النُّطْقِ وَالْبَيَانِ لِلتَّعْلِيمِ، وَالثَّالِثُ إِلَى الشَّرَائِعِ.
وَالْحَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ التَّقْدِيمِ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِعَانَاتِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْض فِي شؤونهم، وَمَعْنَى الْحَصْرِ هُنَا لَا نَسْتَعِينُ عَلَى عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ فِيهَا بِالنَّاسِ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَيُفِيدُ هَذَا الْقَصْرُ فِيهِمَا التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى قَصْدِ التَّشْرِيكِ إِلَّا أَنَّ وَلَعَهُ وَاسْتِهْتَارَهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْسَاهُ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَبَدَتْ سَبَأُ الشَّمْسَ وَعَبَدَ الْفُرْسُ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ، وَعَبَدَ الْقِبْطُ الْعِجْلَ وَأَلَّهُوا الْفَرَاعِنَةَ، وَعَبَدَتْ أُمَمُ السُّودَانِ الْحَيَوَانَاتِ كَالثَّعَابِينِ. وَمِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةَ غَيْرِهِ وَهَذَا حَالُ مُعْظَمِ الْعَرَبِ مِمَّنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ أَوْ عَبَدَ الْكَوَاكِبَ، فَقَدْ عَبَدَتْ ضَبَّةُ وَتَيْمٌ وَعُكْلُ الشَّمْسَ، وَعَبَدَتْ كِنَانَةُ الْقَمَرَ، وَعَبَدَتْ لَخْمٌ وَخُزَاعَةُ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ الشِّعْرَى، وَعَبَدَتْ تَمِيمٌ الدبران، وعبدت طيىء الثُّرَيَّا، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ جَعَلُوا الْآلِهَةَ بِزَعْمِهِمْ وَسِيلَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا الْعِبَادَةَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِمْ لِأَنَّ جَعْلَهُمْ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اسْتِفَادَةَ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنَحْوِهِمْ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ أَيْ بِطَرِيقِ عَرْضِ الْكَلَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِرَدِّ الِاعْتِقَادِ إِلَّا
تَعْرِيضًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَاصِلٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السَّلْكُوتِيُّ فِي «حَاشِيَةِ التَّفْسِيرِ».
فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أُمِرْنَا بِأَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نَسْتَعِينَ إِلَّا بِهِ حَسْبَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»
فَلَمْ يَأْتِ بِصِيغَةِ قَصْرٍ. قُلْتُ قَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَدُّ قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ طَرِيقَةِ الْقَصْرِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَقَامَ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَأَنَّ مِنْ حَقِّ السُّؤَالِ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مَقْصُورًا فِي نَفْسِهِ فَارْتِكَابُ طَرِيقِ الْقَصْرِ لَغْوٌ مِنَ الْكَلَامِ اهـ.
وَأَقُولُ تَقْفِيَةً عَلَى أَثَرِهِ إِنَّ مَقَامَ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَقَامِ الْآيَةِ فَمَقَامُ الْحَدِيثِ مَقَامُ تَعْلِيمٍ خَاصٍّ لِمَنْ نَشَأَ وَشَبَّ وَتَرَجَّلَ فِي الْإِسْلَامِ فَتَقَرُّرُ قَصْرِ الْحُكْمِ لَدَيْهِ عَلَى طَرَفِ الثُّمَامِ وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَأَمَّا مَقَامُ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَقَامُ مُفْتَتَحِ الْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ وَاسْتِهْلَالِ الْوَعْظِ وَالتَّقْرِيعِ، فَنَاسَبَ تَأْكِيدَ الْحُكْمِ بِالْقَصْرِ مَعَ التَّعْرِيضِ بِحَالِ الشِّرْكِ الشَّنِيعِ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ بِهِمَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ عَلَى حُصُولِ أَيِّ سُؤَالٍ وَأَيَّةِ اسْتِعَانَةٍ يُفِيدُ مَفَادَ الْقَصْرِ تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَبْقَى الْمُسْلِمُونَ سَبْعَ أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْخَطَأِ، فَمَحَلُّ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مُدَّةِ شَرْعِ الصِّيَامِ، وَمَحْمَلُ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ عَدِيًّا وَقَعَ فِي مِثْلِ الْخَطَأِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مَنْ تَقَدَّمُوهُ، فَإِنَّ الَّذِي عِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ:
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ إِلَخْ فَهُوَ قَدْ ذَكَرَ الْآيَةَ مُسْتَكْمَلَةً، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَمِلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ أَيْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ صَوْمِ النَّذْرِ وَفِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ فَرْضِ رَمَضَانَ وَفِيهَا مِنَ الْفَجْرِ عَلِمُوا أَنَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ خَطَأٌ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُ ذَلِكَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
وَحَدِيثُ سَهْلٍ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ سَنَدِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ وَقَوْلُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفَجْرِ مَرْوِيًّا بِالْمَعْنَى فَجَاءَ رَاوِيهِ بِعِبَارَاتٍ قَلِقَةٍ غَيْرِ وَاضِحَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ أَبِي غَسَّانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ الرَّاوِي: «فَأَنْزَلَ بَعْدُ- أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ- مِنَ الْفَجْرِ» وَكَانَ الْأَوْضَحُ أَنْ يَقُولَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا- إِلَى قَوْلِهِ- مِنَ الْفَجْرِ.
وأيّا مَا كَانَ فَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخَيْطِ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ لِلْعَرَبِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِهِمُ الْمُرَادَ مِنْهُ لَا يَقْدَحُ فِي ظُهُورِ الظَّاهِرِ، فَالَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فَهِمُوا أَشْهَرَ مَعَانِي الْخَيْطِ وَظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَتَبَيَّنَ عَلَى أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةً أَيْ يَكُونُ تَبَيُّنُهُ بِسَبَبِ ضَوْءِ الْفَجْرِ، فَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ- أَوْ إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا»
كِنَايَةً عَنْ قِلَّةِ الْفِطْنَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ مُوَجَّهَةٌ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَاشِرُوهُنَّ لِقَصْدِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَكِفُ صَالِحًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ لَهَاتِهِ الْآيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقِيلَ مُطَلَّقُ مَسْجِدٍ وَهُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ مَذْهَبُ
فَرْطِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّعَاءِ، فِي قَوْلِهِمْ: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِلَخْ، وَإِنَّمَا يَجْرِي كَذَلِكَ إِذَا سَعَى الدَّاعِي فِي وَسَائِلِ الْإِجَابَةِ وَتَرَقَّبَهَا بِأَسْبَابِهَا الَّتِي تُرْشِدُ إِلَيْهَا التَّقْوَى، فَلَا يُجَازَى هَذَا الْجَزَاءَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ الْآيَةَ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، أَوْ صِفَاتٌ لِلَّذِينَ يَقُولُونَ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ. وَذَكَرَ هُنَا أُصُولَ فَضَائِلِ صِفَاتِ الْمُتَدَيِّنِينَ: وَهِيَ الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي. وَالصِّدْقُ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الِاسْتِقَامَةِ وَبَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ. وَالْقُنُوتُ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَإِتْقَانُهَا وَهُوَ عِبَادَةٌ نَفْسِيَّةٌ جَسَدِيَّةٌ.
وَالْإِنْفَاقُ وَهُوَ أَصْلُ إِقَامَةِ أَوَدِ الْأُمَّةِ بِكِفَايَةِ حَاجِ الْمُحْتَاجِينَ، وَهُوَ قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْمَالُ شَقِيقُ النَّفْسِ. وَزَادَ الِاسْتِغْفَارَ بِالْأَسْحَارِ وَهُوَ الدُّعَاءُ وَالصَّلَاةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ، وَالسَّحَرُ سُدُسُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ أَشَدُّ إِخْلَاصًا، لِمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ هُدُوءِ النُّفُوسِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى اهْتِمَامِ صَاحِبِهِ بِأَمْرِ آخِرَتِهِ، فَاخْتَارَ لَهُ هَؤُلَاءِ الصَّادِقُونَ آخِرَ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ وَقْتُ صَفَاءِ السَّرَائِرِ، وَالتَّجَرُّدِ عَنِ الشَّوَاغِلِ.
وَعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّابِرِينَ، وَمَا بَعْدَهُ: سَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: الصَّابِرِينَ صِفَةً ثَانِيَةً، بَعْدَ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَقُولُونَ، أَمْ كَانَ ابْتِدَاءَ الصِّفَاتِ بَعْدَ الْبَيَانِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ طَرِيقَتَيْ تَعْدَادِ الصِّفَاتِ فِي الذِّكْرِ فِي كَلَامِهِمْ، فَيَكُونُ، بِالْعَطْفِ وَبِدُونِهِ، مِثْلَ تَعَدُّدِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْوَالِ إِذْ لَيْسَتْ حُرُوفُ الْعَطْفِ بِمَقْصُورَةٍ عَلَى تَشْرِيكِ الذَّوَاتِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» أَنَّ فِي عَطْفِ الصِّفَاتِ نُكْتَةً زَائِدَةً عَلَى ذِكْرِهَا بِدُونِ الْعَطْفِ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى كَمَالِ الْمَوْصُوفِ فِي كُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا، وَأَحَالَ تَفْصِيلَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الْبَقَرَة: ٤] مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَسَكَتَ الْكَاتِبُونَ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ هُنَا وَهُنَاكَ، وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَاتِ وَالْأَخْبَارِ تَرْكُ الْعَطْفِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ عَطْفُهَا مُؤْذِنًا بِمَعْنًى خُصُوصِيٍّ، يَقْصِدُهُ الْبَلِيغُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ شَأْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ أَنْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ تَكْرِيرِ الْعَامِلِ فَيُنَاسِبَ الْمَعْمُولَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الصِّفَاتُ، فَإِذَا عُطِفَتْ فَقَدْ نُزِّلَتْ كُلُّ صِفَةٍ مَنْزِلَةَ ذَاتٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِقُوَّةِ الْمَوْصُوفِ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، حَتَّى كَأَنَّ الْوَاحِدَ صَارَ عَدَدًا، كَقَوْلِهِمْ وَاحِدٌ كَأَلْفٍ، وَلَا أَحْسَبُ لِهَذَا الْكَلَامِ تَسْلِيمًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَطْفُ الصِّفَاتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الذَّوْقِ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالشَّرِّ، وَوَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ لِلْعَذَابِ الْمُشَاهَدِ يَوْمَئِذٍ، وَفِيهِ تَهْوِيلٌ لِلْعَذَابِ. وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لِعِظَمِ هَوْلِهِ مِمَّا يُتَسَاءَلُ عَنْ سَبَبِهِ. وَعَطَفَ قَوْلَهُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عَلَى مَجْرُورِ الْبَاءِ، لِيَكُونَ لِهَذَا الْعَذَابِ سَبَبَانِ: مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ، وَعَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أَوْجَبَ حُصُولَ الْعَذَابِ، وَعَدْلُ اللَّهِ أَوْجَبَ كَوْنَ هَذَا الْعَذَابِ فِي مِقْدَارِهِ الْمُشَاهَدِ مِنَ الشِّدَّةِ حتّى لَا يظنّوا أَنَّ فِي شِدَّتِهِ إِفْرَاطًا عَلَيْهِمْ فِي التعذيب.
[١٨٣، ١٨٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٨٣ إِلَى ١٨٤]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
أُبْدِلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ [آل عمرَان: ١٨١] لِذِكْرِ قَوْلَةٍ أُخْرَى شَنِيعَةٍ مِنْهُمْ، وَهِيَ كَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ فِي أَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِمْ أَنْ لَا يُؤْمِنُوا لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ بِقُرْبَانٍ، أَيْ حَتَّى يَذْبَحَ قُرْبَانًا فَتَأْكُلَهُ نَارٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَتِلْكَ عَلَامَةُ الْقَبُولِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا حصل فِي زمن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ ذُبِحَ أَوَّلُ قُرْبَانٍ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ فَأَحْرَقَتْهُ. كَمَا فِي سِفْرِ اللَّاوِيِّينَ. إِلَّا أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَا تَطَّرِدُ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا زَعَمَهُ الْيَهُودُ لِأَنَّ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ تَجِيءُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ تَصْدِيقَ الْأُمَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلَهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هَذِهِ صِفَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ. وَأَكْثَرُ الْآثَارِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: نَخْلَةُ بَيْنَ عُسْفَانَ وَضَجْنَانَ مِنْ نَجْدٍ، حِينَ لَقُوا جُمُوعَ غَطَفَانَ: مُحَارِبٌ وَأَنْمَارُ وَثَعْلَبَةُ.
وَكَانَتْ بَيْنَ سَنَةِ سِتٍّ وَسَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صُلِّيَتْ بِهَا هِيَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَأَنَّ سَبَبَهَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَأَوْا حِرْصَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالُوا: هَذِهِ الصَّلَاةُ فُرْصَةٌ لَنَا لَوْ أَغَرْنَا عَلَيْهِمْ لَأَصَبْنَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ، فَأَنْبَأَ الله بذلك نبيّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَتِ الْآيَةُ. غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَدَّرَ حُكْمَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَاقْتَضَى بِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ لَا تَقَعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِإِقَامَتِهِ.
وَبِهَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بن عُلَيَّةَ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ، وَعَلَّلُوا الْخُصُوصِيَّةَ بِأَنَّهَا لِحِرْصِ النَّاسِ عَلَى فَضْلِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الرَّسُولِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَيِمَّةِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَأْتَمَّ كُلُّ طَائِفَةٍ بِإِمَامٍ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ: لِمُخَالَفَتِهِ فِعْلَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ مَقْصِدَ شَرْعِ الْجَمَاعَةِ هُوَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْطِنِ الْوَاحِدِ، فَيُؤْخَذُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. عَلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَرَى دَلَالَةَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِإِمَامَةِ الرَّسُولِ، وَلِذَلِكَ جَزَمَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرَعَتْ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِلْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. وَمَحْمَلُ هَذَا الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ جَارٍ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ مُلَازَمَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَزَوَاتِهِمْ وَسَرَايَاهُمْ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، كَمَا
فِي الْحَدِيثِ «لَوْلَا أَنَّ قَوْمًا لَا يَتَخَلَّفُونَ بَعْدِي وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ سَارَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنْ كَوْنِ غَيْرِهِ فِيهِمْ وَلَكِنَّ التَّنْوِيهَ بِكَوْنِ النَّبِيءِ فِيهِمْ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الْأُمَرَاءُ قَائِمِينَ مَقَامَهُ فِي الْغَزَوَاتِ فَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَهُ يُرَخِّصُهُ لَهُمْ مَعَ أُمَرَائِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التَّوْبَة: ١٠٣].
وَفِي نَظْمِ الْآيَةِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: «فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ» عُلِمَ أَنَّ ثَمَّةَ طَائِفَةً أُخْرَى، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ لِلطَّائِفَةِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهَا، وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ قَوْلِهِ: فَإِذا سَجَدُوا لِلطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَ النَّبِيءِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ مَعِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ قَالَ:
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ أَصْلَ (أَوْ) الدَّلَالَةُ عَلَى أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ فِي الْوُقُوعِ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ التَّخْيِيرَ، نَحْوَ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [الْبَقَرَة: ١٩٦]. وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الظَّاهِرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالنَّخَعِيُّ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ، فَإِنِ اجْتَرَحَ فِي مُدَّةِ حَرَابَتِهِ جَرِيمَةً ثَابِتَةً تُوجِبُ الْأَخْذَ بِأَشَدِّ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ قُتِلَ دُونَ تَخْيِيرٍ، وَهُوَ مُدْرَكٌ وَاضِحٌ. ثُمَّ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعُقُوبَةِ بِمَا يُقَارِبُ جُرْمَ الْمُحَارِبِ وَكَثْرَةَ مَقَامِهِ فِي فَسَادِهِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ (أَوْ) فِي الْآيَةِ لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَرَاتِبُ لِلْعُقُوبَاتِ بِحَسْبِ مَا اجْتَرَحَهُ الْمُحَارِبُ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَا أَخَذَ مَالًا عُزِّرَ، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ نُفِيَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ قُطِعَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ، وَالشَّافِعِيِّ. وَيَقْرُبُ خِلَافُهُمْ مِنَ التَّقَارُبِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ هِيَ لِأَجَلِ الْحِرَابَةِ وَلَيْسَتْ لِأَجْلِ حُقُوقِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلِذَلِكَ فَلَوْ أَسْقَطَ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ حُقُوقَهُمْ لَمْ يَسْقُطْ عَنِ الْمُحَارِبِ عُقُوبَةُ الْحِرَابَةِ.
وَقَوْلُهُ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، أَيِ الْجَزَاءُ خِزْيٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَالْخِزْيُ: الذُّلُّ وَالْإِهَانَةُ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمرَان: ١٩٤]. وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ عِقَابَيْنِ: عِقَابًا فِي الدُّنْيَا وَعِقَابًا فِي الْآخِرَةِ. فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُحَارِبِينَ فِي الْآيَةِ خُصُوصَ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْعُرَنِيِّينَ، كَمَا قِيلَ بِهِ، فَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْعَذَابَيْنِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْمُحَارِبَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَتِ الْآيَةُ مُعَارِضَةً لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ مِنْ قَوْلِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ الْبَيْعَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ [الممتحنة: ١٢] إِلَخْ فَقَالَ:
«فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ
مِنْ جُمْلَةِ مَا تَمَنَّوْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنْصَبْ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْجَزَاءَ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجَزَاءِ مَعَ الْوَاوِ غَيْرُ مَشْهُورٍ، بِخِلَافِهِ مَعَ الْفَاءِ لِأَنَّ الْفَاءَ مُتَأَصِّلَةٌ فِي السَّبَبِيَّةِ. وَالرَّدُّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا تَمَنَّوْهُ لِمَا يَقَعُ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَتَرْكِ التَّكْذِيبِ. وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي الذِّكْرِ تَرْكَ التَّكْذِيبِ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي تَحْصِيلِ الْمُتَمَنَّى عَلَى اعْتِبَارِ الْوَاوِ لِلْمَعِيَّةِ وَاقِعَةً مَوْقِعَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي.
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَلا نُكَذِّبَ- ونَكُونَ- بِنَصْبِ الْفِعْلَيْنِ-، عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ فِي جَوَابِ التَّمَنِّي. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَلا نُكَذِّبَ- بِالرَّفْعِ- كَالْجُمْهُورِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ انْتِفَاءَ التَّكْذِيبِ حَاصِلٌ فِي حِينِ كَلَامِهِمْ، فَلَيْسَ بِمُسْتَقْبَلٍ حَتَّى يَكُونَ بِتَقْدِيرِ (أَنْ) الْمُفِيدَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَرَأَ وَنَكُونَ- بِالنَّصْبِ- عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي، أَيْ نَكُونَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يُعْرَفُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ.
وَقَوْلُهُ: بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إِضْرَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْمَعْنَى بَلْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَطْمَعٌ فِي الْخَلَاصِ.
وَبَدَا الشَّيْءُ ظَهَرَ. وَيُقَالُ: بَدَا لَهُ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ عِيَانًا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي زَوَالِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مضى | وَلَا سَابق شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا |
وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ غَيْرَ وَاقِعٍ بِجِدٍّ وَلَا بِسُخْرِيَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ مَا يَتَرَقَّبُونَ شَيْئًا مِنَ الْآيَاتِ يَأْتِيهِمْ أَعْظَمَ مِمَّا أَتَاهُمْ، فَلَا انْتِظَارَ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ صَمَّمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَاسْتَبْطَنُوا الْعِنَادَ، فَإِنْ فُرِضَ لَهُمُ انْتِظَارٌ فَإِنَّمَا هُوَ انْتِظَارُ مَا سَيَحُلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ أَوْ عَذَابِ الدُّنْيَا أَوْ مَا هُوَ بَرْزَخٌ بَينهمَا، فَيكون الاستنثاء تَأْكِيدًا لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ
شَيْئًا وَلَكِنْ سَيَجِيئُهُمْ مَا لَا يَنْتَظِرُونَهُ، وَهُوَ إِتْيَانُ الْمَلَائِكَةِ، إِلَى آخِرِهِ، فَالْكَلَامُ وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ.
وَالْقَصْرُ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ إِضَافِيٌّ، أَيْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا يُنْتَظَرُ مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفْهَامُ الْخَبَرِيُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَظِرُونَ آيَةً، فَإِنَّهُمْ جَازِمُونَ بتكذيب الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ الْآيَاتِ إِفْحَامًا فِي ظَنِّهِمْ. وَلَا يَنْتَظِرُونَ حِسَابًا لِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ.
وَالْإِتْيَانُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ حَقِيقَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ: مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، مِثْلَ الَّذِينَ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢]. وَأَمَّا الْمُسْنَدُ إِلَى الرَّبِّ فَهُوَ مَجَازٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِتْيَانُ عَذَابِهِ الْعَظِيم، فَهُوَ لعظم هَوْلِهِ جَعَلَ إِتْيَانَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْآمِرِ بِهِ أَمْرًا جَازِمًا لِيُعْرَفَ مِقْدَارُ عَظَمَتِهِ، بِحَسَبِ عَظِيمِ قُدْرَةِ فَاعِلِهِ وَآمِرِهِ، فَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ مِنْ بَابِ: بَنَى الْأَمِيرُ الْمَدِينَةَ، وَهَذَا مَجَازٌ وَارِدٌ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الْحَشْر: ٢] وَقَوْلِهِ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ [النُّور: ٣٩]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إِتْيَانُ أَمْرِهِ بِحِسَابِ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَقَوْلِهِ: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الْفجْر: ٢٢]، أَيْ لَا يَنْتَظِرُونَ إِلَّا عَذَابَ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابَ الْآخِرَةِ.
يَجْمَعُ أَمْرَيْنِ: الْعِبْرَةَ بِصُنْعِ اللَّهِ، وَالْمَوْعِظَةَ بِمَا يُمَاثِلُ أَحْوَالَهُ. فَالْمَعْنَى: كَمَا أَنَّ الْبَلَدَ الطَّيِّبَ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ سَرِيعًا بَهِجًا عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَالْبَلَدَ الْخَبِيثَ لَا يَكَادُ يُنْبِتُ فَإِنْ أَنْبَتَ أَخْرَجَ نَبْتًا خَبِيثًا لَا خَيْرَ فِيهِ.
وَالطَّيِّبُ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلٍ وَهِيَ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْوَصْفِ فِي الْمَوْصُوفِ مِثْلُ: قَيِّمٍ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالطَّيِّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطَّيِّبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [٤]، وَعِنْدَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٨].
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الْأَرْضُ الْمَوْصُوفَةُ بِالطَّيِّبِ، وَطِيبُهَا زَكَاءُ تُرْبَتِهَا وَمُلَاءَمَتُهَا لِإِخْرَاجِ النَّبَاتِ الصَّالِحِ وللزّرع وَالْغَرْس النّافع وَهِيَ الْأَرْضُ النَّقِيَّةُ.
وَالَّذِي خَبُثَ ضِدَّ الطِّيبِ.
وَقَوْلُهُ: بِإِذْنِ رَبِّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ نَباتُهُ وَالْإِذْنُ: الْأَمْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَمْرُ
الْعِنَايَةِ بِهِ كَقَوْلِهِ: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] لِيَدُلَّ عَلَى تَشْرِيفِ ذَلِكَ النَّبَاتِ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَصْفِ بِالزَّكَاءِ، وَالْمَعْنَى: الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ طَيِّبًا زَكِيًّا مِثْلَهُ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى طِيبِ نَبَاتِهِ بِأَنَّ خُرُوجَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ، فَأُرِيدُ بِهَذَا الْإِذْنِ إِذْنٌ خَاصٌّ هُوَ إِذْنُ عِنَايَةٍ وَتَكْرِيمٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ إِذْنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّكْوِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ إِذْنٌ مَعْرُوفٌ لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ بِبَيَانِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ.
وَالَّذِي خَبُثَ حَمَلَهُ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْبَلَدِ، أَيِ الْبَلَدُ الَّذِي خَبُثَ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَلَدِ الطَّيِّبِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْأَرْضِ الَّتِي لَا تُنْبِتُ إِلَّا نَبَاتًا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يُسْرِعُ إِنْبَاتُهَا، مِثْلَ السِّبَاخِ، وَحَمَلُوا ضَمِيرَ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ لِلنَّبَاتِ، وَجَعَلُوا تَقْدِيرَ الْكَلَامِ:
وَالَّذِي خَبُثَ لَا (يَخْرُجُ) نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا، فَحُذِفَ الْمُضَافُ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ نَبَاتُ، وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهُوَ ضَمِيرُ الْبَلَدِ الَّذِي خَبُثَ، الْمُسْتَتِرُ فِي فِعْلِ يَخْرُجُ.
وَجُمْلَةُ: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِمْ أَضَلَّ مِنَ الْأَنْعَامِ وَهُوَ بُلُوغُهُمْ حَدَّ النِّهَايَةِ فِي الْغَفْلَةِ، وَبُلُوغُهُمْ هَذَا الْحَدَّ أُفِيدَ بِصِيغَة الْقصر الادعائي إِذِ ادُّعِيَ انْحِصَارُ صِفَةِ الْغَفْلَةِ فِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ غَافِلٌ غَيْرَهُمْ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِغَفْلَةِ غَيْرِهِمْ كُلُّ غَفْلَةٍ فِي جَانِبِ غَفْلَتِهِمْ كَلَا غَفْلَةٍ، لِأَنَّ غَفْلَةَ هَؤُلَاءِ تَعَلَّقَتْ بِأَجْدَرِ الْأَشْيَاءِ بِأَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ، وَهُوَ مَا تَقْضِي الْغَفْلَةُ عَنْهُ بِالْغَافِلِ إِلَى الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ، فَهِيَ غَفْلَةٌ لَا تَدَارُكَ مِنْهَا، وَعَثْرَةٌ لَا لَعًى لَهَا.
وَالْغَفْلَةُ عَدَمُ الشُّعُورِ بِمَا يَحِقُّ الشُّعُورُ بِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَى ضَلَالِهِمْ لَفْظُ الْغَفْلَةِ بِنَاءً عَلَى تَشْبِيهِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ يُعَدُّ عَدَمُ الشُّعُورِ بِهِ غَفْلَةً، فَفِي قَوْلِهِ: هُمُ الْغافِلُونَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ ضِمْنِيَّةٌ، وَالْغَفْلَةُ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَفِي وَصْفِ الْغافِلُونَ اسْتِعَارَةٌ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهُمْ جَاهِلُونَ أَوْ مُنْكِرُونَ.
وَقَدْ وَقَعَ التَّدَرُّجُ فِي وَصْفِهِمْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ نَفْيِ انْتِفَاعِهِمْ، بِمَدَارِكِهِمْ ثُمَّ تَشْبِيهِهِمْ بِالْأَنْعَامِ، ثُمَّ التَّرَقِّي إِلَى أَنَّهُمْ أَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، ثُمَّ قَصْرِ الْغَفْلَة عَلَيْهِم.
[١٨٠]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَتَوَسَّطَهُ فِي خِلَالَ مَذَامِّ الْمُشْرِكِينَ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ أَفْظَعَ أَحْوَالِ الْمَعْدُودِينَ لِجَهَنَّمَ هُوَ حَالُ إِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَالًا لِأَخَصِّ الصِّفَاتِ بِمَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ: وَهِيَ صِفَةُ الْوَحْدَانِيَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الصِّفَاتِ نَحْوَ الْفَرْدِ، الصَّمَدِ. وَيَنْضَوِي تَحْتَ الشِّرْكِ تَعْطِيلُ صِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ: الْبَاعِثِ، الْحَسِيبِ، وَالْمُعِيدِ، وَنَشَأَ عَنْ عِنَادِ أَهْلِ الشِّرْكِ إِنْكَار صفة الرَّحْمَن.
فَعَقَّبَتِ الْآيَاتُ الَّتِي وَصَفَتْ ضَلَالَ إِشْرَاكِهِمْ بِتَنْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِقْبَالِ عَلَى دُعَاءِ اللَّهِ
بِأَسْمَائِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظِيمِ صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالدَّوَامِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يُعْرِضُوا عَنْ شَغَبِ الْمُشْرِكِينَ وَجِدَالِهِمْ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَرَّكُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، أَنْ أَنْكَرُوا اسْمه تَعَالَى الرَّحْمَن، وَهُوَ إِنْكَارٌ لَمْ يُقْدِمْهُمْ عَلَيْهِ جَهْلُهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا
بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الرّوم: ٣٠].
فَكَوْنُ عِدَّةِ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ تَحَقَّقَ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لِقَوْلِهِ عَقِبَهُ فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.
وَكَوْنُ أَرْبَعَةٍ مِنْ تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَشْهُرًا حُرُمًا تَحَقَّقَ بِالْجَعْلِ التَّشْرِيعِيِّ لِلْإِشَارَةِ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، فَحَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ وَأَنَّ مِنْهَا أَرْبَعَةً حُرُمًا اعْتُبِرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبِذَلِكَ نُسِخَ مَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مِنْ ضَبْطِ مَوَاقِيتِ الْأَعْيَادِ الدِّينِيَّةِ بِالتَّارِيخِ الشَّمْسِيِّ، وَأُبْطِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَجُمْلَةُ: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ وَجُمْلَةُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ.
تَفْرِيعٌ عَلَى مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فَإِنَّهَا، لَمَّا كَانَتْ حُرْمَتُهَا مِمَّا شَرَعَهُ اللَّهُ، أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ تَعْظِيمَ حُرْمَتِهَا بِأَنْ يَتَجَنَّبُوا الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ فِيهَا.
فَالضَّمِير الْمَجْرُور بفي عَائِدٌ إِلَى الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ: لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، وَلِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِسِيَاقِ التَّحْذِيرِ مِنِ ارْتِكَابِ الظُّلْمِ فِيهَا، وَإِلَّا لَكَانَ مُجَرَّدُ اقْتِضَابٍ بِلَا مُنَاسِبَةٍ، وَلِأَنَّ الْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ ادَّعَيَا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ جَرَى أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ جَمْعِ الْقِلَّةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ هُنَّ كَمَا قَالَ هُنَا فِيهِنَّ إِنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مِنَ الْمُؤَنَّثِ مِثْلَ (هَا) يُعَامَلَانِ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدِ كَمَا قَالَ: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ جُمُوعَ غَيْرِ الْعَاقِلِ تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ التَّأْنِيثِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ مِنْ عَجَائِبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ فِيمَا دُونَ الْعَشْرِ مِنَ اللَّيَالِي «خَلَوْنَ» وَفِيمَا فَوْقَهَا «خَلَتْ». وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ضَمِيرَ فِيهِنَّ بِالْأَشْهُرِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَالْمَعْنَى عِنْدَهُ: فَلَا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ بِالْمَعَاصِي فِي جَمِيعِ السَّنَةِ يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ
الْقَحْطِ سَبْعَ سِنِينَ بِدَعْوَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَبِمَا أَصَابَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْإِهَانَةِ، وَقَتْلِ صَنَادِيدِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٠- ١٦].
وَالدُّخَانُ هُوَ مَا كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سِنِينِ الْقَحْطِ مِنْ شَبَهِ الدُّخَانِ فِي الْأَرْضِ. وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى: بَطْشَةُ يَوْمِ بَدْرٍ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَوْلَهُ: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.
ثُمَّ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُمْ عَذَابَ الدُّنْيَا إِرْضَاءً لَهُ أَيْضًا إِذْ كَانَ يَوَدُّ اسْتِبْقَاءَ بَقِيَّتِهِمْ وَيَقُولُ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ.
فَأَمَّا الْكُفْرُ بِاللَّهِ فَجَزَاؤُهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ.
فَطُوِيَ فِي الْكَلَامِ جُمَلٌ دَلَّتْ عَلَيْهَا الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ إِيجَازًا مُحْكَمًا وَصَارَتْ قُوَّةُ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَإِمَّا نُعَجِّلُ لَهُمْ بَعْضَ الْعَذَابِ فَنُرِيَنَّكَ نُزُولَهُ بِهِمْ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَنُؤَخِّرُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَعْدَ وَفَاتِكَ، أَيْ لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِي تَعْجِيلِهِ فَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْنَا، أَيْ مَرْجِعُهُمْ ثَابِتٌ إِلَيْنَا دَوْمًا فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ نُفُوذَ الْوَعِيدِ فِيهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ فِي الدُّنْيَا إِنْ شِئْنَا فِي حَيَاتِكَ أَوْ بَعْدَكَ أَوْ فِي الْآخِرَةِ.
وَكَلِمَةُ إِمَّا هِيَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (مَا) الْمُؤَكِّدَةُ لِلتَّعْلِيقِ الشَّرْطِيِّ. وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ نُونٍ وَبِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ مُحَاكَاةً لِحَالَةِ النُّطْقِ، وَقَدْ أُكِّدَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ تَوْكِيدُ فِعْلِ الشَّرْطِ بِالنُّونِ وَتَعَيَّنَتْ زِيَادَةُ (مَا) بَعْدَ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ وَالزَّجَّاجِ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٧٧]، فَلَا يَقُولُونَ: إِنْ تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَلَكِنْ تَقُولُونَ: إِنْ تُكْرِمْنِي بِدُونِ
لِرَفْعِ هَذَا الْإِيهَامِ، فَصَارَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُنْقَطِعًا، وَعَلَامَةُ انْقِطَاعِهِ انْتِصَابُهُ لِأَنَّ نَصْبَ الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَنْصُوبٍ أَمَارَةً عَلَى اعْتِبَارِ الِانْقِطَاعِ إِذْ هُوَ الْأَفْصَحُ. وَهَلْ يَجِيءُ أَفْصَحُ كَلَامٍ إِلَّا عَلَى أَفْصَحِ إِعْرَابٍ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا اتِّصَالُهُ لَجَاءَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا بَيَانِيَّةٌ، بَيَانٌ لِلْقَلِيلِ لِأَنَّ الَّذِينَ أَنْجَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْقُرُونِ هُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ.
وَفِي الْبَيَانِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَهْيَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ هُوَ سَبَبُ إِنْجَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ لِأَنَّ النَّهْيَ سَبَبُ السَّبَبِ إِذِ النَّهْيُ يُسَبِّبُ الْإِقْلَاعَ عَنِ الْمَعَاصِي الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّجَاةِ.
وَدَلَّ قَوْلُهُ: مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: فَكَانُوا يَتُوبُونَ وَيُقْلِعُونَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيَنْجُونَ مِنْ مَسِّ النَّارِ الَّذِي لَا دَافِعَ لَهُ عَنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا أَفَادَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ وُجُودِ قَلِيلٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ، فَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ وَتَبْيِينٌ لِإِجْمَالِهِ. وَالْمَعْنَى: وَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَنْتَهُوا هُمْ وَلَا قَوْمُهُمْ وَاتَّبَعُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: ٣٤] تَفْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ.
وَفِي الْآيَةِ عِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ مِنْ ظُلْمِ أَنْفُسِهِمْ.
وَاتِّبَاعُ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ هُوَ الِانْقِطَاعُ لَهُ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الْمُتَّبِعِ عَلَى مَتْبُوعِهِ.
وَأُتْرِفُوا: أُعْطُوا التَّرَفَ، وَهُوَ السَّعَةُ وَالنَّعِيمُ الَّذِي سَهَّلَهُ اللَّهُ لَهُمْ فَاللَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْرَفَهُمْ فَلَمْ يَشْكُرُوهُ.
لِاهْتِدَاءِ أَمْثَالِهِمْ كَقَوْلِهِ: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [سُورَة الشورى: ١٨] وَقَوْلِهِ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [سُورَة سبأ: ٨]. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [١١٦].
[٤]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : آيَة ٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
إِذَا كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ مُسْتَعْمَلَةً فِي ظَاهِرِهَا وَمُسَلَّطَةً عَلَى مُتَعَلِّقِي الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ كَانَ قَصْرًا إِضَافِيًّا لِقَلْبِ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا:
هَلَّا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ. وَقَدْ ذُكِرَ فِي «الْكَشَّافِ» فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [سُورَة فُصِّلَتْ: ٤٤] فَقَالَ: كَانُوا لِتَعَنُّتِهِمْ يَقُولُونَ: هَلَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ فِي «تَفْسِيرِ الطَّبَرَيِّ» هُنَالِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْعَرَبَ قَالُوا ذَلِكَ.
ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلُغَةِ الْعَجَمِ لُغَةَ غَيْرِ الْعَرَبِ مِثْلَ الْعِبْرَانِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ مِنَ
اللُّغَاتِ الَّتِي أُنْزِلَتْ بِهَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، فَكَانَ مِنْ جملَة مَا موّت لَهُمْ أَوْهَامُهُمْ أَنْ حَسِبُوا أَن للكتب بالإلهية لُغَةً خَاصَّةً تُنَزَّلُ بِهَا ثُمَّ تُفَسَّرُ لِلَّذِينِ لَا يَعْرِفُونَ تِلْكَ اللُّغَةَ. وَهَذَا اعْتِقَادٌ فَاشٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعُقُولِ الضَّعِيفَةِ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعَالِجُونَ سِرَّ الْحَرْفِ وَالطَّلْسَمَاتِ يُمَوِّهُونَ بِأَنَّهَا لَا تكْتب إِلَّا بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لُغَةُ الْمَلَائِكَةِ وَلُغَةُ الْأَرْوَاحِ. وَقَدْ زَعَمَ السِّرَاجُ الْبَلْقِينِيُّ: أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ يَكُونُ بِاللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ وَاسْتَغْرَبَهُ فَقَالَ:
وِمِنْ عَجِيبِ مَا تَرَى الْعَيْنَانِ | أَنَّ سُؤَالَ الْقَبْرِ بِالسُّرْيَانِي |
أَفْتَى بِهَذَا شَيْخُنَا الْبَلْقِينِي | وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ بِعَيْنِي |
يَغْضَبُ إِنْ لَمْ نَلِدِ الْبَنِينَا | وَإِنَّمَا نُعْطِي الَّذِي أُعْطِينَا |
ومِنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُفِيدِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: فَعَلْتُ كَذَا مِنْ أَجْلِ كَذَا، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [سُورَة الْأَنْعَام: ١٥١]، أَيْ يَتَوَارَى مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ.
وَجُمْلَةُ أَيُمْسِكُهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ يَتَوارى، لِأَنَّهُ يَتَوَارَى حَيَاءً مِنَ النَّاسِ فَيَبْقَى مُتَوَارِيًا من قومه أَيَّامًا حَتَّى تُنْسَى قَضِيَّتُهُ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُمْسِكُهُ إِلَخْ، أَيْ يَتَوَارَى ويتردّد بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِحَيْثُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: أَأُمْسِكُهُ عَلَى هَوْنٍ أَمْ أَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ. وَالْمُرَادُ: التَّرَدُّدُ فِي جَوَابِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ.
وَالْهُونُ: الذُّلُّ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٣].
وَالدَّسُّ: إِخْفَاءُ الشَّيْءِ بَيْنَ أَجْزَاءِ شَيْءٍ آخَرَ كَالدَّفْنِ. وَالْمُرَادُ: الدَّفْنُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْوَأْدُ. وَكَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتِهِمْ، بَعْضُهُمْ يَئِدُ بِحِدْثَانِ الْوِلَادَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَئِدُ إِذَا يَفَعَتِ الْأُنْثَى وَمَشَتْ وَتَكَلَّمَتْ، أَيْ حِينَ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا. وَذَلِكَ مِنْ أَفْظَعِ أَعْمَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا مُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ وَيَحْسَبُونَهُ حَقًّا لِلْأَبِ فَلَا يُنْكِرُهَا الْجَمَاعَةُ عَلَى الْفَاعِلِ.
وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ حُكْمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ. وَأَعْلَنَ ذَمُّهُ بِحَرْفِ أَلا لِأَنَّهُ جَوْرٌ عَظِيمٌ قَدْ تَمَالَأُوا عَلَيْهِ وَخَوَّلُوهُ لِلنَّاسِ ظُلْمًا للمخلوقات، فأسند الحكم إِلَى ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَانَ جَارِيًا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ قَضَاءً لِحَقِّ هَذِه النُّكْتَة.
وَالتَّهَجُّدُ: الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ. فَمَادَّةُ التَّفَعُّلِ فِيهِ لِلْإِزَالَةِ مثل التحرج والتأثم.
وَالنَّافِلَةُ: الزِّيَادَةُ مِنَ الْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ.
وَاللَّامُ فِي لَكَ متلعقة بِ نافِلَةً وَهِيَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ نَافِلَةً لِأَجْلِكَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّهَجُّدِ خَاص بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَبِذَلِكَ انْتَظَمَ فِي عِدَادِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ فَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مُرَغَّبٌ فِيهِ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ آيَةُ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [٢٠] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَفِي هَذَا الْإِيجَابِ عَلَيْهِ زِيَادَةُ تَشْرِيفٍ لَهُ، وَلِهَذَا أُعْقِبَ بِوَعْدِ أَنْ يَبْعَثَهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا. فَجُمْلَةُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ تَعْلِيلٌ لِتَخْصِيصِهِ بِإِيجَابِ التَّهَجُّدِ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعْدٌ.
فَالْمَعْنَى: لِيَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا.
وَالْمَقَامُ: مَحَلُّ الْقِيَامِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانُ الْمَعْدُودُ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ فِيهِ وَلَا يَجْلِسُوا، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَجْلِسُ.
وَانْتَصَبَ مَقاماً عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِ يَبْعَثَكَ.
وَوَصْفُ الْمَقَامِ بِالْمَحْمُودِ وَصْفٌ مَجَازِيٌّ. وَالْمَحْمُودُ مَنْ يَقُومُ فِيهِ، أَيْ يُحْمَدُ أَثَرُهُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِغَنَائِهِ عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَلِذَلِكَ فُسِّرَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى.
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا- بِضَمِّ
الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُثَلَّثَةِ- أَيْ جَمَاعَاتٍ كُلُّ أمة تتبع نبيئها يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ! حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيءِ فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ».
وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنْزَالٍ لِلْقُرْآنِ فِيهِ شَقَاءٌ لَهُ، وَنَفْيُ كُلِّ شَقَاءٍ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْإِنْزَالِ، أَيْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّقَاءِ فَلَا يَكُونُ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ سَبَبًا فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّقَاءِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَوَّلُ مَا يُرَادُ مِنْهُ هُنَا أَسَفُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِعْرَاضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: مَا أَرْسَلْنَاكَ لِتَخِيبَ بَلْ لِنُؤَيِّدَكَ وَتَكُونَ لَكَ الْعَاقِبَةُ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا تَذْكِرَةً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَحْوَالٍ لِلْقُرْآنِ مَحْذُوفَةٍ، أَيْ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالٍ إِلَّا حَالَ تَذْكِرَةٍ فَصَارَ الْمَعْنَى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى وَمَا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا تَذْكِرَةً. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ الَّذِي هُوَ حَالٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا مَحَالَةَ، فَفِعْلُ أَنْزَلْنا عَامِلٌ فِي لِتَشْقى بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَعَامِلٌ فِي تَذْكِرَةً بِوَاسِطَةِ صَاحِبِ الْحَالِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ: لِتَشْقى حَتَّى تَتَحَيَّرَ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَتَفْزَعَ إِلَى جَعْلِهِ مُنْقَطِعًا وَتَقَعَ فِي كَلَفٍ لِتَصْحِيحِ النَّظْمِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» :«قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَالنَّضِرُ بْنُ الْحَارِثِ (وَزَادَ غَيْرُ الْوَاحِدِيِّ: الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ، وَالْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ) لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّكَ لِتَشْقَى بِتَرْكِ دِينِنَا، لَمَّا رَأَوْا مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى الْآيَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ سَنَدٌ.
وَالتَّذْكِرَةُ: خُطُورُ الْمَنْسِيِّ بِالذِّهْنِ فَإِنَّ التَّوْحِيدَ مُسْتَقِرُّ فِي الْفِطْرَةِ وَالْإِشْرَاكُ مُنَافٍ لَهَا، فَالدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ تَذْكِيرٌ لِمَا فِي الْفِطْرَةِ أَوْ تَذْكِيرٌ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وَأَنَّ اخْتِلَافَ الْأُمَمِ بَيْنَ أَهْلِ هُدًى وَأَهْلِ ضَلَالٍ أَمْرٌ بِهِ افْتَرَقَ النَّاسُ إِلَى مِلَلٍ كَثِيرَةٍ.
- وَأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ لِمُشَاهَدَةِ جَزَاءِ أَهْلِ الْهُدَى وَجَزَاءِ أَهْلِ الضَّلَالِ.
- وَأَنَّ الْمُهْتَدِينَ وَالضَّالِّينَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي أَمْرِ اللَّهِ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ جَزَاؤُهُ.
- وَسَلَّى الله رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُفْسِدُ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ آثَارَ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحْكِمُ دِينَهُ وَيُبْطِلُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فَلِذَلِكَ تَرَى الْكَافِرِينَ يُعْرِضُونَ وَيُنْكِرُونَ آيَاتِ الْقُرْآنِ.
- وَفِيهَا التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْمُتَلَقِّينَ لَهُ بِخَشْيَةٍ وَصَبْرٍ، وَوَصْفُ الْكُفَّارِ بِكَرَاهِيَتِهِمُ الْقُرْآنَ وَبُغْضِ الْمُرْسَلِ بِهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ اللَّهَ يَسَّرَ لَهُمُ اتِّبَاعَ الْحَنِيفِيَّةِ وَسَمَّاهُمُ الْمُسْلِمِينَ.
- وَالْإِذْنُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ وَضَمَانِ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ لَهُمْ.
- وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِتَذْكِيرِ النَّاسِ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ اصْطَفَى خَلْقًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمِنَ النَّاسِ فَأَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِرْشَادِ إِلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُم وناصرهم.
[١]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)نِدَاءٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمَوُجُودِينَ يَوْمَ نُزُولِهَا وَمَنْ يَأْتُونَ بَعْدَهُمْ
الْمُنْكَرِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٨]. وَتَقَدَّمَ الْفَحْشَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٩].
وَمِنْ أَدَبِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يُحِبَّ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَشِيعَ عَنْ نَفْسِهِ خَبَرُ سوء كَذَلِك يجب عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحِبَّ إِشَاعَةَ السُّوءِ عَنْ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِشُيُوعِ أَخْبَارِ الْفَوَاحِشِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصّدقِ أَو بِالْكَذِبِ مَفْسَدَةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ فَإِنَّ مِمَّا يَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْمَفَاسِدِ تَهَيُّبُهُمْ وُقُوعَهَا وَتَجَهُّمُهُمْ وَكَرَاهَتُهُمْ سُوءَ سُمْعَتِهَا وَذَلِكَ مِمَّا يَصْرِفُ تَفْكِيرَهُمْ عَنْ تَذَكُّرِهَا بَلْهَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتَّى تُنْسَى وَتَنْمَحِيَ صُوَرُهَا مِنَ النُّفُوسِ، فَإِذَا انْتَشَرَ بَيْنَ الْأُمَّةِ الْحَدِيثُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْفَوَاحِشِ تَذَكَّرَتْهَا الْخَوَاطِرُ وَخَفَّ وَقْعُ خَبَرِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَدَبَّ بِذَلِكَ إِلَى النُّفُوسِ التَّهَاوُنُ بِوُقُوعِهَا وَخِفَّةُ وَقْعِهَا عَلَى الْأَسْمَاعِ فَلَا تَلْبَثُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ أَنْ تُقْدِمَ عَلَى اقْتِرَافِهَا وَبِمِقْدَارِ تَكَرُّرِ
وُقُوعِهَا وَتَكَرُّرِ الْحَدِيثِ عَنْهَا تَصِيرُ مُتَدَاوَلَةً. هَذَا إِلَى مَا فِي إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ مِنْ لِحَاقِ الْأَذَى وَالضُّرِّ بِالنَّاسِ ضُرًّا مُتَفَاوِتَ الْمِقْدَارِ عَلَى تَفَاوُتِ الْأَخْبَارِ فِي الصِّدْقِ وَالْكذب.
وَلِهَذَا ذيل هَذَا الْأَدَبُ الْجَلِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ فَيَعِظُكُمْ لِتَجْتَنِبُوا وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فَتَحْسَبُونَ التَّحَدُّثَ بِذَلِكَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضُرٌّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النُّور: ١٥].
[٢٠]
[سُورَة النُّور (٢٤) : آيَة ٢٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
هَذِهِ ثَالِثُ مَرَّةٍ كَرَّرَ فِيهَا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَحَذَفَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ جَوَابَ (لَوْلَا) لِتَذْهَبَ النَّفْسُ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ بِحَسَبَ الْمَقَامِ.
وَالْقِسْطَاسُ: بِضَمِّ الْقَافِ وَبِكَسْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدْلِ، وَمِنْ أَسْمَاءِ الْمِيزَانِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ [٣٥]، حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ هُنَا كَمَا هُنَالِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ بِ الْمُسْتَقِيمِ يُرَجِّحُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمِيزَانُ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ هَذَا التَّشْرِيعُ فِي قِصَّتِهِ فِي الْأَعْرَافِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْقِسْطاسِ بِضَمِّ الْقَافِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٍ بِكَسْرِ الْقَافِ.
وَبَخْسُ أَشْيَاءِ النَّاسِ: غَبْنُ مَنَافِعِهَا وَذَمُّهَا بِغَيْرِ مَا فِيهَا لِيَضْطَرُّوهُمْ إِلَى بَيْعِهَا بِغَبْنٍ.
وَأَمَّا الْفَسَادُ فَيَقَعُ عَلَى جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ.
وَالْبَخْسُ: النَّقْصُ وَالذَّمُّ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢] وَنَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ. وَمِنْ بَخْسِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَقُولُوا لِلَّذِي يَعْرِضُ سِلْعَةً سَلِيمَةً لِلْبَيْعِ: إِنَّ سِلْعَتَكَ رَدِيئَةٌ، لِيَصْرِفَ عَنْهَا الرَّاغِبِينَ فيشتريها برخص.
[١٨٤]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ١٨٤]
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤)
أَكَّدَ قَوْلَهُ فِي صَدْرِ خِطَابِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ [الشُّعَرَاء: ١٧٩] بِقَوْلِهِ هُنَا: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وَزَادَ فِيهِ دَلِيلَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْوَى بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ الْأُمَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ أَدْخَلَ حَرْفَ الْعَطْفِ عَلَى فِعْلِ اتَّقُوا وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدَ تَأْكِيدٍ لَمْ يَصِحَّ عَطْفُهُ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نَبْذِ اتِّقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ شُرَكَائِهِمْ.
والْجِبِلَّةَ: بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالْبَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: الْخِلْقَةُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتُ لِأَنَّ الْجِبِلَّةَ اسْمٌ كَالْمَصْدَرِ وَلِهَذَا وُصِفَ بِ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: أَطْلَقَ الْجِبِلَّةَ عَلَى أَهْلِهَا، أَيْ وَذَوِي الْجِبِلَّةِ الْأَوَّلِينَ. وَالْمَعْنَى: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَخَلَقَ الْأُمَم قبلكُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَّمَ بِهَا عِبَادَهُ فَضِيلَةَ الصَّبْرِ.
وَضَمِيرُ يُلَقَّاها عَائِدٌ إِلَى مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ يَجْرِي عَلَى التَّأْنِيثِ، أَيِ الْخَصْلَةَ وَهِيَ ثَوَابُ اللَّهِ أَوِ السِّيرَةُ الْقَوِيمَةُ، وَهِيَ سِيرَةُ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَالتَّلْقِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ لَاقِيًا، أَيْ مُجْتَمِعًا مَعَ شَيْءٍ آخَرَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٧٥]. وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِعْطَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ، أَيْ لَا يُعْطِي تِلْكَ الْخَصْلَةَ أَوِ السِّيرَةَ إِلَّا الصَّابِرُونَ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَسِيلَةٌ لِنَوَالِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ لِاحْتِيَاجِ السَّعْيِ لَهَا إِلَى تَجَلُّدٍ لِمَا يَعْرِضُ فِي خِلَالِهِ مِنْ مَصَاعِبَ وَعَقَبَاتٍ كَأْدَاءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْءُ مُتَخَلِّقًا بِالصَّبْرِ خَارَتْ عَزِيمَتُهُ فَتَرَكَ ذَاك لذاك.
[٨١]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٨١]
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١)
دَلَّتِ الْفَاءُ عَلَى تعقيب سَاعَة خُرُوج قَارُونَ فِي ازْدِهَائِهِ وَمَا جَرَى فِيهَا مِنْ تَمَنِّي قَوْمٍ أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ، وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ علماؤهم من غفلتهم عَنِ التَّنَافُسِ فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ عِقَابِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَرْأًى مِنَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا مَثْلَهُ.
وَالْخَسْفُ: انْقِلَابُ بَعْضِ ظَاهِرِ الْأَرْضِ إِلَى بَاطِنِهَا، وَعَكْسُهُ. يُقَالُ: خَسَفَتِ الْأَرْضُ وَخَسَفَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَانْخَسَفَتْ، فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَسْفُ بِقُوَّةِ الزِّلْزَالِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ فَذَلِكَ عَلَى التَّشْبِيهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ بَاءُ الْمُصَاحِبَةِ، أَيْ خَسَفْنَا الْأَرْضَ مُصَاحِبَةً لَهُ وَلِدَارِهِ، فَهُوَ وَدَارُهُ مَخْسُوفَانِ مَعَ الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٥].
وَهَذَا الْخَسْفُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ قَارُونَ وَمَنْ ظَاهَرَهُ، وَهُمَا رَجُلَانِ مِنْ سِبْطِ (رُوبِينَ) وَغَيْرَ دَارِ قَارُونَ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لُقْمَان: ٢٨] مِنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَعْلُومَاتِ الْمُقْتَضِي إِحَاطَةَ قُدْرَتِهِ بِالْمُمْكِنَاتِ لِأَنَّهَا جُزْئِيَّاتُ الْمَعْلُومَاتِ وَفَرْعٌ عَنْهَا. وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بِقَرِينَةِ وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ بِتَنْزِيلِ الْعَالِمِينَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ عَالِمِينَ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِعِلْمِهِمْ.
وَالْإِيلَاجُ: الْإِدْخَالُ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِتَعَاقُبِ الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ بِوُلُوجِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: ٣٧]. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ أول سُورَة آلِ عِمْرَانَ [٢٧]، وَقَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦١] مَعَ اخْتِلَافِ الْغَرَضَيْنِ.
وَالِابْتِدَاءُ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَعْجَبُ كَيْفَ تَغْشَى ظُلْمَتُهُ تِلْكَ الْأَنْوَارَ النَّهَارِيَّةَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ إِيلَاجِ اللَّيْلِ وَإِيلَاجِ النَّهَارِ لِتَشْخِيصِ تَمَامِ الْقُدْرَةِ بِحَيْثُ لَا تُلَازِمُ عَمَلًا مُتَمَاثِلًا. وَالْكَلَامُ عَلَى تَسْخِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَضَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَتَنْوِينُ كُلٌّ هُوَ الْمُسَمَّى تَنْوِينَ الْعِوَضِ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلٌّ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ.
وَالْجَرْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ اسْتُعِيرَ لِانْتِقَالِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا وَانْتِقَالِ الْأَرْضِ حَوْلَ الشَّمْسِ وَانْتِقَالِ الْقَمَرِ حَوْلَ الْأَرْضِ، تَشْبِيهًا بِالْمَشْيِ السَّرِيعِ لِأَجْلِ شُسُوعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي تُقْطَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ.
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ لِهَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ أَمَدًا يَعْلَمُهُ اللَّهُ فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَمَدُ بَطَلَ ذَلِكَ التَّحَرُّكُ وَالتَّنَقُّلُ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤْذِنُ بِانْقِرَاضِ الْعَالِمِ فَهَذَا تَذْكِيرٌ بِوَقْتِ الْبَعْثِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلى أَجَلٍ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ يَجْرِي، أَيْ: يَنْتَهِي جَرْيُهُ، أَيْ سَيْرُهُ عِنْدَ أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ لِانْتِهَاءِ سَيْرِهِمَا.
وَجِيءَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى إِحَاطَةِ الشَّكِّ بِنُفُوسِهِمْ وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْها بقوله: «بشك».
وَجُمْلَةُ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تَذْيِيلٌ. وَالْحَفِيظُ: الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ مَقْدِرَتِهِ مَا هُوَ فِي حِفْظِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي الْعِلْمَ وَالْقُدْرَة إِذْ بمجموعهما تَتَقَوَّمُ مَاهِيَّةُ الْحِفْظِ وَلِذَلِكَ يُتْبَعُ الْحِفْظُ بِالْعِلْمِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: ٥٥]. وَصِيغَةُ فَعِيلٍ تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْفِعْلِ وَأَفَادَ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ مِنَ الْكَائِنَاتِ فَتَنَزَّلَ هَذَا التَّذْيِيلُ مَنْزِلَةَ الِاحْتِرَاسِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ، أَيْ لِيَظْهَرَ ذَلِكَ لِكُلِّ أَحَدٍ فَتَقُومَ الْحُجَّةُ لَهُم وَعَلَيْهِم.
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة سبإ (٣٤) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
كَانَتْ قِصَّةُ سَبَأٍ قَدْ ضُرِبَتْ مَثَلًا وَعِبْرَةً لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانَ فِي أَحْوَالِهِمْ مَثِيلٌ لِأَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَمْنِ بِلَادِهِمْ وَتَيْسِيرِ أَرْزَاقِهِمْ وَتَأْمِينِ سُبُلِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ مِمَّا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً تُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَص:
٥٧] وَقَوْلُهُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قُرَيْشٍ: ١] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ فِيمَا قَابَلُوا بِهِ نِعْمَةَ اللَّهِ بِالْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُفْرَانِ نِعْمَتِهِ وَإِفْحَامِهِمْ دُعَاةَ الْخَيْرِ الْمُلْهَمِينَ مِنْ لَدُنْهُ إِلَى دَعْوَتِهِمْ، فَلَمَّا تَقَضَّى خَبَرُهُمْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى تَطْبِيقِ الْعِبْرَةِ عَلَى مَنْ قَصَدَ اعْتِبَارَهُمُ انْتِقَالًا مُنَاسَبَتُهُ بَيِّنَةٌ وَهُوَ أَيْضًا عَوْدٌ إِلَى إِبْطَالِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَسِيقَ لَهُمْ مِنَ الْكَلَامِ مَا هُوَ فِيهِ تَوْقِيفٌ عَلَى أَخْطَائِهِمْ، وَأَيْضًا فَلَمَّا جَرَى مِنِ اسْتِهْوَاءِ الشَّيْطَانِ أَهْلَ سَبَأٍ فَاتَّبَعُوهُ وَكَانَ الشَّيْطَانُ مَصْدَرَ الضَّلَالِ وَعُنْصُرَ الْإِشْرَاكِ أَعْقَبَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِ فُرُوعِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
وَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِأَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا هُوَ مُتَتَابِعٌ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ
الْمُتَتَابِعَةِ بِكَلِمَةِ قُلِ فَأَمَرَ بِالْقَوْلِ تَجْدِيدًا لِمَعْنَى التَّبْلِيغِ الَّذِي هُوَ مُهِمَّةُ كُلِّ الْقُرْآنِ.
عَلَى طَرِيقَةِ الْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: بِكِتَابٍ إِلَيْكُمْ، لِأَنَّ مَا فِيهِ مَادَّةُ الْكِتَابَةِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ بَلْ
بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ (إِلَى).
فَلَا جَرَمَ قَدِ اتَّضَحَ إِفْحَامُهُمْ بِهَذِهِ الْمُجَادَلَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْقَوَانِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَلِذَلِكَ صَارُوا كَالْمُعْتَرِفِينَ بِأَنْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ على مَا زعموه فَانْتَقَلَ السَّائِلُ الْمُسْتَفْتِي مِنْ مَقَامِ الِاعْتِرَاضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ إِلَى انْقِلَابِهِ مُسْتَدِلًّا بِاسْتِنْتَاجٍ مِنْ إِفْحَامِهِمْ وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [الصافات: ١٥١، ١٥٢] الْوَاقِعُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ التَّرْدِيدِ فِي الدَّلِيلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْلِيمِ فِي أَثْنَاءِ الْمُنَاظَرَةِ كَمَا عَلِمْتَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْمُعَارَضَةَ. وَإِنَّمَا أُقْحِمَ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُجْعَلْ مَعَ حِكَايَةِ دَعْوَاهُمْ لِيَكُونَ آخِرُ الْجَدَلِ مَعَهُمْ هُوَ الدَّلِيلَ الَّذِي يَجْرِفُ جَمِيعَ مَا بَنَوْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّسِيجِ الْجَامِعِ بَيْنَ أُسْلُوبِ الْمُنَاظَرَةِ وَأُسْلُوبِ الْمَوْعِظَةِ وَأُسْلُوبِ التَّعْلِيمِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَذَكَّرُونَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ تَتَذَكَّرُونَ فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الذَّال بَعْدَ قَلْبِهَا ذَالًا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ عَلَى أَنَّ إِحْدَى التَّاءَيْنِ حذفت تَخْفِيفًا.
[١٥٨]
[سُورَة الصافات (٣٧) : آيَة ١٥٨]
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
عَطْفٌ عَلَى جملَة لَيَقُولُونَ [الصافات: ١٥١] أَيْ شَفَّعُوا قَوْلَهُمْ: وَلَدَ اللَّهُ [الصافات:
١٥٢]، فَجَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْجِنِّ نَسَبًا بِتِلْكَ الْوِلَادَةِ، أَيْ بَيَّنُوا كَيْفَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَادَةُ بِأَنْ جَعَلُوهَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا.
كَامِلٍ فَكَانَ عَوْدُ النَّشَاطِ بَطِيئًا وَوَاهِنًا وَلَعَادَ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِالِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ فَلَمْ يَتَمَتَّعِ الْإِنْسَانُ بِعُمُرٍ طَوِيلٍ. وَمِنْهَا انْتِشَارُ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ فِي النَّهَارِ وَتَبَيُّنُ الذَّوَاتِ بِالضِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ الْمَسَاعِي لِلنَّاسِ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي بِهَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْبَوَادِي، وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، وَكَادِحٌ لِلْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَحَاجَتُهُ لِلضِّيَاءِ ضَرُورِيَّةٌ وَلَوْلَا الضِّيَاءُ لَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ مُضْطَرِبَةً مُخْتَبِطَةً.
وَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ إِبْصَارِ النَّاسِ فِي الضِّيَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَسْنَدَ الْإِبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَزَمَانِهَا، فَأَسْنَدَ إِبْصَارَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَعْضِهِ وَسَبَبُ كَمَالِ بَعْضٍ آخَرَ. فَأَمَّا نِعْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ فَهِيَ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ رُجُوعُ النَّشَاطِ.
وَفِي ذكر اللَّيْل وَالنَّهَار تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ الشَّمْسُ الَّتِي يَنْشَأُ اللَّيْلُ مِنِ احْتِجَابِ أَشِعَّتِهَا عَنْ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْشَأُ النَّهَارُ مِنِ انْتِشَارِ شُعَاعِهَا عَلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ دُونَ الشَّمْسِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الشَّمْسُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الْأَنْعَام: ٩٦].
وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ تَعْلِيلِ إِيجَادِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، بِإِسْنَادِ الْإِبْصَارِ إِلَى ذَاتِ
النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُونَ النَّاسُ فِي النَّهَارِ، عَلَى احْتِبَاكٍ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ كِلَيْهِمَا أَنَّ اللَّيْلَ سَاكِنٌ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّهَارَ خُلِقَ لِيُبْصِرَ النَّاسُ فِيهِ إِذِ الْمِنَّةُ بِهِمَا سَوَاءٌ، فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفَنُّنِ أُسْلُوبَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُعْكَسْ فَيُقَلْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ سَاكِنًا وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، لِئَلَّا تَفُوتَ صَرَاحَةُ الْمُرَادِ مِنَ السُّكُونِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سُكُونَ اللَّيْلِ هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ سَاجٍ، لِقِلَّةِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ.
الْمُذَكِّرِ تَغْلِيبٌ وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا فَلَوْ أَرَادُوا الْمَلَائِكَةَ لَقَالُوا مَا عَبَدْنَاهَا أَو مَا عَبدنَا هنّ. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الطَبَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ مُعَادَ الضَّمِير الْمَلائِكَةَ [الزخرف: ١٩] وَلَعَلَّهُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ هَذَا الْكَلَامِ عَقِبَ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَلَائِكَةِ: إِنَّهُمْ إِنَاثٌ وَلَيْسَ اقْتِرَانُ كَلَامٍ بِكَلَامٍ بِمُوجِبٍ اتِّحَادَ مَحْمَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ دَرَجَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ بعيد من اللَّفْظِ لِتَذْكِيرِ الضَّمِيرِ كَمَا عَلِمْتَ، وَمِنَ
الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا طَوَائِفُ قَلِيلَةٌ عَبَدُوا الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ مَعَ الْأَصْنَامِ وَلَيْسَتْ هِيَ الدِّيَانَةَ الْعَامَّةَ لِلْعَرَبِ. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مَثَارُهَا تَخْلِيطُ الْعَامَّةِ وَالدَّهْمَاءِ مِنْ عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ والإرادة، وَبَين الرضى وَالْمَحَبَّةِ، فَالْعَرَبُ كَانُوا يَقُولُونَ: شَاءَ اللَّهُ وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَالَ طَرَفَةُ:
فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ | وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتُ عَمْرَو بْنَ مَرْثَدِ |
وَهَذَا التَّخْلِيطُ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ هُوَ مَثَارُ خَبْطِ أَهْلِ الضَّلَالَاتِ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَثَارُ حَيْرَةِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَالْقُصُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَمَعْنَى التَّكْلِيفِ وَالْخِطَابِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤٨].
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّادِر مِنْهُم يَنْتَظِم مِنْهُ قِيَاسٌ اسْتِثْنَائِيٌّ أَنْ يُقَالَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
الرَّاغِبُ: وَيُقَالُ لِلْجِهَةِ السُّفْلَى بَطْنٌ، وَلِلْعُلْيَا ظَهْرٌ. وَيُقَالُ: بَطْنُ الْوَادِي لِوَسَطِهِ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْبَطْنِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَكَانِ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَسَطُ الْمَكَانِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ | بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا |
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَحْمَلَ فَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ وَيُخَالِفُ كَلَامَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْمَقْصُودِ، هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِبَطْنِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ كَفَّ، أَيْ كَانَ الْكَفُّ فِي بَطْنِ مَكَّةَ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرَيْ عَنْكُمْ وعَنْهُمْ وَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الصُّلْحُ فَدَخَلْتُمْ مُحَارِبِينَ كَمَا رَغِبَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَرِهُوا الصُّلْحَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيكون إِطْلَاق بِبَطْنِ مَكَّةَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ، أَيْ فِي وَسَطِ مَدِينَةِ مَكَّةَ.
وَ (عَلى) لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ وَهُوَ التَّمَكُّنُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اسْتِقْرَارَهُ فِي السَّفِينَةِ كَائِنٌ فِي جَوْفِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١] قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: ٤٠].
وَالْبَاءُ فِي بِأَعْيُنِنا لِلْمُلَابَسَةِ.
وَالْأَعْيُنُ: جَمْعُ عَيْنٍ بِإِطْلَاقِهِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ، كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
عَلِمْتُكَ تَرْعَانِي بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطّور: ٤٨].
وَجُمِعَ الْعَيْنُ لِتَقْوِيَةِ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْجَمْعَ أَقْوَى مِنَ الْمُفْرَدِ، أَيْ بِحِرَاسَاتٍ مِنَّا وَعِنَايَاتٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِنَايَاتِ بِتَنَوُّعِ آثَارِهَا. وَأَصْلُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْعَيْنِ فِي مِثْلِهِ تَمْثِيلٌ بِحَالِ النَّاظِرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْرُوسِ مِثْلُ الرَّاعِينَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُسَافِرِ: «عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ»، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَجُمِعَ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ.
وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ.
وجَزاءً مفعول لأَجله لفتحنا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، أَيْ: فَعَلْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَاء لنوح. ولِمَنْ كانَ كُفِرَ هُوَ نُوحٌ فَإِنَّ قَوْمَهُ كَفَرُوا بِهِ، أَيْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّهُ رَسُولٌ وَكَانَ كُفْرُهُمْ بِهِ مُنْذُ جَاءَهُمْ بِالرِّسَالَةِ فَلِذَلِكَ أَقْحَمَ هُنَا فِعْلَ كانَ، أَيْ لِمَنْ كُفِرَ مُنْذُ زَمَانٍ مَضَى وَذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ نُوحٍ [٥- ٩] بِقَوْلِهِ: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ كُفِرَ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيرُهُ: كُفِرَ بِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ نَصَحَ لَهُمْ وَلَقِيَ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْعَنَاءِ فَلَمْ يَشْكُرُوا لَهُ بَلْ كَفَرُوهُ فَهُوَ مَكْفُورٌ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: ١٥٢].
كَثْرَةِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ إِيَّاهُ كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ مُمَدَّحٌ، إِذَا تَكَرَّرَ مَدْحُهُ مِنْ مَادِحِينَ كَثِيرِينَ.
فَاسْمُ «مُحَمَّدٍ» يُفِيدُ مَعْنَى: الْمَحْمُودِ حَمْدًا كَثِيرًا وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِأَحْمَدَ.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تَكُونَ شِعَارًا لِجِمَاعِ صِفَاتِ الرَّسُولِ الْمَوْعُود بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صِيغَتْ بِأَقْصَى صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَالًا بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ اللُّغَةُ بِجَمْعِهِ مِنْ مَعَانِيَ. وَوُكِلَ تَفْصِيلُهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ شَمَائِلِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَبَعْدِهَا لِيَتَوَسَّمَهَا الْمُتَوَسِّمُونَ وَيَتَدَبَّرَ مَطَاوِيهَا الرَّاسِخُونَ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.
جَاءَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ قَوْلُ عِيسَى «وَيَقُومِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرًا وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يُخَلَّصُ وَيَكْرِزُ (١) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَكُونُ الْمُنْتَهَى»، وَمَعْنَى يكرز يَدْعُو وينبىء،
وَمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى الْمُنْتَهَى يَتَأَخَّرُ إِلَى قُرْبِ السَّاعَةِ.
وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ عَشَرَ «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فيعطيكم فارقليط آخَرَ يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ». وَ (فَارْقَلِيطُ) كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، أَيْ بُوَانِيَّةٌ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمُدَافِعِ أَوِ الْمُسَلِّي، أَيِ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يَدْفَعُ الْأَحْزَانَ وَالْمَصَائِبَ، أَيْ يَأْتِي رَحْمَةً، أَيْ رَسُولٌ مُبَشِّرٌ، وَكَلِمَةُ آخَرَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِثْلُ عِيسَى.
وَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَبِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدُكُمْ (أَيْ مُدَّةَ وُجُودِي بَيْنَكُمْ)، وَأَمَّا (الْفَارْقَلِيطُ) الرُّوحُ الْقُدْسِيُّ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا
_________
(١) كَذَا وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة الْإِنْجِيل وَلم أتحقق مَأْخَذ المترجم لهاته الْكَلِمَة. ولعلها مَأْخُوذَة من اسْم الكرّاز (بتَشْديد الرَّاء) اسْم الْكَبْش الَّذِي يضع عَلَيْهِ الرَّاعِي كرزه فيحمله، أَو من الكرز بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء ضرب من الجوالق كَبِير يحمل فِيهِ الرَّاعِي زَاده ومتاعه. وَمن الْمَعْلُوم تَشْبِيه الرُّسُل برعاة الْغنم. وَمن كَلَام عِيسَى عَلَيْهِ السّلام: «إِنَّمَا بعثت لخرفان بني إِسْرَائِيل» وَأما فعل كرز فَلَعَلَّهُ من بَاب قعد.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٧١- سُورَةُ نُوحٍبِهَذَا الِاسْمِ سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَتَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» بِتَرْجَمَةِ «سُورَةِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا». وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّائِعَ فِي كَلَامِ السَّلَفِ وَلَمْ يُتَرْجِمْ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ».
وَهِيَ مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ.
وَقد عدت الثَّالِثَةَ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ أَرْبَعِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ وَقَبْلَ سُورَةِ الطُّورِ.
وَعَدَّ الْعَادُّونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ آيَهَا ثَلَاثِينَ آيَةً، وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ آيَةً، وَعَدَّهَا أهل الْكُوفَة ثمانا وَعِشْرِينَ آيَةً.
أَغْرَاضُهَا
أَعْظَمُ مَقَاصِدِ السُّورَةِ ضَرْبُ الْمَثَلِ لِلْمُشْرِكِينَ بِقَوْمِ نُوحٍ وَهُمْ أَوَّلُ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ [٤].
وَعُمُومُ نَفْسٌ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ نَفْسٍ.
وشَيْئاً اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ مُتَوَغِّلٌ فِي الْإِبْهَامِ يُفَسِّرُهُ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ فِي الْكَلَامِ مِنْ تَمْيِيزٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، أَوْ مِنَ السِّيَاقِ، وَيُبَيِّنُهُ هُنَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ لَا تَمْلِكُ وَلَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ شَيْئًا يُغْنِي عَنْهَا وَيَنْفَعُهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٦٧]، فَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ لَا تَمْلِكُ، أَيْ لَيْسَ فِي قُدْرَتِهَا شَيْءٌ يَنْفَعُ نَفْسًا أُخْرَى.
وَهَذَا يُفِيدُ تَأْيِيسَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ تَنْفَعَهُمْ أَصْنَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الْأَنْعَام: ٩٤].
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ وَجُمْلَةُ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ تَذْيِيلٌ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى: التَّصَرُّفِ وَالْإِذْنِ وَهُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ، أَيْ لَا يَأْمُرُ إِلَّا اللَّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُرَادِفًا لِلشَّيْءِ فَتَغْيِيرُ التَّعْبِيرِ لِلتَّفَنُّنِ.
وَالتَّعْرِيفُ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُسْتَعْمَلِ لِإِرَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَيَعُمُّ كُلَّ
الْأُمُورِ وَبِذَلِكَ الْعُمُومِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.
وَأَفَادَتْ لَامُ الِاخْتِصَاصِ مَعَ عُمُومِ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَا أَمْرَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلٌ، وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ صِيغَةُ حَصْرٍ وَلَكِنَّهُ آيِلٌ إِلَى مَعْنَى الْحَصْرِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: ٢].
وَفِي هَذَا الْخِتَامِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ ابْتُدِئْ بِالْخَبَرِ عَنْ بَعْضِ أَحْوَالِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَخُتِمَتِ السُّورَةُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ.
الصفحة التالية