتَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى تَجْرِي عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ صِفَاتُهُ كُلُّهَا وَبِذَلِكَ تَنْدَفِعُ إِشْكَالَاتٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقضَاءِ وَالْقدر.
[٢٢١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَيَّامَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا زَالُوا مُخْتَلِطِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَدِينَةِ وَمَا
هُمْ بِبَعِيدٍ عَنْ أَقْرِبَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَرُبَّمَا رَغِبَ بَعْضُهُمْ فِي تَزَوُّجِ الْمُشْرِكَاتِ أَوْ رَغِبَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَزَوُّجِ نِسَاءٍ مُسْلِمَاتٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ أَوْقَعَ هَذَا الْبَيَانَ بِحِكْمَتِهِ فِي أَرْشَقِ مَوْقِعِهِ وَأَسْعَدِهِ بِهِ وَهُوَ مَوْقِعُ تَعْقِيبِ حُكْمِ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، فَإِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَقَارِبَ وَمَوَالِيَ لَمْ يَزَالُوا مُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ يَتَامَى فَقَدُوا آبَاءَهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَمَا بَعْدَهُ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ بَيَانَ مُخَالَطَةِ الْيَتَامَى، وَكَانَتِ الْمُصَاهَرَةُ مِنْ أَعْظَمِ أَحْوَالِ الْمُخَالَطَةِ تَطَلَّعَتِ النُّفُوسُ إِلَى حُكْمِ هَاتِهِ الْمُصَاهَرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ، فَعُطِفَ حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الْيَتَامَى لَهَاتِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
رَوَى الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا مَرْثَدٍ الغنوي وَيُقَال مرثدا بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَاسْمُهُ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي هَاشِمٍ فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ سِرًّا لِيُخْرِجَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعَتْ بِقُدُومِهِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا عَنَاقُ وَكَانَتْ خَلِيلَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: وَيَحَكَ يَا مَرْثَدُ أَلَا تَخْلُو؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ حَرَّمَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَتْ: فَتَزَوَّجْنِي قَالَ: حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَتَى النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَهُ فَنَهَاهُ عَنِ التَّزَوُّجِ بِهَا، لِأَنَّهَا مُشْرِكَةٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِسَبَبِهِ
. وَالنِّكَاحُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً وَيَقُولُونَ نَكَحَتْ فُلَانَةٌ فُلَانًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ، لِأَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِيقَةِ وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْوَطْءِ فَكِنَايَةٌ، وَقِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ. وَاخْتَارَهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي اللُّغَةِ، وَقِيلَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا فَهُوَ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ
لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [الْمَائِدَة: ٤٨]. وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ لِلْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَفِي «تَوْضِيحِ» صَدْرِ الشَّرِيعَةِ نِسْبَةُ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ.
الثَّالِثُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِشَرْعِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النَّحْل: ١٢٣]. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ مَنْ نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْقَوْلُ.
الرَّابِعُ: لَا يَلْزَمُ إِلَّا اتِّبَاعُ شَرِيعَةِ عِيسَى لِأَنَّهَا آخِرُ الشَّرَائِعِ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى تَعْيِينِ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.
وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: اقْتَدِهْ سَاكِنَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ هَاءُ السَّكْتِ الَّتِي تُجْلَبُ عِنْدَ الْوَقْفِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ إِذَا حُذِفَتْ لَامُهُ لِلْجَازِمِ، وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الْوَقْفِ وَتُحْذَفُ فِي الْوَصْلِ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ أَوَاخِرَ الْكَلِمِ عَلَى مُرَاعَاةِ
حَالِ الْوَقْفِ. وَقَدْ أَثْبَتَهَا جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ فِي الْوَصْلِ، وَذَلِكَ مِنْ إِجْرَاءِ الْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الفصيح. وَالْأَحْسَن للقارىء أَنْ يَقِفَ عَلَيْهَا جَرْيًا عَلَى الْأَفْصَحِ، فَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ أَثْبَتُوهَا سَاكِنَةً مَا عَدَا رِوَايَةَ هِشَامٍ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ فَقَدْ حَرَّكَهَا بِالْكَسْرِ، وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ بِأَنَّهَا تَجْعَلُ الْهَاءَ ضَمِيرَ مَصْدَرِ «اقْتَدِ»، أَيِ اقْتَدِ الِاقْتِدَاءَ، وَلَيْسَتْ هَاءَ السَّكْتِ، فَهِيَ كَالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَذاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ [الْمَائِدَة: ١١٥] أَيْ لَا أُعَذِّبُ ذَلِكَ الْعَذَابَ أَحَدًا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ، بِحَذْفِ الْهَاءِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ الْغَالِبِ.
قُلْ لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ.
اسْتِئْنَافٌ عُقِّبَ بِهِ ذَلِكَ الْبَيَانُ الْعَظِيمُ الْجَامِعُ لِأَحْوَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَالْإِيمَاءُ إِلَى نُبُوءَةِ جَمْعٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَيَانُ طَرِيقَةِ الْجَدَلِ فِي تَأْيِيدِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ مَا جَاءَ إِلَّا كَمَا جَاءَتْ مِلَلُ تِلْكَ الرُّسُلِ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ اللَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِهِ أَنْ يُذَكِّرَ قَوْمَهُ بِأَنَّهُ يَذْكُرُهُمْ. كَمَا ذَكَّرَتِ الرُّسُلُ أَقْوَامَهُمْ، وَأَنَّهُ
وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ، أَعْقَبَ
تِلْكَ الْقِصَّةَ بِقِصَّةٍ هِيَ مَثَلٌ فِي ضِدِّهَا لِأَنَّ تَطَلُّبَ ذِي الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِلِازْدِيَادِ مِنْهُمَا وَسَعْيَهُ لِلظَّفَرِ بِمَنْ يُبْلِغُهُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْكَمَالِ، اعْتِرَافًا لِلْفَاضِلِ بِفَضِيلَتِهِ. وَفِي ذَلِكَ إِبْدَاءُ الْمُقَابَلَةِ بَين الخلقين وَإِقَامَة الْحُجَّةِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ وَتَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَتَرْبِيَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
وَلِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ مَا سَأَلَ الْمُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ أَمْلَوْا عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قِصَّتَيْنِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقَدْ تَقَضَّى الْجَوَابُ عَنِ الْقِصَّةِ الْأَوْلَى وَمَا ذُيِّلَتْ بِهِ، وَآنَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الْجَوَابِ عَنِ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ فَتُخْتَمَ بِذَلِكَ هَذِهِ السُّورَةُ الَّتِي أُنْزِلَتْ لِبَيَانِ الْقِصَّتَيْنِ. قُدِّمَتْ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ الثَّانِيَةِ قِصَّةٌ لَهَا شَبَهٌ بِهَا فِي أَنَّهَا تَطْوَافٌ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ نَفْعٍ صَالِحٍ، وَهِيَ قِصَّةُ سَفَرِ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِطَلَبِ لِقَاءِ مَنْ هُوَ عَلَى عِلْمٍ لَا يَعْلَمُهُ مُوسَى. وَفِي سَوْقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَدُلُّوا النَّاسَ عَلَى أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ إِسْرَائِيلَ وَعَلَى سَفَرٍ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ لَا سَفَرٍ لِأَجْلِ بَسْطِ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ.
فَجُمْلَةُ وَإِذْ قالَ مُوسى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الْكَهْف: ٥٠] عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَاذْكُرْ إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ، أَيِ اذْكُرْ ذَلِكَ الزَّمَنَ وَمَا جَرَى فِيهِ. وَنَاسَبَهَا تَقْدِيرُ فِعْلِ «اذْكُرْ» لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَوْعِظَةً وَذِكْرَى كَمَا فِي قِصَّةِ خَلْقِ آدَمَ.
فَانْتُصِبَ (إِذْ) عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ بِهِ.
وَالْفَتَى: الذَّكَرُ الشَّابُّ، وَالْأُنْثَى فَتَاةٌ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي التَّابِعِ وَالْخَادِمِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تُراوِدُ فَتاها فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٠].
وَفَتَى مُوسَى: خَادِمُهُ وَتَابِعُهُ، فَإِضَافَةُ الْفَتَى إِلَى ضَمِيرِ مُوسَى عَلَى مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ، كَمَا يُقَالُ: غُلَامُهُ. وَفَتَى مُوسَى هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سِبْطِ
وَتَحْقِيقُ الْقِصَّةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَدْعُ إِلَى دِينِهِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إلّا تكلمة لِمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِكْمَالَهُ من شَرِيعَة التَّوْرَاة، وَلَكِنَّ
عِيسَى أَوْصَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النَّاسِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا رُؤْيَا أَوْ خَطَرَ لَهُمْ خَاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِمَّا جَاوَرَهَا، أَوْ خَطَرَ فِي نُفُوسِهِمْ إِلْهَامٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وَصِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَوَقَعَتِ اخْتِلَافَاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ وَتَحْرِيفَاتٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ (١) أَنَّ (بِرْنَابَا) وَ (شَاوَل) الْمَدْعُو (بُولُس) مِنْ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ وَوُصِفَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَا فِي أَنْطَاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وَأَنَّهُمَا عُزِّزَا بِالتِّلْمِيذِ (٢) (سِيلَا). وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الثَّالِثَ هُوَ (شَمْعُونُ)، لَكِنْ لَيْسَ فِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ بُولُس وَبِرْنَابَا عُزِّزَا بِسَمْعَانَ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ أَنه كَانَ نبيء فِي أَنْطَاكِيَةَ اسْمُهُ (سَمْعَانُ).
وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ كَانُوا سُكَّانًا بِأَنْطَاكِيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْيُونَانِ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الرُّسُلِ سِوَى كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَين الْمُرْسلين وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وَبِرْنَابَا وَيُثِيرُونَ عَلَيْهِمَا نِسَاءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ وُجُوهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اضْطُرَّ (بُولُس وَبِرْنَابَا) إِلَى أَنْ خَرَجَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَقَصَدَا أَيْقُونِيَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا وَقَاوَمَهُمَا يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَأَنَّ أَحْبَارَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمَدَائِنِ رَأَوْا أَن يعيدون بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَبَعْدَ عَوْدَتِهِمَا حَصَلَ لَهُمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْأُولَى وَبِالْخُصُوصِ فِي قَضِيَّةِ وُجُوبِ الْخِتَانِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أُورَشْلِيمَ لِمُرَاجَعَةِ الْحَوَارِيِّينَ فَرَأَى أَحْبَارُ أورشليم أَن يؤيدوهما بِرَجُلَيْنِ
_________
(١) «الإصحاح» ١٣، أَعمال الرُّسُل ١- ٩.
(٢) «الإصحاح» ١٥، أَعمال الرُّسُل ٣٤- ٣٥.
اللَّذَيْنِ وُجِّهَ الْخِطَابُ السَّابِقُ إِلَيْهِمَا، وَتَعْيِينُ كُلٍّ لِمَا وُجِّهَ إِلَيْهِ مُنْطَوٍ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَقَرِينَةِ مَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: ١٥].
وَإِعَادَةُ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ عَلَى هَذَا لِلتَّأْكِيدِ اهْتِمَامًا بِهَذَا الْمَقُولِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي الْمُرَادِ مِنْ تَوْجِيهِ الْمَطْلَبِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١] الْآيَةَ فَتَكُونُ إِعَادَةُ فِعْلِ قُلْ لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِينَ بِتَوْجِيهِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيءِ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا الدِّينِ الَّذِي أَتَيْتَنَا بِهِ أَلَا تَنْظُرَ إِلَى مِلَّةِ أَبِيكَ وُجِدِّكَ وَسَادَاتِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى.
[١٤- ١٥]
[سُورَة الزمر (٣٩) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ (١٤).
أَمْرٌ بِأَنْ يُعِيدَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ [الزمر: ١١]، لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا مَعًا تُفِيدَانِ أَنَّهُ لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ أَعْبُدَ اللَّهَ الْأَوَّلِ بِقَيْدِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَبِاعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى أَعْبُدَ الثَّانِي فَتَأَكَّدَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ مَرَّتَيْنِ لِيَتَقَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا إِلَخْ لِتَفْرِيعِ الْكَلَامِ الَّذِي بَعْدَهَا عَلَى الْكَلَامِ قَبْلَهَا فَهُوَ تَفْرِيعٌ ذِكْرِيٌّ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّخْلِيَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَالْمَقْصُودُ التَّسْوِيَةُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فَتَكُونُ التَّسْوِيَةُ كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ
الِاكْتِرَاثِ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّنِي كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٢٩] : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، أَيْ اعْبُدُوا أَيَّ شَيْءٍ شِئْتُمْ عِبَادَتِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَجُعِلَتِ الصِّلَةُ هُنَا فِعْلَ الْمَشِيئَةِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ رَائِدَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَعْبُودَاتِهِمْ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ وَالْهَوَى بِلَا دَلِيلٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ غِشاوَةً بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ غِشْوَةً بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَهُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالْمَصْدَرِ وَهِيَ لُغَةٌ.
وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْخَتْمِ وَالْغِشَاوَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذِهِ الصِّلَةِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشدَّة أسفه لإعراضهم وَبَقَائِهِمْ فِي الضَّلَالَةِ.
ومِنْ بَعْدِ اللَّهِ بِمَعْنَى: دُونَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ آخَرَ سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٥].
وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ تَذَكُّرِ الْمُخَاطَبِينَ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، أَيْ كَيْفَ نَسَوْهَا حَتَّى أَلَحُّوا فِي الطَّمَعِ بِهِدَايَةِ أُولَئِكَ الضَّالِّينَ وَأَسِفُوا لِعَدَمِ جَدْوَى الْحُجَّةِ لَدَيْهِمْ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ حَمَلَ مَنِ الْمَوْصُولَةَ فِي قَوْلِهِ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ عَلَى مُعَيَّنٍ فَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ بِسَبَبِ حَدِيثٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ كَانَا يَطُوفَانِ لَيْلَةً فَتَحَدَّثَا فِي شَأْن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ إِنَّهُ لِصَادِقٌ فَقَالَ لَهُ
الْمُغِيرَةُ: مَهْ، وَمَا دَلَّكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: كُنَّا نُسَمِّيهِ فِي صِبَاهُ الصَّادِقَ الْأَمِينَ فَلَمَّا تَمَّ عَقْلُهُ وَكَمُلَ رُشْدُهُ نُسَمِّيهِ الْكَذَّابَ الْخَائِنَ! قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ قَالَ: تَتَحَدَّثُ عَنِّي بَنَاتُ قُرَيْشٍ أَنِّي قَدْ اتَّبَعْتُ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَجْلِ كِسْرَةٍ، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنِ اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَإِذَا صَحَّ هَذَا فَإِنَّ مُطَابَقَةَ الْقِصَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ظَاهِرَةٌ.
وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَيْضًا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيِّ أَحَدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَانَ يَعْبُدُ مِنَ الْأَصْنَامِ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْهَوَى الْبَاعِثَ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَيَتْرُكُوا اتِّبَاعَ أَدِلَّةِ الْحَقِّ، فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ مَحْبُوبًا لِأَحَدٍ فَذَلِكَ مِنَ التَّخَلُّقِ بِمَحَبَّةِ الْحَقِّ تَبَعًا لِلدَّلِيلِ مِثْلَ مَا يَهْوَى الْمُؤْمِنُ الصَّلَاةَ وَالْجَمَاعَةَ وَقِيَامَ رَمَضَانَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ
وَفِي الْحَدِيثِ «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ»
يَعْنِي الْإِقَامَةَ لِلصَّلَاةِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا أَمَامَ بَابِ خَيْمَتِهِ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الضُّيُوفَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: إِنَّ الرَّوَغَانَ مَيْلٌ فِي الْمَشْيِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْجَانِبِ مَعَ إِخْفَاءِ إِرَادَتِهِ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا التَّقْيِيدِ الرَّاغِبُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ فَانْتَزَعَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ إِخْفَاءَ إِبْرَاهِيمَ مَيْلَهُ إِلَى أَهْلِهِ مِنْ حُسْنِ الضِّيَافَةِ كَيْلَا يُوهِمَ الضَّيْفَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحْضِرَ لَهُمْ شَيْئًا فَلَعَلَّ الضَّيْفَ أَنْ يَكُفَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَعْذُرَهُ وَهَذَا مَنْزَعٌ لَطِيفٌ.
وَكَانَ مَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي جَرَتْ عِنْدَهُ هَذِهِ الْقِصَّةُ بِمَوْضِعٍ يُسَمَّى (بُلُوطَاتِ مَمْرَا) مِنْ أَرْضِ جَبْرُونَ.
وَوُصِفَ الْعِجْلُ هُنَا بِ سَمِينٍ، وَوُصِفَ فِي سُورَةِ هُودٍ بِحَنِيذٍ، أَيْ مَشْوِيٍّ فَهُوَ عِجْلٌ سَمِينٌ شَوَاهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ الشِّوَا أَسْرَعَ طَبْخِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَقَامَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَذْكُرُ الصَّيْدَ:
فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ | صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ |
وَمعنى فَقَرَّبَهُ وَضَعَهُ قَرِيبًا مِنْهُمْ، أَيْ لَمْ يَنْقُلْهُمْ مِنْ مَجْلِسِهِمْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ جَعَلَ الطَّعَامَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ بِخِلَافِ مَا يَطْعَمُهُ الْعَافِي وَالسَّائِلُ فَإِنَّهُ يُدْعَى إِلَى مَكَانِ الطَّعَامِ كَمَا قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
فَقُلْتُ إِلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ | فَرِيقٌ يَحْسُدُ الْأُنْسُ الطَّعَامَا |
وَجُمْلَةُ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ من جملَة فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ.
وأَ لَا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ حِرَفُ عَرْضٍ، أَيْ رَغْبَةٍ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ الَّذِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ. وَهِيَ هُنَا مُتَعَيِّنَةٌ لِلْعَرَضِ لِوُقُوعِ فِعْلِ الْقَوْلِ بَدَلًا من فعل فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ،
فَإِنَّ الْإِحْيَاء والإماتة ممّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعْنَى مُلْكِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض لِأَنَّهُمَا مِنْ أَحْوَالِ مَا عَلَيْهِمَا، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ بِالذِّكْرِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمَا لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى دَقِيقِ الْحِكْمَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ولظهور أَن هاذين الْفِعْلَيْنِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَخْلُوقُ ادِّعَاءَ أَنَّ لَهُ عَمَلًا فِيهِمَا، وللتذكير بِدَلِيل إِمْكَان الْبَعْثِ الَّذِي جَحَدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلِلتَّعْرِيضِ بِإِبْطَالِ زَعْمِهِمْ إِلَهِيَّةَ أَصْنَامِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً [الْفرْقَان: ٣]، وَمِنْ هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ جَاءَ وَصْفُهُ تَعَالَى بِصِفَةِ «الْمُحْيِي المميت».
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨].
وَجُمْلَةُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُفِيدُ مَفَادَ التَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ يُحْيِي وَيُمِيتُ لِتَعْمِيمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يُحْيِي وَيُمِيتُ مِنْ بَيَانِ جُمْلَةِ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَإِنَّمَا عُطِفَتْ بِالْوَاوِ وَكَانَ حَقُّ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِقَصْدِ إِيثَارِ الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِعُمُومِ الْقُدْرَةِ عَلَى كُلِّ مَوْجُودٍ، وَذَلِكَ لَا يفيت قَصْدَ التَّذْيِيلِ، لِأَنَّ التَّذْيِيلَ يحصل بِالْمَعْنَى.
[٣]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٣]
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.
اسْتِئْنَافٌ فِي سِيَاقِ تَبْيِينِ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِأَنَّ مُلْكَهُ دَائِمٌ فِي عُمُومِ الْأَزْمَانِ وَتَصَرُّفٌ فِيهِمَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الْأَزَلِيُّ، وَأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ مِنْ قَبْلِ وُجُودِ كُلِّ مُحْدَثٍ وَمِنْ بَعْدِ فَنَائِهِ إِذِ اللَّهُ هُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ يَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآثَارِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَصَرُّفِهِ ظَاهِرَةً لِلْمَتَبَصِّرِ بِالْعَقْلِ وَهُوَ مَعْنَى الظَّاهِرُ كَمَا يَأْتِي، وَأَنَّ كَيْفِيَّاتِ تَصَرُّفَاتِهِ مَحْجُوبَةٌ عَنِ الْحِسِّ وَذَلِكَ مَعْنَى الْباطِنُ تَعَالَى كَمَا سَيَأْتِي.
فَضَمِيرُ هُوَ لَيْسَ ضَمِيرَ فَصْلٍ وَلَكِنَّهُ ضَمِيرٌ يُعَبِّرُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِاعْتِبَارِنَا الْجُمْلَةَ مُسْتَأْنَفَةً، وَلَوْ جَعَلْتَهُ ضَمِيرَ فَصْلٍ لَكَانَتْ أَوْصَافُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ أَخْبَارًا عَنْ ضَمِيرِ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الْحَدِيد: ١].
فَالْمُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ يُحِبُّهُ لِصَلَاحِهِ وَالصَّالِحُ لَا يُحِبُّهُ أَهْلُ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ تَفْسِيرُهَا ذَلِكَ الْحَدِيثُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِي التَّعْلِيمِ الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَاتُ.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ ذلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ فِيهِ لِلْمَذْكُورِ، أَيْ بَعْدَ نَصْرِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَصَالِحِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَكَلِمَةُ بَعْدَ هُنَا بِمَعْنَى (مَعَ) فَالْبَعْدِيَّةُ هُنَا بَعْدِيَّةٌ فِي الذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [الْقَلَم: ١٣].
وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ بَعْدَ ذِكْرِ تَأْيِيدِ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ وَصَالِحِ وَالْمُؤمنِينَ أَنَّ الْمَذْكُورين قبلهم ظَاهره آثَارُ تَأْيِيدِهِمْ بِوَحْي الله للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ وَنَصْرُهُ إِيَّاهُ بِوَاسِطَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَنَبَّهَ اللَّهُ الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى تَأْيِيدٍ آخَرَ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ آثَارُهُ وَهُوَ تَأْيِيدُ الْمَلَائِكَةِ بِالنَّصْرِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَغَيْرُ النَّصْرِ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فِي السَّمَاوَاتِ، فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ نُصْرَةِ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى نُصْرَةِ جِبْرِيلَ بَلْهَ نُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وظَهِيرٌ وَصْفٌ بِمَعْنَى الْمُظَاهِرِ، أَيِ الْمُؤَيِّدِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ مِثْلَ حَكِيمٍ بِمَعْنَى مُحْكِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، وَفَعِيلٌ الَّذِي لَيْسَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَصْلُهُ أَنْ يُطَابِقَ مَوْصُوفَهُ فِي الْإِيرَادِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ هُنَا خَبَرًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ كَانَ إِفْرَادُهُ عَلَى تَأْوِيلِ جَمْعِ الْمَلَائِكَةِ بِمَعْنَى الْفَوْجِ الْمُظَاهِرِ أَوْ هُوَ مِنْ إِجْرَاءِ فَعِيلٍ الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الْأَعْرَاف: ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً [الْفرْقَان: ٥٥] وَقَوْلِهِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النِّسَاء: ٦٩]، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ جِبْرِيلَ كَانَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ عَطْفًا عَلَى جِبْرِيلَ وَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلِكَ حَالًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: ٣] وَبَيْنَ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ وَبَيْنَ ظَهِيرٌ تجنيسات.
[٥]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ٥]
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً
وَقَالَ النَّابِغَةُ يَذْكُرُ حَالَةَ مَنْ لَدَغَتْهُ أَفْعَى:
تَنَاذَرَهَا الرَّاقُونَ مِنْ سُوءِ سَمْعِهَا | تُطْلِقُهُ طَوْرًا وَطَوْرًا تُرَاجِعُ |
وَأَصْلُ الرُّقْيَةِ: مَا وَرِثَهُ الْعَرَبُ مِنْ طَلَبِ الْبَرَكَةِ بِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَأَصْلُهَا وَارِدٌ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا سُوءُ الْوَضْعِ عِنْدَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَأَلْحَقُوهَا بِالسِّحْرِ أَوْ بِالطِّبِّ، وَلِذَلِكَ يَخْلِطُونَهَا مِنْ أَقْوَالٍ رُبَّمَا كَانَتْ غَيْرَ مَفْهُومَةٍ، وَمِنْ أَشْيَاءَ كَأَحْجَارٍ أَوْ أَجْزَاءَ مِنْ عَظْمِ الْحَيَوَانِ أَوْ شَعَرِهِ، فَاخْتَلَطَ أَمْرُهَا فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِسْلَامِ الِاسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ وَالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ الْمُتَقَبَلَّةِ مِنْ أَرْبَابِهَا وَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الدُّعَاءِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي ظَنَّ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ [الْقِيَامَة:
٥] أَيِ الْإِنْسَانُ الْفَاجِرُ.
وَالظَّنُّ: الْعِلْمُ الْمُقَارِبُ لِلْيَقِينِ، وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ شَأْنٍ، أَيْ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ، أَيِ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْفِرَاقُ، أَيْ فِرَاقُ الْحَيَاةِ.
وَقَوْلُهُ: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَالْمَعْنَى الْتِفَافُ سَاقَيِ الْمُحْتَضِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِذْ تُلَفُّ الْأَكْفَانُ عَلَى سَاقَيْهِ وَيُقْرَنُ بَيْنَهُمَا فِي ثَوْبِ الْكَفَنِ فَكُلُّ سَاقٍ مِنْهُمَا مُلْتَفَّةٌ صُحْبَةَ السَّاقِ الْأُخْرَى، فَالتَّعْرِيفُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَهَذَا نِهَايَةُ وَصْفِ الْحَالَةِ الَّتِي تَهَيَّأَ بِهَا لِمَصِيرِهِ إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَرَاحِلِ الْآخِرَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْثِيلًا فَإِنَّ الْعَرَبَ يَسْتَعْمِلُونَ السَّاقَ مَثَلًا فِي الشِّدَّةِ وَجِدِّ الْأَمْرِ تَمْثِيلًا بِسَاقِ السَّاعِي أَوِ النَّاهِضِ لِعَمَلٍ عَظِيمٍ، يَقُولُونَ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ.
وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
صَبْرًا عَنَاقُ إِنَّهُ لَشِرْبَاقْ | قَدْ سَنَّ لِي قَوْمُكَ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ |
وَالْفَقْرِ وَوُصِفَ بِكَوْنِهِ ذَا مَقْرَبَةٍ أَيْ مَقْرَبَةٍ مِنَ الْمُطْعِمِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ يُؤَكِّدُ إِطْعَامَهُ لِأَنَّ فِي كَوْنِهِ يَتِيمًا إِغَاثَةً لَهُ بِالْإِطْعَامِ، وَفِي كَوْنِهِ ذَا مَقْرَبَةٍ صِلَةً لِلرَّحِمِ.
وَالْمَقْرَبَةُ: قَرَابَةُ النَّسَبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْغَبَةٍ وَالْمِسْكِينُ: الْفَقِيرُ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٤] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ وَذَا مَتْرَبَةٍ صِفَةٌ لِمِسْكِينٍ جُعِلَتِ الْمَتْرَبَةُ عَلَامَةً عَلَى الِاحْتِيَاجِ بِحَسْبِ الْعُرْفِ.
وَالْمَتْرَبَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ مَفْعَلَةٍ أَيْضًا وَفِعْلُهُ تَرِبَ يُقَالُ: تَرِبَ، إِذَا نَامَ عَلَى التُّرَابِ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَفْتَرِشُهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كِنَايَةٌ عَنِ الْعُرُوِّ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْجَسَدِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ الْجُلُوسِ وَالِاضْطِجَاعِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: تَرِبَتْ يَمِينُكُ:
وَتَرِبَتْ يَدَاكَ.
وأَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَهُوَ مَعْنَى مِنْ مَعَانِي (أَوْ) جَاءَ مِنْ إِفَادَةِ التَّخْيِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْجِنْسُ الْمَخْصُوصُ، أَيِ الْمُشْرِكِينَ كَانَ نَفْيُ فَكِّ الرِّقَابِ وَالْإِطْعَامِ كِنَايَةً عَنِ انْتِفَاءِ تَحَلِّيهِمْ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ فَكَّ الرِّقَابِ وَإِطْعَامَ الْجِيَاعِ مِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ مِنْ إِطْعَامِ الْجِيَاعِ وَالْمَحَاوِيجِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُحِبُّونَ التَّفَاخُرَ وَالسُّمْعَةَ وَإِرْضَاءَ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ، أَوْ لِمُؤَانَسَةِ الْأَخِلَّاءِ وَذَلِكَ غَالِبُ أَحْوَالِهِمْ، أَيْ لَمْ يُطْعِمُوا يَتِيمًا وَلَا مِسْكِينًا فِي يَوْمِ مَسْغَبَةٍ، أَيْ هُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَرْضَاهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ. وَلَيْسَ مِثْلَ إِطْعَامِكُمْ فِي الْمَآدِبِ وَالْوَلَائِمِ وَالْمُنَادَمَةِ الَّتِي لَا تَعُودُ بِالنَّفْعِ عَلَى الْمُطْعَمَيْنِ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَطَاعِمَ كَانُوا يَدْعُونَ لَهَا أَمْثَالَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجِدَّةِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى الطَّعَامِ وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمُؤَانَسَةَ أَوِ الْمُفَاخَرَةَ.
وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا»
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ الشَّبْعَانُ وَيُحْبَسُ عَنْهُ الْجَائِعُ».
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَاحِدًا مُعَيَّنًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَمًّا لَهُ بِاللُّؤْمِ وَالتَّفَاخُرِ الْكَاذِبِ، وَفَضْحًا لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ