إِنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ مَبْنِيٌّ عَلَى وَفْرَةِ الْإِفَادَةِ وَتَعَدُّدِ الدَّلَالَةِ، فَجُمَلُ الْقُرْآنِ لَهَا دَلَالَتُهَا الْوَضْعِيَّةُ التَّرْكِيبِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِيهَا الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كُلُّهُ، وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْبَلَاغِيَّةُ الَّتِي يُشَارِكُهَا فِي مُجْمَلِهَا كَلَامُ الْبُلَغَاءِ وَلَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَبْلَغِ بَلَاغَتِهَا.
وَلَهَا دَلَالَتُهَا الْمَطْوِيَّةُ وَهِيَ دَلَالَةُ مَا يُذْكَرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ قَلِيلَةٌ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ وَكَثُرَتْ فِي الْقُرْآنِ مِثْلَ تَقْدِيرِ الْقَوْلِ وَتَقْدِيرِ الْمَوْصُوفِ وَتَقْدِيرِ الصِّفَةِ.
وَلَهَا دَلَالَةُ مَوَاقِعِ جُمَلِهِ بِحَسَبِ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، كَكَوْنِ الْجُمْلَةِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِكَلَامٍ قَبْلَهَا، أَوْ فِي مَوْقِعِ الِاسْتِدْرَاكِ، أَوْ فِي مَوْقِعِ جَوَابِ سُؤَالٍ، أَوْ فِي مَوْقِعِ تَعْرِيضٍ أَوْ نَحْوِهِ. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ لَا تَتَأَتَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِقَصْرِ أَغْرَاضِهِ فِي قَصَائِدِهِمْ وَخُطَبِهِمْ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّذْكِيرِ وَالتِّلَاوَةِ سَمَحَتْ أَغْرَاضُهُ بِالْإِطَالَةِ، وَبِتِلْكَ الْإِطَالَةِ تَأَتَّى تَعَدُّدُ مَوَاقِعِ الْجُمَلِ وَالْأَغْرَاضِ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الجاثية: ٢٢]- بَعْدَ قَوْلِهِ- أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ
[الجاثية: ٢١] فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إِلَى آخِرِهِ مُفِيدٌ بِتَرَاكِيبِهِ فَوَائِدَ مِنَ التَّعْلِيمِ وَالتَّذْكِيرِ، وَهُوَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ قَوْلِهِ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
وَاقِعٌ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي مَنْ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ مَعَ مَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فِي نَعِيمِ الْآخِرَةِ.
وَإِنَّ لِلتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي وَضْعِ الْجُمَلِ وَأَجْزَائِهَا فِي الْقُرْآنِ دَقَائِقَ عَجِيبَةً كَثِيرَةً لَا يُحَاطُ بِهَا وَسَنُنَبِّهُ عَلَى مَا يَلُوحُ مِنْهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَإِلَيْكَ مَثَلًا مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ لَكَ عَوْنًا عَلَى اسْتِجْلَاءِ أَمْثَالِهِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً- إِلَى قَوْلِهِ- وَكَأْساً دِهاقاً لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً [النبأ: ٢١- ٣٥] فَكَانَ لِلِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ جَهَنَّمَ مَا يُفَسِّرُ الْمَفَازَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً أَنَّهُ الْجَنَّةُ لِأَنَّ الْجَنَّةَ مَكَانُ فَوْزٍ. ثُمَّ كَانَ قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً مَا يَحْتَمِلُ لِضَمِيرٍ (فِيهَا) مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها أَنْ يَعُودَ إِلَى كَأْساً دِهاقاً
وَتَكُونُ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ أَيِ الْمُلَابَسَةِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَيْ لَا يَسْمَعُونَ فِي مُلَابَسَةِ شُرْبِ الْكَأْسِ مَا يَعْتَرِي شَارِبِيهَاُُُُُُ
بَيْتُ: «قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ» الْمُتَقَدِّمُ، وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ إِلَى جَوَابِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِ السَّامِعِ فَالْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الرَّضِيِّ بِالِاعْتِرَاضِ مِثْلَ قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
فَإِنَّ مَوْقِعَ الشَّرْطِ فِيهِ لَيْسَ مَوْقِعَ الْحَالِ بَلْ مَوْقِعُ رَدِّ سُؤَالِ سَائِلٍ يَقُولُ: أَتَنْفِي عَنْ نَفْسِكَ الذَّنْبَ. وَقَدْ كَثُرَ الْقَوْلُ فِي إِثْبَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً أَيْ لَا يُدْرِكُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُدْرَكَاتِ، وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِلْزَامِهِمْ بِالْخَطَأِ فِي اتِّبَاع آبَائِهِم من غَيْرِ تَبَصُّرٍ وَلَا تَأَمُّلٍ، وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي كَلِمَةِ شَيْءٍ.
وَمُتَعَلِّقُ وَلا يَهْتَدُونَ مَحْذُوفٌ أَيْ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ مُمْتَنِعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ لِآبَائِهِمْ عُقُولًا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ، وَفِيهِمْ بَعْضُ الِاهْتِدَاءِ مِثْلُ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى بَعْضِ مَا عَلَيْهِ أُمُورُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ كَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَحِفْظِ الْعَهْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا صَحَّ وُقُوعُ (لَوِ) الشَّرْطِيَّةِ هُنَا. وَقَدْ أَشْبَعْتُ الْكَلَامَ عَلَى (لَوْ) هَذِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ عَلَيْهَا لَا يُوجَدُ مُفَصَّلًا فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَقَدْ أَجْحَفَ فِيهِ صَاحِبُ «الْمُغْنِي».
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ لِأَنَّهَا ذَمٌّ لِلَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَهُوَ تَقْلِيدٌ لِلْمُتَّبَعِينَ مَا أنزل الله (١).
[١٧١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٧١]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لَا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (١٧١)
لَمَّا ذَكَرَ تَلَقِّيَهُمُ الدَّعْوَةَ إِلَى اتِّبَاعِ الدِّينِ بِالْإِعْرَاضِ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [الْبَقَرَة: ١٧٠]، وَذَكَرَ فَسَادَ عَقِيدَتِهِمْ إِلَى أَنْ بَلَغَ قَوْلَهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [الْبَقَرَة: ١٦٥] الْآيَةَ، فَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الْمَضْرُوبِ لَهُمُ الْمَثَلُ هُنَا هُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً وَعَيْنُ الْمُرَادِ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي قَوْله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَة: ١٦٥]، وَعَيْنُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً [الْبَقَرَة: ١٦٨]، وَعَيْنُ الْمُرَادِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ:
_________
(١) قَالَ الألوسي: «فِي الْآيَة دَلِيل على الْمَنْع من التَّقْلِيد لمن قدر على النّظر، وَأما اتِّبَاع الْغَيْر فِي الدَّين بعد الْعلم بِدَلِيل مَا إِنَّه مُلْحق فاتباع فِي الْحَقِيقَة لما أنزل الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من التَّقْلِيد المذموم فِي شَيْء، وَقد قَالَ سُبْحَانَهُ: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النَّحْل: ٤٣] «روح الْمعَانِي» (٢/ ٤٠، ٤١)، ط المنيرية.
«الْكَشَّافِ» بِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى الِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ التَّذْكِيرِ حَتَّى صَارَ الْمُتَكَلِّمُ يُعَلِّلُ بِأَسْبَابِهِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ لِأَجْلِ تَحْصِيلِهِ. وَادَّعَى ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقَاهِرَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ: أَنَّ مِنْ شَأْنِ لُغَةِ الْعَرَبِ إِذَا ذَكَرُوا عِلَّةً- وَكَانَ لِلْعِلَّةِ عِلَّةٌ- قَدَّمُوا ذِكْرَ عِلَّةِ الْعِلَّةِ وَجَعَلُوا الْعِلَّةَ مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا بِالْفَاءِ لتحصل الدلالتان مَعًا بِعِبَارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمَثَّلُهُ بِالْمِثَالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ «الْكَشَّافُ»، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُلْتَزَمٌ وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.
وَالَّذِي أَرَاهُ أَنَّ سَبَبَ الْعُدُولِ فِي مِثْلِهِ أَنَّ الْعِلَّةَ تَارَةً تَكُونُ بَسِيطَةً كَقَوْلِكَ: فَعَلْتُ كَذَا إِكْرَامًا لَكَ، وَتَارَةً تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ بِدَفْعِهِ. فَهُنَالِكَ يَأْتِي الْمُتَكَلِّمُ فِي تَعْلِيلِهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ فِي صُورَةِ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ كَمَا فِي الْآيَةِ وَالْمِثَالَيْنِ. لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّعَدُّدِ خَشْيَةَ حُصُولِ النِّسْيَانِ لِلْمَرْأَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، فَلِذَا أُخِذَ بِقَوْلِهَا حَقُّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَقُصِدَ تَذْكِيرُ الْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ إِيَّاهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ».
وَفِي قَوْلِهِ: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِحْدَى وَالْأُخْرَى وَصْفَانِ مُبْهَمَانِ لَا يَتَعَيَّنُ شَخْصُ الْمَقْصُودِ بِهِمَا، فَكَيْفَمَا وَضَعْتَهُمَا فِي مَوْضِعَيِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، فَلَوْ أَضْمَرَ لِلْإِحْدَى ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ لَكَانَ الْمَعَادُ وَاضِحًا سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ إِحْدَاهُمَا- الْمُظْهَرُ- فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ، فَلَا يُظَنُّ أَنْ كَوْنَ لَفْظِ إِحْدَاهُمَا الْمُظْهَرِ فِي الْآيَةِ فَاعِلًا يُنَافِي كَوْنَهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ لَوْ أُضْمِرَ لَكَانَ الضَّمِيرُ مَفْعُولًا، وَالْمَفْعُولُ غَيْرَ الْفَاعِلِ كَمَا قَدْ ظَنَّهُ التَّفْتَازَانِيُّ لِأَنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ هُوَ تَأَتِّي الْإِضْمَارِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْآيَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
ثُمَّ نُكْتَةُ الْإِظْهَارِ هُنَا قَدْ تَحَيَّرَتْ فِيهَا أَفْكَارُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ، قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْكَشَّافِ» :«وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ وَجْهُ تَكْرِيرِ لَفْظِ إِحْدَاهُمَا، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِذْ لَيْسَتِ الْمُذَكِّرَةُ هِيَ النَّاسِيَةَ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ إِحْدَاهُمَا الثَّانِيَةُ فِي مَوْقِعِ الْمَفْعُولِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ فِي مَوْضِعِ الْإِلْبَاسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَتُذَكِّرَهَا الْأُخْرَى، فَلَا بُدَّ لِلْعُدُولِ مِنْ نُكْتَةٍ». وَقَالَ الْعِصَامُ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» «نُكْتَةُ التَّكْرِيرِ أنّه كَانَ فصل التَّرْكِيبِ أَنْ تُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى الْعِتَابِ وَالتَّقْرِيعِ عَلَى أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ، كَانَتْ سَبَبَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ مِنْ هَذَا الْمَلَامِ بِنَصِيبِهِ الْمُنَاسِبِ لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ حَالِهِ ظَاهِرًا كَانَ أَمْ بَاطِنًا.
وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاضْطِرَابِ حِينَ أُرْجِفَ بِمَوْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى دِينِكُمُ الْقَدِيمِ وَإِخْوَانِكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَنُكَلِّمُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا أَمَانًا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَهَمُّوا بِتَرْكِ الْقِتَالِ وَالِانْضِمَامِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَثَبَتَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْهُمْ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ.
وَمُحَمّد اسْمُ رَسُولِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ بِهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ لَهُ: لِمَ سَمَّيْتَهُ مُحَمَّدًا وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَاءِ آبَائِكَ؟ فَقَالَ: رَجَوْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ النَّاسُ. وَقَدْ قِيلَ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ مُحَمَّدًا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ. ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ» أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ وِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، جَدُّ جَدِّ الْفَرَزْدَقِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْرَانَ مِنْ رَبِيعَةَ.
وَهَذَا الِاسْم مَنْقُول مِنِ اسْمِ مَفْعُولِ حَمَّدَهُ تَحْمِيدًا إِذَا أَكْثَرَ مِنْ حَمْدِهِ، وَالرَّسُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: حَلُوبٌ وَرَكُوبٌ وَجَزُورٌ.
وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَانْقَرَضَتْ كَقَوْلِهِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمرَان: ١٣٧]
وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ: (مَنْ كَانَ فِي الْعُصُرِ الْخَالِي) وَقَصَرَ مُحَمَّدًا عَلَى وَصْفِ الرِّسَالَةِ قَصْرَ مَوْصُوفٍ عَلَى الصِّفَةِ. قَصْرًا إِضَافِيًّا، لِرَدِّ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ رَدَّ إِنْكَارٍ، سَوَاءٌ كَانَ قَصْرَ قَلْبٍ أَوْ قَصْرَ إِفْرَادٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صِفَةٌ «لِرَسُولٍ»، فَتَكُونُ هِيَ مَحَطَّ الْقَصْرِ: أَيْ مَا هُوَ إِلَّا رَسُولٌ مَوْصُوفٌ بِخُلُوِّ الرُّسُلِ قَبْلَهُ أَيِ انْقِرَاضِهِمْ.
اسْتَفَاقُوا حِينَئِذٍ مِنْ غُلَوَائِهِمْ لَعَلِمُوا أَنَّ إِرَادَتَهُمْ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الْكُفَّارِ وَالْكَهَنَةِ جَرِيمَةٌ يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ مِنْهَا وَلَكِنَّهُمْ أَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا. وَفِي ذِكْرِ (لَوْ) وَجَعْلِ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً جَوَابًا لَهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا فَقَدْ حُرِمُوا الْغُفْرَانَ.
وَكَانَ فِعْلُ هَذَا الْمُنَافِقِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ. لِأَنَّهُ أَقْحَمَهَا فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، فَجَرَّ لَهَا عِقَابَ الْآخِرَةِ وَعَرَّضَهَا لِمَصَائِبِ الِانْتِقَامِ فِي العاجلة.
[٦٥]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٦٥]
فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
تَفْرِيعٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ [النِّسَاء: ٦٠] وَمَا بَعْدَهُ إِذْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَكَانَ الزَّعْمُ إِشَارَةً إِلَى انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ أُرْدِفَ بِمَا هُوَ أَصْرَحُ وَهُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ تُنَافِي كَوْنَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَكَّدَهُ بِالْقَسَمِ وَبِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.
وأصل الْكَلَام: فو ربّك لَا يُؤْمِنُونَ، وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِحَرْفِ النَّفْيِ قَبْلَ الْقَسَمِ إِذَا كَانَ جَوَابُ الْقَسَمِ مَنْفِيًّا لِلتَّعْجِيلِ بِإِفَادَةِ أَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ قَسَمٌ عَلَى النَّفْيِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا، فَتَقْدِيمُ النَّفْيِ لِلِاهْتِمَامِ بِالنَّفْيِ، كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ:
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمَا
وَيَكْثُرُ أَنْ يَأْتُوا مَعَ حَرْفِ النَّفْيِ بَعْدَ الْعَاطِفِ بِحَرْفِ نَفْيٍ مِثْلِهِ فِي الْجَوَابِ لِيَحْصُلَ مَعَ الِاهْتِمَامِ التَّأْكِيدُ، كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْأَكْثَرُ، وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَقْدِيمَ (لَا) عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ إِبْطَالًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَوَقَعَ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
لَا وَالَّذِي هُوَ عَالِمٌ أَنَّ النَّوَى صَبْرٌ وَأَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ كَرِيمُ
وَلَيْسَتْ (لَا) هَذِهِ هِيَ الَّتِي تَرِدُ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ مَزِيدَةً وَالْكَلَامُ مَعَهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ لَا أُقْسِمُ [الْقِيَامَة: ١] وَفِي غَيْرِ الْقسم نَحْو لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الْحَدِيد: ٢٩]، لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَ الْكَلَامُ مَعَهَا
يَتَنَاوَلَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ بِالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [الْبَقَرَة: ١٧٣]، أَيْ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ عَلَى النَّاسِ وَلَا عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَوَقَعَ قَوْلُهُ: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» مُغْنِيًا عَنْ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ لَهُ، وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ بِمِثْلِهِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الْقُرْآنِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَلَهُ تَنَاوُلُ ذَلِكَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ نَظِيرَتِهَا فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الْبَقَرَة: ١٧٣].
[٤]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٤]
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ.
إِنْ كَانَ النَّاسُ قَدْ سَأَلُوا عَمَّا أُحِلَّ لَهُمْ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ، وَأُرِيدَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمُ الْآنَ، فَالْمُضَارِعُ مُسْتَعْمَلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ السُّؤَالِ، أَيْ تَكَرُّرِهِ أَوْ تَوَقُّعِ تَكَرُّرِهِ. وَعَلَيْهِ فَوَجْهُ فصل جملَة يَسْئَلُونَكَ أَنَّهَا اسْتِئْنَاف بيانيّ ناشىء عَنْ جُمْلَةِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] وَقَوْلِهِ:
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ [الْمَائِدَة: ٣] أَوْ هِيَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ: لِلِانْتِقَالِ مِنْ بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى بَيَانِ الْحَلَالِ بِالذَّاتِ، وَإِنْ كَانَ السُّؤَالُ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَوَقُّعُ السُّؤَالِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ سَأَلُوكَ، فَالْإِتْيَانُ بِالْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ لِتَوَقُّعِ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسُ
عَنْ ضَبْطِ الْحَلَالِ، لِأَنَّهُ مِمَّا تَتَوَجَّهُ النُّفُوسُ إِلَى الْإِحَاطَةِ بِهِ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا عُدِّدَ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِمَّا تَقَدَّمَ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٩] : أنّ صِيغَة يَسْئَلُونَكَ فِي الْقُرْآنِ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْجَوَابُ قَدْ حَصَلَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ بِبَيَانِ الْحَلَالِ، أَوْ بِبَيَانِ الْحَلَالِ فَقَطْ، إِذَا كَانَ
وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مَا بَلَغْتُ إِلَيْهِ مِنْ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهِ فَتَحَصَّلَ عِنْدِي أَنَّ الْعَامِلَ الْأَصِيلَ مِنْ فِعْلٍ وَشَبَهِهِ لَا يَتَكَرَّرُ مَعَ الْبَدَلِ، وَأَمَّا الْعَامِلُ التَّكْمِيلِيُّ لِعَامِلِ غَيْرِهِ وَذَلِكَ حَرْفُ الْجَرِّ خَاصَّةً فَهُوَ الَّذِي وَرَدَ تَكْرِيرُهُ فِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٧٥]، وَآيَةِ سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَقَوْلِهِ: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ [الْأَنْعَام: ٩٩]. ذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مُكَمِّلٌ لِعَمَلِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ يُعَدِّي الْفِعْلَ الْقَاصِرَ إِلَى مَفْعُولِهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بِمَعْنَى مَصْدَرِهِ، فَحَرْفُ الْجَرِّ لَيْسَ بِعَامِلٍ قَوِيٍّ وَلَكِنَّهُ مُكَمِّلٌ لِلْعَامِلِ الْمُتَعَلِّقِ هُوَ بِهِ.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَتَطَلَّبَ الدَّاعِيَ إِلَى إِظْهَارِ حَرْفِ الْجَرِّ فِي الْبَدَلِ فِي مَوَاقِعِ ظُهُورِهِ.
وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ يَعِيشَ فِي «شَرْحِ الْمُفَصَّلِ» ذَلِكَ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ: «لِأَنَّ الْحَرْفَ قَدْ يَتَكَرَّرُ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ». وَهَذَا غَيْرُ مُقْنِعٍ لَنَا لِأَنَّ التَّأْكِيدَ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلَيْهِ.
فَمَا أَظْهَرَ فِيهِ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَ مُقْتَضَى إِظْهَارِهِ إِمَّا قَصْدُ تَصْوِيرِ الْحَالَةِ كَمَا فِي أَكْثَرِ الْآيَاتِ، وَإِمَّا دَفْعُ اللَّبْسِ، وَذَلِكَ فِي خُصُوصِ آيَةِ الْأَعْرَافِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ «مَنْ آمَنَ» مِنَ الْمَقُولِ وَأَنَّ «مَنْ» اسْتِفْهَامٌ فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ تَعْيِينِ مَنْ آمَنَ مِنَ الْقَوْمِ، وَمَعْنَى التَّأْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُلَازِمٌ لِإِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَامِلٍ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ وَقَدِ الْتَزَمَ ظُهُورَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْبَدَلِ مِنِ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، نَحْوَ: أَيْنَ تَنْزِلُ أَفِي الدَّارِ أَمْ فِي الْحَائِطِ، وَمَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِيٌّ.
وَهَذَا الْعِيدُ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَكَلَ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ عَلَى مَائِدَةِ لَيْلَةِ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صُلِبَ مِنْ صَبَاحِهَا. فَلَعَلَّ مَعْنَى كَوْنِهَا عِيدًا أَنَّهَا صُيِّرَتْ يَوْمَ الْفِصْحِ عِيدًا فِي الْمَسِيحِيَّةِ كَمَا كَانَ عِيدًا فِي الْيَهُودِيَّةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَدْ صَارَ عِيدًا بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ الْيَوْمُ وَاحِدًا لِأَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ وَفَّقُوا لِأَعْيَادِ الْيَهُودِ مُنَاسَبَاتٍ أُخْرَى لَائِقَةً بِالْمَسِيحِيَّةِ إِعْفَاءً عَلَى آثَارِ الْيَهُودِيَّةِ.
وَالْإِشَارَة إِلَى أَنْعَامٍ مَعْرُوفَةٍ بَيْنَهُمْ بِصِفَاتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ إِلَى الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ.
وَلَا يَتَعَلَّقُ غَرَضٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ إِجْمَالِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَرَّمُوهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْجِيبُ مِنْ فَسَادِ شَرْعِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَهَذَا خَبَرٌ عَنْ دِينِهِمْ فِي أَجِنَّةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَجَرُوهَا أَوْ حَرَّمُوا ظُهُورَهَا، فَكَانُوا يَقُولُونَ فِي أَجِنَّةِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ: إِذَا خَرَجَتْ أَحْيَاءً يَحِلُّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِذَا خَرَجَتْ مَيْتَةً حَلَّ أَكْلُهَا لِلذُّكُورِ وَالنِّسَاءِ، فَالْمُرَادُ بِمَا فِي الْبُطُون الأجنة لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وَقَدْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَلْبَانِ الْبَحِيرَةِ
وَالسَّائِبَةِ: يَشْرَبُهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ أَلْبَانُهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ مَعْنَى الْآيَةِ وَلَكِنَّ مَحْمَلَ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَا فِي الْبُطُونِ يَشْمَلُ الْأَلْبَانَ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَجِنَّةِ وَنَاشِئَةٌ عَنْ وِلَادَتِهَا.
وَالْخَالِصَةُ: السَّائِغَةُ، أَيِ الْمُبَاحَةُ، أَيْ لَا شَائِبَةَ حَرَجٍ فِيهَا، أَيْ فِي أَكْلِهَا، وَيُقَابِلُهُ قَوْلُهُ: وَمُحَرَّمٌ.
وَتَأْنِيثُ خالِصَةٌ لأنّ المُرَاد بِمَا الْمَوْصُولَةِ الْأَجِنَّةُ فَرُوعِيَ مَعْنَى (مَا) وَرُوعِيَ لَفْظُ (مَا) فِي تَذْكِيرِ (مُحَرَّمٍ).
وَالْمُحَرَّمُ: الْمَمْنُوعُ، أَيْ مَمْنُوعٌ أَكْلُهُ، فَإِسْنَادُ الْخُلُوصِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الذَّوَاتِ بِتَأْوِيلِ تَحْرِيمِ مَا تُقْصَدُ لَهُ وَهُوَ الْأَكْلُ أَوْ هُوَ وَالشُّرْبُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ.
وَالْأَزْوَاجُ جَمْعُ زَوْجٍ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلشَّيْءِ الثَّانِي لِغَيْرِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ هُوَ زَوْجٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَلِيلُ الْمَرْأَةِ زَوْجًا وَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ حَلِيلَةُ الرَّجُلِ زَوْجًا، وَهُوَ وَصْفٌ يُلَازِمُ حَالَةً وَاحِدَةً فَلَا يُؤَنَّثُ وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ
مِنْ ذَلِكَ، فَالْخَوْفُ وَالْحُزْنُ الْمَنْفِيَّانِ هُمَا مَا يُوجِبُهُ الْعِقَابُ، وَقَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ مُطْلَقًا بِمِقْدَارِ قُوَّةِ التَّقْوَى وَالصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنَ الْأَسْرَارِ الَّتِي بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ [يُونُس: ٦٢- ٦٤].
وَقَدْ نُفِيَ الْخَوْفُ نَفْيَ الْجِنْسِ بِلَا النَّافِيَةِ لَهُ، وَجِيءَ بِاسْمِهَا مَرْفُوعًا لِأَنَّ الرَّفْعَ يُسَاوِي الْبِنَاءَ عَلَى الْفَتْحِ فِي مِثْلِ هَذَا، لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يُتَوَهَّمُ فِي نَفْيِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْفَرْدِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ فُتِحَ مِثْلُهُ لَصَحَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ: «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ، لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةُ وَلَا سَئَامَةُ» فَقَدْ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَبِالْفَتْحِ.
وَ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُلَازَمَةُ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَنَالُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جُمْلَةٌ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ عَنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، بِأَنْ يُقَالَ وَلَا حُزْنٌ، إِلَى الْجُمْلَةِ: لِيَتَأَتَّى بِذَلِكَ بِنَاءُ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى ضَمِيرِهِمْ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُزْنَ وَاقِعٌ بِغَيْرِهِمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَإِنَّ بِنَاءَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، نَحْوَ: مَا أَنَا قُلْتُ
هَذَا، فَإِنَّهُ نَفْيُ صُدُورِ الْقَوْلِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ كَوْنِ الْقَوْلِ وَاقِعًا مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ بَيْتُ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ»، (وَهُوَ لِلْمُتَنَبِّي) :
وَمَا أَنَا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ وَلَا أَنَا أَضْرَمْتُ فِي الْقَلْبِ نَارًا
فَيُفِيدُ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَحْزَنُونَ إِفَادَةً بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، لِيَكُونَ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْخَبَرِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
وَالْجَسَدُ الْجِسْمُ الَّذِي لَا رُوحَ فِيهِ، فَهُوَ خَاصٌّ بِجِسْمِ الْحَيَوَانِ إِذَا كَانَ بِلَا رُوحٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَجِسْمِ الْعِجْلِ فِي الصُّورَةِ وَالْمِقْدَارِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيٍّ وَمَا وَقَعَ فِي الْقَصَصِ: أَنَّهُ كَانَ لَحْمًا وَدَمًا وَيَأْكُل وَيَشْرَبُ، فَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْقَصَّاصِينَ، وَكَيْفَ وَالْقُرْآنُ يَقُولُ: مِنْ حُلِيِّهِمْ، وَيَقُولُ: لَهُ خُوارٌ، فَلَوْ كَانَ لَحْمًا وَدَمًا لَكَانَ ذِكْرُهُ أَدْخَلَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهُ.
وَالْخُوَارُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ صَوْتُ الْبَقَرِ، وَقَدْ جَعَلَ صَانِعُ الْعِجْلِ فِي بَاطِنِهِ تَجْوِيفًا عَلَى تَقْدِيرٍ مِنَ الضِّيقِ مَخْصُوصٍ، وَاتَّخَذَ لَهُ آلَةً نَافِخَةً خَفِيَّةً، فَإِذَا حُرِّكَتْ آلَةُ النَّفْخِ انْضَغَطَ الْهَوَاءُ فِي بَاطِنِهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَضِيقِ، فَكَانَ لَهُ صَوْتٌ كَالْخُوَارِ، وَهَذِهِ صَنْعَةٌ كَصَنْعَةِ الصَّفَّارَةِ وَالْمِزْمَارِ، وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ يَجْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ لِصُنْعِهِمَا الْمُسَمَّى بَعْلًا.
وجَسَداً نَعْتٌ لِ عِجْلًا وَكَذَلِكَ لَهُ خُوارٌ.
وَجُمْلَةُ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِبَيَانِ فَسَادِ نَظَرِهِمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَلِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، لِأَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ هُوَ غَيْرُ الْوَاقِعِ مِنْ حَالِهِمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ حَالَهُمْ يُشْبِهُ حَالَ مَنْ لَا يَرَوْنَ عَدَمَ تَكْلِيمِهِ، فَوَقَعَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لَعَلَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذَلِكَ، مُبَالَغَةً، وَهُوَ لِلتَّعْجِيبِ وَلَيْسَ لِلْإِنْكَارِ، إِذْ لَا يُنْكَرُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِمَنْزِلَةِ النَّفْيِ لِلنَّفْي إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ تَنْزِيلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَرَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٣].
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، لِأَنَّ عَدَمَ تَكْلِيمِ الْعِجْلِ إِيَّاهُمْ مُشَاهَدٌ لَهُمْ، لِأَنَّ عَدَمَ الْكَلَامِ يُرَى مِنْ حَالِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ، بِانْعِدَامِ آلَةِ التَّكَلُّمِ وَهُوَ الْفَمُ الصَّالِحُ لِلْكَلَامِ، وَبِتَكَرُّرِ دُعَائِهِمْ إِيَّاهُ وَهُوَ لَا يُجِيبُ.
وَقَدْ سَفِهَ رَأْيُ الَّذِينَ اتَّخذُوا الْعجل إلاها، بِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى سَفَهِ رَأْيِهِمْ هُوَ أَنَّهُمْ لَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي اتِّخَاذه إلاها بِأَنَّ خَصَائِصَهُ خَصَائِصُ الْعَجْمَاوَاتِ، فَجِسْمُهُ جِسْمُ عِجْلٍ، وَهُوَ مِنْ نَوْعٍ لَيْسَ أَرْقَى أَنْوَاعِ الْمَوْجُودَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَصَوْتُهُ صَوْتُ الْبَقَرِ، وَهُوَ صَوْتٌ
الْأَمْرَ إِلَى عَلِيٍّ.
فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ وَضْعِ النَّحْوِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ فِي بَعْضِ كُتُبِ النَّحْوِ فِي ذِكْرِ سَبَبِ وَضْعِ عِلْمِ النَّحْوِ.
وَهَذَا الْأَذَانُ قَدْ وَقَعَ فِي الْحِجَّةِ الَّتِي حَجَّهَا أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ، إِذْ أَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَبِي بَكْرٍ، مُوَافِيًا الْمَوْسِم ليؤذّن بِبَرَاءَة، فَأَذَّنَ بِهَا عَلِيٌّ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً (١) مِنْهَا، كَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ يَزِيدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ: «أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً» شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، فَمَا
وَرَدَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ، أَيْ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عَلِيًّا قَرَأَ عَلَى النَّاسِ بَرَاءَةٌ حَتَّى خَتَمَهَا
، فَلَعَلَّ مَعْنَاهُ حَتَّى خَتَمَ مَا نَزَلَ مِنْهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ لَمْ يَتِمَّ نُزُولُهَا يَوْمَئِذٍ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ آخِرُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
وَإِنَّمَا أَلْحَقَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، لِأَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ أَنَّ الْعَرَبَ لَا يَرَوْنَ أَنْ يَنْقُضَ أَحَدٌ عَهْدَهُ مَعَ مَنْ عاهده إلّا بنسفه أَوْ بِرَسُولٍ مِنْ ذِي قَرَابَةِ نَسَبِهِ، فَأَرَادَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَتْرُكَ لِلْمُشْرِكِينَ عُذْرًا فِي عِلْمِهِمْ بِنَبْذِ الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ.
وَرُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَطُوفُ فِي مَنَازِلِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مِنْ مِنًى، يَصِيحُ بِآيَاتِ بَرَاءَةٌ حَتَّى صَحِلَ صَوْتُهُ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا سَمِعُوا ذَلِكَ يَقُولُونَ لِعَلِيٍّ «سَتَرَوْنَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَإِنَّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّكَ إِلَّا الطَّعْنُ وَالضَّرْبُ».
فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
التَّفْرِيعُ عَلَى جُمْلَةِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ حَالَتَانِ: حَالَةُ التَّوْبَةِ، وَحَالَةُ التَّوَلِّي.
_________
(١) تَنْتَهِي الثَّلَاثُونَ آيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وتنتهي الْأَرْبَعُونَ آيَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: ٤٠].
وَالضُّرُّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٧].
وَالدُّعَاءُ: هُنَا الطَّلَبُ وَالسُّؤَالُ بِتَضَرُّعٍ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِجَنْبِهِ بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الْإِسْرَاء:
١٠٩] وَقَوْلِهِ: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣]. أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعِ اللَّامِ حَرْفُ (عَلَى) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ [النِّسَاء: ١٠٣] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمرَان: ١٩٠] وَنَحْوُهُ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ جِنِّي التَّغْلِبِيِّ:
تَنَاوَلَهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ انْثَنَى بِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
أَيْ عَلَى الْيَدَيْنِ وَعَلَى الْفَمِ، وَهُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مَعَانِي اللَّامِ، لِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ بِالشَّيْءِ يَقَعُ بِكَيْفِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا اسْتِعْلَاؤُهُ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا سُلِكَ هُنَا حَرْفُ الِاخْتِصَاصِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْجَنْبَ مُخْتَصٌّ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ الضُّرِّ وَمُتَّصِلٌ بِهِ فَبِالْأَوْلَى غَيْرُهُ. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَنْظُورٌ إِلَيْهِ فِي بَيْتِ جَابِرٍ وَالْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ، فَهَذَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ.
وَمَوْضِعُ الْمَجْرُورِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلِذَلِكَ عُطِفَ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً بِالنَّصْبِ.
وَإِنَّمَا جُعِلَ الْجَنْبُ مَجْرُورًا بِاللَّامِ وَلَمْ يُنْصَبْ فَيُقَالُ مَثَلًا مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا لِتَمْثِيلِ التَّمَكُّنِ مِنْ حَالَةِ الرَّاحَةِ بِذِكْرِ شِقٍّ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ فِي تَمَكُّنِهِ، كَمَا كَانَ ذِكْرُ الْإِعْطَاءِ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَبَيْتِ جَابِرٍ أَظْهَرَ فِي تَمْثِيلِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ جَمَعَ فِيهَا بَين ذكر الْإِعْطَاء وَذكر الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى أَصْلِ الْمَعْنَى لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو اللَّهَ فِي أَنْدَرِ الْأَحْوَالِ مُلَابَسَةً لِلدُّعَاءِ، وَهِيَ حَالَةُ تَطَلُّبِ الرَّاحَةِ وَمُلَازِمَةِ السُّكُونِ. وَلِذَلِكَ ابْتُدِئَ بِذِكْرِ الْجَنْبِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ قَوْلِهِ: أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلِقَصْدِ تَعْمِيمِ الْأَحْوَالِ وَتَكْمِيلِهَا، لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الْإِطْنَابِ لِزِيَادَةِ تَمْثِيلِ الْأَحْوَالِ، أَيْ دَعَانَا فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَا يُلْهِيهِ عَنْ دُعَائِنَا شَيْءٌ.
وَالْجَنْبُ: وَاحِدُ الْجُنُوبِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ مَرْجُوًّا لِدَلَالَةِ فِعْلِ الرَّجَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَرَقُّبُ الْخَيْرِ، أَيْ مَرْجُوًّا لِلْخَيْرِ، أَيْ وَالْآنَ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ خَيْرِكَ. وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَعُدُّونَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ شَرًّا، وَإِنَّمَا خَاطَبُوهُ بِمِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ بُعِثَ فِيهِمْ وَهُوَ شَابٌّ (كَذَا قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) أَيْ كُنْتَ مَرْجُوًّا لِخِصَالِ السِّيَادَةِ وَحِمَايَةِ الْعَشِيرَةِ وَنُصْرَةِ آلِهَتِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَبْلَ هَذَا إِلَى الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ حِينَ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ.
وَجُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْنِيفِ، وَاشْتِمَالِهَا عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ أَيْضًا جُمْلَةُ أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ.
وَعَبَّرُوا عَنْ أَصْنَامِهِمْ بِالْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ أَنْ يَعْبُدُوهَا فِي زَعْمِهِمِ اقْتِدَاءً بِآبَائِهِمْ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْإِنْكَارَ اتِّجَاهًا فِي اعْتِقَادِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرُوا يَأْسَهُمْ مِنْ صَلَاحِ حَالِهِ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي صِدْقِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ وَزَادُوا ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ النُّكَتِ هُنَا إِثْبَاتُ نُونِ (إِنَّ) مَعَ نُونِ ضَمِيرِ الْجَمْعِ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةُ إِظْهَارٍ لِحَرْفِ التَّوْكِيدِ وَالْإِظْهَارُ ضَرْبٌ مِنَ التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٩] مِنْ قَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا لِأَنَّ الْحِكَايَةَ فِيهَا عَنْ أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي دَرَجَاتِ التَّكْذِيبِ، وَلِأَنَّ مَا فِي هَاتِهِ الْآيَة خطاب لوَاحِد، فَكَانَ تَدْعُونا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ هِيَ نُونُ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَقَعْ فِي الْجُمْلَةِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِ نُونَاتٍ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ هُنَالِكَ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الرُّسُلِ فِي (تَدْعُونَنَا) فَلَوْ جَاءَ (إِنَّنَا) لَاجْتَمَعَ أَرْبَعُ نُونَاتٍ.
وَبَيَّنَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ حَالَ خَيْبَةِ الدَّاعِي بِالتَّصْرِيحِ عَقِبَ تَبْيِينِهِ بِالْكِنَايَةِ. فَبِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ وَالْأُسْلُوبِ حسن الْعَطف، وبالمئال حَصَلَ تَوْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَقْرِيرُهَا وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ كَالْفَذْلَكَةِ لِتَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى.
وَالضَّلَالُ: التَّلَفُ وَالضَّيَاعُ. وفِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّمَكُّنِ فِي الْوَصْفِ، أَيْ إِلَّا ضَائِعٌ ضيَاعًا شَدِيدا.
[١٥]
[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ١٥]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [سُورَة الرَّعْد: ١٤] أَيْ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ شِعَارُ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِالْحَقَّةِ مِنْهَا دُونَ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا السُّجُودُ وَهُوَ الْهَوِيُّ إِلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ الْخُضُوعِ فَقَدِ اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْيَا وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَالْمُشْرِكِينَ لَا يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ وَلَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُمْ يَسْجُدُونَ لِلَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ إِلَى اسْمِهِ تَعَالَى الْعَلَمِ تَبَعًا لِلْأُسْلُوبِ السَّابِقِ فِي افْتِتَاحِ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَالْعُمُومُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مَنْ الْمَوْصُولَةِ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ طَوْعاً وَكَرْهاً تَقْسِيمُ أَحْوَالِ السَّاجِدِينَ. وَالْمُرَادُ بِالطَّوْعِ الِانْسِيَاقُ مِنَ النَّفْسِ تَقَرُّبًا وَزُلْفَى لِمَحْضِ التَّعْظِيمِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَبِالْكُرْهِ الِاضْطِرَارُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [سُورَة النَّحْل: ٥٣]. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مُكْرَهٌ أَخُوكَ لَا بَطَلٌ، أَيْ مُضْطَرٌّ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ
وَفِي هَذَا إِثْبَاتُ حُكْمٍ تَعَبُّدِيٍّ فِي التَّفْرِقَةِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الْمَصِيرُ إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَادِ إِلَّا بِنَصٍّ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ «مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ».
عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرِيعَةِ أَنْ يُحَرَّمَ صِنْفٌ إِنْسِيٌّ لِنَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ دُونَ وَحْشِيِّهِ.
وَأَمَّا الْبِغَالُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَحْرِيمِهَا. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِأَنَّ الْبِغَالَ صِنْفٌ مركّب من نوين مُحَرَّمَيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ حَرَامًا. وَمَنْ قَالَ بِإِبَاحَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ فَلِتَغْلِيبِ تَحْرِيمِ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْحَمِيرُ عَلَى تَحْلِيلِ النَّوْعِ الْآخَرِ وَهُوَ الْخَيْلُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ رَآهَا حَلَالًا.
وَالْخَيْلُ: اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤].
والْبِغالَ: جَمْعُ بَغْلٍ. وَهُوَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ نَوْعِ أُمِّهِ مِنَ الْخَيْلِ وَأَبُوهُ مِنَ الْحَمِيرِ. وَهُوَ مِنَ الْأَنْوَاعِ النَّادِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ نَوْعَيْنِ. وَعَكْسُهُ الْبِرْذَوْنُ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْبِغَالِ عُقْمُ أُنْثَاهَا بِحَيْثُ لَا تَلِدُ.
والْحَمِيرَ: جَمْعُ تَكْسِيرِ حِمَارٍ وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى أَحْمِرَةٍ وَعَلَى حُمُرٍ. وَهُوَ غَالِبٌ لِلذَّكَرِ مِنَ النَّوْعِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَأَتَانٌ. وَقَدْ رُوعِيَ فِي الْجَمْعِ التَّغْلِيبُ.
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
اعْتِرَاضٌ فِي آخِرِ الْكَلَامِ أَوْ فِي وَسَطِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
ويَخْلُقُ مُضَارِعٌ مُرَادٌ بِهِ زَمَنُ الْحَالِ لَا الِاسْتِقْبَالِ، أَيْ هُوَ الْآنَ يَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا هُوَ مَخْلُوقٌ لِنَفْعِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَمَا خَلَقَ لَهُمُ الْأَنْعَامَ وَالْكُرَاعَ خَلَقَ لَهُمْ وَيَخْلُقُ لَهُمْ خَلَائِقَ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَهَا
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ لِيَذَّكَّرُوا بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ مُخَفَّفَةً مُضَارِعُ ذَكَرَ الَّذِي مَصْدَرُهُ الذُّكْرُ- بِضَمِّ الذَّالِ-.
وَجُمْلَةُ وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَهُوَ حَالٌ مَقْصُودٌ مِنْهُ التَّعْجِيبُ مِنْ حَالِ ضَلَالَتِهِمْ. إِذْ كَانُوا يَزْدَادُونَ نُفُورًا مِنْ كَلَامٍ فَصْلٍ وَبَيِّنٍ لِتَذْكِيرِهِمْ. وَشَأْنُ التَّفْصِيلِ أَنْ يُفِيدَ الطُّمَأْنِينَةَ لِلْمَقْصُودِ. وَالنُّفُورُ: هُرُوبُ الْوَحْشِيِّ وَالدَّابَّةِ بِجَزَعٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ الْأَذَى.
وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِإِعْرَاضِهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ الدَّوَابّ والأنعام.
[٤٢]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٤٢]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ زِيَادَةً فِي اسْتِئْصَالِ عَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عُرُوقِهَا، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ بَعْدَ جُمْلَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً [الْإِسْرَاء: ٣٩]. وَالْمُخَاطَبُ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدَمْغِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْمُقْنِعَةِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ. وَلِلِاهْتِمَامِ بِهَا افْتُتِحَتْ بِ قُلْ تَخْصِيصًا لِهَذَا بِالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ مَأْمُورًا بِتَبْلِيغِهِ.
وَجُمْلَةُ كَمَا تَقُولُونَ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ لَا تَحَقُّقَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ
مُجَرَّدُ قَوْلٍ عَارٍ عَنِ الْمُطَابَقَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَابْتِغَاءُ السَّبِيلِ: طَلَبُ طَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ تَوَخِّيهِ وَالِاجْتِهَادِ لِإِصَابَتِهِ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَوَخِّي وَسِيلَةِ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُوسَى وَالْخَضِرِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَنَّ مُوسَى سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقْيَا الْخَضِرِ.
وَ (إِذَنْ) دَالَّةٌ عَلَى الْجَوَابِ وَالْجَزَاءِ فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الْجَوَابِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّامُ الْمُقْتَرِنَةُ بِجَوَابِ (لَوْ) الِامْتِنَاعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ حُصُولِ

[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٤٠]

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
تَذْيِيلٌ لِخَتْمِ الْقِصَّةِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَذْيِيلِ الْأَغْرَاضِ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِإِبْلَاغِهِ إِلَيْهِمْ.
وَضَمِيرُ يُرْجَعُونَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ عَلَيْها وَإِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَأَنْذِرْهُمْ [مَرْيَم: ٣٩].
وَحَقِيقَةُ الْإِرْثِ: مَصِيرُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى مَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي تَمَحُّضِ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ مُشَارِكٍ. فَإِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ فِي تَصَرُّفِ سُكَّانِهَا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ كُلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ، فَإِذَا هَلَكَ النَّاسُ وَالْحَيَوَانُ فَقَدْ صَارُوا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ وَصَارَتِ الْأَرْضُ فِي غَيْرِ تَصَرُّفِهِمْ فَلَمْ يَبْقَ تَصَرُّفٌ فِيهَا إِلَّا لِخَالِقِهَا، وَهُوَ تَصَرُّفٌ كَانَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ مُشْتَرَكًا بِمِقْدَارِ مَا خَوَّلَهُمُ اللَّهُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، فَصَارَ الْجَمِيعُ فِي مَحْضِ تَصَرُّفِ اللَّهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَصَرُّفُهُ بِالْجَزَاءِ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِدَفْعِ الشَّكِّ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُونَ الْجَزَاءَ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اللَّهَ يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَأَمَّا ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ فَهُوَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ وَلَا يُفِيدُ تَخْصِيصًا، إِذْ لَا يُفِيدُ رَدَّ اعْتِقَادٍ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ.
وَظَهَرَ لِي: أَنَّ مَجِيءَ ضمير الْفَصْل بِمُجَرَّد التَّأْكِيدِ كَثِيرٌ إِذَا وَقَعَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ بَعْدَ ضَمِيرٍ آخَرَ نَحْوَ قَوْلِهِ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [١٤]، وَقَوْلِهِ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٣٧].
وَأَفَادَ هَذَا التَّذْيِيلُ التَّعْرِيفَ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنَ الْكَوْنِ فِي قَبْضَةِ الرَّبِّ الْوَاحِدِ الَّذِي أَشْرَكُوا بِعِبَادَتِهِ بَعْضَ مَا عَلَى
وَجُمْلَةُ يَهْدُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مُقَيِّدَةٌ لِمَعْنَى الْإِمَامَةِ، أَي أَنهم أيمة هُدًى وإرشاد.
وَقَوله بِأَمْرِنا أَيْ كَانُوا هَادِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ الْوَحْيُ زِيَادَةً عَلَى الْجَعْلِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» :«فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَحَ لِيَكُونَ قُدْوَةً فِي دِينِ اللَّهِ فَالْهِدَايَةُ مَحْتُومَةٌ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ هُوَ بِهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخِلَّ بِهَا وَيَتَثَاقَلَ عَنْهَا. وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَهْتَدِيَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهُدَاهُ أَعَمُّ وَالنُّفُوسُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْمَهْدِيِّ أَمْيَلُ» اه.
وَهَذَا الْهَدْيُ هُوَ تَزْكِيَةُ نُفُوسِ النَّاسِ وَإِصْلَاحُهَا وَبَثُّ الْإِيمَانِ وَيَشْمَلُ هَذَا شُؤُونَ الْإِيمَانِ وَشُعَبَهُ وَآدَابَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ فَذَلِكَ إِقَامَةُ شَرَائِعِ الدِّينِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. وَقَدْ شَمِلَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِعْلَ الْخَيْراتِ.
وفِعْلَ الْخَيْراتِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْخَيْراتِ، وَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لِأَنَّ الْخَيْرَاتِ مَفْعُولَةٌ وَلَيْسَتْ فَاعِلَةً فَالْمَصْدَرُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ مَفْعُولُهُ، وَأَمَّا الْفَاعِلُ فَتَبَعٌ لَهُ، أَيْ أَنْ يَفْعَلُوا هُمْ وَيَفْعَلَ قَوْمُهُمُ الْخَيْرَاتِ،
حَتَّى تَكُونَ الْخَيْرَاتُ مَفْعُولَةً لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، فَحَذَفَ الْفَاعِلَ لِلتَّعْمِيمِ مَعَ الِاخْتِصَارِ لِاقْتِضَاءِ الْمَفْعُولِ إِيَّاهُ.
وَاعْتِبَارُ الْمَصْدَرِ مَصْدَرًا لِفِعْلٍ مَبْنِيٍّ لِلنَّائِبِ جَائِزٌ إِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ. وَهَذَا مَا يُؤْذِنُ بِهِ صَنِيعُ الزَّمَخْشَرِيِّ. عَلَى أَنَّ الْأَخْفَشَ أَجَازَهُ بِدُونِ شَرْطٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَ الْخَيْراتِ هُوَ الْمُوحَى بِهِ، أَيْ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، فَيَكُونَ الْمَصْدَرُ قَائِمًا مَقَامَ الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ الطَّلَبُ، وَالتَّقْدِيرُ: افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ [مُحَمَّد: ٤].
لَهُمْ بِالْحُجَّةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعَدْ فِي السُّؤَالَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ جُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤] اكْتِفَاءً بِالِافْتِتَاحِ بِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ بِلَامٍ جَارَّةٍ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لِجَوَابِهِمُ الْمُتَوَقَّعِ بِمَعْنَاهُ لَا بِلَفْظِهِ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سُئِلُوا بِ (مَنْ) الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ تَعْيِينِ ذَاتِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَانَ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ بِذِكْرِ اسْمِ ذَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْعَرْشِ مَمْلُوكَةً لِلَّهِ عُدُولًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لُوحِظَ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةُ تَقْتَضِي الْمُلْكَ. وَنَظِيرُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا أَنْشَدَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَصَاحِبُ «الْمَطْلَعِ» (١) :
إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ؟ قُلْتُ لَخَالِدُ
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ سَبَقَهُمَا بِذِكْرِ هَذَا الْبَيْتِ وَلَعَلَّهُمَا أَخَذَاهُ مِنْ «تَفْسِيرِ الزَّجَّاجِ» وَلَمْ يَعْزُوَاهُ إِلَى قَائِلٍ وَلَعَلَّ قَائِلَهُ حَذَا بِهِ حَذْوَ اسْتِعْمَالِ الْآيَةِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْأَجْدَرَ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ صَوْغِ الْآيَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَأَرَى أَنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ يَحْتَرِزُونَ عَنْ أَنْ يَقُولُوا: رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَعَ اللَّهِ أَرْبَابًا فِي السَّمَاوَاتِ إِذْ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَهُمْ عَدَلُوا عَمَّا فِيهِ نَفْيُ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ مَعْبُودَاتِهِمْ وَاقْتَصَرُوا عَلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ مِلْكٌ لِلَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ أَوْهَامَ شِرْكِهِمْ مِنْ أَصْلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ «لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ». فَفِي حِكَايَةِ جَوَابِهِمْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ حِكَايَةَ جَوَابِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمُ انْتِفَاءَ اتِّقَائِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى.
_________
(١) «المطلع» تَفْسِير لِلْقُرْآنِ اسْمه «مطلع الْمعَانِي ومنبع المباني» لحسام الَّذين مُحَمَّد بن عُثْمَان الْعليا بَادِي السَّمرقَنْدِي كَانَ حيّا سنة/ ٦٢٨/ هـ.
مِثْلُ التَّأْنِيثِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا فِي سُورَةِ طه وَأَحَلْنَا تَحْقِيقَهُ عَلَى مَا هُنَا.
وَمُبَادَأَةُ خِطَابِهِمَا فِرْعَوْنَ بِأَنْ وَصَفَا اللَّهَ بِصِفَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُجَابَهَةٌ لِفِرْعَوْنَ بِأَنَّهُ مَرْبُوبٌ وَلَيْسَ بِرَبٍّ، وَإِثْبَاتُ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ. وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَالَمِينَ شَامِلٌ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ فَيَشْمَلُ مَعْبُودَاتِ الْقِبْطِ كَالشَّمْسِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ يَوْمَئِذٍ.
وَجُمْلَةُ: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ تَفْسِيرِيَّةٌ لما تضمنه سُولُ
مِنَ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْقَوْلِ، أَيْ هَذَا قَوْلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَكَ. وأَرْسِلْ مَعَنا أَطْلِقْ وَلَا تَحْبِسْهُمْ، فَالْإِرْسَالُ هُنَا لَيْسَ بِمَعْنَى التَّوْجِيهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ أَنَّ مُوسَى أَمَرَ بِإِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بِلَادِ الْفَرَاعِنَةِ لِقَصْدِ تَحْرِيرِهِمْ مِنِ اسْتِعْبَادِ الْمِصْرِيِّينَ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ [الشُّعَرَاء: ٢٢]، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانُ أَسْبَابِ سُكْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَرْضِ مِصْرَ وَمَوَاطِنِهِمْ بِهَا وعملهم لفرعون.
[١٨، ١٩]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩)
طُوِيَ مِنَ الْكَلَامِ ذَهَابُ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَاسْتِئْذَانُهُمَا عَلَيْهِ وَإِبْلَاغُهُمَا مَا أَمَرَهُمَا اللَّهُ أَنْ يَقُولَا لِفِرْعَوْنَ إِيجَازًا لِلْكَلَامِ. وَوَجَّهَ فِرْعَوْنُ خِطَابَهُ إِلَى مُوسَى وَحْدَهُ لِأَنَّهُ عَلِمَ مِنْ تَفْصِيلِ كَلَامِ مُوسَى وَهَارُونَ أَنَّ مُوسَى هُوَ الرَّسُولُ بِالْأَصَالَةِ وَأَنَّ هَارُونَ كَانَ عَوْنًا لَهُ عَلَى التَّبْلِيغِ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْكَلَامِ مَعَ هَارُونَ. وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنِ الِاعْتِنَاءِ بِإِبْطَالِ دَعْوَةِ مُوسَى فَعَدَلَ إِلَى تَذْكِيرِهِ بِنِعْمَةِ الْفَرَاعِنَةِ أَسْلَافِهِ عَلَى مُوسَى وَتَخْوِيفِهِ مِنْ جِنَايَتِهِ حُسْبَانَا بِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَلِعُ الدَّعْوَةَ مِنْ جَذْمِهَا وَيَكُفُّ مُوسَى عَنْهَا، وَقَصْدُهُ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ إِفْحَامُ مُوسَى كَيْ يَتَلَعْثَمَ مِنْ خَشْيَةِ فِرْعَوْنَ حَيْثُ أَوْجَدَ لَهُ سَبَبًا يَتَذَرَّعُ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ وَيَكُونُ مَعْذُورًا فِيهِ حَيْثُ كَفَرَ نِعْمَةَ الْوِلَايَةِ بِالتَّرْبِيَةِ، وَاقْتَرَفَ جُرْمَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَنْفُسِ.
وَ (أَيَّمَا) مَنْصُوبٌ بِ قَضَيْتُ. وَ (أَيَّ) اسْمٌ مَوْصُولٌ مُبْهَمٌ مِثْلُ (مَا). وَزِيدَتْ بَعْدَهَا (مَا) لِلتَّأْكِيدِ لِيَصِيرَ الْمَوْصُولُ شَبِيهًا بِأَسْمَاءِ الشَّرْطِ لِأَنَّ تَأْكِيدَ مَا فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِبْهَامِ يُكْسِبُهُ عُمُومًا فَيُشْبِهُ الشَّرْطَ فَلِذَلِكَ جُعِلَ لَهُ جَوَابٌ كَجَوَابِ الشَّرْطِ. وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي مُنْتَهَى الْأَجَلِ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّعَاقُدُ الْمُفَادُ بِجُمْلَةِ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
وَالْعُدْوَانُ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْحَقِّ، أَيْ فَلَا تَعْتَدِي عَلَيَّ. فَنَفَى جِنْسَ الْعُدْوَانِ الَّذِي مِنْهُ عُدْوَانُ مُسْتَأْجِرِهِ. وَاسْتَشْهَدَ مُوسَى عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شُعَيْبٍ بِشَهَادَةِ اللَّهِ.
وَأَصْلُ الْوَكِيلِ: الَّذِي وُكِّلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، وَأَرَادَ هُنَا أَنَّهُ وُكِّلَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا أَخَلَّ أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ كَانَ اللَّهُ مُؤَاخِذَهُ. وَلَمَّا ضُمِّنَ الْوَكِيلُ مَعْنَى الشَّاهِدِ عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلَيَّ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِ (إِلَى).
وَالْعِبْرَةُ مِنْ سِيَاقَةِ هَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْقِصَّةِ الْمُفْتَتَحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إِلَى قَوْلِهِ وَاللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [الْقَصَص: ٢٢- ٢٨] هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْكَمَالِ وَكَيْفَ هَيَّأَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى لِتَلَقِّي الرِّسَالَةِ بِأَنْ قَلَّبَهُ فِي أَطْوَارِ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُهَا مُعَاشَرَةُ رَسُولٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ وَمُصَاهَرَتُهُ، وَمَا تَتَضَمَّنَهُ مِنْ خِصَالِ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ الَّتِي اسْتَكَنَّتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَالرَّأْفَةِ بِالضَّعِيفِ، وَالزُّهْدِ، وَالْقَنَاعَةِ، وَشُكْرِ رَبِّهِ عَلَى مَا أَسْدَى إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَفَافِ وَالرَّغْبَةِ فِي عِشْرَةِ الصَّالِحِينَ، وَالْعَمَلِ لَهُمْ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، وَالثَّبَاتِ عَلَى الْعَهْدِ حَتَّى كَانَ خَاتِمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفَهُ بِالرِّسَالَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ من خِصَال النبوءة الَّتِي أَبْدَاهَا شُعَيْبٌ مِنْ حُبِّ الْقِرَى، وَتَأْمِينِ الْخَائِفِ، وَالرِّفْقِ فِي الْمُعَامَلَةِ، لِيَعْتَبِرَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهُمُ اعْتِبَارٌ فِي مُقَايَسَةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِأَجْنَاسِهَا مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَهْتَدُوا إِلَى أَنَّ مَا عَرَفُوهُ بِهِ مِنْ زَكِيِّ الْخِصَالِ قَبْلَ رِسَالَتِهِ وتقويم سيرته، وزكاء سَرِيرَته، وَإِعَانَتِهِ عَلَى نَوَائِبِ الْحق، وتزوجه بِأَفْضَل امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ قَوْمِهِ، إِنْ هِيَ إِلَّا خِصَالٌ فَاذَّةٌ فِيهِ بَيْنَ قَوْمِهِ وَإِنْ هِيَ إِلَّا
الْأَقْوَاتُ بِمَكَّةَ وَالْحِجَازِ كَمَا يَقْتَضِيهِ سَوْقُ هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمُفْتَتَحَةِ بِ غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ٢].
فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِسَبَبِ مَسِّ الضُّرِّ إيَّاهُم حَتَّى لجأوا إِلَى الضَّرَاعَةِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ [الرّوم: ٣٣] إِلَى آخِرِهِ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ تَخَلَّلَ فِي الِاعْتِرَاضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِعُهَا مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ ذِكْرِ ابْتِهَالِ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ إِذَا أَحَاطَ بِهِمْ ضُرٌّ ثُمَّ إِعْرَاضُهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وَبَيْنَ ذِكْرِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ اعْتِرَاضًا يُنْبِئُ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ جَرَّاءَ اكْتِسَابِ النَّاسِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا لَكَانَ حَالُهُمْ عَلَى صَلَاحٍ.
والْفَسادُ: سُوءُ الْحَالِ، وَهُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ: فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عَلَى أَنَّهُ سُوءُ الْأَحْوَالِ فِي مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ مِنْ خَيْرَاتِ الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا. ثُمَّ التَّعْرِيفُ فِي الْفَسادُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ لِفَسَادٍ مَعْهُودٍ لَدَى الْمُخَاطَبِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِكُلِّ فَسَادٍ ظَهَرَ فِي الْأَرْضِ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا أَنَّهُ فَسَادٌ فِي أَحْوَالِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، لَا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَفَسَادُ الْبَرِّ يَكُونُ بِفِقْدَانِ مَنَافِعِهِ وَحُدُوثِ مَضَارِّهِ، مِثْلَ حَبْسِ الْأَقْوَاتِ مِنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ وَالْكَلَأِ، وَفِي مَوَتَانِ الْحَيَوَانِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، وَفِي انْتِقَالِ الْوُحُوشِ الَّتِي تُصَادُ مِنْ جَرَّاءَ قَحْطِ الْأَرْضِ إِلَى أَرَضِينَ أُخْرَى، وَفِي حُدُوثِ الْجَوَائِحِ مِنْ جَرَادٍ وَحَشَرَاتٍ وَأَمْرَاضٍ.
وَفَسَادُ الْبَحْرِ كَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي تَعْطِيلِ مَنَافِعِهِ مِنْ قِلَّةِ الْحِيتَانِ وَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ فَقَدْ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ مَوَارِدِ بِلَادِ الْعَرَبِ وَكَثْرَةِ الزَّوَابِعِ الْحَائِلَةِ عَنِ الْأَسْفَارِ فِي الْبَحْرِ، وَنُضُوبِ مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَانْحِبَاسِ فَيَضَانِهَا الَّذِي بِهِ يَسْتَقِي النَّاسَ. وَقِيلَ: أُرِيدَ بِالْبَرِّ الْبَوَادِي وَأَهْلُ الْغُمُورِ وَبِالْبَحْرِ الْمُدُنُ وَالْقُرَى، وَهُوَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ
بَحْرًا. قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: «وَلَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ».
يَكُونَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الْأَحْزَاب: ٥٣]. وَبَوْنٌ مَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا نَظَّرَهُ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَصْلُحُ مَجِيءُ الْحَالِ مِنْهُ. وَالْوَجْهُ هُنَا هُوَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي تَقْدِيرِ نَظْمِهِ.
وَاللَّعْنُ: الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٣٥]، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا كِنَايَةً عَنِ الْإِهَانَةِ وَالتَّجَنُّبِ فِي الْمَدِينَةِ، أَيْ يُعَامِلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِتَجَنُّبِهِمْ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَيَبْتَعِدُونَ هُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اتِّقَاءً وَوَجَلًا فَتَضْمَنُ أَنْ يَكُونُوا مُتَوَارِينَ مُخْتَفِينَ خَوْفًا مِنْ بَطْشِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ حَيْثُ أَغْرَاهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي قَوْلِهِ:
مَلْعُونِينَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ.
وَقَوْلُهُ: أَيْنَما ثُقِفُوا ظَرْفٌ مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ مَلْعُونِينَ لِأَنَّ مَلْعُونِينَ حَالٌ مِنْهُمْ بَعْدَ صِفَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَأَفَادَ عُمُومَ أَمْكِنَةِ الْمَدِينَةِ.
وأَيْنَما: اسْمُ زَمَانٍ مُتَضَمِّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَالثَّقَفُ: الظَّفَرُ وَالْعُثُورُ عَلَى الْعَدُوِّ بِدُونِ قَصْدٍ. وَقَدْ مَهَّدَ لِهَذَا الْفِعْلِ قَوْلُهُ: مَلْعُونِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى أُخِذُوا أُمْسِكُوا. وَالْأَخْذُ: الْإِمْسَاكُ وَالْقَبْضُ، أَيْ أُسِرُوا، وَالْمُرَادُ:
أُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ إِذْ أَغْرَى اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ.
وَالتَّقْتِيلُ: قُوَّةُ الْقَتْلِ. وَالْقُوَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَثْرَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ قَوِيٌّ فِي أَصْنَافِ
نَوْعِهِ وَأَيْضًا هُوَ شَدِيدٌ فِي كَوْنِهِ سَرِيعًا لَا إِمْهَالَ لَهُمْ فِيهِ.
وتَقْتِيلًا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِعَامِلِهِ، أَيْ قُتِّلُوا قَتْلًا شَدِيدًا شَامِلًا. فَالتَّأْكِيدُ هُنَا تَأْكِيدٌ لِتَسَلُّطِ الْقَتْلِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ الْمَدْلُولَةِ لِضَمِيرِ قُتِّلُوا، لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي عُمُومِ الْقَتْلِ، فَالْمَعْنَى: قُتِّلُوا قَتْلًا شَدِيدًا لَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ.
وَبِهَذَا الْوَعِيدِ انْكَفَّ الْمُنَافِقُونَ عَنْ أَذَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنِ الْإِرْجَافِ فَلَمْ يَقَعِ التَّقْتِيلُ فِيهِمْ إِذْ لَمْ يُحْفَظْ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا أَنَّهُمْ خَرَجَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُرْشِدُ إِلَى تَقْدِيمِ إِصْلَاحِ الْفَاسِدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى قَطْعِةٍ مِنْهَا لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْفَاسِدِ يُكْسِبُ الْأُمَّةَ فَرْدًا صَالِحًا أَوْ طَائِفَةً صَالِحَةً تَنْتَفِعُ الْأُمَّةُ مِنْهَا كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ»
. وَلِهَذَا شُرِعَتْ

[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٤٠ إِلَى ٤٩]

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ، وَالِاسْتِدْرَاكُ تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِمَا يُضَادُّهُ، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ تَعْقِيبٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الصافات: ٣٣] فَإِنَّ حَالَ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ تَامُّ الضِّدَّيَّةِ لِحَالِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَيْسَ يَلْزَمُ فِي الِاسْتِدْرَاكِ أَنْ يَكُونَ رَفْعَ تَوَهُّمٍ وَإِنَّمَا ذَلِكَ غَالِبٌ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْرِيفِهِ هُوَ: تَعْقِيبُ الْكَلَامِ بِرَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ ثُبُوتُهُ أَوْ نَفْيُهُ، تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، أَوْ أُرِيدَ أَدْنَى التَّوَهُّمِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَكُونُ إِخْرَاجًا مِنْ حُكْمٍ لَا مِنْ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ ضَرُورَةً أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ حَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْمُنْقَطِعِ قَائِمٌ مَقَامَ لَكِنْ، وَلِذَلِكَ يَقْتَصِرُونَ عَلَى ذِكْرِ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى بَلْ يُرْدِفُونَهُ بِجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ مَحَلَّ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ
[الْأَعْرَاف: ١١] وَقَوْلِهِ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى [الْبَقَرَة: ٣٤]، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ هُنَا: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ لَمَا أَتْبَعَ الْمُسْتَثْنَى بِإِخْبَارٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُثْبِتُ لَهُ نَقِيضَ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُفَادُ إِلَّا، وَنَظِيرُهُ مَعَ لكِنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٩، ٢٠].
وَذِكْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ الْمُضَافَةِ لِلَّهِ تَعَالَى تَنْوِيهٌ بِهِمْ وَتَقْرِيبٌ، وَذَلِكَ اصْطِلَاحٌ
غَالِبٌ فِي الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ الْعَبْدِ وَالْعِبَادِ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ [ص: ١٧] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [ص: ٤٥] يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: ٦٨]، وَرُبَّمَا أُطْلِقَ الْعَبْدُ غَيْرَ مُضَافٍ مُرَادًا بِهِ التَّقْرِيبَ أيْضًا كَقَوْلِهِ: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: ٣٠]، أَيِ الْعَبْدُ لِلَّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ ذِكْرُ قَوْمٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْتَ بِلَفْظِ الْعِبَادِ مُضَافًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الْإِسْرَاء: ٥] إِلَّا
أَحَدٌ، أَوْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ، أَيْ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا.
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحُذِفَ الْقَوْلُ مِنْ حَدِيثِ الْبَحْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُ اللَّهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، فَفِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤال سَائل عَمَّا ذَا يَقَعُ بَعْدَ بُرُوزِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا تَقْرِيرِيٌّ لِيَشْهَدَ الطُّغَاةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُخْطِئِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مُلْكٍ لِأَصْنَامِهِمْ حِينَ يُضِيفُونَ إِلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِي مَمَالِكَ مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، مِثْلَ قَوْلِ الْيُونَانِ بِإِلَهِ الْبَحْرِ وَإِلَهِ الْحَرْبِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ أَقْبَاطِ مِصْرَ بِإِلَهِ الشَّمْسِ وَإِلَهِ الْمَوْتِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ الْعَرَبِ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَصْنَامِ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ مِثْلِ اللَّاتِ لِثَقِيفٍ، وَذِي الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ، وَمَنَاةَ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ عَلَى النَّاسِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١]، وَتَلْقِيبِ أَكَاسِرَةِ الْفُرْسِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ: مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهِنْشَاهْ)، وَتَلْقِيبِ مُلُوكِ الْهِنْدِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ مَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهٍ جَهَانِ). وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا
فِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
اسْتِفْهَامًا مُرَادًا مِنْهُ تَخْوِيفُهُمْ مِنَ الظُّهُورِ يَوْمَئِذٍ، أَيْ أَيْنَ هم الْيَوْم لماذَا لَمْ يَظْهَرُوا بِعَظَمَتِهِمْ وَخُيَلَائِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةً عَنِ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْجَوَابِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ اسْتِفْهَامًا يَتَرَقَّبُ جَوَابَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ الْجَوَابُ عِنْدَ سَمَاعِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّشْوِيقِ لَا يَفُوتُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦].

[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ٣٧]

وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)
أَتْبَعَ الْمَوْصُولَ السَّابِقَ بِمَوْصُولَاتٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا تُعْطَفُ الصِّفَاتُ لِلْمَوْصُوفِ الْوَاحِدِ، فَكَذَلِكَ عَطْفُ هَذِهِ الصِّلَاتِ وَمَوْصُولَاتُهَا أَصْحَابُهَا مُتَحِدُّونَ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [الْبَقَرَة: ٣] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ: هُوَ الِاهْتِمَامُ بِالصِّلَاتِ فَيُكَرَّرُ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ لِتَكُونَ صِلَتُهُ مُعْتَنًى بِهَا حَتَّى كَأَنَّ صَاحِبَهَا الْمُتَّحِدَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ ذَوَاتٍ. فَالْمَقْصُودُ: مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَاتُهُمْ، أَيْ أَتْبَعُوا إِيمَانَهُمْ بِهَا. وَهَذِهِ صِفَاتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لَهُمْ فَهِيَ صِفَاتٌ مُتَدَاخِلَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ فِي الْمُؤْمِنَ الْوَاحِدِ إِذَا وُجِدَتْ أَسْبَابُهَا وَقَدْ لَا تَجْتَمِعُ إِذَا لَمْ تُوجَدْ بَعْضُ أَسْبَابِهَا مِثْلَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [٣٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَبائِرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَبِيرَ بِالْإِفْرَادِ، فَكَبَائِرُ الْإِثْمِ: الْفِعْلَاتُ الْكَبِيرَةُ مِنْ جِنْسِ الْإِثْمِ وَهِيَ الْآثَامُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا نَهْيًا جَازِمًا، وَتَوَعَّدَ فَاعِلَهَا بِعِقَابِ الْآخِرَةِ مِثْلَ الْقَذْفِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ. وعَلى قِرَاءَة كَبِيرَة الْإِثْمِ مُرَادٌ بِهِ مَعْنَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى مُعَرَّفٍ بِلَامِ الْجِنْسِ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ كَانَ لَهُ حُكْمُ مَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ.
والْفَواحِشَ: جَمْعُ فَاحِشَةٍ، وَهِيَ: الْفِعْلَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالشَّنَاعَةِ وَالَّتِي شَدَّدَ الدِّينُ فِي النَّهْيِ عَنْهَا وَتَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ أَوْ وَضَعَ لَهَا عُقُوبَاتٍ فِي الدُّنْيَا لِلَّذِي يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ فَاعِلِيهَا. وَهَذِهِ مِثْلُ قتل النَّفس، وَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَالْحِرَابَةِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٨].
وَكَبَائِرُ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهَا الْقُوَّةُ الشَّاهِيَةُ. وَلَمَّا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ
وَالْفَوَاحِشِ مُتَسَبِّبًا عَلَى الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ مِثْلَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ وَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ
فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى وَصْفِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْهَلَعِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ إِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ، أَيْ حَانَ أَنْ يُنْدَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْقِتَالِ سَيَضْطَرِبُ أَمْرُ الْمُنَافِقِينَ وَيَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا مِنْ حُضُورِ الْجِهَادِ، وَأَنَّ الْأَوْلَى لَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُخْلِصُوا الْإِيمَانَ وَيُجَاهِدُوا كَمَا يُجَاهِدُ الْمُسْلِمُونَ الْخُلَّصُ وَإِلَّا فَإِنَّهُمْ لَا مَحِيصَ لَهُمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا حُضُورُ الْقِتَالِ بِدُونِ نِيَّةٍ
فَتَكُونُ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ وَيَخْسَرُوا أَنْفُسَهُمْ بَاطِلًا، وَإِمَّا أَنْ يَنْخَزِلُوا عَنِ الْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ أُبَيٍّ وَأَتْبَاعُهُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَإِذا ظَرْفٌ لِلزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُقَدَّرًا وَجُودُهُ، أَيْ فَإِذَا جَدَّ أَمْرُ الْقِتَالِ وَحَدَثَ.
وَجُمْلَةُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ دَلِيل جَوَاب فَإِذا لِأَنَّ إِذَا ضُمِّنَتْ هُنَا مَعْنَى الشَّرْطِ، أَيْ كَذَّبُوا اللَّهَ وَأَخْلَفُوا فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ، وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ الْجَوَابِ بِالْفَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَضْمِينِ إِذَا مَعْنَى الشَّرْطِ، وَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ تَجْرِيدِهِ عَنِ الْفَاءِ إِذَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْجَوَابِ شَرْطِيَّةً أَيْضًا.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَوِ اللَّامُ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ أَمْرُ الْقِتَالِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ.
وَالْعَزْمُ: الْقَطْعُ وَتَحَقُّقُ الْأَمْرِ، أَيْ كَوْنُهُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ. وَاسْتُعِيرَ الْعَزْمُ لِلتَّعْيِينِ وَاللُّزُومِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ مَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْأَمْرِ، أَيِ الْقِتَالِ بِرَجُلٍ عَزَمَ عَلَى عَمَلٍ مَا وَإِثْبَاتُ الْعَزْمِ لَهُ تَخْيِيلَةٌ كَإِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ السَّكَّاكِيِّ فِي جَمِيعِ أَمْثِلَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ دَقِيقَةٌ لَكِنْ بِدُونِ اطراد وَلَكِن عِنْد مَا يسمح بِهِ الْمَقَامُ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» إِسْنَادَ الْعَزْمِ إِلَى الْأَمْرِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُسْنَدَ لِأَصْحَابِ الْعَزْمِ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْهُورِ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ هُنَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى حُصُولِ الْجِدِّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لُقْمَان: ١٧] فَالْكَلَامُ فِيهَا سَوَاءٌ.
وَالْمُرَادُ بِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ: مَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا الْمَيْلُ الشَّهْوَانِيُّ، دُونَ الْأَدِلَّةِ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَحْبُوبُ قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا يَزِيدُهُ حُبُّهُ إِلَّا قَبُولًا كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَافْتَرَقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسَاجِدِ»
وَقَالَ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
. فَمَنَاطُ الذَّمِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَصْرُ اتِّبَاعِهِمْ عَلَى مَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ.
ثُمَّ إِنَّ لِلظَّنِّ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْأَخْلَاقِ النَّفْسَانِيَّةِ أَحْكَامًا وَمَرَاتِبَ غَيْرَ مَا لَهُ فِي الدِّيَانَاتِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا، فَمِنْهُ مَحْمُودٌ وَمِنْهُ مَذْمُومٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَقيل: الحزم سُوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَنْفُسُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ وَمَا تَهْوَاهُ أَنْفُسُهُمْ وَمَا
مَوْصُولَةٌ.
وَعَطْفُ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ عَلَى الظَّنِّ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، أَيِ الظَّنُّ الَّذِي يَبْعَثهُم على إتباعه أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِهُدَاهِمْ وَإِلْفِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حَالِيَّةٌ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ، أَيْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَالْهَوَى فِي حَالِ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا بِالْهُدَى.
وَلَامُ الْقَسَمِ لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِيمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ مَا فِيهِ هُدًى مُقْنِعٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ضَلَالِهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا يُظَنُّ مِثْلُهُ بِعَاقِلٍ.
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْجَلَالَةِ بِعُنْوَانِ رَبِّهِمُ لِزِيَادَةِ التَّعْجِيبِ مِنْ تَصَامُمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْهُدَى مَعَ أَنَّهُ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ فَكَانَ ضَلَالُهُمْ مَخْلُوطًا بِالْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى خَالِقِهِمْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْهُدى لِلدِّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ، أَيِ الْهدى الْوَاضِح.
الْآيَةَ. وَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ الْمُحَاجَّةَ لَا تَقَعُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجَزَاءِ وَبَعْدَ مَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ دُونَ مَنْ أَسْلَمُوا.
وَقَوْلُ: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها مِنْ تَمَامِ الْمَثَلِ. أَيْ كَانَ عَاقِبَة الممثل بِهِمَا خُسْرَانَهُمَا مَعًا. وَكَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ الْمُمَثَّلَيْنِ أَنَّهُمَا خَائِبَانِ فِيمَا دَبَّرَا وَكَادَا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَجُمْلَةُ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ مِنْ مَعْنَى، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمَا سُوأَى وَالْعَاقِبَةُ السُّوأَى جَزَاءُ جَمِيعِ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ عَلَى اللَّهِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَكَمَا كَانَتْ عَاقِبَةُ الْكَافِرِ وَشَيْطَانِهِ عَاقِبَةَ سوء كَذَلِك تكون عَاقِبَةِ الْمُمَثِّلَيْنِ بِهِمَا وَقَدِ اشْتَرَكَا فِي ظُلْمِ أَهْلِ الْخَيْر وَالْهدى.
[١٨]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ١٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
انْتِقَالٌ مِنْ الِامْتِنَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ مِنْ فَتْحِ قَرْيَةِ بَنِي النَّضِيرِ بِدُونِ قِتَالٍ، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ على رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُ مَا جَرَى مِنْ خَيْبَتِهِمْ وَخَيْبَةِ أَمَلِهِمْ فِي نُصْرَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَمِنَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ أَهْلِ الْقُرَى الْبَاقِيَةِ كَعَاقِبَةِ أَسْلَافِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَوْقِفُ أَنْصَارِهِمْ مَعَهُمْ، إِلَى الْأَمْرِ بِتَقْوَى اللَّهِ شُكْرًا لَهُ عَلَى مَا مَنَحَ وَمَا وَعَدَ مِنْ صَادِقِ الْوَعْدِ فَإِنَّ الشُّكْرَ جَزَاءُ الْعَبْدِ عَنْ نِعْمَةِ رَبِّهِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُ جَزَاءً غَيْرَ ذَلِكَ فَأَقْبَلَ عَلَى خِطَابِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْأَمِرِ بِتَقْوَى اللَّهِ.
وَلَمَّا كَانَ مَا تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنْ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَفَيْضِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ كَانَ مِنْ مَنَافِعَ الدُّنْيَا، أَعْقَبَهُ بِتَذْكِيرِهِمْ بِالْإِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ أَيْ لِتَتَأَمَّلْ كُلُّ نَفْسٍ فِيمَا قَدَّمَتْهُ لِلْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، عَطْفُ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ. وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ اتَّقُوا اللَّهَ وَجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. وَذِكْرُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٩- سُورَةُ الْحَاقَّةِ
سُمِّيَتْ «سُورَةُ الْحَاقَّةِ» فِي عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «خَرَجْتُ يَوْمًا بِمَكَّةَ أَتَعَرَّضُ لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْحَاقَّةِ فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ شَاعِرٌ، (أَيْ قُلْتُ فِي خَاطِرِي)، فَقَرَأَ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة: ٤١] قُلْتُ: كَاهِنٌ، فَقَرَأَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الحاقة: ٤٢- ٤٣] إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلَّ مَوْقِعٍ»
. وَبِاسْمِ الْحَاقَّةُ عُنْوِنَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الْفَيْرُوزَآبَادِيُّ فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» : إِنَّهَا تُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ السِّلْسِلَةِ» لِقَوْلِهِ: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ [الحاقة: ٣٢] وسماها الجعربي فِي مَنْظُومَتِهِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ «الْوَاعِيَةَ» وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ وُقُوعِ قَوْلِهِ وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
[الحاقة: ١٢] وَلَمْ أَرَ لَهُ سَلَفًا فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ.
إِعْمَالُهُ يُبْطِلُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ صَلَاحٍ أَقْوَى لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوَاضِعِ اجْتِهَادِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَحْيِ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ.
فَالتَّزْكِيَةُ الْحَقُّ هِيَ الْمِحْوَرُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ حَالُ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَحَالُ الْمُشْرِكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَرْغُوبَةٌ لِلْأَوَّلِ وَمَزْهُودٌ فِيهَا مِنَ الثَّانِي، وَهِيَ مَرْمَى اجْتِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَحْصِيلِهَا لِلثَّانِي وَالْأَمْنِ عَلَى قَرَارِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْبَالِهِ عَلَى الَّذِي يَتَجَافَى عَنْ دَعْوَتِهِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنِ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ مُتَزَكٍّ بِالْإِيمَانِ.
وَفِي حَالَيْهِمَا حَالَانِ آخَرَانِ سِرُّهُمَا مِنْ أَسْرَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي لَقَّنَهَا اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْفَى فِي مُعْتَادِ نَظَرِ النُّظَّارِ فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ بِهِ لِيُزِيلَ عَنْهُ سِتَارَ ظَاهِرِ حَالَيْهِمَا، فَإِنَّ ظَاهِرَ حَالَيْهِمَا قَاضٍ بِصَرْفِ الِاهْتِمَامِ إِلَى أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُشْرِكُ لِدَعْوَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ حِينَ لَاحَ مِنْ لِينِ نَفْسِهِ لِسَمَاعِ الْقُرْآنِ مَا أَطْمَعَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الْإِيمَانِ فَمَحَّضَ تَوْجِيهَ كَلَامِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّ هَدْيَ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ أَعْظَمُ غَرَضٍ بُعِثَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهِ، فَالِاشْتِغَالُ بِهِ يَبْدُو أَهَمَّ وَأَرْجَحَ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِمَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ خَالِصٌ، وَذَلِكَ مَا فَعَلَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
غَيْرَ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ الظَّاهِرِ حَالًا آخَرَ كَامِنًا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِالْخَفِيَّاتِ وَلَمْ يُوحِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّنْقِيبَ عَلَيْهِ وَهُوَ حَالُ مُؤْمِنٍ هُوَ مَظِنَّةُ الِازْدِيَادِ مِنَ الْخَيْرِ، وَحَالُ كَافِرٍ مُصَمِّمٍ عَلَى الْكُفْرِ تُؤْذِنُ سَوَابِقُهُ بِعِنَادِهِ وَأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِيهِ الْبُرْهَانُ شَيْئًا. وَإِنَّ عَمِيقَ التَّوَسُّمِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ يُكْشَفُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَانَةِ اللَّهِ رُجْحَانَ حَالِ الْمُؤْمِنِ الْمُزْدَادِ مِنَ الرُّشْدِ وَالْهَدْيِ عَلَى حَالِ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يَغُرُّ مَا أظهره من اللَّبن مُصَانَعَةً أَوْ حَيَاءً مِنَ الْمُكَابَرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي إِيمَانِ الْكَافِرِ نَفْعٌ عَظِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ بِزِيَادَةِ عَدَدِهَا وَنَفَعٌ خَاصٌّ لِذَاتِهِ. وَفِي ازْدِيَادِ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَسَائِلِ الْخَيْرِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ نَفْعٌ خَاصٌّ لَهُ وَالرَّسُولُ رَاعٍ لِآحَادِ الْأُمَّةِ وَلِمَجْمُوعِهَا، فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْحِفَاظِ عَلَى مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ وَمَصَالِحِ الْآحَادِ بِحَيْثُ لَا يَدْحَضُ مَصَالِحَ الْآحَادِ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الْمَجْمُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّالِحِ الْعَامِّ وَالصَّالِحِ الْخَاصِّ، بَيْدَ أَنَّ الْكَافِرَ صَاحِبَ هَذِه الْقَضِيَّة تنبىء دَخِيلَتُهُ بِضَعْفِ الرَّجَاءِ فِي إِيمَانِهِ لَوْ أُطِيلَ التَّوَسُّمُ فِي حَالِهِ، وَبِذَلِكَ تَعَطَّلَ الِانْتِفَاعُ بِهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا وَتَمَخَّضَ أَنَّ لِتَزْكِيَةِ الْمُؤْمِنِ


الصفحة التالية
Icon