وَقَوْلُهُ فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ تَنْفِيرٌ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَيْنِ الْعِلْمَيْنِ إِذَا شَرَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَاسْتِخْرَاجِ لَطَائِفِهِ
أَخْطَأَ غَالِبًا، وَإِنْ أَصَابَ نَادِرًا كَانَ مُخْطِئًا فِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ اهـ».
وَقَوْلُهُ تَمَامَ مُرَادِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْمَقْصُودُ هُوَ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا لِيَكْثُرَ الطَّلَبُ وَاسْتِخْرَاجُ النُّكَتِ، فَيَدْأَبُ كُلُّ أَحَدٍ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى غَايَةِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الَّذِي نُصِبَ عَلَيْهِ عَلَامَاتٌ بَلَاغِيَّةٌ وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ بِحَسَبِ التَّتَبُّعِ، وَالْكُلُّ مُظِنَّةُ عَدَمِ التَّنَاهِي وَبَاعِثٌ لِلنَّاظِرِ عَلَى بَذْلِ غَايَةِ الْجُهْدِ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الِاطِّلَاعِ عَلَى قَدْرِ صَفَاءِ الْقَرَائِحِ وَوَفْرَةِ الْمَعْلُومَاتِ.
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رشد فِي جَوَاب لَهُ عَمَّنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِسَانِ الْعَرَبِ مَا نَصُّهُ: «هَذَا جَاهِلٌ فَلْيَنْصَرِفْ عَنْ ذَلِكَ وَلْيَتُبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدِّيَانَةِ وَالْإِسْلَامِ إِلَّا بِلِسَانِ الْعَرَبِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ١٩٥] إِلَّا أَنْ يَرَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِخُبْثٍ فِي دِينِهِ فَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَرَى فَقَدْ قَالَ عَظِيمًا اهـ».
وَمُرَادُ السَّكَّاكِيِّ مِنْ تَمَامِ مُرَادِ اللَّهِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْكَلَامُ مِنَ الْمَعَانِي الْخُصُوصِيَّةِ، فَمَنْ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الْفَاتِحَة: ٥] بِإِنَّا نَعْبُدُكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ لِأَنَّهُ أَهْمَلَ مَا يَقْتَضِيهِ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ مِنَ الْقَصْدِ.
وَقَالَ فِي آخِرِ فَنِّ الْبَيَانِ مِنَ «الْمِفْتَاحِ» :«لَا أَعْلَمُ فِي بَابِ التَّفْسِيرِ بَعْدَ عِلْمِ الْأُصُولِ أَقْرَأَ عَلَى الْمَرْءِ لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ مِنْ عِلْمَيِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَلَا أَعْوَنَ عَلَى تَعَاطِي تَأْوِيلِ مُتَشَابِهَاتِهِ، وَلَا أَنْفَعَ فِي دَرْكِ لَطَائِفِ نُكَتِهِ وَأَسْرَارِهِ، وَلَا أَكْشَفَ لِلْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ إِعْجَازِهِ، وَلَكَمْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَرَاهَا قَدْ ضِيمَتْ حَقَّهَا وَاسْتُلِبَتْ مَاءَهَا وَرَوْنَقَهَا أَنْ وَقَعَتْ إِلَى مَنْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعِلْمِ، فَأَخَذُوا بِهَا فِي مَآخِذَ مَرْدُودَةٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى مَحَامِلَ غَيْرِ مَقْصُودَةٍ إِلَخْ».
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ». فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَجَازِ الْحُكْمِيِّ: «وَمِنْ عَادَةِ قَوْمٍ مِمَّنْ يَتَعَاطَى التَّفْسِيرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَلْبَابَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّمْثِيلِ أَنَّهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا (أَيْ عَلَى الْحَقِيقَةِ)، فَيُفْسِدُوا الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَيُبْطِلُوا الْغَرَضَ وَيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَالسَّامِعَ مِنْهُمُ الْعَلِمَ بِمَوْضِعِ الْبَلَاغَةِ وَبِمَكَانِ الشَّرَفِ، وَنَاهِيكَ بِهِمْ إِذَا أَخَذُوا فِي ذِكْرِ الْوُجُوهِ وَجَعَلُوا يُكْثِرُونَ فِي غير طائل، هُنَا لَك تَرَى مَا شِئْتَ مِنْ بَابِ جَهْلٍ قَدْ فَتَحُوهُ، وَزَنْدِ ضَلَالَةٍ قَدْ قَدَحُوا بِهِ».
أَثْبَتَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَا يَقَعُ فِي الضَّلَالِ لَا عَمْدًا وَلَا خَطَأً، أَمَّا التَّعَمُّدُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْعَدَالَةَ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْخِلْقَةَ عَلَى اسْتِقَامَةِ الرَّأْيِ فَإِذَا جَازَ الْخَطَأُ عَلَى آحَادِهِمْ لَا يَجُوزُ تَوَارُدُ جَمِيعِ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ نَظَرًا، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرَانِ لِلْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ مُتَابَعَةً لِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ شَرَائِعَهُمْ لَمْ تُحَذِّرْهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا تَأْوِيلَهَا، ثُمَّ إِنَّ الْعَامَّةَ تَأْخُذُ نَصِيبًا مِنْ هَذِهِ الْعِصْمَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا وَهُوَ الْجُزْءُ النَّقْلِيُّ فَقَطْ وَبِهَذَا يَنْتَظِمُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَقَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عِلَّةٌ لِجَعْلِهِمْ وَسَطًا فَإِنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا مَنُوطَةٌ بِحِكَمٍ وَغَايَاتٍ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَذَلِكَ عَنْ إِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا كَصُدُورِ الْمَعْلُولِ عَنِ الْعِلَّةِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَا بِوُجُوبٍ وَإِلْجَاءٍ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَاتُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ
مِنْهَا خَيْرًا فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ تَعَالَى لِكَمَالِ حِكْمَتِهِ.
وَ (النَّاسُ) عَامٌّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْأُمَمُ الْمَاضُونَ وَالْحَاضِرُونَ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ. فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَهِيَ حُكْمُ هَاتِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالْحَاضِرِينَ بِتَبْرِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ بِالرُّسُلِ الْمَبْعُوثِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِتَضْلِيلِ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ بِرُسُلِهِمْ وَالْمُكَابِرِينَ فِي الْعُكُوفِ عَلَى مِلَلِهِمْ بَعْدَ مَجِيءِ نَاسِخِهَا وَظُهُورِ الْحَقِّ، وَهَذَا حُكْمٌ تَارِيخِيٌّ ديني عَلَيْهِ إِذَا نَشَأَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ نَشَأَتْ عَلَى تَعَوُّدِ عَرْضِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا عَلَى مِعْيَارِ النَّقْدِ الْمُصِيبِ.
وَالشَّهَادَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ هِيَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (١)
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلْ بَلَّغْتُ فَيَقُولُ نَعَمْ يَا رَبِّ فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ هَلْ بَلَّغَكُمْ فَيَقُولُونَ مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ فَيَقُولُ اللَّهُ مَنْ شُهُودُكَ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً قَالَ عَدْلًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً
اه. فَقَوْلُهُ «ثُمَّ قَرَأَ»
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ مِنْ جُمْلَةِ مَعْنَى الْآيَةِ لَا أَنَّهَا عَيْنُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ التَّعْلِيلِ هُوَ الشَّهَادَةُ الْأُولَى لِأَنَّهَا الْمُتَفَرِّعَةُ عَنْ جَعَلْنَا أُمَّةً وَسَطًا، وَأَمَّا مَجِيءُ شَهَادَةِ الْآخِرَةِ عَلَى طِبْقِهَا فَذَلِكَ لِمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ أَنَّ أَحْوَالَ الْآخِرَةِ تَكُونُ عَلَى وَفْقِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ
[طه: ١٢٤- ١٢٦].
_________
(١) انْظُر «فتح الْبَارِي» (١٣/ ٣١٦). كتاب الِاعْتِصَام (١٩) بَاب وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَحْجُبُ عِلْمَهُ شَيْءٌ حَجْبًا ضَعِيفًا وَلَا طَوِيلًا وَلَا غَلَبَةً وَلَا اكْتِسَابًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا تَطَلَّبَهُ الْفَخْرُ وَالْبَيْضَاوِيُّ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ السِّنَةِ عَلَى النَّوْمِ مُرَاعًى فِيهِ تَرْتِيبُ الْوُجُودِ، وَأَنَّ ذِكْرَ النَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِرَاسِ. وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى بَشَّارٌ وَصَاغَهُ بِمَا يُنَاسِبُ صِنَاعَةَ الشِّعْرِ فَقَالَ:

وَلَيْلٍ دَجُوجِيٍّ تَنَامُ بَنَاتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ مِنْ طُولِهِ (١) وَرَبَائِبُهْ
فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْ بَنَاتِ اللَّيْلِ وَأَبْنَائِهِ السَّاهِرَاتِ وَالسَّاهِرِينَ بِمُوَاظَبَةٍ، وَأَرَادَ بِرَبَائِبِ اللَّيْلِ مَنْ هُمْ أَضْعَفُ مِنْهُمْ سَهَرًا لِلَيْلٍ لِأَنَّ الرَّبِيبَ أَضْعَفُ نِسْبَةً مِنَ الْوَلَدِ وَالْبِنْتِ.
وَجُمْلَةُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَقْرِيرٌ لِانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مَخْلُوقَاتُهُ، وَتَعْلِيلٌ لِاتِّصَافِهِ بِالْقَيُّومِيَّةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِلْكًا لَهُ فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ قَيُّومَهَا وَأَلَّا يُهْمِلَهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ. وَالْمُرَادُ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ اسْتِغْرَاقُ أَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَاتِ، فَقَدْ دَلَّتِ الْجُمْلَةُ عَلَى عُمُومِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ لِلْعُمُومِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَشِذُّ
عَنْ مِلْكِهِ مَوْجُودٌ فَحَصَلَ مَعْنَى الْحَصْرِ، وَلَكِنَّهُ زَادَهُ تَأْكِيدًا بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ- أَيْ لَا لِغَيْرِهِ- لِإِفَادَةِ الرَّدِّ عَلَى أَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الصَّابِئَةِ عَبْدَةِ الْكَوَاكِبِ كَالسُّرْيَانِ وَالْيُونَانِ وَمِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ حُصُولِ مَعْنَى الْحَصْرِ بِالْعُمُومِ لَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إِبْطَالِ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَفَادَتْ تَعْلِيمَ التَّوْحِيدِ بِعُمُومِهَا، وَأَفَادَتْ إِبْطَالَ عَقَائِدِ أَهْلِ الشِّرْكِ بخصوصية الْقصر، وَهَذَا بلاغة معْجزَة.
وَجُمْلَةُ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِمَا أَفَادَهُ لَامُ الْمِلْكِ مِنْ شُمُولِ مِلْكِهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا تَضَمَّنَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ مِنْ قَصْرِ ذَلِكَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، فَبَطَلَ وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ عَن غَيره تَعَالَى، بِالْمُطَابَقَةِ. وَبَطَلَ حَقُّ الْإِدْلَالِ عَلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ- الَّتِي لَا تُرَدُّ- بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْإِدْلَالَ مِنْ شَأْنِ الْمُسَاوِي وَالْمُقَارِبِ، وَالشَّفَاعَةُ إِدْلَالٌ. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمُعْتَقَدِ مُعْظَمِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِآلِهَتِهِمْ وَطَوَاغِيتِهِمْ
_________
(١) كتب فِي نُسْخَة ديوَان بشار «هوله» بهاء فِي أَوله وطبع كَذَلِك وبدا لي بعد ذَلِك أَنه تَحْرِيف وَأَن الصَّوَاب «طوله» بطاء عوض الْهَاء لِأَنَّهُ الْمُنَاسب لقَوْله: «تنام».
وَقَالَ فَرِيقٌ: هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ: قَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَتَى مَا يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ خَارِجَ الْحَرَمِ فَإِذَا جَنَى فِي الْحَرَمِ أُقِيدَ مِنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مُسْتَنَدَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [الْبَقَرَة: ١٩٤] أَوِ اسْتَنَدُوا إِلَى أَدِلَّةٍ مِنَ الْقِيَاسِ، وَقَالَ شُذُوذٌ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ كَانَ الْجَانِي جَنَى فِي الْحَرَمِ وَهَؤُلَاءِ طَرَدُوا دَلِيلَهُمْ.
وَقَدْ أَلْمَمْنَا بِذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [الْبَقَرَة: ١٩١].
وَقَدْ جَعَلَ الزَّجَّاجُ جُمْلَةَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آيَةً ثَانِيَةً مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فَهِيَ بَيَانٌ لِ (آيَاتٌ)، وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ لَفْظُ الْجَمْعِ عَلَى الْمُثَنَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيم: ٤]. وَإِنَّمَا جَازَ بَيَانُ الْمُفْرَدِ بِجُمْلَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَعْنَى الْمُفْرَدِ إِذِ التَّقْدِيرُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ مَنْ دَخَلَهُ. وَلَمْ يَنْظُرْ ذَلِكَ بِمَا اسْتُعْمِلَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى يُقَرِّبَ هَذَا الْوَجْهُ. وَعِنْدِي فِي نَظِيره قَول الْحَرْث بْنِ حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
آيَةٌ شَارِقُ الشَّقِيقَةِ إِذْ جَا ءَتْ مَعَدٌّ لِكُلِّ حَيٍّ لِوَاءُ
ثُمَّ قَالَ:
ثُمَّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمِّ قَطَامِ وَلَهُ فَارِسِيَّةٌ خَضْرَاءُ
ثُمَّ قَالَ:
وَفَكَكْنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ عَنْهُ بَعْدَ مَا طَالَ حَبْسُهُ وَالْعَنَاءُ
فَجَعَلَ (وَفَكَكْنَا) هِيَ الْآيَةَ الرَّابِعَةَ بِاتِّفَاقِ الشُّرَّاحِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَفَكُّنَا غُلَّ امْرِئِ الْقَيْسِ.
وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ آيَاتٌ بَاقِيًا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ وَقَدْ بُيِّنَ بِآيَتَيْنِ وَتُرِكَتِ الثَّالِثَةُ كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
كَانَتْ حَنِيفَةُ أَثْلَاثًا فَثُلْثُهُمُ مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
أَيْ وَلَمْ يَذْكُرِ الثُّلُثَ الثَّالِثَ.
وَعَنِ النَّحَّاسِ أَنَّ بَعْضَ الْقُرَّاءِ سَمَّى هَذِهِ اللَّامَ لَامَ (أَنْ).
وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْهِدَايَةُ إِلَى أُصُولِ مَا صَلَحَ بِهِ حَالُ الْأُمَمِ الَّتِي سَبَقَتْنَا، مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرَائِعِ، وَمَقَاصِدِهَا. قَالَ الْفَخْرُ: «فَإِنَّ الشَّرَائِعَ وَالتَّكَالِيفَ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي نَفْسِهَا، إِلَّا أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ». قُلْتُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أَيْ يَتَقَبَّلَ تَوْبَتَكُمْ، إِذْ آمَنْتُمْ وَنَبَذْتُمْ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ، وَنِكَاحِ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ، وَنِكَاحِ الرَّبَائِبِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَمَعْنَى: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يَقْبَلُ تَوْبَتَكُمُ الْكَامِلَةَ بِاتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تَنْقُضُوا ذَلِكَ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ. وَلَيْسَ مَعْنَى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُوَفِّقُكُمْ لِلتَّوْبَةِ، فَيُشْكَلُ بِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ لَا يَتَخَلَّفُ، إِذْ لَيْسَ التَّوْفِيقُ لِلتَّوْبَةِ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ النَّاسِ. فَالْآيَةُ تَحْرِيضٌ عَلَى التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَعْدَ بِقَبُولِهَا يَسْتَلْزِمُ التَّحْرِيضَ عَلَيْهَا مِثْلُ مَا
فِي الْحَدِيثِ: «فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ»
هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَلِلْفَخْرِ وَغَيْرِهِ هُنَا تَكَلُّفَاتٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ مُنَاسِبٌ لِلْبَيَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْوَعْدِ بِقَبُولِهَا، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَثَرُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي إِرْشَادِ الْأُمَّةِ وَتَقْرِيبِهَا إِلَى الرشد.
[٢٧]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٧]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)
كَرَّرَ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً فَلَيْسَ بِتَأْكِيدٍ لَفْظِيٍّ، وَهَذَا كَمَا يُعَادُ اللَّفْظُ فِي الْجَزَاءِ
وَالصِّفَةِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِ الْأَحْوَصِ فِي الْحَمَاسَةِ.
وَقَوْلُهُ: رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْحِكَايَةِ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الثَّنَاء عَلَيْهِ وَالْإِيمَان إِلَى أَنَّ الَّذِينَ يَتَبَجَّحُونَ بِقَتْلِهِ أَحْرِيَاءُ بِمَا رَتَّبَ لَهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ نَصْبُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَى الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَحْكِيِّ: فوصفهم إيّاه مَقْصُود مِنْهُ التَّهَكُّمَ، كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] وَقَوْلِ أَهْلِ مَدْيَنَ لِشُعَيْبٍ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا مَا نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧] فَيَكُونُ نَصْبُ «رَسُولِ اللَّهِ» عَلَى النَّعْتِ لِلْمَسِيحِ.
وَقَوْلُهُ وَما قَتَلُوهُ الْخَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ فِيهِ لِلْحَالِ، أَيْ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ فِي حَالِ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ خَبَرًا عَنْ نَفْيِ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَاقْتَضَى الْحَالُ تَأْكِيدَهُ بِمُؤَكِّدَاتٍ قَوِيَّةٍ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ الْقَوْلِ الْمَعْطُوفِ عَلَى أَسْبَابِ لَعْنِهِمْ وَمُؤَاخَذَتِهِمْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ مُفِيدَةً ثُبُوتَ كَذِبِهِمْ، عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمَلِ الْمُخْبَرِ بِهَا عَنْهُمْ، وَيَكُونُ تَجْرِيدُهُ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ: إِمَّا لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَإِمَّا لِاعْتِبَارِ هَذَا الْخَبَرِ غَنِيًّا عَنِ التَّأْكِيدِ، فَيَكُونُ تَرْكُ التَّأْكِيدِ تَخْرِيجًا عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُتَلَقَّ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الْعَالِمِ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ فَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُؤَكَّدَ.
وَعَطَفَ وَما صَلَبُوهُ لِأَنَّ الصَّلْبَ قَدْ يَكُونُ دُونَ الْقَتْلِ، فَقَدْ كَانُوا رُبَّمَا صَلَبُوا
الْجَانِيَ تَعْذِيبًا لَهُ ثُمَّ عَفَوْا عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [الْمَائِدَة: ٣٣]. وَالْمَشْهُورُ فِي الِاسْتِعْمَالِ: أَنَّ الصَّلْبَ هُوَ أَنْ يُوثَقَ الْمَعْدُودُ لِلْقَتْلِ عَلَى خَشَبَةٍ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ التَّحَرُّكَ ثُمَّ يُطْعَنُ بِالرُّمْحِ أَوْ يُرْمَى بِسَهْمٍ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى صُلِبَ ثُمَّ طُعِنَ بِرُمْحٍ فِي قَلْبِهِ.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ اسْتِدْرَاكٌ، وَالْمُسْتَدْرَكُ هُوَ مَا أَفَادَهُ وَما قَتَلُوهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْقَوْلِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ. وَأَنَّهُ اخْتِلَاقٌ مَحْضٌ، فَبَيَّنَ بِالِاسْتِدْرَاكِ أَنَّ أَصْلَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، وَهِيَ شُبْهَةٌ أَوْهَمَتِ الْيَهُودَ
فَدَلَالَةُ هَذَا مِنْ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى صُدُورِ الْحَلِفِ بَلْ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْحَلِفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ إِثْمٍ، وَذَلِكَ هُوَ إِثْمُ الْحِنْثِ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى وُقُوعِ الْحِنْثِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ إِضَافَةِ كَفَّارَةُ إِلَى أَيْمانِكُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْحَلِفَ هُوَ سَبَبُ السَّبَبِ فَإِذَا عَزَمَ الْحَالِفُ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِيَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ حَلَفَ جَازَ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْعِوَضِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ يَعْنِي غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ هُوَ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ فِي الْكَلَامِ دَلَالَةُ اقْتِضَاءٍ لَا مَحَالَةَ فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِلَفْظِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَصْلُ هَذَا الْحُكْمِ قَوْلُ مَالِكٍ بِجَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحِنْثِ. وَلَمْ يَسْتَدِلْ بِالْآيَةِ. فَاسْتَدَلَّ بِهَا الشَّافِعِيُّ تَأْيِيدًا لِلسُّنَّةِ. وَالتَّكْفِيرُ بَعْدَ الْحِنْثِ أَوْلَى.
وَعَقَّبَ التَّرْخِيصَ الَّذِي رَخَّصَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ فِي عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِأَيْمَانِ اللَّغْوِ فَقَالَ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ. فَأَمَرَ بِتَوَخِّي الْبِرِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا ضُرٌّ بِالْغَيْرِ، لِأَنَّ فِي الْبِرِّ تَعْظِيمَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّهُمْ جَرَى مُعْتَادُهُمْ بِأَنْ يُقْسِمُوا إِذَا أَرَادُوا تَحْقِيقَ الْخَبَرِ، أَوْ إِلْجَاءَ أَنْفُسِهِمْ إِلَى عَمَلٍ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَنْدَمُوا عَنْ عَزْمِهِمْ، فَكَانَ فِي قَوْلِهِ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ زَجْرٌ لَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْعَادَةِ السَّخِيفَةِ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْإِقْلَالِ مِنَ الْحَلِفِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ الْحَالِفُ نَفْسَهُ لِلْحِنْثِ. وَالْكَفَّارَةُ مَا هِيَ إِلَّا خُرُوجٌ مِنَ الْإِثْمِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِأَيُّوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤]. فَنَزَّهَهُ عَنِ الْحِنْثِ بِفَتْوًى خَصَّهُ بِهَا.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ تَذْيِيلٌ. وَمَعْنَى كَذلِكَ كَهَذَا الْبَيَانِ يُبَيِّنُ اللَّهُ، فَتِلْكَ عَادَةُ شَرْعِهِ أَنْ يَكُونَ بَيِّنًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَيُطْلَقُ الصِّدْقُ مَجَازًا عَلَى كَوْنِ الشَّيْءِ كَامِلًا فِي خَصَائِصِ نَوْعِهِ.
وَالْعَدْلُ: إِعْطَاءُ مَنْ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّ، وَدَفْعُ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَتَدْبِيرُ أُمُورِ النَّاسِ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٥٨]. فَيَشْمَلُ الْعَدْلُ كُلَّ مَا فِي كَلِمَاتِ اللَّهِ: من تَدْبِير شؤون الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلْكَلِمَاتِ أَوِ الْكَلِمَةِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُرْآنَ بَلَغَ أَقْصَى مَا تَبْلُغُهُ الْكُتُبُ: فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ، وَبَلَاغَةِ الْعِبَارَةِ، وَأَنَّهُ الصَّادِقُ فِي أَخْبَارِهِ، الْعَادِلُ فِي أَحْكَامِهِ، لَا يُعْثَرُ فِي أَخْبَارِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْوَاقِعَ، وَلَا فِي أَحْكَامِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ التَّحَدِّي وَالِاحْتِجَاجِ عَلَى أَحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ. وَعَلَى التَّفْسِيرَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، يَكُونُ الْمَعْنَى: نَفَذَ مَا قَالَهُ اللَّهُ، وَمَا وَعَدَ وَأَوْعَدَ، وَمَا أَمَرَ وَنَهَى، صَادِقًا ذَلِكَ كُلُّهُ، أَيْ غَيْرُ مُتَخَلِّفٍ، وَعَادِلًا، أَيْ غَيْرُ جَائِرٍ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنْ سَيَحِقُّ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ، الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِهِ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وتمت كلمت رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [الْأَعْرَاف: ١٣٧] أَيْ تَمَّ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنِ امْتِلَاكِ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا الَّتِي بَارَكَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَات رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: ٦] أَيْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ وَعِيدِهِ.
وَمَعْنَى: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ نَفْيُ جِنْسِ مَنْ يُبَدِّلُ كَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ يُبْطِلُ مَا أَرَادَهُ فِي كَلِمَاتِهِ.
وَالتَّبْدِيلُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١]، وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ لَهُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ، وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّتِهِ هُوَ التَّبْدِيلُ.
وَالتَّبْدِيلُ حَقِيقَتُهُ جَعْلُ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ آخَرَ، فَيَكُونُ فِي الذَّوَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: ٤٨] وَقَالَ النَّابِغَةُ:
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَجاءَها بَأْسُنا عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ: فَجاءَها بَأْسُنا عَلَى جُمْلَةِ:
أَهْلَكْناها، وَأَصْلُ الْعَاطِفَةِ أَنْ تُفِيدَ تَرْتِيبَ حُصُولِ مَعْطُوفِهَا بَعْدَ حُصُولِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ حَاصِلًا مَعَ حُصُولِ الْإِهْلَاكِ أَوْ قَبْلَهُ، إِذْ هُوَ سَبَبُ الْإِهْلَاكِ، عُسِرَ عَلَى جمع من المسفّرين مَعْنَى مَوْقِعِ الْفَاءِ هُنَا، حَتَّى قَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ الْفَاءَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ أَيْضًا إِذَا كَانَ مَعْنَى الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ مِثْلَ شَتَمَنِي فَأَسَاءَ وَأَسَاءَ فَشَتَمَنِي. وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ، وَالْأَصْلُ: جَاءَهَا بَأْسُنَا فَأَهْلَكْنَاهَا، وَهُوَ قَلْبٌ خَلِيٌّ عَنِ النُّكْتَةِ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَالَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ فِعْلَ (أَهْلَكْنَاهَا) مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨] وَقَوْلِهِ: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: ٦] الْآيَةَ أَيْ فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ، وَإِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْفِعْلِ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ وُقُوعِ مَعْنَاهُ مِنَ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَ السَّكَّاكِيِّ قَالَ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النَّحْل: ٩٨] اسْتَعْمَلَ قَرَأْتَ مَكَانَ أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ مُسَبَّبَةً عَنْ إِرَادَتِهَا اسْتِعْمَالًا مَجَازِيًّا بِقَرِينَةِ الْفَاءِ فِي فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَقَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها
فِي مَوْضِعِ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا بِقَرِينَةٍ فَجاءَها بَأْسُنا وَالْبَأْسُ الْإِهْلَاكُ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنْ إِرَادَةِ الْفِعْلِ بِذِكْرِ الصِّيغَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ يَكُونُ لِإِفَادَةِ عَزْمِ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، عَزْمًا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ الْعَمَلُ، بِحَيْثُ يُسْتَعَارُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، لِلْإِرَادَةِ لِتَشَابُهِهِمَا، وَإِمَّا الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ التَّرَيُّثِ، فَدَلَّ الْكَلَامُ كُلُّهُ: عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ فَيَخْلُقُ أَسْبَابَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ فَيَحْصُلُ الْفِعْلُ، كُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ كَالْأَشْيَاءِ الْمُتَقَارِنَةِ، وَقَدِ اسْتُفِيدَ هَذَا التّقارن بِالتَّعْبِيرِ عَنِ الْإِرَادَةِ بِصِيغَةٍ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْفِعْلِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ حُصُولِ السَّبَبِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَهْدِيدُ السَّامِعِينَ الْمُعَانِدِينَ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنْ أَنْ يَحُلَّ غَضَبُ
بَغْتَةً وَلَكِنَّهُ دَلَّ عَلَى إِصْرَارِهِمْ، أَيْ: فَحَصَلَ أَخْذُنَا إِيَّاهُمْ عَقِبَ تَحَسُّنِ حَالِهِمْ وَبَطَرِهِمُ النِّعْمَةَ.
وَالتَّعْقِيبُ عُرْفِيٌّ فَيَصْدُقُ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ طُولًا فِي الْعَادَةِ لِحُصُولِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ.
وَالْأَخْذُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤].
وَالْبَغْتَةُ: الْفَجْأَةُ، وَتَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الْأَنْعَام:
٣١]، وَفِي قَوْلِهِ: حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٤]، وَتَقَدَّمَ هُنَالِكَ وَجْهُ نَصْبِهَا.
وَجُمْلَة: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنى بَغْتَةً.
[٩٦- ٩٩]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٩٦ إِلَى ٩٩]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى عَلَى جُمْلَةِ: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيءٍ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الْأَعْرَاف: ٩٤] أَيْ: مَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ نَبِيئًا فَكَذَّبَهُ أَهْلُهَا إِلَّا نَبَّهْنَاهُمْ وَاسْتَدْرَجْنَاهُمْ ثُمَّ عَاقَبْنَاهُمْ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ آمَنُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُمْ وَاتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَمَا أَصَبْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَلَأَحْيَيْنَاهُمْ حَيَاةَ الْبَرَكَةِ، أَيْ: مَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.
وَشَرْطُ (لَوِ) الِامْتِنَاعِيَّةِ يَحْصُلُ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَلَمَّا جَاءَتْ جُمْلَةُ شَرْطِهَا
وَقَدْ ظَهَرَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنْ لَمْ تَتَوَاعَدُوا وَجِئْتُمْ عَلَى غَيْرِ اتِّعَادٍ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَيْ لِيُحَقِّقَ وَيُنْجِزَ مَا أَرَادَهُ مِنْ نَصْرِكُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَلَمَّا كَانَ تَعْلِيلُ الِاسْتِدْرَاك المفاد بلكن قَدْ وَقَعَ بِفِعْلٍ مُسْنَدٍ إِلَى اللَّهِ كَانَ مُفِيدًا أَنَّ مَجِيئَهُمْ إِلَى الْعُدْوَتَيْنِ عَلَى غَيْرِ تَوَاعُدٍ كَانَ بِتَقْدِيرٍ مِنَ اللَّهِ عِنَايَةً بِالْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْنَى أَمْراً هُنَا الشَّيْءُ الْعَظِيمُ، فَتَنْكِيرُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ يُجْعَلُ بِمَعْنَى الشَّأْنِ وَهُمْ لَا يُطْلِقُونَ (الْأَمْرَ) بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مُهِمٍّ، وَلَعَلَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ مَا سمّي (أمرا) لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِعَمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: ٢١] وَقَوْلِهِ:
وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الْأَحْزَاب: ٣٨].
وكانَ تَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ ثُبُوتِ مَعْنَى خَبَرِهَا لِاسْمِهَا مِنَ الْمَاضِي مِثْلَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الرّوم: ٤٧] أَيْ ثَبَتَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْحَقِّيَّةِ عَلَيْنَا من قديم الزَّمن. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [مَرْيَم: ٢١]. فَمَعْنَى كانَ مَفْعُولًا أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُفْعَلُ. فَاشْتُقَّ لَهُ صِيغَةُ مَفْعُولٍ مِنْ فَعَلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِينَ قُدِّرَتْ مَفْعُولِيَّتُهُ فَقَدْ صَارَ كَأَنَّهُ فُعِلَ، فَوُصِفَ لِذَلِكَ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِتَسَلُّطِ الْفِعْلِ فِي الْحَالِ لَا فِي الِاسْتِقْبَالِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: لِيُنْجِزَ اللَّهُ وَيُوقِعَ حَدَثًا عَظِيمًا مُتَّصِفًا مُنْذُ الْقِدَمِ بِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ عِنْدَ إِبَّانِهِ، أَيْ حَقِيقًا بِأَنْ يُفْعَلَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ فُعِلَ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْمَوَانِعِ الْمُعْتَادَةِ.
وَجُمْلَةُ: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ وَقَهْرُ الْمُشْرِكِينَ وَذَلِكَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى إِهْلَاكِ الْمَهْزُومِينَ وَإِحْيَاءِ الْمَنْصُورِينَ وَحَفَّهُ مِنَ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِهَانَتِهِ الْمُشْرِكِينَ مَا فِيهِ بَيِّنَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ تَقْطَعُ عُذْرَ الْهَالِكِينَ، وَتَقْتَضِي شُكْرَ الْأَحْيَاءِ. وَدُخُولُ لَامِ التَّعْلِيلِ على فعل لِيَهْلِكَ تَأْكِيدٌ لِلَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى لِيَقْضِيَ فِي الْجُمْلَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا. وَلَوْ لَمْ تَدْخُلِ اللَّامُ لَقِيلَ: يَهْلِكُ مَرْفُوعًا.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ. ومَرَدُوا وَخبر عَنْهُ، أَوْ تُجْعَلُ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةً مُؤْذِنَةً بِمُبَعَّضٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَاعَةٌ مَرَدُوا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤٦].
وَمَعْنَى مَرَدَ عَلَى الْأَمْرِ مَرِنَ عَلَيْهِ وَدَرِبَ بِهِ، وَمِنْهُ الشَّيْطَانُ الْمَارِدُ، أَيْ فِي الشَّيْطَنَةِ.
وَأُشِيرَ بِقَوْلِهِ: لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَلَّ الْبَاقِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ أَرَادَ اللَّهُ الِاسْتِيثَارَ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَطْلَعَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَبْلُ. وَإِنَّمَا أَعْلَمَهُ بِوُجُودِهِمْ عَلَى الْإِجْمَالِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ:
لَا تَعْلَمُهُمْ.
وَجُمْلَةُ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعِيدِ، كَقَوْلِهِ: وَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
[التَّوْبَة: ٩٤]، وَإِلَّا فَإِنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ لِلْمُخَاطَبِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْفَائِدَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِلْمِهِ بِهِمْ، فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِهِمْ كَافٍ. وَفِيهِ أَيْضًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ اسْتِينَافٌ بَيَانِيٌّ لِلْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ أَثَرِ كَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَلِّمُهُمْ. فَأُعْلِمَ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ وَلَا يُفْلِتُهُمْ مِنْهُ عَدَمُ عِلْمِ الرَّسُولِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِهِمْ. وَالْعَذَابُ الْمَوْصُوفُ بِمَرَّتَيْنِ عَذَابٌ فِي الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ تَحَيَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ. وَحَمَلُوهُ كُلُّهُمْ عَلَى حَقِيقَةِ الْعَدَدِ.
وَذَكَرُوا وُجُوهًا لَا يَنْشَرِحُ لَهَا الصَّدْرُ. وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْعَدَدَ مُسْتَعْمَلٌ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ التَّكْرِيرِ الْمُفِيدِ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الْملك: ٤] أَيْ تَأَمَّلْ تَأَمُّلًا مُتَكَرِّرًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَاسْمُ التَّثْنِيَةِ نَائِبٌ مَنَابَ إِعَادَةِ اللَّفْظِ.
وَالْمَعْنَى: سَنُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا مُتَكَرِّرًا مُضَاعَفًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَهَذَا التَّكَرُّرُ تَخْتَلِفُ أَعَدَادُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَاخْتِلَافِ أَزْمَانِ عَذَابِهِمْ.
وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ: هُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ فِي الْآخِرَة.
وَتَحَدَّاهُمْ هُنَا بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ خِلَافَ مَا تَحَدَّاهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، كَمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ التَّحَدِّي أَوَّلَ الْأَمْرِ بِأَنْ يَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ مَا وَقَعَ فِي سُورَةِ هُودٍ، ثُمَّ نُسِخَ بِأَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا وَقَعَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ يُونُسَ. فَتَخَطَّى أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى أَنْ قَالُوا إِنَّ سُورَةَ هُودٍ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهُوَ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: تَحَدَّاهُمْ أَوَّلًا بِسُورَةٍ ثُمَّ تَحَدَّاهُمْ هُنَا بِعَشْرِ سُوَرٍ لِأَنَّهُمْ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ هُنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِسُوَرٍ مُفْتَرَيَاتٍ فَلَمَّا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي صِفَتِهَا أَكْثَرَ عَلَيْهِمْ عَدَدَهَا. وَمَا وَقَعَ مِنَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ اعْتُبِرَ فِيهِ مُمَاثَلَتُهَا لِسُوَرِ الْقُرْآنِ فِي كَمَالِ الْمَعَانِي، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَمَعْنَى مُفْتَرَياتٍ أَنَّهَا مُفْتَرَيَاتُ الْمَعَانِي كَمَا تَزْعُمُونَ عَلَى الْقُرْآنِ أَيْ بِمِثْلِ قَصَصِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَاذِيبِهِمْ. وَهَذَا مِنْ إِرْخَاءِ الْعِنَانِ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، فَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ مِثْلِهِ هِيَ الْمُمَاثَلَةُ فِي بَلَاغَةِ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتِهِ لَا فِي سَدَادِ مَعَانِيهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَفِي هَذَا دَلِيلُ عَلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ وَفَصَاحَتَهُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ عُلُوِّ مَعَانِيهِ وَتَصْدِيقِ بَعْضِهِ بَعْضًا. وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ لِعَمَلٍ. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ مَجَازًا وَلَوْ بِدُونِ نِدَاءٍ.
وَحَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ، أَيْ وَادْعُوا لِذَلِكَ. وَالْأَمْرُ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ، أَيْ إِنْ شِئْتُمْ حِينَ تَكُونُونَ قَدْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ فَلَكُمْ أَنْ تَدْعُوا مَنْ تَتَوَسَّمُونَ فِيهِ الْمَقْدِرَةَ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ تَرْجُونَ أَنْ يَنْفَحَكُمْ بِتَأْيِيدِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ وَبِتَيْسِيرِ النَّاسِ لِيُعَاوِنُوكُمْ كَقَوْلِهِ: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْبَقَرَة: ٢٣].
ومِنْ دُونِ اللَّهِ وَصْفٌ لِ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَنُكْتَةُ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ التَّذْكِيرُ بِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا عَمَّمَ لَهُمْ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِمَنِ
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالٍ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالْمَصْدَرِ فَتَأْوِيلُهُ: إِلَّا مُحَاطًا بِكُمْ.
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ تَذْكِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ رَقِيبٌ عَلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ.
وَهَذَا تَوْكِيدٌ لِلْحَلِفِ.
وَالْوَكِيلُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَوْكُولٍ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ فِي وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آل عمرَان [١٧٣].
[٦٧]
[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٦٧]
وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)
وَقالَ يَا بَنِيَّ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قالَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يُوسُف: ٦٦].
وَإِعَادَةُ فِعْلِ قالَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَإِنْ كَانَا مَعًا مُسَبَّبَيْنِ عَلَى إِيتَاءِ مَوْثِقِهِمْ، لِأَنَّهُ اطْمَأَنَّ لِرِعَايَتِهِمُ ابْنَهُ وَظَهَرَتْ لَهُ الْمَصْلَحَةُ فِي سفرهم للإمتار، فَقَوْلُهُ: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ صَادِرٌ فِي وَقْتِ إِزْمَاعِهِمُ الرَّحِيلَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ
قَوْلِهِ هَذَا الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَخَّ.
وَالْأَبْوَابُ: أَبْوَابُ الْمَدِينَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَابِ آنِفًا. وَكَانَتْ مَدِينَةَ (مَنْفِيسَ) مِنْ أَعْظَمِ مُدُنِ الْعَالَمِ فَهِيَ ذَاتُ أَبْوَابٍ. وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَرْعِيَ عَدَدُهُمْ أَبْصَارَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُرَّاسَهَا وَأَزْيَاؤُهُمْ أَزْيَاءُ الْغُرَبَاءِ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُوجِسُوا مِنْهُمْ خِيفَةً مِنْ تَجَسُّسٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَرُبَّمَا سَجَنُوهُمْ
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَوْمَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إِذَنْ مَا كُنْتُمْ مُنْظَرِينَ بِالْحَيَاةِ وَلَعَجَّلَ لَكُمُ الِاسْتِئْصَالَ إِذْ مَا تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا مَصْحُوبِينَ بِالْعَذَابِ الْحَاقِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَارِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [سُورَة العنكبوت: ٥٣].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا تَنَزَّلُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَتَنَزَّلُ).
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ- بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الزَّايِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى النِّيَابَةِ-.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ- بِنُونٍ فِي أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ على المفعولية-.
[٩]
[سُورَة الْحجر (١٥) : آيَة ٩]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِإِبْطَالِ جُزْءٍ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، إِذْ قَالُوا: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [سُورَة الْحجر: ٦]، بَعْدَ أَنْ عَجَّلَ كَشْفَ شُبْهَتِهِمْ فِي قَوْلهم: لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [سُورَة الْحجر: ٧].
جَاءَ نَشْرُ الْجَوَابَيْنِ عَلَى عَكْسِ لَفِّ الْمَقَالَيْنِ اهْتِمَامًا بِالِابْتِدَاءِ بِرَدِّ الْمَقَالِ الثَّانِي بِمَا فِيهِ مِنَ الشُّبْهَةِ بِالتَّعْجِيزِ وَالْإِفْحَامِ، ثُمَّ ثُنِّيَ الْعَنَانُ إِلَى رَدِّ تَعْرِيضِهِمْ بِالِاسْتِهْزَاءِ وَسُؤَالِ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ.
وَكَانَ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ نَوْعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِتَقْرِيرِ إِنْزَالِ الذِّكْرِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَارَاةً لِظَاهِرِ كَلَامِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي اسْتِهْزَائِهِمْ، فَأُكِّدَ الْخَبَرُ بِ إِنَّا وَضَمِيرِ الْفَصْلِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا فِي الْوَاقِعِ كَقَوْلِهِ: قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [سُورَة المُنَافِقُونَ: ١].
وَ «حَوْلَ» يَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَانِ اسْمِ مَا أُضِيفَ (حَوْلَ) إِلَيْهِ.
وَكَوْنُ الْبَرَكَةِ حَوْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ بِالْأَوْلَى، لِأَنَّهَا إِذَا حَصَلَتْ حَوْلَهُ فَقَدْ تَجَاوَزَتْ مَا فِيهِ فَفِيهِ لَطِيفَةُ التَّلَازُمِ، وَلَطِيفَةُ فَحَوَى الْخِطَابِ، وَلَطِيفَةُ الْمُبَالَغَةِ بِالتَّكْثِيرِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْلُ زِيَادٍ الْأَعْجَمِ:
إِنَّ السَّمَاحَةَ وَالْمُرُوءَةَ وَالنَّدَى فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ
وَلِكَلِمَةِ حَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ حُسْنِ الْمُوَقِّعِ مَا لَيْسَ لِكَلِمَةِ (فِي) فِي بَيْتِ زِيَادٍ، ذَلِكَ أَنَّ ظَرْفِيَّةَ (فِي) أَعَمُّ. فَقَوْلُهُ: (فِي قُبَّةٍ) كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهَا فِي سَاكِنِ الْقُبَّةِ لَكِنْ لَا تُفِيدُ انْتِشَارَهَا وَتَجَاوُزَهَا مِنْهُ إِلَى مَا حَوْلَهُ.
وَأَسْبَابُ بَرَكَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كَثِيرَةٌ كَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ كَلِمَةُ حَوْلَهُ. مِنْهَا أَنَّ وَاضِعَهُ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمِنْهَا مَا لَحِقَهُ مِنَ الْبَرَكَةُ بِمَنْ صَلَّى بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاء من دَاوُود وَسُلَيْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ بِحُلُولِ الرَّسُولِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَإِعْلَانِهِ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ فِيهِ وَفِيمَا حَوْلَهُ، وَمِنْهَا بَرَكَةُ مَنْ دُفِنَ حَوْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن قَبْرِي دَاوُود وَسُلَيْمَانَ حَوْلَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى. وَأَعْظَمُ تِلْكَ الْبَرَكَاتِ حُلُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ذَلِكَ الْحُلُولُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَصَلَاتُهُ فِيهِ بِالْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ.
وَقَوْلُهُ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا تَعْلِيلُ الْإِسْرَاءِ بِإِرَادَةِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، تَعْلِيلٌ بِبَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي لِأَجْلِهَا منح الله نبيئه مِنْحَةَ الْإِسْرَاءِ، فَإِنَّ لِلْإِسْرَاءِ حِكَمًا جَمَّةً تَتَّضِحُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي «الصَّحِيحِ». وَأَهَمُّهَا وَأَجْمَعُهَا إِرَاءَتُهُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَلَائِلِ قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، أَيْ لِنُرِيَهُ مِنَ الْآيَاتِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا سَأَلُوهُ عَنْ وَصْفِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.
وَلَامُ التَّعْلِيلِ لَا تُفِيدُ حَصْرَ الْغَرَضِ مِنْ مُتَعَلَّقِهَا فِي مَدْخُولِهَا.
وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ أَعْلَقُ بِتَكْرِيمِ الْمُسْرَى بِهِ
وَالْعِنَايَةِ بِشَأْنِهِ، لِأَنَّ إِرَاءَةَ الْآيَاتِ تَزِيدُ يَقِينَ الرَّائِي بِوُجُودِهَا
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ الْقُرْآنِيَّةُ تُعْطِي صِفَاتٍ لَا مَحِيدَ عَنْهَا:
إِحْدَاهَا: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا صَالِحًا عَادِلًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ كَانَ مُلْهَمًا مِنَ اللَّهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مُلْكَهُ شَمِلَ أَقْطَارًا شَاسِعَةً.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ بَلَغَ فِي فُتُوحِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ مَكَانًا كَانَ مَجْهُولًا وَهُوَ عَيْنٌ حَمِئَةٌ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ بَلَغَ بِلَادَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي جِهَةٍ مِمَّا شَمِلَهُ مُلْكُهُ غَيْرِ الْجِهَتَيْنِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ فَكَانَتْ وَسَطًا بَيْنَهُمَا كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْتِقْرَاءُ مَبْلَغِ أَسْبَابِهِ.
السَّادِسَةُ: أَنَّهُ أَقَامَ سَدًّا يَحُولُ بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَبَيْنَ قَوْمٍ آخَرِينَ.
السَّابِعَةُ: أَنَّ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَائِثِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُفْسِدُونَ بِلَادَ قَوْمٍ مُوَالِينَ لِهَذَا الْمَلِكِ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ قَوْمٌ أَهْلُ صِنَاعَةٍ مُتْقَنَةٍ فِي الْحَدِيدِ وَالْبِنَاءِ.
التَّاسِعَةُ: أَنَّ خَبَرَهُ خَفِيٌّ دَقِيقٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْأَحْبَارُ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ.
وَأَنْتَ إِذَا تَدَبَّرْتَ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ نَفَيْتَ أَنْ يَكُونَ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِسْكَنْدَرَ الْمَقْدُونِيَّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا صَالِحًا بَلْ كَانَ وَثَنِيًّا فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِتَلَقِّي الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ كَمَالَاتٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّهُ أَقَامَ سَدًّا بَيْنَ بَلَدَيْنِ.
وَأَمَّا نِسْبَةُ السَّدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصِّينِ وَبَيْنَ بِلَادِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ إِلَيْهِ فِي كَلَامِ بَعْضِ المؤرخين فَهُوَ ناشىء عَنْ شُهْرَةِ الْإِسْكَنْدَرِ، فَتَوَهَّمَ
الْأَوَّلُونَ مُخَالِفِينَ لِلْبَشَرِ فَمَاذَا يَصْنَعُونَ فِي لَحَاقِ الْفَنَاءِ إِيَّاهُمْ.
فَهَذَا وَجْهُ زِيَادَةِ وَما كانُوا خالِدِينَ.
وَأُتِيَ فِي نَفْيِ الْخُلُودِ عَنْهُمْ بِصِيغَةِ مَا كانُوا تَحْقِيقًا لِتَمَكُّنِ عَدَمِ الخلود مِنْهُم.
[٩]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٩]
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ. وَالْمَعْنَى: وَأَهَمُّ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّا صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. وَمَضْمُونُ هَذَا أَهَمُّ فِي الْغَرَضَيْنِ التَّبْشِيرِ وَالْإِنْذَارِ. فَالتَّبْشِيرُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ صَادِقُهُ وَعْدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ مَاثَلَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ.
وَالْمرَاد بالوعد وَعدم النَّصْرَ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فَأَنْجَيْناهُمْ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّهُ وَعْدُ عَذَابٍ لِأَقْوَامِهِمْ، فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّنْوِيهِ بِالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِوَعِيدِ الَّذِينَ قَالُوا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥]. وَفِي هَذَا تَقْرِيعٌ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ إِنْ كَانَ أَعْجَبَكُمْ مَا أَتَى بِهِ الْأَوَّلُونَ فَسَأَلْتُمْ مِنْ رَسُولِكُمْ مِثْلَهُ فَإِنَّ حَالَكُمْ كَحَالِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ فَتَرَقَّبُوا مِثْلَ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَتَرَقَّبُ رَسُولُكُمْ مِثْلَ مَا لَقِيَ سَلَفُهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ١٠٢].
وَانْتُصِبَ الْوَعْدُ بِ صَدَقْناهُمُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِنَزْعِ حَرْفِ الْجَرِّ. وَأَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يُقَالَ: صَدَقْنَاهُمْ فِي الْوَعْدِ، لِأَنَّ (صَدَقَ) لَا يَتَعَدَّى
رَوَى النَّسَائِيُّ: أَنَّ عَائِشَةَ قِيلَ لَهَا: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَتْ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. وَقَدْ كَانَ خُلُقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ هَذَا، فِيمَا عَدَا حِفْظَ الْعَهْدِ غَالِبًا، قَالَ تَعَالَى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الْأَنْفَال:
٣٥]، وَقَالَ فِي شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكَافِرِينَ وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَص: ٥٥]، وَقَالَ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: ٦، ٧]، وَقَدْ كَانَ الْبِغَاءُ وَالزِّنَى فَاشِيَيْنِ فِي الجاهليّة.
[١٠، ١١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : الْآيَات ١٠ إِلَى ١١]
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
جِيءَ لَهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ بَعْدَ أَنْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الصِّفَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِيُفِيدَ اسْمُ الْإِشَارَةِ
أَنَّ جَدَارَتَهُمْ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ حَصَلَتْ مِنَ اتِّصَافِهِمْ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] بَعْدَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِلَى آخِرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢]. وَالْمَعْنَى: أُولَئِكَ هُمُ الْأَحِقَّاءُ بِأَنْ يَكُونُوا الْوَارِثِينَ بِذَلِكَ.
وَتَوْسِيطُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ، وَحُذِفَ مَعْمُولُ الْوارِثُونَ لِيَحْصُلَ إِبْهَامٌ وَإِجْمَالٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ بَيَانَهُ فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ قَصْدًا لِتَفْخِيمِ هَذِهِ الْوِرَاثَةِ، وَالْإِتْيَانُ فِي الْبَيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ بِمَضْمُونِ صِلَتِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْوارِثُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَأَنَّهُ قِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ هَذَا الْوَصْفِ الْمَعْرُوفُونَ بِهِ.
وَاسْتُعِيرَتِ الْوِرَاثَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِأَنَّ الْإِرْثَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ، قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢].
عَقِبَ جُزْءٍ، وَمَا قَالَهُ أَيْضًا: «أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى حَسَبِ الدَّوَاعِي وَالْحَوَادِثِ وَجَوَّابَاتِ السَّائِلِينَ» اه، أَيْ فَيَكُونُونَ أَوْعَى لِمَا يَنْزِلُ فِيهِ لِأَنَّهُمْ بِحَاجَةٍ إِلَى عِلْمِهِ، فَيَكْثُرُ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَذَلِكَ مِمَّا يُثَبِّتُ فُؤَادَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَشْرَحُ صَدْرَهُ.
وَمَا قَالَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا وَتَحَدِّيَهُمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِبَعْضِ تِلْكَ التَّفَارُقِ كُلَّمَا نَزَلَ شَيْءٌ مِنْهَا، أَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ وَأَنْوَرُ لِلْحُجَّةِ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ كُلُّهُ جُمْلَةً» اه.
وَمِنْهُ مَا قَالَهُ الْجَدُّ الْوَزِيرُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ مُنَجَّمًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ لِمَا ظَهَرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهِ مُطَابَقَتُهَا لِمُقْتَضَى الْحَالِ وَمُنَاسَبَتُهَا لِلْمَقَامِ وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إِعْجَازِهَا. وَقُلْتُ: إِنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا أَعُونُ لِحُفَّاظِهِ عَلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عُطِفَ عَلَى قَوْله كَذلِكَ، أَي أَنْزَلْنَاهُ مُنَجَّمًا وَرَتَّلْنَاهُ، وَالتَّرْتِيلُ يُوصَفُ بِهِ الْكَلَامُ إِذَا كَانَ حَسَنَ التَّأْلِيفِ بَيِّنَ الدَّلَالَةِ. وَاتَّفَقَتْ أَقْوَالُ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَغْرٌ مُرَتَّلٌ، وَرَتِلٌ، إِذَا كَانَتْ أَسْنَانُهُ مُفَلَّجَةً تُشْبِهُ نُورَ الْأُقْحُوَانِ. وَلَمْ يُورِدُوا شَاهِدًا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَالتَّرْتِيلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالَةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ، أَيْ نَزَّلْنَاهُ مُفَرَّقًا مُنَسَّقًا فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ غَيْرَ مُتَرَاكِمٍ فَهُوَ مُفَرَّقٌ فِي الزَّمَانِ فَإِذَا كَمُلَ إِنْزَالُ سُورَةٍ جَاءَتْ آيَاتُهَا مَرَتَّبَةً مُتَنَاسِبَةً كَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَمُفَرَّقٌ فِي التَّأْلِيفِ بِأَنَّهُ مُفَصَّلٌ وَاضِحٌ. وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ كَلَامِ النَّاسِ إِذَا فُرِّقَ تَأْلِيفُهُ عَلَى أَزْمِنَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ أَنْ يَعْتَوِرَهُ التَّفَكُّكُ وَعَدَمُ تَشَابُهِ الْجُمَلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِ رَتَّلْناهُ أَمَرْنَا بِتَرْتِيلِهِ، أَيْ بِقِرَاءَتِهِ مُرَتَّلًا، أَيْ بِتَمَهُّلٍ بِأَنْ لَا يُعَجَّلَ فِي قِرَاءَتِهِ بِأَنْ تُبَيَّنَ جَمِيعُ الْحُرُوفِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَهَلٍ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [٤]
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
وتَرْتِيلًا مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ قُصِدَ بِهِ مَا فِي التَّنْكِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فَصَارَ الْمَصْدَرُ مُبَيِّنًا لنَوْع الترتيل.
فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ كَلَامٍ مَنْفِيٍّ. فَحَقَّ الْمُسْتَثْنَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَلِذَلِكَ جَاءَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مَرْفُوعًا وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا لَكَانَتِ اللُّغَةُ الْفُصْحَى تَنْصِبُ الْمُسْتَثْنَى.
وَبَعْدُ فَإِنَّ دَلَائِلَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَكَانِ وَعَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَوَافِرَةٌ فَلِذَلِكَ يَجْرِي اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى سَنَنِ الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَوَهَّمُ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعًا وُقُوفًا عِنْدَ ظَاهِرِ صِلَةِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ اللَّهَ يُنَزَّهُ عَنِ الْحُلُولِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَأَمَّا مَنْ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الْغَيْبِ فَذَلِكَ دَاخَلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الْجِنّ: ٢٦، ٢٧]. فَأَضَافَ (غَيْبِ) إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.
وَأَرْدَفَ هَذَا الْخَبَرَ بِإِدْمَاجِ انْتِفَاءِ عِلْمِ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ بَلْ جَحَدُوا وُقُوعَهُ إِثَارَةً لِلتَّذْكِيرِ بِالْبَعْثِ لِشِدَّةِ عِنَايَةِ الْقُرْآنِ بِإِثْبَاتِهِ وَتَسْفِيهِ الَّذِينَ أَنْكَرُوهُ. فَذَلِكَ مَوْقِعُ قَوْلِهِ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، أَيْ إِنَّ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مَا يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ.
وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الزَّمَانِ وَهُوَ مُعَلَّقُ فِعْلِ يَشْعُرُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ. وَهَذَا تَوَرُّكٌ وَتَعْيِيرٌ لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ بَلْهَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِهِ.
وبَلِ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِ مَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَهُوَ ارْتِقَاءٌ إِلَى مَا هُوَ أَغْرَبُ وَأَشَدُّ ارْتِقَاءً مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ إِلَى وَصْفِ عِلْمِهِمْ بِالْآخِرَةِ الَّتِي الْبَعْثُ مِنْ أَوَّلِ أَحْوَالِهَا وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ عِلْمٌ مُتَدَارَكٌ أَوْ مُدْرَكٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ادَّارَكَ بِهَمْزِ وَصْلٍ فِي أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ (تَدَارَكَ) فَأُدْغِمَتْ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي الدَّال لقرب مخرجيها بَعْدَ أَنْ سَكَنَتْ وَاجْتُلِبَ
وَقَوْلُهُ: مِنْ فَوْقِهِمْ بَيَانٌ لِلْغَشَيَانِ لِتَصْوِيرِهِ تَفْظِيعًا لِحَالِهِ كَقَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: ٣٨] وَتَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْغَشَيَانِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْعَذابُ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ احْتِرَاسٌ عَمَّا قَدْ يُوهِمُهُ الْغَشَيَانُ مِنَ الْفَوْقِيَّةِ خَاصَّةً، أَيْ تُصِيبُهُمْ نَارٌ مِنْ تَحْتِهِمْ تَتَوَهَّجُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَالِ بِالْوَاوِ وَكَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ قَيْدًا لِ يَغْشاهُمُ لِأَنَّ الْغَشَيَانَ هُوَ التَّغْطِيَةُ فَتَقْتَضِي الْعُلُوَّ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ عَامِلٌ مَحْذُوفٌ. وَقَدْ عُدَّ هَذَا الْعَمَلُ مِنْ خَصَائِصِ الْوَاوِ فِي الْعَطْفِ أَنْ تَعْطِفَ عَامِلًا مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ مَعْمُولُهُ- كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى:
يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
يُرِيدُ: وَمُمْسِكًا رُمْحًا لِأَنَّ الرُّمْحَ لَا يُتَقَلَّدُ- يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مَعَهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْجُرْمِيُّ وَالْيَزِيدِيُّ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الْفِعْلِ مَعْنَى فِعْلٍ صَالِحٍ لِلتَّعَلُّقِ بِالْمَذْكُورِ فَيُقَدَّرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَضْمِينُ فِعْلِ يَغْشاهُمُ معنى (يصيبهم) و (يَأْخُذُهُمْ). وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِنَايَةُ عَنْ أَنَّ الْعَذَابَ مُحِيطٌ بِهِمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ الْجَانِبَانِ الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْكِنَايَةِ قَدْ حَصَلَ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ إِيجَازٍ لِأَنَّهُ مَقَامُ غَضَبٍ وَتَهْدِيدٍ بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الْأَعْرَاف: ١٧] لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ لِإِلْحَاحِ الشَّيْطَانِ فِي الْوَسْوَسَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: وَيَقُولُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ اللَّهُ. وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ التَّكَلُّمِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ عَلَى رَأْيِ كَثِيرٍ مِنْ أَيِمَّةِ الْبَلَاغَةِ، أَوْ يُقَدَّرُ: وَيَقُولُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِجَهَنَّمَ، أَوِ التَّقْدِيرُ: وَيَقُولُ الْعَذَابُ، بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلنَّارِ أَصْوَاتًا كَأَنَّهَا قَوْلُ الْقَائِلِ: ذُوقُوا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِالنُّونِ وَهِيَ نُونُ الْعَظَمَةِ.
يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمَاتِ أَنْ يَسْأَلْنَ: أَهُنَّ مَأْجُورَاتٌ عَلَى مَا يَعْمَلْنَ من الْحَسَنَات، وأ هنّ مَأْمُورَاتٌ بِمِثْلِ مَا أُمِرَتْ بِهِ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ تِلْكَ خَصَائِص لِنسَاء النبيء عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا هُوَ جَوَابٌ لِهَذَا السُّؤَالِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِيمَا إِذَا ذَكَرَ مَأْمُورَاتٍ يُعْقِبُهَا بِالتَّذْكِيرِ بِحَالِ أَمْثَالِهَا أَوْ بِحَالِ أَضْدَادِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَرَدَ بِمُنَاسَبَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ فَضَائِل أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاحِدِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ نِسَاءً دَخَلْنَ على أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَ:
قَدْ ذَكَرَكُنَّ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْنَا بِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ فِينَا خَيْرٌ لَذَكَرَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وروى النَّسَائِيّ وَأحمد: أَن أم سَلمَة قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لنا لَا نذْكر فِي الْقُرْآن كَمَا يذكر الرِّجَال فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّ أُمَّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّة أَتَت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: مَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: «قَالَ مُقَاتِلٌ: بَلَغَنِي أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ لَمَّا رَجَعَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَتْ على نسَاء النبيء فَقَالَتْ: هَلْ نَزَلَ فِينَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ؟
قِيلَ: لَا، فَأَتَت النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارٍ. قَالَ: وَمِمَّ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: لِأَنَّهُنَّ لَا يُذْكَرْنَ بِالْخَيرِ كَمَا يذكر الرِّجَالُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ»
.
فَالْمَقْصُودُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ النِّسَاءُ، وَأَمَّا ذِكْرُ الرِّجَالِ فَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الصِّنْفَيْنِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِعِ سَوَاءٌ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ لَا كَمَا كَانَ مُعْظَمُ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ خَاصًّا بِالرِّجَالِ إِلَّا الْأَحْكَامَ الَّتِي لَا تُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ، فَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ بِعَكْسِ ذَلِكَ الْأَصْلُ فِي شَرَائِعِهَا أَنْ تَعُمَّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ إِلَّا مَا نُصَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ، وَلَعَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا تَقَرَّرَ أَصْلُ التَّسْوِيَةِ فَأَغْنَى عَنِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ فِي مُعْظَمِ أَقْوَالِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ
وَاللَّامُ فِي لِمُسْتَقَرٍّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامُ التَّعْلِيلِ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَيْ تَجْرِي لِأَجْلِ أَنْ تَسْتَقِرَّ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَنْتَهِيَ جَرْيُهَا كَمَا يَنْتَهِي سَيْرُ الْمُسَافِرِ إِذَا بَلَغَ إِلَى مَكَانِهِ فَاسْتَقَرَّ فِيهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ تَجْرِي عَلَى أَنَّهُ نِهَايَةٌ لَهُ لِأَنَّ سَيْرَ الشَّمْسِ لَمَّا كَانَتْ نِهَايَتُهُ انْقِطَاعَهُ نَزَلَ الِانْقِطَاعُ عَنْهُ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ كَمَا يُقَالُ: «لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ».
وَتَنْزِيلُ النِّهَايَةِ مَنْزِلَةَ الْعِلَّةِ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا تَسِيرُ سَيْرًا دَائِبًا مُشَاهَدًا إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الِاحْتِجَابَ عَنِ الْأَنْظَارِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (إِلَى)، أَيْ تَجْرِي إِلَى مَكَانِ اسْتِقْرَارِهَا وَهُوَ مَكَانُ الْغُرُوبِ، شُبِّهَ غُرُوبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ بِالْمُسْتَقَرِّ وَالْمَأْوَى الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمَرْءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ وَرَدَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ
فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِ فِي صحيحي «البُخَارِيّ» و «مُسلم» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ حَاصِلُ تَرْتِيبِهَا أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلته (أَو فَقَالَ) : إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَرْجِعُ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا وَمُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
. وَهَذَا تَمْثِيلٌ وَتَقْرِيبٌ لِسَيْرِ الشَّمْسِ اليومي الَّذِي يبتدىء بِشُرُوقِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْتَهِي بِغُرُوبِهَا عَلَى بَعْضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، فِي خُطُوطٍ دَقِيقَةٍ، وَبِتَكَرُّرِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا تَتَكَوَّنُ السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ.
وَقَدْ جُعِلَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ سَيْرُهَا هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَحْتِ الْعَرْشِ وَهُوَ سَمْتٌ مُعَيَّنٌ لَا قِبَلَ لِلنَّاسِ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ مُنْتَهَى مَسَافَةِ سَيْرِهَا الْيَوْمِيِّ، وَعِنْدَهُ
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ
لَمْ يَعْطِفْ جُمْلَةَ: أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَبْغِي بِهَا بَدَلًا، وَلِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنْ غَرَضِ الدَّعْوَةِ وَالْمُحَاجَّةِ إِلَى غَرَضِ التَّهْدِيدِ. وَابْتَدَأَ الْمَقُولَ بِالنِّدَاءِ بِوَصْفِ الْقَوْمِ لِمَا يَشْعَرُ بِهِ مِنَ التَّرْقِيقِ لِحَالِهِمْ وَالْأَسَفِ عَلَى ضَلَالِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ قَوْمَهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدَّخِرَهُمْ نُصْحًا.
وَالْمَكَانَةُ: الْمَكَانُ، وَتَأْنِيثُهُ رُوعِيَ فِيهِ مَعْنَى الْبُقْعَةِ، اسْتُعِيرَ لِلْحَالَةِ الْمُحِيطَةِ بِصَاحِبِهَا إِحَاطَةَ الْمَكَانِ بِالْكَائِنِ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: اعْمَلُوا عَلَى طَرِيقَتِكُمْ وَحَالِكُمْ مِنْ عَدَاوَتِي، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٥].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَكانَتِكُمْ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مَكَانَاتِكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفٍ وَتَاءٍ.
وَقَالَ تَعَالَى هُنَا: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ لِيَكُونَ التَّهْدِيدُ بِعَذَابِ خِزْيٍ فِي الدُّنْيَا
وَعَذَابٍ مُقِيمٍ فِي الْآخِرَةِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٣٥] : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَذَابَ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ تَهْدِيدِهِمْ بِقَوْلِهِ: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الْأَنْعَام: ١٣٤].
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ إِنِّي عامِلٌ لِيَعُمَّ كُلَّ مُتَعَلِّقٍ يَصْلُحُ أَن يتَعَلَّق بِعَمَل مَعَ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنْ إِنِّي عامِلٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى عَمَلِهِ فِي نُصْحِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى مَا يُنْجِيهِمْ. وَأَنَّ حَذْفَ ذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ مَكَانَتِهِ وَحَالَتِهِ بَلْ حَالُهُ تَزْدَادُ كُلَّ حِينٍ قُوَّةً وَشِدَّةً لَا يَعْتَرِيهَا تَقْصِيرٌ وَلَا يُثَبِّطُهَا إِعْرَاضُهُمْ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَتْبِعَاتِ الْحَذْفِ وَلَمْ نُنَبِّهْ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ هُودٍ.
ومَنْ اسْتِفْهَامِيَّةٌ عَلَّقَتْ فِعْلَ تَعْلَمُونَ عَنِ الْعَمَلِ فِي مَفْعُولَيْهِ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْآفَاقِ عَلَى عُمُومِهِ الشَّامِلِ لِأُفُقِهِمْ، وَيَكُونَ مَعْنَى وَفِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ آيَاتِ صِدْقِهِ فِي أَحْوَالٍ تُصِيبُ أَنْفُسَهُمْ، أَيْ ذَوَاتِهِمْ مِثْلَ الْجُوعِ الَّذِي دَعَا عَلَيْهِمْ بِهِ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدُّخان: ١٠]، وَمِثْلَ مَا شَاهَدُوهُ مِنْ مَصَارِعِ كُبَرَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦]. وَأَيَّةُ عِبْرَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ رَمَاهُ غُلَامَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَتَوَلَّى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ذَبْحَهُ وَثَلَاثَتُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ ذَلِكَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ. وَقَدْ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَوْ غَيْرَ أَكَّارٍ قَتَلَنِي، وَمِنْ مَقْتَلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ يَوْمَئِذٍ بيد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُ بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ أَيْقَنَ بِذَلِكَ فَقَالَ لِزَوْجِهِ لَيْلَةَ خُرُوجِهِ إِلَى بَدْرٍ: وَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي.
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
عَطْفٌ عَلَى إِعْلَامِ الرَّسُولِ بِمَا سَيَظْهَرُ مِنْ دَلَائِلِ صِدْقِ الْقُرْآنِ وَصدق الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً لِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ وَشَرْحِ صَدْرِهِ بِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُ بِظُهُورِ دِينِهِ وَوُضُوحِ صِدْقِهِ فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي أَرْضِ قَوْمِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ تَحْقِيقًا لتيقن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَفَالَةِ رَبِّهِ بِحَيْثُ كَانَتْ مِمَّا يُقَرَّرُ عَلَيْهَا كِنَايَةً عَنِ الْيَقِينِ بِهَا، فَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ.
وَالْمَعْنَى: تَكْفِيكَ شَهَادَةُ رَبِّكَ بِصِدْقِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ لِتَكْذِيبِهِمْ، وَهَذَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ:
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء:
١٦٦] وَقَوْلِهِ: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [النِّسَاء: ٧٩] فَهَذَا وَجْهٌ فِي مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَهُنَالِكَ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ مَسَاقُهَا مَسَاقَ تلقين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَشْهِدَ بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الْقَسَمِ بِإِشْهَادِ اللَّهِ، وَهُوَ قَسَمٌ غَلِيظٌ فِيهِ مَعْنَى نِسْبَةِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَشْهَدُ اللَّهُ بِهِ فَيَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيًّا إِنْكَارًا لِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَسَمِ، وَعَنْ عَدَمِ
وَجُمْلَةُ وَاسْتَكْبَرْتُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَشَهِدَ شاهِدٌ إِلَخْ وَجُمْلَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْمِثْلُ: الْمُمَاثِلُ وَالْمُشَابِهُ فِي صِفَةٍ أَوْ فِعْلٍ، وَضَمِيرُ مِثْلِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَفْظُ مِثْلِهِ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى صَرِيحِ الْوَصْفِ، أَيْ عَلَى مُمَاثِلٍ لِلْقُرْآنِ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ مِنْ نَحْوِ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ الْمِثْلُ هُوَ كِتَابُ التَّوْرَاةِ أَوِ الزَّبُورُ مِنْ كُتُبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَوْمَئِذٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الْمِثْلُ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ لَفَظُ (مِثْلُ)، فَيَكُونُ لَفْظُ (مِثْلُ) بِمَنْزِلَةِ الْمُقْحَمِ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ الْعَرَبِ: «مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ»، وَكَمَا هُوَ أَحَدُ مَحْمَلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١]. فَالْمَعْنَى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ فِيمَا حَوَاهُ.
وَيَجُوزُ يَكُونَ ضَمِيرُ مِثْلِهِ عَائِدًا عَلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، أَيْ عَلَى مِثْلِ مَا ذُكِرَ فِي أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِدْعًا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ.
فَالْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ شَاهِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، أَيْ أَيُّ شَاهِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ
إِنْبَاءٌ لَهُمْ بِمَا كَانُوا يَتَسَاءَلُونَ بِهِ مَعَ الْيَهُودِ. وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الِاسْتِيعَابِ» فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ:
الْمُرَادُ بِ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الْآيَةَ.
وَمِثْلُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَوَقَعَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» فِي بَابِ فَضْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ الْآيَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: لَا أَدْرِي قَالَ مَالِكٌ: الْآيَةُ أَوْ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ مَسْرُوقٌ: لَيْسَ هُوَ ابْنُ سَلَامٍ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بِالْمَدِينَةِ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ
وَقَوْلُهُ: مِنْهُ صفة ل نَذِيرٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَصَارَتْ حَالًا.
وَحَرْفُ (مِنْ) لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيْ مَأْمُورٌ لَهُ بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ.
وَعَطْفُ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عَلَى فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ نَهْيٌ عَنْ نِسْبَةِ الْإِلَهِيَّةِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ. فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُبَالَغَةً فِي التَّأْكِيدِ بِنَفْيِ الضِّدِّ لِإِثْبَاتِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه: ٧٩].
وَمِنْ لَطَائِفِ فَخْرِ الدِّينِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ جَمَعَ الرَّسُولَ وَالْمُرْسَلَ إِلَيْهِم والمرسل.
[٥٢]
[سُورَة الذاريات (٥١) : آيَة ٥٢]
كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)
كَلِمَةُ كَذلِكَ فَصْلُ خِطَابٍ تدل على انْتِهَاء حَدِيثٍ وَالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ، أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى حَدِيثٍ قَبْلَهُ أَتَى عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ. وَالتَّقْدِيرُ: الْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا مَضَى مِنَ الْحَدِيثِ، ثُمَّ يُورَدُ بَعْدَهُ حَدِيثٌ آخَرُ وَالسَّامِعُ يَرُدُّ كُلًّا إِلَى مَا يُنَاسِبُهُ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مُتَّصِلًا بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ قَوْمِ لُوطٍ وَمَنْ عُطِفَ عَلَيْهِمْ.
أُعْقِبَ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنْ يَحُلَّ بِهِمْ مَا حلّ بالأمم المكذبين لرسل اللَّهِ مِنْ قَبْلِهِمْ بِتَنْظِيرِهِمْ بِهِمْ فِي مَقَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وُرُودُ كَذلِكَ فَصْلًا لِلْخِطَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١]، فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ فَصْلٌ وَجُمْلَةُ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَخ مبدأ اسْتِئْنَافٍ عَوْدًا إِلَى الْإِنْحَاءِ عَلَى الْمُشْركين فِي قَوْلهم الْمُخْتَلِفِ بِأَنْوَاعِ التَّكْذِيبِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ.
رَقَبَةً يَعْتَاضُ بِفَكِّهَا عَنْ فَكِّ عِصْمَةِ الزَّوْجَةِ نُقِلَ إِلَى كَفَّارَةٍ فِيهَا مَشَقَّةُ النَّفْسِ بِالصَّبْرِ عَلَى لَذَّةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِيَدْفَعَ مَا الْتَزَمَهُ بِالظِّهَارِ مِنْ مَشَقَّةِ الصَّبْرِ عَلَى ابْتِعَادِ حَلِيلَتِهِ فَكَانَ الصَّوْمُ دَرَجَةً ثَانِيَةً قَرِيبَةً مِنْ دَرَجَةِ تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ فِي الْمُنَاسَبَةِ.
وَأُعِيدَ قَيْدُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْمَسُّ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الصِّيَامِ، فَلَا يَظُنُّ أَنَّ مُجَرَّدَ شُرُوعِهِ فِي الصِّيَامِ كَافٍ فِي الْعَوْدِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، أَيْ لِعَجْزِهِ أَوْ ضَعْفِهِ رَخَّصَ اللَّهَ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِوَضًا عَنِ الصِّيَامِ فَالْإِطْعَامُ دَرَجَةٌ ثَالِثَةٌ يَدْفَعُ عَنْ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَلَمَ الْجُوعِ عِوَضًا عَمَّا كَانَ الْتَزَمَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشَقَّةِ الِابْتِعَادِ عَنْ لَذَّاتِهِ، وَإِنَّمَا حُدِّدَتْ بِسِتِّينَ مِسْكِينًا إِلْحَاقًا لِهَذَا بِكَفَّارَةِ فِطْرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمْدًا بِجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا كَفَّارَةٌ عَنْ صِيَامٍ فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ مُتَنَاسِبَةً مَعَ الْمُكَفَّرِ عَنْهُ مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا مُنَاسِبًا.
وَقَدْ أُجْمِلَ مِقْدَارُ الطَّعَامِ فِي الْآيَةِ اكْتِفَاءً بِتَسْمِيَتِهِ إِطْعَامًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا يَقْصِدُهُ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ وَهُوَ الشِّبَعُ الْوَاحِدُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي فِعْلِ طَعِمَ. فَحَمَلَهُ عُلَمَاؤُنَا عَلَى مَا بِهِ شِبَعُ الْجَائِعِ فَيُقَدَّرُ فِي كُلِّ قَوْمٍ بِحَسْبِ مَا بِهِ شِبَعُ مُعْتَادِ الْجَائِعِينَ. وَعَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ مُدٌّ وَاحِدٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مُدَّانِ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْمُدَّيْنِ وَهُوَ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامِ (بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ) وَقَدْرُهُ مُدَّانِ إِلَّا ثُلُثَ مُدٍّ قَالَ: قَالَ أَشْهَبُ: قُلْتُ لِمَالِكٍ: أَيَخْتَلِفُ الشِّبَعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمْ؟ قَالَ: نَعَمِ الشِّبَعُ عِنْدَنَا مُدٌّ بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشِّبَعُ عِنْدَكُمْ أَكْثَرُ (أَيْ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْبَرَكَةِ). وَقَوْلُهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِي الْمَدِينَةِ مُدًّا بمدّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فَكَيْفَ جَعَلَهُ مَالِكٌ مُقَدَّرًا بِمُدَّيْنِ أَوْ بِمُدٍّ وَثُلُثَيْنِ، وَقَالَ: لَوْ أَطْعَمَ مُدًّا وَنِصْفَ مُدٍّ أَجْزَأَهُ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَضْعِيفَ الْمِقْدَارِ فِي الْإِطْعَامِ مُرَاعًى فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةُ عَلَى مَا صَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ نَصٍّ وَلَا قِيَاسٍ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: إِنَّمَا أَخَذَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِمُدِّ هِشَامٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ تَغْلِيظًا عَلَى الْمُتَظَاهِرِينَ الَّذِينَ شَهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا فَهَذَا مِمَّا ثَبَتَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
دُونَ عَدَدِ اثْنَيْنِ أَوْ زَوْجٍ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ، ألَا تَرَى أَنَّ مَقَامَ إِرَادَةِ عَدَدِ الزَّوْجِ كَانَ مُقْتَضِيًا تَثْنِيَةَ مَرَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [الْبَقَرَة:
٢٢٩] لِأَنَّهُ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْعَدَدِ إِذْ لَفْظُ مَرَّةٍ أَكْثَرُ تَدَاوُلًا.
وَتَثْنِيَةُ كَرَّتَيْنِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا عَدَدَ الْاثْنَيْنِ الَّذِي هُوَ ضِعْفُ الْوَاحِدِ إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ بِخُصُوصِ هَذَا الْعَدَدِ، وَإِنَّمَا التَّثْنِيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ كِنَايَةً عَنْ مُطْلَقِ التَّكْرِيرِ فَإِنَّ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ صِيغَةِ التَّثْنِيَةِ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُرَادَ بِهَا التَّكْرِيرُ وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ» يُرِيدُونَ تَلْبِيَّاتٍ كَثِيرَةً وَإِسْعَادًا كَثِيرًا، وَقَوْلُهُمْ: دَوَالَيِكَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ «دُهْدُرَّيْنِ، سَعْدُ الْقَيْنِ» (الدُّهْدُرُّ الْبَاطِلُ، أَيْ بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، أَيْ أَتَيْتَ يَا سَعْدُ الْقَيْنِ دُهْدُرَّيْنِ وَهُوَ تَثْنِيَةُ دهدرّ الدَّال الْمُهْملَة فِي أَوَّلِهِ مَضْمُومَةٌ فَهَاءٌ سَاكِنَةٌ فَدَالٌ مُهْمَلَةٌ مَضْمُومَةٌ فَرَاءٌ مُشَدَّدَةٌ) وَأَصْلُهُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ نَقَلَهَا الْعَرَبُ وَجَعَلُوهَا بِمَعْنَى الْبَاطِلِ. وَسَبَبُ النَّقْلِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَثْنِيَتُهُ مُكَنًّى بِهَا عَنْ مُضَاعَفَةِ الْبَاطِلِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْمَثَلَ عِنْدَ تَكْذِيبِ الرَّجُلِ صَاحِبَهُ وَأَمَّا
سَعْدُ الْقَيْنِ فَهُوَ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ قَيْنًا وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى الْأَحْيَاءِ لِصَقْلِ سُيُوفَهُمْ وَإِصْلَاحِ أَسْلِحَتَهُمْ فَكَانَ يُشِيعُ أَنَّهُ رَاحِلٌ غَدًا لِيُسْرِعَ أَهْلُ الْحَيِّ بِجَلْبِ مَا يَحْتَاجُ لِلْإِصْلَاحِ فَإِذَا أَتَوْهُ بِهَا أَقَامَ وَلَمْ يَرْحَلْ فَضُرِبَ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَذِبِ فَكَانَ هَذَا الْمَثَلُ جَامِعًا لِمَثَلَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْمُسْتَقْصَى»، وَالْمَيْدَانِيُّ فِي «مَجْمَعِ الْأَمْثَالِ» وَأَطَالَ.
وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ التَّثْنِيَةَ فِي مَعْنَى التَّكْرِيرِ أَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا بِالتَّثْنِيَةِ تَعْدَادَ ذِكْرِ الْاسْمِ تَعْدَادًا مُشِيرًا إِلَى التَّكْثِيرِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُمْ: وَقَعَ كَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ، أَيْ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ.
فَمَعْنَى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ عَاوِدِ التَّأَمُّلَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَغَيْرِهَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ يُقَالُ: انْقَلَبَ إِلَى أَهْلِهِ، أَيْ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين: ٣١] وَإِيثَارُ فِعْلُ: يَنْقَلِبْ هُنَا دُونَ: يَرْجِعُ، لِئَلَّا يَلْتَبِسَ بِفِعْلِ ارْجِعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْإِعْجَازِ نَظِيرُ إِيثَارِ كَلِمَةَ كَرَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَالْخَاسِئُ: الْخَائِبُ، أَيِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَا يَطْلُبُهُ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ اخْسَؤُا فِيها فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ١٠٨].
وَالْحَسِيرُ: الْكَلِيلُ. وَهُوَ كلل ناشىء عَنْ قُوَّةِ التَّأَمُّلِ وَالتَّحْدِيقِ مَعَ التَّكْرِيرِ، أَيْ يَرْجِعُ الْبَصَرُ غَيْرَ وَاجِدٍ مَا أُغْرِيَ بِالْحِرْصِ عَلَى رُؤْيَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَدَامَ التَّأَمُّلَ وَالْفَحْصَ حَتَّى عَيِيَ وَكَّلَ، أَيْ لَا تَجِدْ بَعْدَ اللَّأْيِ فُطُورًا فِي خلق الله.
[٥]
[سُورَة الْملك (٦٧) : آيَة ٥]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ
نِظَامُ اللَّيْلِ آيَةً عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَبَدِيعِ تَقْدِيرِهِ.
وَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ إِعَادَةَ الْأَجْسَامِ بَعْدَ الْفَنَاءِ غَيْرُ مُتَعَذِّرَةٍ عَلَيْهِ تَعَالَى فَلَوْ تَأَمَّلَ الْمُنْكِرُونَ فِيهَا لَعَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى الْبَعْثِ فَلَمَّا كَذَّبُوا خَبَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النِّظَامِ الَّذِي فِيهِ اللُّطْفُ بِهِمْ وَرَاحَةُ حَيَاتِهِمْ لَوْ قَدَّرُوهُ حق قدره لشكروا وَمَا أَشْرَكُوا، فَكَانَ تَذَكُّرُ حَالَةِ اللَّيْلِ سَرِيعَ الْخُطُورِ بِالْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ حَالَةِ النَّوْمِ فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْمِ مُنَاسَبَةً لِلِانْتِقَالِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ اللَّيْلِ عَلَى حَسَبِ أَفْهَامِ السَّامِعِينَ.
وَالْمَعْنَى مِنْ جَعْلِ اللَّيْلِ لِبَاسًا يَحُومُ حَوْلَ وَصْفِ حَالَةٍ خَاصَّةٍ بِاللَّيْلِ عُبِّرَ عَنْهَا بِاللِّبَاسِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللِّبَاسُ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَى الِاسْمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي إِطْلَاقِهِ، أَيْ مَا يَلْبَسُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الثِّيَابِ فَيَكُونُ وَصْفُ اللَّيْلِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَافِ التَّشْبِيهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِلْإِنْسَانِ كَاللِّبَاسِ لَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّغْشِيَةَ.
وَتَحْتَهُ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّيْلَ سَاتِرٌ لِلْإِنْسَانِ كَمَا يَسْتُرُهُ اللِّبَاسُ، فَالْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ يَخْتَلِي بِشُؤُونِهِ
الَّتِي لَا يَرْتَكِبُهَا فِي النَّهَارِ لِأَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا الْأَبْصَارُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِإِبْطَالِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدَّهْرِيِّينَ أَنَّ اللَّيْلَ رَبُّ الظَّلَمَةِ وَهُوَ مُعْتَقَدُ الْمَجُوسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مَصْنُوعَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ، أَيْ إِلَهَيْنِ: إِلَهُ النُّورِ وَهُوَ صَانِعُ الْخَيْرِ، وَإِلَهُ الظُّلْمَةِ وَهُوَ صَانِعُ الشَّرِّ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الثَّنَوِيَّةُ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهُمْ فِرَقٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَذَاهِبِ فِي تَقْرِيرِ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ عَنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ، وَأَشْهَرُ هَذِهِ الْفِرَقِ فِرْقَةٌ تُسَمَّى الْمَانَوِيَّةُ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَانِي) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَفِرْقَةٌ تُسَمَّى مَزْدَكِيَّةٌ نِسْبَةً إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: (مَزْدَكُ) فَارِسِيٍّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَخَذَ أَبُو الطَّيِّبِ مَعْنَى هَذَا التَّعْرِيض فِي قَوْله:
وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
الْمَعْنَى الثَّانِي: مِنْ مَعْنَيَيْ وَجْهِ الشَّبَهِ بِاللِّبَاسِ: أَنَّهُ الْمُشَابَهَةُ فِي الرِّفْقِ بِاللَّابِسِ وَالْمُلَاءَمَةُ لِرَاحَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ رَاحَةً لِلْإِنْسَانِ وَكَانَ مُحِيطًا بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ وَأَعْصَابِهِِِ


الصفحة التالية