لِعَجْزِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، أَوْ كَوْنُهَا أَسْمَاءً لِلسُّوَرِ الْوَاقِعَةِ هِيَ فِيهَا، أَوْ كَوْنُهَا أَقْسَامًا أَقْسَمَ بِهَا لِتَشْرِيفِ قَدْرِ الْكِتَابَةِ وَتَنْبِيهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ إِلَى فَوَائِدِ الْكِتَابَةِ لِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ حَالَةِ الْأُمِّيَّةِ وَأَرْجَحُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ هُوَ أَوَّلُهَا.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُرُوفِ هُوَ نِصْفُ أَسَامِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ إِذْ هِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَهِيَ: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالصَّادُ، وَالرَّاءُ،
وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْقَافُ، وَالنُّونُ، فِي تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سُورَةً عَلَى عَدَدِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْصَافِ أَجْنَاسِ صِفَاتِ الْحُرُوفِ فَفِيهَا مِنَ الْمَهْمُوسَةِ نِصْفُهَا: الصَّادُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَمِنَ الْمَجْهُورَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ، وَمِنَ الشَّدِيدَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَالْكَافُ، وَالطَّاءُ، وَالْقَافُ، وَمِنَ الرَّخْوَةِ نِصْفُهَا: اللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالصَّادُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ نِصْفُهَا: الصَّادُ، وَالطَّاءُ. وَمِنَ الْمُنْفَتِحَةِ نِصْفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ، وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْقَافُ، وَالْيَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ نِصْفُهَا الْقَافُ، وَالصَّادُ، وَالطَّاءُ. وَمِنَ الْمُسْتَفِلَةِ نَصِفُهَا: الْأَلِفُ، وَاللَّامُ، وَالْمِيمُ، وَالرَّاءُ وَالْكَافُ، وَالْهَاءُ، وَالْيَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالسِّينُ، وَالْحَاءُ، وَالنُّونُ. وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ نَصِفُهَا: الْقَافُ، وَالطَّاءُ. ثُمَّ إِنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي أُلْغِيَ ذِكْرُهَا مَكْثُورَةً بِالْمَذْكُورَةِ، فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِكْمَتُهُ اهـ وَزَادَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَصْنَافًا أُخْرَى مِنْ صِفَاتِ الْحُرُوفِ لَا نُطِيلُ بِهَا فَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْهَا. وَمَحْصُولُ كَلَامِهِمَا أَنَّهُ قَدْ قُضِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحُرُوفِ وَإِهْمَالُ ذِكْرِ مَا أُهْمِلَ مِنْهَا حَقُّ التَّمْثِيلِ لِأَنْوَاعِ الصِّفَاتِ بِذِكْرِ النِّصْفِ، وَتَرْكِ النِّصْفِ مِنْ بَابِ «وَلْيُقَسْ مَا لَمْ يُقَلْ» لِحُصُولِ الْغَرَضِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْعِنَايَةِ بِالْكِتَابَةِ، وَحَقُّ الْإِيجَازِ فِي الْكَلَامِ. فَيَكُونُ ذِكْرُ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْفَوَاتِحِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَكَيْفِيَّةُ النُّطْقِ أَنْ يُنْطَقَ بِهَا مَوْقُوفَةً دُونَ عَلَامَاتِ إِعْرَابٍ عَلَى حُكْمِ الْأَسْمَاءِ الْمَسْرُودَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ مَعْمُولَةً لِعَوَامِلَ فَحَالُهَا كَحَالِ الْأَعْدَادِ الْمَسْرُودَةِ حِينَ تَقُولُ ثَلَاثَهْ أَرْبَعَهْ خَمْسَهْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْسِنُوا الْإِحْسَانُ فِعْلُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ، فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا نَافِعًا مُؤْلِمًا لَا يَكُونُ مُحْسِنًا فَلَا تَقُولَ إِذَا ضَرَبْتَ رَجُلًا تَأْدِيبًا: أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ وَلَا إِذَا جَارَيْتَهُ فِي مَلَذَّاتٍ مُضِرَّةٍ أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا مُضِرًّا مُلَائِمًا لَا يُسَمَّى مُحْسِنًا.
وَفِي حَذْفِ مُتَعَلِّقِ أَحْسِنُوا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْإِحْسَانَ مَطْلُوبٌ فِي كُلِّ حَالٍ وَيُؤَيِّدُهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
. وَفِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُعْتَدِي وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ هَاتِهِ الْأَحْوَالِ يُلَابِسُهَا الْإِحْسَانُ وَيَحُفُّ بِهَا، فَفِي الِاعْتِدَاءِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الْحُدُودِ وَالِاقْتِصَادِ فِي الِاعْتِدَاءِ وَالِاقْتِنَاعِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّلَاحُ الْمَطْلُوبُ، وَفِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ الْإِحْسَانُ بِالرِّفْقِ بِالْأَسِيرِ وَالْمَغْلُوبِ وَبِحِفْظِ أَمْوَالِ الْمَغْلُوبِينَ وَدِيَارِهِمْ مِنَ التَّخْرِيبِ وَالتَّحْرِيقِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ»، وَالْحَذَرُ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ إِحْسَانٌ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تَذْيِيلٌ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْإِحْسَانِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَبْدَهُ غَايَةُ مَا يَطْلُبُهُ النَّاسُ إِذْ مَحَبَّةُ اللَّهِ الْعَبْدَ سَبَبَ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ وَالْمُرَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
[١٩٦]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٩٦]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
هَذَا عَوْدٌ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [الْبَقَرَة: ١٨٩] إِلَخْ وَمَا بَيْنَهُمَا اسْتِطْرَادٌ أَوِ اعْتِرَاضٌ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِلْمُنَاسَبَةِ طَرِيقَةٌ قُرْآنِيَّةٌ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَطْفًا عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ حِينَ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَقَدْ كَانُوا نَاوِينَ الْعُمْرَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْحَجُّ،
وَشَاعَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ وَصْفِ الْكُفْرِ عَلَى الشِّرْكِ، وَالْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ تَعْلِيقَ النَّهْيِ عَنِ الِاتِّخَاذِ بِالْكَافِرِينَ بِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ صِلَاتٌ، وَأَنْسَابٌ، وَمَوَدَّاتٌ، وَمُخَالَطَاتٌ مَالِيَّةٌ، فَكَانُوا بِمَظِنَّةِ الْمُوَالَاةِ مَعَ بَعْضِهِمْ. وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ سَامِعٍ أَنَّ مَنْ يُشَابِهُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَوْقِفِهِ تُجَاهَ الْإِسْلَامِ يَكُونُ تَوَلِّي الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُ كَتَوَلِّيهِمُ الْمُشْرِكِينَ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ جَمِيعَ الْمُخَالِفِينَ فِي الدِّينِ: مِثْلَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمرَان: ١٩]، فَلِذَلِكَ كُلِّهِ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي «حَاطِبِ بْنِ أَبِي بلتعة» وَكَانَ كَانَ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُهَاجِرِينَ وَخُلَّصِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا أَنَّهُ تَأَوَّلَ فَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْش يعلمهُمْ بتجهيز النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَتْحِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا اسْتَفْتَتْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِرِّ وَالِدَتِهَا وَصِلَتِهَا، أَيْ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ أُمُّهَا إِلَى الْمَدِينَةِ رَاغِبَةً فَإِنَّهُ
ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ»
أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: صِلِي أُمَّكِ
. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي فَرِيقٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانُوا مُتَوَلِّينَ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَأَبِي رَافِعِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ بِيَثْرِبَ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِمَّنْ يَتَوَلَّى الْيَهُودَ إِذْ هُمْ كُفَّارُ جِهَتِهِمْ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَ لَهُ حِلْفٌ مَعَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ عبَادَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَعِي خَمْسَمَائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ يَخْرُجُوا مَعِي فَأَسْتَظْهِرَ بِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ لَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَعَذَّبُوهُ عَذَابًا شَدِيدًا، فَقَالَ مَا أَرَادُوهُ مِنْهُ، فَكَفُّوا عَنْهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ» قَالَ: «مُطَمْئِنًّا بِالْإِيمَانِ» فَقَالَ: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ) لِتَأْكِيدِ الظَّرْفِيَّةِ.
وَالْمَعْنَى: مُبَاعِدِينَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ فِي الْوَلَايَةِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلنَّهْيِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ اتِّخَاذَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ وَلَايَةَ الْمُؤْمِنِ الْكُفَّارَ الَّتِي تُنَافِي وَلَايَتَهُ الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ فِي تَوَلِّي الْكَافِرِينَ إِضْرَارٌ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلُ الْقُيُودِ أَنْ تَكُونَ لِلِاحْتِرَازِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِوُصْلَةِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: «أَنْتَ
يُتَّقَى، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي هَذِهِ الصِّلَاتِ زِيَادَةَ تَحْقِيقِ اتِّصَالِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ مَا حَصَلَ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ فَكُلُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْلٍ فَوْقَهُ.
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ. وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ، فَقِيلَ: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ
، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: وَخَلَقَ مِنْها لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ. وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ، وَهِيَ حَوَّاءُ. وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا
فِي بَيْتٍ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ (زَوْجَةٌ)، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا. وَكَانَ الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ قيل لَهُ: فقد قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
أَذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ ذُو خُصُومَةٍ | أَرَاكَ لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَامَ ثَاوِيَا |
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي | كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا |
أَنَّ ابْنَةَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ كَانَتْ عِنْدَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَكَرِهَ مِنْهَا أَمْرًا، أَيْ كِبَرًا فَأَرَادَ طَلَاقَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَمْسِكْنِي وَاقْسِمْ لِي مَا بَدَا لَكَ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَنْ يَصَّالَحَا- بِتَشْدِيدِ الصَّادِ وَفَتْحِ اللَّامِ- وَأَصْلُهُ يَتَصَالَحَا، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: «أَنْ يُصْلِحَا» - بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ اللَّامِ- أَيْ يُصْلِحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَأْنَهُمَا بِمَا يَبْدُو مِنْ وُجُوهِ الْمُصَالَحَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَلَيْسَ تَعْرِيفَ الْعَهْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الصُّلْحِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصُّلْحِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ آنِفًا، وَهُوَ الْخُلْعُ، خَيْرٌ مِنَ النِّزَاعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ هَذَا، وَإِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ فَائِدَةَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَوْفَرُ، وَلِأَنَّ فِيهِ التَّفَادِيَ عَنْ إِشْكَالِ تَفْضِيلِ الصُّلْحِ عَلَى النِّزَاعِ فِي الْخَيْرِيَّةِ مَعَ أَنَّ النِّزَاعَ لَا خَيْرَ فِيهِ أَصْلًا. وَمَنْ جَعَلَ الصُّلْحَ
الثَّانِيَ عَيْنَ الْأَوَّلِ غَرَّتْهُ الْقَاعِدَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ، وَهِيَ: أَنَّ لَفْظَ النَّكِرَةِ إِذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَهُوَ عَيْنُ الْأُولَى. وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ، فَقَالَ: يَقُولُونَ: «النَّكِرَةُ إِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَإِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، أَوْ أُعِيدَتِ الْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً أَوْ نَكِرَةً كَانَتِ الثَّانِيَةُ عَيْنَ الْأُولَى»، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ تَرُدُّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الْأَرْبَعَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً [الرّوم: ٥٤] وَقَوله: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النِّسَاء: ١٢٨] زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النَّحْل: ٨٨] وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ فَوْقَ نَفْسِهِ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [النِّسَاء: ١٥٣]، وَأَنَّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَا يَرُدُّ ذَلِكَ أَيْضًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ إِذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ لَا لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، كَمَا هُنَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي إِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٣]. وَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٣٧].
وَقَوْلُهُ خَيْرٌ لَيْسَ هُوَ تَفْضِيلًا وَلَكِنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَزْنُهُ فَعْلٌ، كَقَوْلِهِمْ: سَمْحٌ وَسَهْلٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى خُيُورٍ. أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ مُقَابِلُ الشَّرِّ، فَتَكُونُ إِخْبَارًا بِالْمَصْدَرِ. وَأَمَّا
الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَعِنْدَ الْيَهُودِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ تَأْيِيدَ الشَّرِيعَةِ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى يَزِيدُهَا قَبُولًا فِي النُّفُوسِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُرَادٌ قَدِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ مُلَازِمَةٌ لَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَقْوَامِ وَالْأَزْمَانِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَزَلْ فِي نُفُوسِهِمْ حَرَجٌ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّرِيفِ الضَّعِيفَ فِي الْقِصَاصِ، كَمَا قَالَتْ كَبْشَةُ أُخْتُ عَمْرو بن معد يكرب تَثْأَرُ بِأَخِيهَا عَبْدِ الله بن معد يكرب:
فَيقْتل جبرا بامرىء لَمْ يَكُنْ لَهُ | بَوَاءً وَلَكِنْ لَا تَكَايُلَ بِالدَّمِ (١) |
وَقَالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرًا:
«بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ» وَالْبَوَاءُ: الْكِفَاءُ. وَقَدْ عَدَّتِ الْآيَةُ فِي الْقِصَاصِ أَشْيَاءَ تَكْثُرُ إِصَابَتُهَا فِي الْخُصُومَاتِ لِأَنَّ الرَّأْسَ قَدْ حَوَاهَا وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْقَاتِلُ الرَّأْسَ ابْتِدَاءً.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ هُوَ مِنْ بَقِيَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَالْمُرَاد ب فَمَنْ تَصَدَّقَ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْهُمْ، وَضَمِيرُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ بَاءُ الْعِوَضِ فِي قَوْلِهِ بِالنَّفْسِ إِلَخْ، أَيْ مَنْ تَصَدَّقَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُ، أَيْ تَنَازَلَ عَنِ الْعِوَضِ. وَضَمِيرُ لَهُ عَائِد إِلَى فَمَنْ تَصَدَّقَ. وَالْمُرَادُ مِنَ التَّصَدُّقِ الْعَفْوُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا كَانَ عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ بِيَدِ مُسْتَحِقِّ الْأَخْذِ بِالْقِصَاصِ جُعِلَ إِسْقَاطُهُِِ
_________
(١) الْبَيْت لامْرَأَة من طي وَهُوَ من شعر «الحماسة»، يُقَال: إنّه لكبشة أُخْت عَمْرو بن معد يكرب بنت بهدل الطَّائِي. وجبر هَذَا اسْم قَاتل أَبِيهَا.
قَصَدَ بِهِ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ آيِلٌ إِلَى مَعْنَى التَّوْكِيدِ، لِأَنَّ مُفَادَ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ أَنَّهُ طَائِرٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا طَائِرٌ وَلَا طَائِرٌ. وَالتَّوْكِيدُ هُنَا يُؤَكِّدُ مَعْنَى الشُّمُولِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ (مِنَ) الزَّائِدَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَحَصَلَ مِنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ تَقْرِيرُ مَعْنَى الشُّمُولِ الْحَاصِلِ مِنْ نَفْيِ اسْمَيِ الْجِنْسَيْنِ. وَنُكْتَةُ التَّوْكِيدِ أَنَّ الْخَبَرَ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَهُمْ وَكَوْنِهِ مَظِنَّةَ إِنْكَارِهِمْ أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُؤَكَّدَ.
وَوَقَعَ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي بَحْثِ إِتْبَاعِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ اللَّفْظَيْنِ الْجِنْسُ لَا بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَهُوَ غَيْرُ مَا فِي «الْكَشَّافِ»، وَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ وَوُجُودُ (مِنْ) فِي النَّفْيِ نَصٌّ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ دُونَ الْوَحْدَةِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَصْفُ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وَارِدًا لِرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي طائِرٍ كَمَا جَنَحَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَإِنْ كَانَ رَفْعُ احْتِمَالِ الْمَجَازِ مِنْ جُمْلَةِ نُكَتِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ تَأْكِيدِ الْعُمُومِ أَوْلَى، بِخِلَافِ نَحْوِ قَوْلِهِمْ:
نَظَرْتُهُ بِعَيْنَيَّ وَسَمِعْتُهُ بِأُذُنَيَّ. وَقَول صَخْر:
شَرّ وَاتَّخَذَتْ مِنْ شَعَرٍ صِدَارَهَا إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّدَارَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ شَعَرٍ.
وأُمَمٌ جَمْعُ أُمَّةٍ. وَالْأُمَّةُ أَصْلُهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْمُتَمَاثِلَةُ فِي صِفَاتٍ ذَاتِيَّةٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ لُغَةٍ أَوْ عَادَةٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ أُمَّةً لِأَنَّ أَفْرَادَهَا تَؤُمُّ أُمَمًا وَاحِدًا وَهُوَ
مَا يَجْمَعُ مُقَوِّمَاتِهَا.
وَأَحْسَبُ أَنَّ لَفْظَ أُمَّةٍ خَاصٌّ بِالْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْبَشَرِ، فَلَا يُقَالُ فِي اللُّغَةِ أُمَّةُ الْمَلَائِكَةِ وَلَا أُمَّةُ السِّبَاعِ. فَأَمَّا إِطْلَاقُ الْأُمَمِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ، أَيْ مِثْلُ الْأُمَمِ لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا تَجْتَمِعُ أَفْرَادُهُ فِي صِفَاتٍ مُتَّحِدَةٍ بَيْنَهَا أُمَمًا وَاحِدَةً، وَهُوَ مَا يَجْمَعُهَا وَأَحْسَبُ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْبَشَرِ.
ودَابَّةٍ وطائِرٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُرَادُ بِهِمَا جَمِيعُ أَفْرَادِ النَّوْعَيْنِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الِاسْتِغْرَاقِ، فَالْإِخْبَارُ عَنْهُمَا بِلَفْظِ أُمَمٌ وَهُوَ جَمْعٌ عَلَى تَأْوِيلِهِ بِجَمَاعَاتِهَا، أَيْ إِلَّا جَمَاعَاتُهَا أُمَمٌ، أَوْ إِلَّا أَفْرَادُ أُمَمٍ.
وَكَانَتْ مَسَاكِنُهُمْ بِالْحِجْرِ- بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ- بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُسَمَّى الْآنَ مَدَائِنُ صَالِحٍ وَسُمِّي فِي حَدِيثِ غَزْوَةِ تَبُوكٍ: حَجْرَ ثَمُودٍ.
وَصَالِحٌ هُوَ ابْنُ عَبِيلٍ- بِلَامٍ فِي آخِرِهِ وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ- ابْنِ آسِفَ بْنِ مَاشِجَ أَوْ شالِخَ بْنِ
عَبِيلِ بْنِ جَاثِرَ- وَيُقَالُ كَاثِرَ- ابْنِ ثَمُودَ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ فِي حُرُوفِهَا فِي كُتُبِ التَّارِيخِ وَغَيْرِهَا أَحْسَبُهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَهِيَ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ سِوَى عَبِيلٍ فَإِنَّهُ مَضْبُوطٌ فِي سَمِيِّهِ الَّذِي هُوَ جَدُّ قَبِيلَةٍ، كَمَا فِي «الْقَامُوسِ».
وَثَمُودُ هُنَا مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَبِيلَةُ لَا جَدُّهَا. وَأَسْمَاءُ الْقَبَائِلِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ الصَّرْفِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ مَعَ الْعَلَمِيَّةِ وَهُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَصْرُوفًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: ٦٨] عَلَى اعْتِبَارِ الْحَيِّ فَيَنْتَفِي مُوجِبُ مَنْعِ الصَّرْفِ لِأَنَّ الِاسْمَ عَرَبِيٌّ.
وَقَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمُودَ كَانُوا مُشْرِكِينَ، وَقَدْ صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتِ سُورَةِ هُودٍ وَغَيْرِهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ الَّتِي عَبَدَتْهَا عَادٌ لِأَنَّ ثَمُودَ وَعَادًا أَبْنَاءُ نَسَبٍ وَاحِدٍ، فَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ عَقَائِدُهُمْ مُتَمَاثِلَةٌ. وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ ثَمُودَ قَامَتْ بَعْدَ عَادٍ فَنَمَتْ وَعَظُمَتْ وَاتَّسَعَتْ حَضَارَتُهَا، وَكَانُوا مُوَحِّدِينَ، وَلَعَلَّهُمُ اتَّعَظُوا بِمَا حَلَّ بِعَادٍ، ثُمَّ طَالَتْ مُدَّتُهُمْ وَنَعِمْ عَيْشُهُمْ فَعَتَوْا وَنَسُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ صَالِحًا رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتْبَعْهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ مُسْتَضْعَفُونَ، وَعَصَاهُ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ، وَذَكَرَ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ أَنَّ قَوْمَهُ لَمْ يُغْلِظُوا لَهُ الْقَوْلَ كَمَا أَغْلَظَتْ قَوْمُ نُوحٍ وَقَوْمُ هُودٍ لِرَسُولِهِمْ، فَقَدْ: قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود: ٦٢]. وَتَدُلُّ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ مِنَ الْقَصَصِ عَلَى أَنَّ صَالِحًا أَجَلَّهُمْ مُدَّةً لِلتَّأَمُّلِ وَجَعَلَ النَّاقَةَ لَهُمْ آيَةً، وَأَنَّهُمْ تَارِكُوهَا وَلَمْ يُهَيِّجُوهَا زَمَنًا طَوِيلًا.
وَأَصْلُ مَعْنَى التَّجَدُّدِ، الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُسْنَدُ الْفِعْلِيُّ، هُوَ حُدُوثُ مَعْنَى الْمُسْنَدِ لِلْمُسْنِدِ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدَ ثُبُوتٍ وَتَقَرُّرٍ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ: أَنَّهُمْ لَا يَخْلُقُونَ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَأَنَّهُمْ مَا خَلَقُوا شَيْئًا فِي الْمَاضِي، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَلْقُ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ لَكَانَ مُتَقَرِّرًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي وَهُمْ يُخْلَقُونَ يَجُوزُ عِنْدِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ
ضمير يُشْرِكُونَ [الْأَعْرَاف: ١٩٠]، أَيْ: وَالْمُشْرِكُونَ يُخْلَقُونَ، وَمَعْنَى الْحَالِ زِيَادَةُ تَفْظِيعِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ لِإِشْرَاكِهِمْ بِاللَّهِ أَصْنَافًا لَا تَخْلُقُ شَيْئًا فِي حَالِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُخْلَقُونَ يَوْمًا فَيَوْمًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ خَلْقُهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ يُشَاهِدُونَ الْأَصْنَامَ جَاثِمَةً فِي بُيُوتِهَا وَمَوَاضِعِهَا لَا تَصْنَعُ شَيْئًا فَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ دَالَّةٌ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَدَلَالَةُ الْمُضَارِعِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّكَرُّرِ دَلَالَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ مَعْنَى التَّجَدُّدِ الَّذِي فِي أَصْلِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ، وَهِيَ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ بِحَسَبِ الْقَرَائِنِ الْمُعَيِّنَةِ لَهَا وَلَا تُوصَفُ بِحَقِيقَةٍ وَلَا مَجَازٍ لِذَلِكَ، وَمَعْنَى تَجَدُّدِ مَخْلُوقِيَّتِهِمْ: هُوَ أَنَّ الضَّمِيرَ صَادِقٌ بِأُمَّةٍ وَجَمَاعَةٍ، فَالْمَخْلُوقِيَّةُ لَا تُفَارِقُهُمْ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ آنًا فَآنًا بِازْدِيَادِ الْمَوَالِيدِ، وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِ الْمَوَاجِيدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ [الزمر: ٦] فَتَكُونُ جُمْلَةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ أَيُشْرِكُونَ.
وَالْمُفَسِّرُونَ أَعَادُوا ضَمِيرَ وهُمْ يُخْلَقُونَ عَلَى مَا لَا يَخْلُقُ، أَيِ الْأَصْنَامُ، وَلَمْ يُبَيِّنُوا مَعْنَى كَوْنِ الْأَصْنَامِ مَخْلُوقَةً وَهِيَ صُوَرٌ نَحَتَهَا النَّاسُ، وَلَيْسَتْ صُوَرُهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَادَّتَهَا مَخْلُوقَةٌ وَهِيَ الْحِجَارَةُ.
وَجَعَلُوا إِجْرَاءَ ضَمَائِرِ الْعُقَلَاءِ فِي قَوْلِهِ وَهُمْ- وَقَوْلِهِ- يُخْلَقُونَ وَمَا بَعْدَهُ عَلَى الْأَصْنَامِ وَهِيَ جَمَادَاتٌ لِأَنَّهُمْ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ، بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ الْمَحْجُوجِينَ فِيهِمْ، وَلَا يظْهر على لهَذَا التَّقْدِيرِ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِفِعْلِ يُخْلَقُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّ هَذَا الْخَلْقَ غَيْرُ مُتَجَدِّدٍ.
وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ بِاللَّامِ فِي لَهُمْ نَصْراً عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّ الْمَجْرُورَ بِاللَّامِ بَعْدَ فِعْلِ الِاسْتِطَاعَةِ وَنَحْوِهِ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَقَعُ الْفِعْلُ مِثْلَ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً [العنكبوت: ١٧].
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٤٧]
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِجُمْلَةِ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٦] لِبَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ كَرَاهِيَةِ اللَّهِ انْبِعَاثَهُمْ، وَهِيَ إِرَادَةُ اللَّهِ سَلَامَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَضْرَارِ وُجُودِ هَؤُلَاءِ بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضْمِرُونَ الْمَكْرَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَخْرُجُونَ مُرْغَمِينَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي جَيْشٍ يَغْزُو بِدُونِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (الْخُرُوجِ) بِفِي شَائِعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مَعَ الْجَيْشِ.
وَالزِّيَادَةُ: التَّوْفِيرُ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ زادُوكُمْ لِدَلَالَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، أَيْ مَا زَادُوكُمْ قُوَّةً أَوْ شَيْئًا مِمَّا تُفِيدُ زِيَادَتُهُ فِي الْغَزْوِ نَصْرًا عَلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ اسْتُثْنِيَ مِنَ الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ الْخَبَالُ عَلَى طَرِيقَةِ
التَّهَكُّمِ بِتَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَإِنَّ الْخَبَالَ فِي الْحَرْبِ بَعْضٌ مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ فِي قُوَّةِ الْجَيْشِ، بَلْ هُوَ أَشَدُّ عَدَمًا لِلزِّيَادَةِ، وَلَكِنَّهُ ادُّعِيَ أَنَّهُ مِنْ نَوْعِ الزِّيَادَةِ فِي فَوَائِدِ الْحَرْبِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَالْخَبَالُ: الْفَسَادُ، وَتَفَكُّكُ الشَّيْءِ الْمُلْتَحِمِ الْمُلْتَئِمِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى اضْطِرَابِ الْجَيْشِ وَاخْتِلَالِ نظامه.
وَحَقِيقَة لَأَوْضَعُوا أَسْرَعُوا سَيْرَ الرِّكَابِ. يُقَالُ: وَضَعَ الْبَعِيرُ وَضْعًا، إِذَا أَسْرَعَ وَيُقَالُ: أَوْضَعْتُ بَعِيرِي، أَيْ سَيَّرْتُهُ سَيْرًا سَرِيعًا. وَهَذَا الْفِعْلُ مُخْتَصٌّ بِسَيْرِ الْإِبِلِ فَلِذَلِكَ يُنَزَّلُ فِعْلُ أَوْضَعَ مَنْزِلَةَ الْقَاصِرِ لِأَنَّ مَفْعُولَهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَادَّةِ فِعْلِهِ. وَهُوَ هُنَا تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ يَبْذُلُونَ جُهْدَهُمْ لِإِيقَاعِ التَّخَاذُلِ وَالْخَوْفِ بَيْنَ رِجَالِ الْجَيْشِ، وَإِلْقَاءِ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ عَنْ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، بِحَالِ مَنْ يُجْهِدُ بَعِيرَهُ بِالسَّيْرِ لِإِبْلَاغِ خَبَرٍ مُهِمٍّ أَوْ إِيصَالِ تِجَارَةٍ لِسُوقٍ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا التَّمْثِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [الْإِسْرَاء: ٥] وَقَوْلُهُ:
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة: ٦٢]. وَأَصْلُهُ قَوْلُهُمْ: يَسْعَى لِكَذَا، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا شَاعَ إِطْلَاقُ السَّعْيِ فِي الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ خَفِيَتْ مُلَاحَظَةُ تَمْثِيلِ الْحَالَةِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ هُنَا ذِكْرُ الْإِيضَاعِ لِعِزَّةِ هَذَا الْمَعْنَى، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَاحِيَةِ لِتَفْكِيكِ الْهَيْئَةِ بِأَنْ يُشَبَّهَ الْفَاتِنُونَ بِالرَّكْبِ، وَوَسَائِلُ الْفِتْنَةِ بِالرَّوَاحِلِ.
وَبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَذًى وَتَهْدِيدٍ، إِذْ أَعْلَنَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْأَمْنِ مِنْ مَخَافَةِ أَعْدَائِهِمْ، وَمِنَ الْحُزْنِ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ، وَلَمَّحَ لَهُمْ بِعَاقِبَةِ النَّصْرِ، وَوَعَدَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْآخِرَةِ وَعْدًا لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ وَلَا التَّخَلُّفَ تَطْمِينًا لِنُفُوسِهِمْ، كَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَهَمِّيَّةِ شَأْنِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢]، وَلِذَلِكَ أُكِّدَتِ الْجُمْلَةُ بِ إِنَّ بَعْدَ أَدَاةِ التَّنْبِيهِ.
وَفِي التَّعْبِيرِ بِ أَوْلِياءَ اللَّهِ دُونَ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وُقُوعِهِ عقب قَوْله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ [يُونُس: ٦١] يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ قَدْ حَقَّ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَعَ إِفَادَةِ حُكْمٍ عَامٍّ شَمِلَهُمْ وَيَشْمَلُ مَنْ يَأْتِي عَلَى طَرِيقَتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ خَبَرُ إِنَّ.
وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ لِلْمُتَوَقَّعِ، فَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُتَوَقَّعِ حُصُولُهُ.
فَيُقَالُ: خَافَ الشَّيْءَ، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ [آل عمرَان: ١٧٥]. وَإِذَا كَانَ تَوَقُّعُ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ لِغَيْرِ الْمُتَوَقِّعِ يُقَالُ لِلْمُتَوَقَّعِ: خَافَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ
عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
[الشُّعَرَاء: ١٣٥].
وَقَدِ اقْتَضَى نَظْمُ الْكَلَامِ نَفْيَ جِنْسِ الْخَوْفِ لِأَنَّ (لَا) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّكِرَةِ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ، وَأَنَّهَا إِذَا بُنِيَ الِاسْمُ بَعْدَهَا عَلَى الْفَتْحِ كَانَ نَفْيُ الْجِنْسِ نَصًّا وَإِذَا لَمْ يُبْنَ الِاسْمُ عَلَى الْفَتْحِ كَانَ نَفْيُ الْجِنْسِ ظَاهِرًا مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ نَفْيُ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ إِذَا كَانَ الْمَقَامُ صَالِحًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ فِي الْأَجْنَاسِ الَّتِي لَهَا أَفْرَادٌ مِنَ الذَّوَاتِ مِثْلَ رَجُلٍ، فَأَمَّا أَجْنَاسُ الْمَعَانِي فَلَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فَيَسْتَوِي فِيهَا رَفْعُ اسْمِ (لَا) وَبِنَاؤُهُ عَلَى الْفَتْحِ، كَمَا فِي قَوْلِ إِحْدَى نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرٌّ وَلَا قَرٌّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» فَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ بِالرَّفْعِ وَبِالْبِنَاءِ عَلَى الْفَتْحِ.
ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الِارْتِقَاءَ النَّفْسَانِيَّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْوَارِدَاتِ الْإِلَهِيَّةِ غَايَتُهُ أَنْ يَبْلُغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى النبوءة أَوِ الْحِكْمَةِ فَلِذَلِكَ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ اللَّهَ سَيُعَلِّمُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، لِأَنَّ مُسَبِّبَ الشَّيْءِ مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فتعليم التّأويل ناشىء عَنِ التَّشْبِيهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ، وَلِأَنَّ اهْتِمَامَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِرُؤْيَاهُ وَعَرْضِهَا عَلَى أَبِيهِ دَلَّ أَبَاهُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَوْدَعَ فِي نَفْسِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الِاعْتِنَاءَ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَتَعْبِيرِهَا. وَهَذِهِ آيَةُ عِبْرَةٍ بِحَالِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَ ابْنِهِ إِذْ
أَشْعَرَهُ بِمَا تَوَسَّمَهُ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِهِ لِيَزْدَادَ إِقْبَالًا عَلَى الْكَمَالِ بِقَوْلِهِ: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ.
وَالتَّأْوِيلُ: إِرْجَاعُ الشَّيْءِ إِلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلِيلِهِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [سُورَة آل عمرَان: ٧].
والْأَحادِيثِ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ حَدِيثٍ بِمَعْنَى الشَّيْءِ الْحَادِثِ، فَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ: إِرْجَاعُ الْحَوَادِثِ إِلَى عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا بِإِدْرَاكِ حَقَائِقِهَا عَلَى التَّمَامِ. وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِأَصْنَافِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْأَحَادِيثُ جَمْعَ حَدِيثٍ بِمَعْنَى الْخَبَرِ الْمُتَحَدَّثِ بِهِ، فَالتَّأْوِيلُ: تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا. سُمِّيَتْ أَحَادِيثُ لِأَنَّ الْمُرَائِيَ يتحدث بهَا الراؤون وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ [سُورَة يُوسُف: ١٠٠]. وَلَعَلَّ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَوْ يَكُونُ اخْتِيَارُ هَذَا اللَّفْظِ إِيجَازًا مُعْجِزًا، إِذْ يَكُونُ قَدْ حُكِيَ بِهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ صَدَرَ مِنْ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِلُغَتِهِ يُعَبِّرُ عَنْ تَأْوِيلِ الْأَشْيَاءِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْمَعَانِي.
وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ هُوَ إِعْطَاؤُهُ أَفْضَلَ النِّعَمِ وَهِي نعْمَة النبوءة، أَوْ هُوَ ضَمِيمُهُ الْملك إِلَى النبوءة وَالرِّسَالَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ إِتْمَامُ نِعْمَةِ الِاجْتِبَاءِ الْأُخْرَوِيِّ بِنِعْمَةِ الْمَجْدِ الدُّنْيَوِيِّ.
وَالْبُرُوزُ: الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانٍ حَاجِبٍ مِنْ بَيْتٍ أَوْ قَرْيَةٍ. وَالْمَعْنَى: حُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ.
وجَمِيعاً تَأْكِيدٌ لِيَشْمَلَ جَمِيعَهُمْ مِنْ سَادَةٍ وَلَفِيفٍ.
وَقَدْ جِيءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِوَصْفِ حَالِ الْفِرَقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمُجَادَلَةِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مَعَ قَادَتِهِمْ، وَمُجَادَلَةُ الْجَمِيعِ لِلشَّيْطَانِ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شُغُلٍ عَنْ ذَلِكَ بِنُزُلِ الْكَرَامَةِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهُ النَّاسِ إِلَى تَدَارُكِ شَأْنِهِمْ قَبْلَ الْفَوَاتِ. فَالْمَقْصُودُ: التَّحْذِيرُ مِمَّا يُفْضِي إِلَى سُوءِ الْمَصِيرِ.
وَاللَّامُ الْجَارَّةُ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ مُعَدِّيَةٌ فِعْلَ بَرَزُوا إِلَى الْمَجْرُورِ. يُقَالُ: بَرَزَ لِفُلَانٍ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ، أَيْ حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: ظَهَرَ لَهُ.
وَالضُّعَفَاءُ: عَوَامُّ النَّاسِ وَالْأَتْبَاعُ. وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: السَّادَةُ، لِأَنَّهُمْ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْعُمُومِ وَكَانَ التَّكَبُّرُ شِعَارَ السَّادَةِ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِبْرِ. وَالتَّبَعُ: اسْمُ جَمْعٍ التَّابِعُ مِثْلُ الْخَدَمِ وَالْخَوَلِ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ يَقْتَضِي الشَّفَاعَةَ لَهُمْ.
وَمُوجِبُ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا أَنَّ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ كَوْنُ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُغْنُونَ عَنْهُمْ لَا أَصْلُ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ آيِسُونَ مِنْهُ لَمَّا رَأَوْا آثَارَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَادَتِهِمْ. كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ، فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غَرُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التورّك والتوبيخ والتبكيت، أَيْ فَأَظْهِرُوا مَكَانَتَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا وَتَغُرُّونَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَإِيلَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَبَيَّنَهُ مَا فِي نَظِيرِهِ مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ [٤٧، ٤٨] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ اللَّهِ بَدَلِيَّةٌ، أَيْ غَنَاءً بَدَلًا عَنْ عَذَابِ اللَّهِ..
عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ جُحُودُ النِّعْمَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [سُورَة العنكبوت: ١٧]. وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ فِي يَجْحَدُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّحْتِيَّةِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَنُكْتَتُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانُوا مَوْضِعَ التَّوْبِيخِ نَاسَبَ أَنْ يُعَرِّضَ عَنْ خِطَابِهِمْ وَيَنَالَهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْبِيخِ بِالتَّعْرِيضِ كَقَوْلِ:
أَبَى لَكَ كَسْبَ الْحَمْدِ رَأْيٌ مُقَصِّرٌ | وَنَفْسٌ أَضَاقَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ بَاعَهَا |
إِذَا هِيَ حَثَّتْهُ عَلَى الْخَيْرِ مَرَّةً | عَصَاهَا وَإِنْ هَمَّتْ بِشَرٍّ أَطَاعَهَا |
وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَرُوَيْسٍ عَن يَعْقُوب تجحدون بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَيَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّحْذِيرِ.
وَتَصْلُحُ جُمْلَةُ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أَنْ تَكُونَ مُفَرَّعَةً عَلَى جُمْلَةِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ، فَيَكُونُ التَّوْبِيخُ مُتَوَجِّهًا إِلَى فَرِيقٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ فُضِّلُوا بِالرِّزْقِ وَهُمْ أُولُو السِّعَةِ مِنْهُمْ وَسَادَتُهُمْ وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ كُفْرًا بِالدِّينِ وَتَأَلُّبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ أَيَجْحَدُ الَّذِينَ فُضِّلُوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِذْ أَفَاضَ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ فَيَكُونُوا أَشَدَّ إِشْرَاكًا بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [سُورَة المزمل: ١١].
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَجْحَدُونَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالتَّحْتِيَّةِ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى خِطَابِهِمْ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ بِالْخِطَابِ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي نُفُوسِهِمْ.
فِي الْمُصْحَفِ تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا رَسَمَهُ الصَّحَابَةُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ. وَالْبَاقُونَ حَذَفُوا الْيَاءَ فِي النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ إِلَّا أَنَّ الْفُصَحَاءَ يُجْرُونَ الْفَوَاصِلَ مَجْرَى الْقَوَافِي، وَاعْتَبَرُوا الْفَاصِلَةَ كل جملَة ثمَّ بِهَا الْكَلَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَمْثِيلُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابَةِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفجْر: ٤] وَقَوْلِهِ: قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الْكَهْف: ٦٤]. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٩].
وَالْخِطَابُ فِي فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ، فَنَفْيُ وُجْدَانِ الْأَوْلِيَاءِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْيِ وُجُودِ الْأَوْلِيَاءِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ لَوَجَدَهُمْ هُوَ وَعَرَفَهُمْ.
وَالْأَوْلِيَاءُ: الْأَنْصَارُ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَنْصَارًا يُخَلِّصُونَهُمْ مِنْ جَزَاءِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْعَذَابُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ بِمَعْنَى مُتَوَلِّي شَأْنِهِمْ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ مَنْ يُصْلِحُ حَالَهُمْ فَيَنْقُلُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَة: ٢٥٧].
وَجَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلِيًّا وَلَا لِجَمَاعَتِهِ وَلِيًّا، كَمَا يُقَالُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ.
ومِنْ دُونِهِ أَيْ غَيْرِهِ.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذَكَرَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الْوَلِيّ أَو المئال لَهُ بِذِكْرِ صُورَةِ عِقَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ الْآيَةَ.
وَ (إِذْ) ظَرْفٌ لِلْمِنَّةِ.
وَالْوَحْيُ، هُنَا: وَحْيُ الْإِلْهَامِ الصَّادِقِ. وَهُوَ إِيقَاعُ مَعْنًى فِي النَّفْسِ يَنْثَلِجُ لَهُ نَفْسُ الْمُلْقَى إِلَيْهِ بِحَيْثُ يَجْزِمُ بِنَجَاحِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ الَّتِي يُقْذَفُ فِي نَفْسِ الرَّائِي أَنَّهَا صِدْقٌ.
وَمَا يُوحى مَوْصُولٌ مُفِيدٌ أَهَمِّيَّةَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهَا. وَمُفِيدٌ تَأْكِيدَ كَوْنِهِ إِلْهَامًا مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ.
وأَنِ تَفْسِيرٌ لِفِعْلِ أَوْحَيْنا لِأَنَّهُ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَو تَفْسِير ليوحى.
وَالْقَذْفُ: أَصْلُهُ الرَّمْيِ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْوَضْعِ فِي التَّابُوتِ، تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُخْفِي عَمَلَهُ، فَهُوَ يُسْرِعُ وَضْعَهُ مِنْ يَدِهِ كَهَيْئَةِ مَنْ يَقْذِفُ حَجَرًا وَنَحْوَهُ.
وَالتَّابُوتُ: الصُّنْدُوقُ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٨].
وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَهْرُ النِّيلِ.
وَالسَّاحِلُ: الشَّاطِئُ، وَلَامُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فَلْيُلْقِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ التَّكْوِينِ، أَيْ سَخَّرْنَا الْيَمَّ لِأَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ، وَلَا يَبْتَعِدَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَالْمُرَادُ سَاحِلٌ مَعْهُودٌ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْصُدُهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِلسِّبَاحَةِ.
وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ الْمَنْصُوبَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مُوسَى لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي ذِهْنِ أُمِّهِ الْمُوحَى إِلَيْهَا، وَقَذْفُهُ فِي التَّابُوتِ وَفِي الْيَمِّ وَإِلْقَاؤُهُ فِي السَّاحِلِ كُلُّهَا أَفْعَالٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِضَمِيرِهِ،
فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا فِيهِ ضَرٌّ. فَمَوْضِعُ الِارْتِقَاءِ هُوَ مَضْمُونُ جُمْلَةِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الْحَج: ١٢] كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا لَا يَضُرُّهُ بَلْ مَا يَنْجَرُّ لَهُ مِنْهُ ضَرٌّ. وَذَلِكَ أَنَّ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ تَضُرُّهُ فِي الدُّنْيَا بِالتَّوَجُّهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهَا فَيَضِيعُ زَمَنُهُ فِي تَطَلُّبِ مَا لَا يَحْصُلُ وَتَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ بِالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ.
وَلَمَّا كَانَ الضُّرُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْأَصْنَامِ لَيْسَ ضُرًّا نَاشِئًا عَنْ فِعْلِهَا بَلْ هُوَ ضُرٌّ مَلَابِسٌ لَهَا أَثْبَتَ الضَّرَّ بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ لِلضَّمِيرِ دُونَ طَرِيقِ الْإِسْنَادِ إِذْ قَالَ تَعَالَى: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَلَمْ يَقُلْ: لَمَنْ يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ أَوْسَعُ مِنَ الْإِسْنَادِ فَلَمْ يَحْصُلْ تَنَافٍ بَيْنَ قَوْلِهِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الْحَج: ١٢] وَقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.
وَكَوْنُهُ أَقْرَبَ مِنَ النَّفْعِ كِنَايَةٌ عَنْ تَمَحُّضِهِ لِلضَّرِّ وَانْتِفَاءِ النَّفْعِ مِنْهُ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْأَقْرَبَ حَاصِلٌ قَبْلَ الْبَعِيدِ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ مَعَهُ إِلَّا الضُّرُّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَمَنْ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَهِيَ تُفِيدُ تَأْكِيدَ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهَا، فَلَامُ الِابْتِدَاءِ تُفِيدُ مُفَادَ (إِنَّ) مِنَ التَّأْكِيدِ.
وَقُدِّمَتْ مِنْ تَأْخِيرٍ إِذْ حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى صِلَةٍ (مِنَ الْمَوْصُولَةِ. وَالْأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ).
وَيَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ اللَّامُ دَاخِلَةً عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ وَيكون فعل يَدْعُوا مُعَلَّقًا عَنِ الْعَمَلِ لِدُخُولِ لَامِ الِابْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى الْحَقِّ مِنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِ التَّعْلِيقِ بِأَفْعَالِ الْقُلُوبِ.
وَجُمْلَةُ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنْشَاءُ ذَمٍّ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي يَدْعُونَهَا بِأَنَّهَا شَرُّ الْمَوَالِي وَشَرُّ الْعُشَرَاءِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَوْلَى جَلْبُ النَّفْعِ لِمَوْلَاهُ، وَشَأْنَ الْعَشِيرِ جَلْبُ الْخَيْرِ لِعَشِيرِهِ فَإِذَا تَخَلَّفَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَادِرًا كَانَ مَذَمَّةً وَغَضَاضَةً، فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ مُطَّرِدًا فَذَلِكَ شَرّ الموَالِي.
لِلتَّخَلُّصِ مِنْ ثِقَلِ الْيَاءِ بَعْدَ حَرْفِ الْمَدِّ، وَفُتِحَتِ الْمِيمُ لِلتَّخْفِيفِ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلِفًا. وَعِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ: وَزْنُهُ فَعَالَى عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ.
والْأَيامى صِيغَةُ عُمُومٍ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فَتَشْمَلُ الْبَغَايَا. أُمِرَ أَوْلِيَاؤُهُنَّ بِتَزْوِيجِهِنَّ فَكَانَ هَذَا الْعُمُومُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النُّور: ٣] فَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِلْآيَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الَّتِي قبلهَا محكمَة عَن غَيْرِ مُعَيَّنٍ. وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ امْرَأَةً مِنْ رَجُلٍ زَنَى بِهَا لَمَّا شَكَاهُ أَبُوهَا.
وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ فِي قَوْلِهِ مِنْكُمْ أَنَّهُنَّ مِنَ الْمُسَلَّمَاتِ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسَلَّمَاتِ لَا يَخْلُونَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَكُنَّ أَزْوَاجًا لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا عَلَاقَةَ لِلْآيَةِ بِهِنَّ، أَوْ أَنْ يَكُنَّ مَمْلُوكَاتٍ فَهُنَّ دَاخِلَاتٌ فِي قَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْآتِيَةِ فِي مَعْنَى الصَّالِحِينَ وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَوِلَايَتُهُنَّ لِأَهْلِ مِلَّتِهِنَّ.
وَالْمَقْصُودُ: الْأَيَامَى الْحَرَائِرُ، خَصَّصَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. وَظَاهِرُ وَصْفِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالصَّالِحِينَ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّصَافُهُمْ بِالصَّلَاحِ الدِّينِيِّ.
أَيِ الْأَتْقِيَاءُ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحْمِلُكُمْ تَحَقُّقُ صَلَاحِهِمْ عَلَى إِهْمَالِ إِنْكَاحِهِمْ لِأَنَّكُمْ آمِنُونَ مِنْ وُقُوعِهِمْ فِي الزِّنَى بَلْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُزَوِّجُوهُمْ رِفْقًا بِهِمْ وَدَفْعًا لِمَشَقَّةِ الْعَنَتِ عَنْهُمْ.
فَيُفِيدُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا صَالِحِينَ كَانَ تَزْوِيجُهُمْ آكَدَ أَمْرًا. وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى فَيَشْمَلُ غَيْرَ الصَّالِحِينَ غَيْرَ الْإِعْفَاءِ وَالْعَفَائِفِ مِنَ الْمَمَالِيكِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَشْمَلُ الْمَمَالِيكَ غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ. وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَنْقَشِعُ الْحَيْرَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْوَصْفِ. وَقِيلَ أُرِيدَ بِالصَّالِحِينَ الصَّلَاحُ لِلتَّزَوُّجِ بِمَعْنى اللياقة لشؤون الزَّوْجِ، أَيْ إِذَا كَانُوا مَظِنَّةَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ.
وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ هَدًى لِمَنْ يُيَسِّرُ اللَّهُ الِاهْتِدَاءَ بِهِ دُونَ مَنْ جَحَدُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالتَّحَدِّي بِعِلْمِ مَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَالِاعْتِبَارُ بِمُلْكِ أَعْظَمِ مُلْكٍ أُوتِيَهُ نَبِيءٌ. وَهُوَ مُلْكُ دَاوُدَ وَمُلْكُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَمَا بَلَغَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِ الطَّيْرِ، وَمَا بَلَغَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ مِنْ عَظَمَةِ الْحَضَارَةِ.
وَأَشْهَرُ أُمَّةٍ فِي الْعَرَبِ أُوتِيَتْ قُوَّةً وَهِيَ أُمَّةُ ثَمُودَ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مُلْكٍ عَظِيمٍ مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ مُلْكُ سَبَأٍ. وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نُبُوءَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِسَالَةٌ تُقَارِنُهَا سِيَاسَةُ الْأُمَّةِ ثُمَّ يَعْقُبُهَا مُلْكٌ، وَهُوَ خِلَافَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ سَيُقَامُ بِهَا مُلْكٌ لِلْأُمَّةِ عَتِيدٌ كَمَا أُقِيمَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ.
وَمُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي بُطْلَانِ دِينِهِمْ وَتَزْيِيفِ آلِهَتِهِمْ وَإِبْطَالِ أَخْبَارِ كُهَّانِهِمْ وَعَرَّافِيهِمْ، وَسَدَنَةِ آلِهَتِهِمْ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَمَا يَتَقَدَّمُهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَشْرَاطِهَا.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ مُهَيْمِنٌ عَلَى الْكُتُبِ السَّابِقَةِ. ثُمَّ مُوَادَعَةُ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْبَاؤُهُمْ بِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَإِنْذَارُهُمْ بِأَنَّ آيَاتِ الصِّدْقِ سَيُشَاهِدُونَهَا وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: لَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ. وَنَفْيُهُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِحْكَامٌ وَلَا نَسْخٌ مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَشْتَمِلْ عَلَى تَشْرِيعٍ قَارٍّ وَلَا عَلَى تَشْرِيعٍ مَنْسُوخٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [النَّمْل: ٩١، ٩٢] الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ اه، يَعْنِي الْآيَةَ النَّازِلَةَ بِالْقِتَالِ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ. وَتُسَمَّى آيَةَ السَّيْفِ، وَالْقُرْطُبِيُّ مُعَاصِرٌ لِابْنِ الْفَرَسِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ وَابْنُ الْفَرَسِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَقَوْلُهُ: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [النَّمْل: ٢١] وَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا حُكْمَانِ كَمَا سَيَأْتِي.
[١]
[سُورَة النَّمْل (٢٧) : آيَة ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. فَهَؤُلَاءِ اسْتَنْزَلَهُمُ الشَّيْطَانُ فَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ بِقُلُوبِهِمْ لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَكَانَ مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْأَذَى سَبَبًا
لِارْتِدَادِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ جَعَلُوا يُظْهِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ مَعَهم. وَلَعَلَّ هَذَا التَّظَاهُرَ كَانَ بِتَمَالُؤٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ فَرَضُوا مِنْهُمْ بِأَنْ يَخْتَلِطُوا بِالْمُسْلِمِينَ لِيَأْتُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ: فَعَدَّهُمُ اللَّهُ مُنَافِقِينَ وَتَوَعَّدَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَى أَنَّ إِيمَانَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَرْسَخْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْفَرِيقَ مُعَذَّبُونَ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَأَوْمَأَ قَوْلُهُ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: ١١] إِلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الْكُفْرَ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النَّحْل: ١٠٦]، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْفَرِيقِ الَّذِينَ اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النَّحْل: ١٠٦]. فَلَيْسَ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَاتِ أَوَاخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ اخْتِلَافٌ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ سُكُوتِ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ ذِكْرِهِمُ الْأَحْكَامَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنْ آيَاتِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ أُوذِيَ فِي اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ، أَيْ أُوذِيَ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِ مَا دَعَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ يُرِيدُ جَعْلَهَا مُسَاوِيَةً لِعَذَابِ اللَّهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوا الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَمَعْنَى هَذَا الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ فَتَوَقَّوْا فِتْنَةَ النَّاسِ وَأَهْمَلُوا جَانِبَ عَذَابِ اللَّهِ فَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِهِ إِعْمَالًا لِمَا هُوَ عَاجِلٌ وَنَبْذًا لِلْآجِلِ وَكَانَ الْأَحَقُّ بِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا عَذَابَ اللَّهِ أَعْظَمَ مِنْ أَذَى النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا نَبَذُوا اعْتِقَادَ الْبَعْثِ تَبَعًا لِنَبْذِهِمُ الْإِيمَانَ، فَمَعْنَى الْجَعْلِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كَعَذَابِ اللَّهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْجَزَاءِ.
فَالْخَبَرُ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ كَعَذابِ اللَّهِ مُكَنًّى بِهِ عَنِ الذَّمِّ وَالِاسْتِحْمَاقِ عَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الذَّمُّ مُتَفَاوِتًا.
وَتَخَلَّصَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ الْعَامِّ إِلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ فِي خِلْقَةِ الْإِنْسَانِ دَقَائِقُ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَأَعْظَمُهَا الْعَقْلُ.
والْإِنْسانِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، وَبَدْءُ خَلْقِهِ هُوَ خَلْقُ أَصْلِهِ آدَمَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْأَعْرَاف: ١١]، أَيْ: خَلَقْنَا أَبَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هُنَا قَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ فَإِن ذَلِك بدىء مِنْ أَوَّلِ نَسْلٍ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ آدَمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ طِينٍ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالنَّسْلُ: الْأَبْنَاءُ وَالذُّرِّيَّةُ. سُمِّيَ نَسْلًا لِأَنَّهُ يَنْسَلُّ، أَيْ: يَنْفَصِلُ مِنْ أَصْلِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ نَسَلَ الصُّوفُ وَالْوَبَرُ إِذَا سَقَطَ عَنْ جِلْدِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ مِنْ بَابَيْ كَتَبَ وَضَرَبَ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُلالَةٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَسُمِّيَتِ النُّطْفَةُ الَّتِي يَتَقَوَّمُ مِنْهَا تَكْوِينُ الْجَنِينِ سُلَالَةً كَمَا فِي الْآيَةِ لِأَنَّهَا تَنْفَصِلُ عَنِ الرَّجُلِ، فَقَوْلُهُ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ بَيَانٌ لِ سُلالَةٍ. ومِنْ بَيَانِيَّةٌ فَالسُّلَالَةُ هِيَ الْمَاءُ الْمَهِينُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ وَلَكِنْ فِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ عِلْمِيٌّ لَمْ يُدْرِكْهُ النَّاسُ إِلَّا فِي هَذَا الْعَصْرِ وَهُوَ أَنَّ النُّطْفَةَ يَتَوَقَّفُ تَكَوُّنُ الْجَنِينِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَتَكَوَّنُ مِنْ ذَرَّاتٍ فِيهَا تَخْتَلِطُ مَعَ سُلَالَةٍ مِنَ الْمَرْأَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَذْهَبُ فَضْلُهُ، فَالسُّلَالَةُ الَّتِي تَنْفَرِزُ مِنَ الْمَاءِ الْمَهِينِ هِيَ النَّسْلُ لَا جَمِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ، فَتَكُونُ مِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِلِابْتِدَاءِ.
وَالْمَهِينُ: الشَّيْءُ الْمُمْتَهَنُ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَالْغَرَضُ مِنْ إِجْرَاءِ هَذَا الْوَصْفِ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِنِظَامِ التَّكْوِينِ إِذْ جَعَلَ اللَّهُ تَكْوِينَ هَذَا الْجِنْسِ الْمُكْتَمِلِ التَّرْكِيبِ الْعَجِيبِ الْآثَارِ مِنْ نَوْعِ مَاءٍ مِهْرَاقٍ لَا يُعْبَأُ بِهِ وَلَا يُصَانُ.
وَالتَّسْوِيَةُ: التَّقْوِيمُ، قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التِّين: ٤].
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي سَوَّاهُ عَائِدٌ إِلَى نَسْلَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ بِ ثُمَّ وَإِنْ كَانَ آدَمُ قَدْ سُوِّيَ وَنُفِخَ فِيهِ مِنَ الرُّوحِ، قَالَ تَعَالَى:
الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا مُفْرَدًا فَإِنَّ إِلَّا تُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنَّ) أُخْتِ (إِنَّ) عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ
فَيَنْصِبُونَ مَا بَعْدَهَا عَلَى تَوَهُّمِ اسْمِ (لَكِنَّ) وَتُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنِ) الْمُخَفَّفَةِ الْعَاطِفَةِ عِنْدَ بَنِي تَمِيمٍ فَيَتْبَعُ الِاسْمُ الَّذِي بَعْدَهَا إِعْرَابَ الِاسْمِ الَّذِي قَبْلَهَا وَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابٍ يَخْتَارُ فِيهِ النَّصْبَ مِنْ أَبْوَابِ الِاسْتِثْنَاءِ (١).
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَا بَعْدَ إِلَّا جُمْلَةً اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً فَإِنَّ إِلَّا تُقَدَّرُ بِمَعْنَى (لَكِنِ) الْمُخَفَّفَةِ وَتُجْعَلُ الْجُمْلَةُ بَعْدُ اسْتِئْنَافًا، وَذَلِكَ فِي نَحْو قَوْلِ الْعَرَبِ: «وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلَّا حِلُّ ذَلِكَ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا» قَالَ سِيبَوَيْهِ: «فَإِنَّ: أَنْ أَفْعَلَ كَذَا، بِمَنْزِلَةِ: إِلَّا فِعْلَ كَذَا، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِلٍّ (أَيْ هُوَ خَبَرٌ لَهُ). وَحِلُّ مُبْتَدَأٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَكِنَّ حِلُّ ذَلِكَ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا» اهـ (٢).
قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «شَرْحِ التَّسْهِيلِ» : وَتَقْرِيرُ الْإِخْرَاجِ فِي هَذَا أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُمْ: إِلَّا حِلُّ ذَلِكَ، بِمَنْزِلَةِ: لَا أَرَى لِهَذَا الْعَقْدِ مُبْطِلًا إِلَّا فِعْلُ كَذَا. وَجَعَلَ ابْنُ خَرُوفٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ [الغاشية: ٢٢- ٢٤] عَلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ مُبْتَدأ و «يعذبه اللَّهُ» الْخَبَرَ وَدَخَلَ الْفَاءُ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الْجَزَاء. وَقَالَ أَبُو يسعود: إِنَّ إِلَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ، فَيَكُونُ مَنْ مُبْتَدَأً مُضَمَّنًا مَعْنَى الشَّرْطِ ولَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ جُمْلَةَ خَبَرٍ عَنِ الْمُبْتَدَأِ وَزِيدَتِ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضْمِينِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ.
وَأَسْهَلُ مِنْ هَذَا أَنْ نَجْعَلَ مَنْ شَرْطِيَّةً وَجُمْلَةَ فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ جَوَابَ الشَّرْطِ، وَاقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ. وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَتَفْسِيرٌ لِلْآيَةِ بِدُونِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَرَدُّدَ فِي النَّظْمِ.
_________
(١) انْظُر الْجُزْء الأول ص ٣١٩ طبع باريس.
(٢) نفس الْمصدر والجزء ص ٣٢٦.
يَصْطَفِيهِ وَلَيْسَ الِاخْتِيَارُ لَهُمْ فَيَجْعَلُوا مَنْ لَمْ يُقَدِّمُوهُ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ غَيْرَ أَهْلٍ لِأَنْ يَخْتَارَهُ اللَّهُ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّهُ مَنَاطُ الْإِنْكَارِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢].
وَالْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ. وَهِيَ الْبَيْتُ الَّذِي يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ أَوِ الطَّعَامُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى صُنْدُوقٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَدِيدٍ يُخَزَّنُ فِيهِ الْمَالُ.
وَالْخَزْنُ: الْحِفْظُ وَالْحِرْزُ. وَالرَّحْمَةُ: مَا بِهِ رِفْقٌ بِالْغَيْرِ وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، شُبِّهَتْ رَحْمَةُ اللَّهِ بِالشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمَخْزُونِ الَّذِي تَطْمَحُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ فِي أَنَّهُ لَا يُعْطَى إِلَّا بِمَشِيئَةِ خَازِنِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ. وَإِثْبَاتُ الْخَزَائِنِ: تَخْيِيلٌ مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمُنْيَةِ،
وَالْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ. وَالْعُدُولُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى وَصْفٍ لِأَنَّ لَهُ مَزِيدَ مُنَاسَبَةٍ لِلْغَرَضِ الَّذِي الْكَلَامُ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تَشْرِيفَهُ إِيَّاهُ بِالنُّبُوءَةِ مِنْ آثَارِ صِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ لَهُ لِأَنَّ وَصْفَ الرَّبِّ مُؤْذِنٌ بِالْعِنَايَةِ وَالْإِبْلَاغِ إِلَى الْكَمَالِ. وَأُجْرِيَ عَلَى الرَّبِّ صِفَةُ الْعَزِيزِ لِإِبْطَالِ تَدَخُّلِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، وَصِفَةُ الْوَهَّابِ لِإِبْطَالِ جَعْلِهِمُ الْحِرْمَانَ مِنَ الْخَيْرِ تَابِعًا لِرَغَبَاتِهِمْ دُونَ مَوَادَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
والْعَزِيزِ: الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، والْوَهَّابِ: الْكَثِيرُ الْمَوَاهِبِ فَإِنَّ النُّبُوءَةَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ فَلَا يُخَوَّلُ إِعْطَاؤُهَا إِلَّا لِشَدِيدِ الْعِزَّةِ وافر الموهبة.
[١٠]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ١٠]
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى رَدٍّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ مَزَاعِمِهِمْ وَيَشْمَلُ بِإِجْمَالِهِ جَمِيعَ النُّقُوضِ التَّفْصِيلِيَّةِ لِمَزَاعِمِهِمْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ كَالْحَوْصَلَةِ فَيُشْبِهُ التَّذْيِيلَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ عُمُومِ الْمُلْكِ وَعُمُومِ الْأَمَاكِنِ الْمُقْتَضِي عُمُومَ الْعِلْمِ وَعُمُومَ التَّصَرُّفِ يُنْعَى عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ فِي الْمُغَيَّبَاتِ بِلَا عِلْمٍ وَتَحَكُّمُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْمَوْجُودَاتِ بِدُونِ قُدْرَةٍ وَلَا غِنًى.
قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ مِثْلَ الِانْتِفَاعِ بِأَوْبَارِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَثْمَانِهَا وَأَعْوَاضِهَا فِي الدِّيَاتِ وَالْمُهُورِ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا بِاتِّخَاذِهَا قِبَابًا وَغَيْرَهَا وَبِالْجُلُوسِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجَمَالِ مَرْآهَا فِي الْعُيُونِ فِي الْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالْمَنَافِعُ شَامِلَةٌ لِلرُّكُوبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوا مِنْها، فَذِكْرُ الْمَنَافِعِ بَعْدَ لِتَرْكَبُوا مِنْها تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] بَعْدَ قَوْلِهِ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: ١٨]، فَذَكَرَ هُنَا الشَّائِعَ الْمَطْرُوقَ عِنْدَهُمْ ثُمَّ ذَكَر مَثِيلَهُ فِي الشُّيُوعِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى عُمُومِ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ خَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ الْأَسْفَارَ، فَإِنَّ اشْتِدَادَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ فِيهَا تَجْعَلُ الِانْتِفَاعَ بِرُكُوبِهَا لِلسَّفَرِ فِي مَحَلِّ الِاهْتِمَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي أَجْزَاءِ الْأَنْعَامِ جِيءَ فِي مُتَعَلِّقِهَا بِحَرْفِ (فِي) دُونَ (مِنْ) لِأَنَّ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَشْمَلُ كُلَّ مَا يُعَدُّ كَالشَّيْءِ الْمُحَوِّي فِي الْأَنْعَامِ، كَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَذْكُرُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ قَرِيبٍ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا | وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ |
وَالصُّدُورُ أُطْلِقَ عَلَى الْعُقُولِ اتِّبَاعًا لِلْمُتَعَارَفِ الشَّائِعِ كَمَا يُطْلَقُ الْقُلُوبُ عَلَى الْعُقُولِ.
وَأَعْقَبَ الِامْتِنَانَ بِالْأَنْعَامِ بِالِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ فَقَالَ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَنْعَامِ، إِلَى الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الرُّكُوبِ فِي الْفُلْكِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ:
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعَلَيْها فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهُ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْوَاوِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ تَكْرِيرًا لِلْمِنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَشْمَلُ حَمْلَ الْأَثْقَالِ عَلَى الْإِبِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٧] فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْحَمْلِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.
لَنْ يُخْلِصَ الْعَامَ خَلِيلٌ عَشْرَا | ذَاقَ الضِّمَادَ أَوْ يَزُورَ الْقَبْرَا |
[٤٠]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٠]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً [الزخرف: ٣٦] لِأَنَّ ذَلِكَ أَفَادَ تَوَغُّلَهُمْ فِي الضَّلَالَةِ وَعُسْرَ انْفِكَاكِهِمْ عَنْهَا، لِأَنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ تَقْتَضِي ذَلِكَ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى التَّهْوِينِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُلَاقِيهِ مِنَ الْكَدِّ وَالتَّحَرُّقِ عَلَيْهِمْ فِي تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْغَيِّ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَأْيِيسٍ مِنَ اهْتِدَاءِ أَكْثَرِهِمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ حرص الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُمْ نَاجِعًا فِيهِمْ إِذَا كَانَ اللَّهُ قَدَّرَ ضَلَالَهُمْ فَأَوْجَدَ أَسْبَابَهُ، قَالَ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النَّحْل: ٣٧]، وَلَمَّا كَانَ حَال الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُعَاوَدَةِ دَعْوَتِهِمْ كَحَالِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِيصَالِ التَّذْكِيرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ ذَلِكَ فَخُوطِبَ بِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَسُلِّطَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى كَلَامٍ فِيهِ طَرِيقُ قَصْرٍ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ مَعَ إِيلَاءِ الضَّمِيرِ حَرْفَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ قَصْرٌ مُؤَكَّدٌ وَقَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ أَنْتَ لَا تُسْمِعُهُمْ وَلَا تَهْدِيهِمْ بَلِ اللَّهُ يُسْمِعُهُمْ وَيَهْدِيهِمْ إِنْ شَاءَ، وَهُوَ نَظِيرُ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يُونُس:
٩٩].
وَمِنْ بَدِيعِ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ حَالَ إِعْرَاضِهِمْ عَن الذّكر بالعشا، وَهُوَ النَّظَرُ الَّذِي لَا يَتَبَيَّنُ شَبَحَ الشَّيْءِ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ ثُمَّ وَصَفَهُمْ هُنَا بِالصُّمِّ الْعُمْيِ إِشَارَةً أَنَّ التَّمَحُّلَ لِلضَّلَالِ وَمُحَاوَلَةَ تَأْيِيدِهِ يَنْقَلِبُ بِصَاحِبِهِ إِلَى أَشَدِّ الضَّلَالِ لَا أَنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ وَالْأَحْوَالُ تَنْقَلِبُ مَلَكَاتٍ. وَهُوَ مَعْنَى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»
أَيْ حَتَّى يَحِقَّ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَذِبَ مَلَكَةٌ لَهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ إِعْرَاضُهُمُ انْصِرَافًا عَنِ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَعَنِ النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ كَانَ حَالُهُمْ يُشْبِهُ حَالَ الصُّمِّ الْعُمْيِ كَمَا مَهَّدَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦]
وَيُقَالُ: قَدَّمَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ كَأَنَّهُ قَدَّمَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُضَاعَفٌ صَارَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ. فَمَعْنَى لَا تُقَدِّمُوا لَا تَتَقَدَّمُوا.
فَفِعْلُ لَا تُقَدِّمُوا مُضَارِعُ قَدَّمَ الْقَاصِرَ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِهَذَا الْفِعْلِ مَفْعُولٌ، وَمِنْهُ اشْتُقَّتْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ لِلْجَمَاعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْهُ وَهِيَ ضِدُّ السَّاقَّةِ. وَمِنْهُ سُمِّيَتْ مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ الطَّائِفَةَ مِنْهُ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْكِتَابِ. وَمَادَّةُ فَعَّلَ تَجِيءُ بِمَعْنَى تَفَعَّلَ مِثْلَ وَجَّهَ بِمَعْنَى تَوَجَّهَ وَبَيَّنَ بِمَعْنَى تَبَيَّنَ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ.
وَالتَّرْكِيبُ تَمْثِيلٌ بِتَشْبِيهِ حَالِ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا دُونَ إِذْنٍ مِنَ الله وَرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ يَتَقَدَّمُ مُمَاشِيَهُ فِي مَشْيِهِ وَيَتْرُكُهُ خَلْفَهُ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ الِانْفِرَادُ عَنْهُ فِي الطَّرِيقِ. وَالنَّهْيُ هُنَا لِلتَّحْذِيرِ إِذْ لَمْ يَسْبِقْ صُدُورُ فِعْلٍ من أحد افتياتا عَلَى الشَّرْعِ.
وَيَسْتَرْوِحُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذَا التَّقَدُّمَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ مَا كَانَ فِي حَالَةِ إِمْكَانِ التَّرَقُّبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنِ انْتِظَارِ مَا يبرمه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْر الله فيومىء إِلَى أَنَّ إِبْرَامَ الْأَمْرِ فِي غيبَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَرَجَ فِيهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُقْدِمُ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ. وَعَدَّ الْغَزَالِيُّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ قِسْمِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ عَلَى
الْأَعْيَانِ الَّذِينَ تُعْرَضُ لَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ إِبْرَامِ شَيْءٍ دُونَ إِذْنٍ مِنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَ قَبْلَهُ اسْمُ اللَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ إِنَّمَا يُعْرَفُ مِنْ قبل الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُقَدِّمُوا إِلَخْ مَعْنَى اتَّبِعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» فِي قِصَّةِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ عَلَيْهِمُ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ. وَقَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي أَوْ إِلَى خِلَافِي قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِهَانَةِ وَالْمُجَازَاةِ.
وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِصَابَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
وَسَقَرُ: عَلَمٌ عَلَى جَهَنَّمَ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّقَرِ بِسُكُونِ القَّافِ وَهُوَ الْتِهَابٌ فِي النَّارِ، فَ سَقَرَ وُضِعَ عَلَمًا لِجَهَنَّمَ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ مَعْنًى اعْتَبَرُوا فِيهِ أَنَّ مُسَمَّاهُ نَارٌ وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ.
وَالْآيَةُ تَتَحَمَّلُ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالضَّلَالِ ضِدُّ الْهُدَى وَأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى هُدًى، وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ، وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يُرَادَ بِالسُّعُرِ نِيرَانُ جَهَنَّمَ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَيَكُونَ الكَّلَامُ عَلَى التَّقْسِيمِ.
أَوْ يَكُونَ السُّعُرُ بِمَعْنَى الْجُنُونِ، يُقَالُ: سُعُرٌ بِضَمَّتَيْنِ وَسُعُرٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ، أَيْ جُنُونٌ، مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ، أَيْ شَدِيدَةُ السُّرْعَةِ كَأَنَّ بِهَا جُنُونًا كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٢٤].
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفَسَّرَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ قَائِلًا: لِأَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا فِي السَّعِيرِ لَمْ يَكُونُوا فِي ضَلَالٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدْ كُشِفَ لَهُمْ وَإِنَّمَا وَصَفَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَلَيْهِ فَالضَّلَالُ وَالسُّعُرُ حَاصِلَانِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
[٤٩]
[سُورَة الْقَمَر (٥٤) : آيَة ٤٩]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩)
اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْوَعِيدِ وَالْإِنْذَارِ وَالْاِعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَهُوَ أَيْضًا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ [الْقَمَر: ٥٠] إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّا خَلَقْنَا وَفَعَلْنَا كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَفْعَال وأسبابها وآلالتها وَسَلَّطْنَاهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ لِأَنَّا خَلَقَنَا كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، أَيْ فَإِذَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَانْتَبَهُوا إِلَى أَنَّ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ وَالْإِصْرَارِ مُمَاثِلٌ لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ.
وَاقْتِرَانُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) يُقَالُ فِيهِ مَا قُلْنَاهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [الْقَمَر: ٤٧].
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا لَمَّا كَانَ بَاطِلًا بِالدَّلَائِلِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يُفْرَضُ وُقُوعُهُ كَمَا يُفْرَضُ الْمُسْتَبْعَدُ وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَاقِعًا عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَوْبِيخًا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي زَعْمِكُمْ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. وَهَذَا إِلْجَاءٌ لَهُمْ حَتَّى يَلْزَمَهُمْ ثُبُوتُ شَكِّهِمْ فِيمَا زَعَمُوهُ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَتَمَنَّوُا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ: كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْذِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَوَجْهُ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ أَنَّ الْمَوْتَ رُجُوعُ الْإِنْسَانِ بِرُوحِهِ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ تَظْهَرُ فِيهَا آثَار رضى اللَّهِ عَنِ الْعَبْدِ أَوْ غَضَبِهِ لِيَجْزِيَهُ عَلَى حَسَبِ فِعْلِهِ.
وَالنَّتِيجَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ تُحَصِّلُ أَنَّهُمْ مِثْلُ جَمِيعِ النَّاسِ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآثَارِهِمَا، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِهِمَا، فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنَ النَّاسِ. وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [الْمَائِدَة: ١٨].
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَدْ يَعْرِضُ لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ. وَمَا
رُوِيَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ فَقَالَ لَهَا لَيْسَ ذَلِكَ»
الْحَدِيثَ. وَمَا
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ» إِلَى قَوْلِهِ: «قَالَ مُوسَى فَالْآنَ»
. ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْفَوْزَ مَضْمُونٌ لَهُمْ كَمَا تَوَهَّمَ الْيَهُودُ.
فَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ حِكَايَةً عَنْ حَالِ الْيَهُودِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَئِذٍ، وَهُمْ عَامَّةٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الْأَوْقَامُ وَالْغُرُورُ بَعْدَ انْقِرَاضِ عُلَمَائِهِمْ، فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ قَوْمٍ، وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فَوَصَفٌ لِأَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ وَأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ فَلَا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
٧٢- سُورَةُ الْجِنِّسُمِّيَتْ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا وَمِنْهَا الْكُوفِيُّ الْمَكْتُوبُ بِالْقَيْرَوَانَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ «سُورَةُ الْجِنِّ». وَكَذَلِكَ تَرْجَمَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ»، وَتَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ «سُورَةُ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ».
وَاشْتُهِرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُكَتِّبِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْكَتَاتِيبِ الْقُرْآنِيَّةِ بِاسْمِ قُلْ أُوحِيَ [الْجِنّ: ١].
وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ وَوَجْهُ التَّسْمِيَتَيْنِ ظَاهِرٌ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَيَظْهَرُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْبَعْثَةِ.
فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ
وَالِاسْتِفْهَامُ مِنْ قَبِيلِ الطَّلَبِ فَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ.
وَالْخِطَابُ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ مُوَجَّهٌ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ بَلْ إِلَى كُلِّ مَنْ يَسْمَعُ ذَلِكَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ.
وثُوِّبَ أُعْطِيَ الثَّوَابَ، يُقَالُ: ثَوَّبَهُ كَمَا يُقَال: أثابه، إِذا أَعْطَاهُ ثَوَابًا.
وَالثَّوَابُ: هُوَ مَا يُجَازَى بِهِ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى فِعْلٍ مَحْمُودٍ وَهُوَ حَقِيقَتُهُ كَمَا فِي «الصِّحَاحِ»، وَهُوَ ظَاهِرُ «الْأَسَاسِ» وَلِذَلِكَ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي جَزَاءِ الشَّرِّ هُنَا اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ.
وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الرَّاغِبُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ إِذْ قَالَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي جَزَاءِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. أَرَادَ إِنَّهُ يُسْتَعَارُ لِجَزَاءِ الشَّرِّ بِكَثْرَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ عَلَاقَةٍ وَقَرِينَةٍ وَهِيَ هُنَا قَوْلُهُ:
الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا | فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا |
قَرَيْنَاكُمْ فَعَجَّلْنَا قِرَاكُمْ | قُبَيْلَ الصُّبْحِ مِرْدَاةً طَحُونًا |
وَمَا كانُوا يَفْعَلُونَ مَوْصُولٌ وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِفِعْلِ ثُوِّبَ إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ أَعْطَى.
وَلَيْسَ الْجَزَاءُ هُوَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بَلْ عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّلَةِ لِمُعَادَلَتِهِ شِدَّةَ جُرْمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُحَسِّنُ بَرَاعَةِ الْمَقْطَعِ لِأَنَّهَا جَامِعٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ.