وَتَعَاقُبُهُمْ فِي الْوِفَادَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِقُرَيْشٍ فِي الْمُعَارَضَةِ مُكْبِرِينَ الْمُتَابِعَةَ لِهَذَا الدِّينِ خَشْيَةَ مَسَبَّةِ بَعْضِهِمْ وَخَاصَّةً قُرَيْشٌ وَمَنْ ظَاهَرَهُمْ، فَلَمَّا غُلِبَتْ قُرَيْشٌ لَمْ يَبْقَ مَا يَصُدُّ بَقِيَّةَ الْعَرَبِ عَنِ الْمَجِيءِ طَائِعِينَ مُعْتَرِفِينَ عَنْ غَيْرِ غَلَبٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَاتَ لِلْمُقَارَعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا ثَبَتَتْ قُرَيْشٌ إِذْ قَدْ كَانَ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ أَهْلُ الْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ مِنْ عرب نجد وطئ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنِ اعْتَزَّ بِهِمُ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا عُرِفَ فِي عَوَائِدِ الْأُمَمِ وَأَخْلَاقِهَا أَنْ تَنْبِذَ قَبَائِلُ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ أَدْيَانًا تَعْتَقِدُ صِحَّتَهَا وَتَجِيءَ جَمِيعَهَا طَائِعًا نَابِذًا دِينَهُ فِي خِلَالِ أَشْهُرٍ مِنْ عَامِ الْوُفُودِ لَمْ يَجْمَعْهُمْ فِيهِ نَادٍ وَلَمْ تَسْرِ بَيْنَهُمْ سُفَرَاءُ وَلَا حَشَرَهُمْ مَجْمَعٌ لَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِهَذَا الِاعْتِرَافِ لَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُ إِلَا صَادٌّ ضَعِيفٌ وَهُوَ الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعْجِزَةٌ بَاقِيَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهَا قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهَا العصور والقرون وَمَا صدقهَا وَاضِحٌ إِذْ لَمْ تَقَعِ الْمُعَارَضَةُ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَلَا مِمَّنْ لَحِقَهُمْ إِلَى الْيَوْمِ.
فَإِنْ قُلْتَ: ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ لِلْعَرَبِ وَبِذَلِكَ ثَبَتَ لَدَيْهِمْ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ وَثَبَتَ لَدَيْهِمْ بِهِ صِدْقُ الرَّسُولِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ فَمَا هِيَ الْمُعْجِزَةُ لِغَيْرِهِمْ؟
قُلْتُ إِنَّ ثُبُوتَ الْإِعْجَازِ لَا يَسْتَلْزِمُ مُسَاوَاةَ النَّاسِ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ فَإِنَّهُ إِذَا أَعْجَزَ الْعَرَبَ
ثَبَتَ أَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لِمَا عَلِمْتَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فَيَكُونُ الْإِعْجَازُ لِلْعَرَبِ بِالْبَدَاهَةِ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ وَالْبُرْهَانِ وَهُمَا طَرِيقَانِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ.
وَبَعْدُ فَإِنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يُدْرِكَ الْإِعْجَازَ كَمَا أَدْرَكَهُ الْعَرَبُ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَشْتَغِلَ بِتَعَلُّمِ اللُّغَةِ وَأَدَبِهَا وَخَصَائِصِهَا حَتَّى يُسَاوِيَ أَوْ يُقَارِبَ الْعَرَبَ فِي ذَوْقِ لُغَتِهِمْ ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي نِسْبَةِ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ بُلَغَائِهِمْ وَلَمْ يَخْلُ عَصْرٌ مِنْ فِئَةٍ اضْطَلَعَتْ بِفَهْمِ الْبَلَاغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَدْرَكَتْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ وَهُمْ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَأَدَبِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي مُقَدِّمَةِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّ لَنَا طَرِيقًا إِلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ غَيْرَ مَا قُلْتَ (أَيْ مِنْ تَوَقُّفِهِ عَلَى عِلْمِ الْبَيَانِ) وَهُوَ عِلْمُنَا بِعَجْزِ الْعَرَبِ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَتَرْكِهِمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ مَعَ تَكْرَارِ التَّحَدِّي عَلَيْهِمْ وَطُولِ التَّقْرِيعِ لَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَجَمِ قِيَامَهَا عَلَى الْعَرَبِ وَمَا اسْتَوَى النَّاسُ فِيهِ قَاطِبَةً فَلَمْ يَخْرُجِ الْجَاهِلُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوجًا بِالْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ خَبِّرْنَا عَمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنِ اخْتِصَاصِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ بَاقِيَةً عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ أَتَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى غَيْرَ أَلَّا يَزَالَ الْبُرْهَانُ مِنْهُ لَائِحًا مُعْرِضًا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ بِهِ وَالْعِلْمُ بِهِ
وَيُسَمُّونَ هَذَا الْإِتْمَامَ بِمَثْنَى الْأَيَادِي كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ، لِأَنَّهُ يَقْصِدُ مِنْهُ تَكْرِيرَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الرِّبْحِ فَالْأَيَادِي بِمَعْنَى النِّعَمِ، وَكَانُوا يُعْطُونَ أَجْرَ الرَّقِيبِ وَالْحُرْضَةِ وَالْجَزَّارِ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ فَأَمَّا أَجْرُ الرَّقِيبِ فَيُعْطَاهُ مِنْ أَوَّلِ الْقِسْمَةِ وَأَفْضَلِ اللَّحْمِ وَيُسَمُّونَهُ بَدْءًا، وَأَمَّا الْحُرْضَةُ فَيُعْطَى لَحْمًا دُونَ ذَلِكَ وَأَمَّا الْجَزَّارُ فَيُعْطَى مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ الْقَسْمِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ نِصْفِ عَظْمٍ وَيُسَمُّونَهُ الرِّيمَ.
وَمَنْ يَحْضُرُ الْمَيْسِرَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَيَاسِرِينَ يُسَمَّوْنَ الْأَعْرَانَ جَمْعَ عَرِنٍ بِوَزْنِ كَتِفٍ وَهُمْ يَحْضُرُونَ طَمَعًا فِي اللَّحْمِ، وَالَّذِي لَا يُحِبُّ الْمَيْسِرَ وَلَا يَحْضُرُهُ لِفَقْرِهِ سُمِّيَ الْبَرِمَ بِالتَّحْرِيكِ.
وَأَصْلُ الْمَقْصِدِ مِنَ الْمَيْسِرِ هُوَ الْمَقْصِدُ مِنِ الْقِمَارِ كُلِّهِ وَهُوَ الرِّبْحُ وَاللَّهْوُ يَدُلُّ لِذَلِكَ تَمَدُّحُهُمْ وَتُفَاخُرُهُمْ بِإِعْطَاءِ رِبْحِ الْمَيْسِرِ لِلْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْإِعْطَاءُ مُطَّرِدًا لِكُلِّ مَنْ يَلْعَبُ الْمَيْسِرَ لَمَا كَانَ تَمَدُّحٌ بِهِ قَالَ الْأَعْشَى:

الْمُطْعِمُو الضَّيْفِ إِذَا مَا شَتَوْا وَالْجَاعِلُو الْقُوتَ عَلَى الْيَاسِرِ
ثُمَّ إِنَّ كِرَامَهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُظْهِرُوا التَّرَفُّعَ عَنِ الطَّمَعِ فِي مَالِ الْقِمَارِ فَصَارُوا يَجْعَلُونَ الرِّبْحَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْيَتَامَى وَمَنْ يُلِمُّ بِسَاحَتِهِمْ مِنْ أَضْيَافِهِمْ وَجِيرَتِهِمْ، قَالَ لَبِيدٌ:
أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطْفِلٍ بُذِلَتْ لِجِيرَانِ الْجَمِيعِ لِحَامُهَا
فَالضَّيْفُ وَالْجَارُ الْجَنِيبُ كَأَنَّمَا هَبَطَا تَبَالَةَ مُخْصِبًا أَهْضَامُهَا
فَصَارَ الْمَيْسِرُ عِنْدَهُمْ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْجُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَبْيَاتِ لَبِيدٍ، وَقَالَ عَنْتَرَةُ كَمَا تَقَدَّمَ:
رَبِذٍ يَدَاهُ بِالْقِدَاحِ إِذَا شَتَا هَتَّاكِ غَايَاتِ التِّجَارِ مُلَوِّحِ
أَيْ خَفِيفِ الْيَدِ فِي الْمَيْسِرِ لِكَثْرَةِ مَا لَعِبَ الْمَيْسِرَ فِي الشِّتَاءِ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ عُمَيْرُ ابْن الْجَعْدِ:
يَسِرٍ إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ وَمُطْعِمٍ لِلَّحْمِ غَيْرِ كُبُنَّةٍ عُلْفُوفِ
الْكُبُنَّةُ بِضَمَّتَيْنِ الْمُنْقَبِضُ الْقَلِيلُ الْمَعْرُوفِ وَالْعُلْفُوفُ كَعُصْفُورٍ الْجَافِي.
فَالْمَنَافِعُ فِي الْمَيْسِرِ خَاصَّةٌ وَعَامَّةٌ وَهِيَ دُنْيَوِيَّةٌ كُلُّهَا، وَالْإِثْمُ الَّذِي فِيهِ هُوَ مَا يُوقِعُهُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَمِنْ إِضَاعَةِ الْوَقْتِ وَالِاعْتِيَادِ بِالْكَسَلِ وَالْبِطَالَةِ وَاللَّهْوِ وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ وَعَنِ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَعَنِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا بِهِ قِوَامُ الْمَدَنِيَّةِ وَتِلْكَ آثَامٌ لَهَا آثَارُهَا الضَّارَّةُ فِي الْآخِرَةِ، وَلِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ بِالْمَيْسِرِ كُلَّ لَعِبٍ فِيهِ قِمَارٌ كَالنَّرْدِ،
وَعَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ الْكَعْبَتَيْنِ فَإِنَّهُمَا مِنْ مَيْسِرِ الْعَجَمِ»
يُرِيدُ
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آبائِهِمْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: كُلًّا. فَالتَّقْدِيرُ: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ. وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (مِنْ) اسْمًا بِمَعْنَى بَعْضٍ، أَيْ وَهَدَيْنَا بَعْضَ آبَائِهِمْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ [النِّسَاء: ٤٦]. وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَمِنْ آبَائِهِمْ جَمْعًا كَثِيرًا أَوْ مَهْدِيِّينَ كَثِيرِينَ، فَتَكُونُ (مِنْ) تبعيضية متعلّقة بهدينا.
وَالذُّرِّيَّاتُ جَمْعُ ذُرِّيَّةٍ، وَهِيَ مَنْ تَنَاسَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ مِنْ أَبْنَاءٍ أَدْنَيْنَ وَأَبْنَائِهِمْ فَيَشْمَلُ أَوْلَادَ الْبَنِينَ وَأَوْلَادَ الْبَنَاتِ. وَوَجْهُ جَمْعِهِ إِرَادَةُ أَنَّ الْهُدَى تَعَلَّقَ بِذُرِّيَّةِ كُلِّ مِنْ لَهُ ذَرِّيَّةٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ فِي هَدْيِ بَعْضِ الذُّرِّيَّةِ كَرَامَةً لِلْجِدِّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مُرَادٌ وُقُوعُ الْهَدْيِ فِي ذُرِّيَّتِهِ. وَإِنْ كَانَتْ ذُرِّيَّاتُهُمْ رَاجِعِينَ إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ نُوحٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْهُدَى الْمُقَدَّرِ الْهُدَى الْمُمَاثِلَ لِلْهُدَى الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَهُوَ هُدَى النُّبُوءَةِ، فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ مِثْلَ آدَمَ وَإِدْرِيسَ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فَإِنَّهُمْ آبَاء نوح. والذّرّات يَشْمَلُ أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ يُوشَعَ وَدَانْيَالَ. فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَالْأَنْبِيَاءَ مِنْ أَبْنَاءِ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ، وَهُودًا، وَصَالِحًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، وَشُعَيْبًا، مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَالْإِخْوَانُ يَشْمَلُ بَقِيَّةَ الْأَسْبَاطِ إِخْوَةَ يُوسُفَ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ النُّبُوءَةِ شَمِلَ الصَّالِحِينَ مِنَ الْآبَاءِ مِثْلَ هَابِيلَ ابْن آدَمَ. وَشَمِلَ الذُّرِّيَّاتِ جَمِيعَ صَالِحِي الْأُمَمِ مِثْلَ أَهْلِ الْكَهْفِ، قَالَ تَعَالَى:
وَزِدْناهُمْ هُدىً [الْكَهْف: ١٣]، وَمِثْلَ طَالُوتَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ، وَمِثْلَ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ. رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَةِ فِرْعَوْنَ.
وَيَشْمَلُ. الْإِخْوَانُ هَارَانَ بْنَ تَارَحَ أَخَا إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ أَبُو لُوطٍ، وَعيسو أَخَا، يَعْقُوبَ وَغَيْرَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ عَلِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمُرَادُ هَنَا مُطْلَقُ الْجَدَلِ وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ مِنْهُ بِبَاطِلٍ، أَيْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ فِي طَبْعِهِ الْحِرْصُ عَلَى إِقْنَاعِ الْمُخَالِفِ بِأَحَقِّيَّةِ مُعْتَقَدِهِ أَوْ عَمَلِهِ. وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَقْتَضِي إِرَادَةَ الجدل الْبَاطِل.
[٥٥]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ [الْكَهْف: ٥٤] إِلَخْ. وَمَعْنَاهَا مُتَّصِلٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الْكَهْف: ٥٤] مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُمَا لَوْلَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَقِلَّةً بِالْعَطْفِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا فِي ذَاتِهِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا يَحِيدُ بِهِ عَنِ الْمَوْقِعِ الْجَدِيرِ هُوَ بِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ إِذْ أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مُقَرَّرَةً فِي النُّفُوسِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ فِيمَا أَرَى عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: وَما مَنَعَ النَّاسَ وَبِقَوْلِهِ: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى قَصْدًا لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِذَاتِهَا غَيْرِ مُسْتَعَانَةٍ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً تَسْتَأْهِلُ تَوَجُّهَ الْعُقُولِ إِلَى وَعْيِهَا لِذَاتِهَا لَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَى غَيْرِهَا.
عَلَى أَنَّ عُمُومَ النَّاسَ هُنَا أَشْمَلُ مِنْ عُمُومِ لَفْظِ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [الْكَهْف: ٥٤] فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ النَّاسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ فِي أَزْمَانِ مَا بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَهَذَا يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمُ الَّذِينَ امْتَنَعُوا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
وَكَذَلِكَ عُمُومُ لَفْظِ الْهُدى يَشْمَلُ هُدَى الْقُرْآنِ وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَقْوَالِ
الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا، فَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ قِيَاسًا تَمْثِيلِيًّا بِشَوَاهِدِ التَّارِيخِ وَأَحْوَالِ تَلَقِّي الْأُمَمِ دَعَوَاتِ رُسُلِهِمْ.
وَصَنَادِيدِ الْمُشْرِكَيْنِ الَّذِينَ شَاهَدُوا نَصْرَ الدِّينِ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ مَنْ أَسْلَمُوا مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. وَمَنْ شَاهَدُوا عِزَّةَ الْإِسْلَامِ. وَيُحْتَمِلُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ عِلْمَ الْيَقِينِ.
وَقَدْ جَاءَتْ خَاتِمَةُ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَبْلَغِ خَوَاتِمِ الْكَلَامِ لِإِيذَانِهَا بِانْتِهَاءِ الْمَحَاجَّةِ وَانْطِوَاءِ بِسَاطِ الْمُقَارَعَةِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِهَا: أَنَّ فِيهَا شَبِيهَ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ لِأَنَّهَا تُنَظِّرُ إِلَى فَاتِحَةِ السُّورَةِ.
وَهِيَ قَوْلُهُ مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى [طه: ٢]، لِأَنَّ الْخَاتِمَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ كُلَّ مَا بُعِثَ بِهِ مِنَ الْإِرْشَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ، فَإِذَا لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فكفاه انثلاج صَدره أَنَّهُ أَدَّى الرِّسَالَةَ وَالتَّذْكِرَةَ فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ فَتَرْكَهُمْ وَضَلَالَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ جُمْلَةُ هُوَ اجْتَباكُمْ إِنْ حُمِلَتْ عَلَى أَنَّهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِمَا أُمِرُوا بِهِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الْحَج: ٧٧] إِلَخْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَمَّا اجْتَبَاكُمْ، كَانَ حَقِيقًا بِالشُّكْرِ لَهُ بِتِلْكَ الْخِصَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا.
وَالِاجْتِبَاءُ: الِاصْطِفَاءُ وَالِاخْتِبَارُ، أَيْ هُوَ اخْتَارَكُمْ لِتَلَقِّي دِينِهِ وَنَشْرِهِ وَنَصْرِهِ عَلَى مُعَانِدِيهِ. فَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مُوَجَّهٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَالَةً وَيَشْرِكُهُمْ فِيهِ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ بِحُكْمِ اتِّحَادِ الْوَصْفِ فِي الْأَجْيَالِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي مُخَاطِبَاتِ التَّشْرِيعِ.
وَإِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ هُوَ اجْتَباكُمْ عَلَى مَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْأُمَمِ كَانَ مَلْحُوظًا فِيهِ تَفْضِيلُ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الرَّاجِعِ إِلَى تَفْضِيلِ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الطَّبَقَةِ الْمُمَاثِلَةِ لَهَا مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَيْنِ الْمَحْمَلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمرَان: ١١٠].
وَأُعْقِبَ ذَلِكَ بِتَفْضِيلِ هَذَا الدِّينِ الْمُسْتَتْبِعِ تَفْضِيلَ أَهْلِهِ بِأَنْ جَعَلَهُ دِينًا لَا حَرَجَ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَهِّلُ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ حُصُولِ مَقْصِدِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الْعَمَلِ فَيَسْعَدُ أَهْلُهُ بِسُهُولَةِ امْتِثَالِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
عُقُولَهُمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ، فَحَقَّقَ فِي عِلْمِهِ وَكَتَبَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ انْتِفَاءِ إِيمَانِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي حَقَّ عَلَى أَكْثَرِهِمْ.
وحَقَّ: بِمَعْنَى ثَبَتَ وَوَقَعَ فَلَا يَقْبَلُ نَقْضًا. والْقَوْلُ: مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِمْ فَهُوَ قَوْلٌ مِنْ قَبِيلِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، أَوْ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ إِلَى رُسُلِهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَالْمَقُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ، أَيِ الْقَوْلُ النَّفْسِيُّ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فَهُمْ لَا يُؤمنُونَ.
[٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ٨]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: ٧] فَإِنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَعْلِ أَغْلَالٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَقِيقَةً أَوْ تَمْثِيلًا.
وَالْجَعْلُ: تَكْوِينُ الشَّيْءِ، أَيْ جَعَلْنَا حَالَهُمْ كَحَالِ مَنْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمِحُونَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا بِأَنْ شُبِّهَتْ حَالَةُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ وَدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالتَّأَمُّلِ فِي حُجَجِهِ الْوَاضِحَةِ بِحَالِ قَوْمٍ جُعِلَتْ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالٌ غَلِيظَةٌ تَرْتَفِعُ إِلَى أَذْقَانِهِمْ فَيَكُونُونَ كَالْمُقْمَحِينَ، أَي الرافعين رؤوسهم الْغَاضِّينَ أَبْصَارَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا فَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَوْلَهُمْ فَتَكُونُ تَمْثِيلِيَّةً.
وَذَكَرَ فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ لِتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَغْلَالِ مَلْزُوزَةً إِلَى عِظَامِ الْأَذْقَانِ بَحَيْثُ إِذَا أَرَادَ الْمَغْلُولُ مِنْهُمُ الِالْتِفَاتَ أَو أَن يطاطىء رَأْسَهُ وَجِعَهُ ذَقَنُهُ فَلَازَمَ السُّكُونَ وَهَذِهِ حَالَةُ تَخْيِيلِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَلَيْسَ كُلُّ الْأَغْلَالِ مِثْلَ هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ قَابِلٌ لِتَوْزِيعِ أَجْزَاءِ الْمَرْكَّبِ التَّمْثِيلِيِّ إِلَى تَشْبِيهِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْحَالَيْنِ بِجُزْءٍ مِنَ الْحَالَةِ الْأُخْرَى بِأَنْ يُشَبَّهَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ النُّفُورِ عَنِ الْخَيْرِ بِالْأَغْلَالِ، وَيُشَبَّهُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ وَالْإِنْصَافِ بِالْإِقْمَاحِ.
لَا يَعْلَمُونَ فَلَا يُدْرِكُونَ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ تَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ وَتَجْرِي أَعْمَالُهُمْ عَلَى غَيْرِ انْتِظَامٍ، كَحَالِ الَّذِينَ تَوَهَّمُوا الْحِجَارَةَ آلِهَةً وَوَضَعُوا الْكُفْرَ مَوْضِعَ الشُّكْرِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ هُوَ قَانِتٌ أَنَاءَ اللَّيْلِ يَحْذُرُ رَبَّهُ وَيَرْجُوهُ، وَمَنْ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَإِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا هُمُ الْكُفَّارُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ثَبَتَ أَنَّ الَّذِينَ لَا يَسْتَوُونَ مَعَهُمْ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُم، وَإِذ قد تَقَرَّرَ أَنَّ الْكَافِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فَقَدِ اقْتَضَى أَنَّ الْمُفَضَّلِينَ عَلَيْهِمْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يَقُولَ: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا وَذَاكَ، إِلَى التَّعْبِيرِ بِالْمَوْصُولِ إِدْمَاجًا لِلثَّنَاءِ عَلَى فَرِيقٍ وَلِذَمِّ فَرِيقٍ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلَ الشِّرْكِ أَهْلُ جَهَالَةٍ فَأَغْنَتِ الْجُمْلَةُ بِمَا فِيهَا مِنْ إِدْمَاجٍ عَنْ ذِكْرِ جُمْلَتَيْنِ، فَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ هُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ الْجَاهِلُونَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤].
وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخُو الْعِلْمِ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا نُورٌ وَمَعْرِفَةٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْكُفْرَ أَخُو الضَّلَالِ لِأَنَّهُ وَالضَّلَالَ ظُلْمَةٌ وَأَوْهَامٌ بَاطِلَة.
هَذَا وَوَقع فِعْلِ يَسْتَوِي فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يَكْسِبُهُ عُمُومَ النَّفْيِ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الِاسْتِوَاءِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ كِنَايَةً عَنِ الْفَضْلِ آلَ إِلَى إِثْبَاتِ الْفَضْلِ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، فَإِنَّكَ مَا تَأَمَّلْتَ مَقَامًا اقْتَحَمَ فِيهِ عَالِمٌ وَجَاهِلٌ إِلَّا وَجَدْتَ لِلْعَالَمِ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ مَا لَا تَجِدُهُ لِلْجَاهِلِ وَلِنَضْرِبَ لِذَلِكَ مَثَلًا بِمَقَامَاتٍ سِتَّةٍ هِيَ جُلُّ وَظَائِفِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: الِاهْتِدَاءُ إِلَى الشَّيْءِ الْمَقْصُودِ نَوَالُهُ بِالْعَمَلِ بِهِ وَهُوَ مَقَامُ الْعَمَلِ،
فَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَهْتَدِي إِلَى طُرُقِهِ فَيَبْلُغُ الْمَقْصُودَ بِيُسْرٍ وَفِي قُرْبٍ وَيَعْلَمُ مَا هُوَ مِنَ الْعَمَلِ أولى بالإقبال عَنهُ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِهِ يَضِلُّ مَسَالِكَهُ وَيُضِيعُ زَمَانَهُ فِي طَلَبِهِ فَإِمَّا أَنْ يَخِيبَ فِي سَعْيِهِ وَإِمَّا أَنْ يَنَالَهُ بَعْدَ أَنْ تَتَقَاذَفَهُ الْأَرْزَاءُ وَتَنْتَابَهُ النَّوَائِبُ وَتَخْتَلِطَ عَلَيْهِ الْحَقَائِقُ فَرُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ بَلَغَ الْمَقْصُودَ حَتَّى إِذَا انْتَبَهَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مُرَادِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النُّور: ٣٩].
عَبَّاسٍ «أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا دَعَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى دِينِ آبَائِهِ» قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: ارْجِعْ
إِلَى دِينِ آبَائِكَ فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْكَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَتَضَمَّنُ تَعْلِيلَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ شَرِيعَةِ اللَّهِ فَإِنَّ كَوْنَهُمْ لَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ فِي مُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنِ اتِّبَاعِ شَرِيعَتِهِ مَا يُوقِعُ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ مِنْ عِقَابِهِ.
وَالْإِغْنَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ غَنِيًّا، أَيْ غَيْرَ مُحْتَاجٍ، فَالْآثِمُ الْمُهَدَّدُ مِنْ قَدِيرٍ غَيْرُ غَنِيٍّ عَنِ الَّذِي يُعَاقِبُهُ وَلَوْ حَمَاهُ مَنْ هُوَ كُفْءٌ لِمُهَدِّدِهِ أَوْ أَقْدَرُ مِنْهُ لَأَغْنَاهُ عَنْهُ وَضُمِّنَ فِعْلُ الْإِغْنَاءِ مَعْنَى الدَّفْعِ فَعُدِّيَ بِ (عَنْ). وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ، ومِنَ اللَّهِ صِفَةٌ لِ شَيْئاً ومِنَ بِمَعْنَى بَدَلِ، أَيْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ بَدَلًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَيْ قَلِيلًا مِنَ الْإِغْنَاءِ الْبَدِيلِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فِي آلِ عِمْرَانَ [١٠].
وَعُطِفَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أَيْ إِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَأَنْتَ لَسْتَ مِنَ الظَّالِمِينَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَّبِعَهُمْ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُهُمْ مَنْ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ. وَذَيَّلَ ذَلِكَ بِقَولِهِ: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ يُفِيدُ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ وَلَيُّهُ لِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول الْمُتَّقِينَ.
[٢٠]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : آيَة ٢٠]
هَذَا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠)
إِنْ كَانَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ الْمَثَلِ بِمُوسَى وَقَوْمِهِ وَمِنْ تَفْضِيلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْأَمْرُ بِمُلَازَمَةِ اتِّبَاعِهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنِ اتِّبَاعِ رَغَائِبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ لِمَا قَبْلَهَا وَالتَّهْيِئَةِ لِأَغْرَاضِهَا تَنْبِيهًا لِمَا فِي طَيِّهَا مِنْ عَوَاصِمَ عَنِ الشَّكِّ وَالْبَاطِلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ عِدَّةِ آيَاتٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٣٥] (١) بَلاغٌ وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ
_________
(١) فِي المطبوعة (الْفَتْح) وَهُوَ خطأ.
وَفِي جَعْلِهِمُ الْحَقَّ فِي أَمْوَالِهِمْ لِلسَّائِلِينَ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْمُحْتَاجِ الْمُظْهِرِ لِحَاجَتِهِ. وَفِي جَعْلِهِمُ الْحَقَّ لِلْمَحْرُومِ نَفْعُ الْمُحْتَاجِ الْمُتَعَفِّفِ عَنْ إِظْهَارِ حَاجَتِهِ الصَّابِرِ عَلَى شِدَّةِ الِاحْتِيَاجِ.
وَحَرْفُ مَا فِي قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ مَزِيدٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَشَاعَتْ زِيَادَةُ مَا بَعْدَ اسْمِ (قَلِيلٍ) وَ (كَثِيرٍ) وَبَعْدَ فِعْلِ (قَلَّ) وَ (كَثُرَ) وَ (طَالَ).
وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ. وَلَيْسَتْ مَا نَافِيَةً.
وَالْهُجُوعُ: النَّوْمُ الْخَفِيفُ وَهُوَ الْغِرَارُ.
وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: ٢- ٤] وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا
فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُ: لَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ نَفِهَتِ النَّفْسُ وَهَجَمَتِ الْعَيْنُ. وَقَالَ لَهُ: قُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»
. وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى خَصَائِصَ مِنَ الْبَلَاغَةِ:
أُولَاهَا: فِعْلُ الْكَوْنِ فِي قَوْلِهِ: كانُوا الدَّالُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا سُنَّةٌ مُتَقَرِّرَةٌ.
الثَّانِي: الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: كَانُوا يُقِيمُونَ اللَّيْلَ، أَوْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، إِلَى قَوْلِهِ: قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ الْهُجُوعِ تَذْكِيرًا بِالْحَالَةِ الَّتِي تَمِيلُ إِلَيْهَا النُّفُوسُ فَتَغْلِبُهَا وَتَصْرِفُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦]، فَكَانَ فِي الْآيَةِ إِطْنَابٌ اقْتَضَاهُ تَصْوِيرُ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْبَلِيغُ قَدْ يُورِدُ فِي كَلَامِهِ مَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةُ الْمَعْنَى إِذَا كَانَ يَرْمِي بِذَلِكَ إِلَى تَحْصِيلِ صُوَرِ الْأَلْفَاظِ الْمَزِيدَةِ.
الثَّالِثُ: التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: مِنَ اللَّيْلِ لِلتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُمْ تَرَكُوا النَّوْمَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ اسْتِدْعَاءُ النُّفُوسِ لِلنَّوْمِ فِيهِ زِيَادَةً فِي تَصْوِيرِ جَلَالِ قِيَامِهِمُ اللَّيْلَ وَإِلَّا فَإِنَّ قَوْلَهُ: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُ مِنَ اللَّيْلِ.
نَاهِيكَ بِهِ، وَحَسْبُكَ بِهِ، وَ (مِنْ) ابْتِدَائِيَّةٌ، وَاللَّفْظُ جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فَطُوِيَ مِنْهُ بَعْضُهُ، وَأَصْلُهُ: فَلَهُمُ السَّلَامَةُ سَلَامَةٌ تَسُرُّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثُهَا.
وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَرُّ بِمَا يَنَالُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَهُمْ مِمَّنْ شَمَلَهُمْ لَفْظُ أَصْحابِ الْيَمِينِ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، أَيْ فَيُقَالُ لَهُ: سَلَامٌ لَكَ، أَيْ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ.
ومِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ومِنْ عَلَى هَذَا تَبْعِيضِيَّةٌ، فَهِيَ بِشَارَةٌ لِلْمُخَاطَبِ عِنْدَ الْبَعْثِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْد: ٢٣، ٢٤].
وَقِيلَ: الْكَافُ خِطَابٌ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ. وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَسَلَامٌ لَهُ، فَعَدَلَ إِلَى الْخِطَابِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ الشَّرِيفَةِ، أَيْ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْيَمِينِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يُونُس: ١٠] أَيْ يُبَادِرُونَهُ بِالسَّلَامِ، وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ مَنْزِلَتِهِمْ، ومِنْ عَلَى هَذَا ابْتِدَائِيَّةٌ.
فَهَذِهِ مَحَامِلُ لِهَذِهِ الْآيَةِ يُسْتَخْلَصُ مِنْ مَجْمُوعِهَا مَعْنَى الرِّفْعَةِ وَالْكَرَامَةِ.
وَالْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ: هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي الْقِسْمِ السَّابِقِ إِلَى أَزْوَاجٍ ثَلَاثَةٍ.
وَقُدِّمَ هُنَا وَصْفُ التَّكْذِيبِ عَلَى وَصْفِ الضَّلَالِ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٥١]، لِمُرَاعَاةِ سَبَبِ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ التَّكْذِيبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَّ هُنَا عَلَى عَذَابٍ قَدْ حَانَ حِينُهُ وَفَاتَ وَقْتُ الْحَذَرِ مِنْهُ فَبُيِّنَ سَبَبُ عَذَابِهِمْ وَذُكِّرُوا بِالَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي سَبَبِهِ لِيَحْصُلَ لَهُمْ أَلَمُ التَّنَدُّمِ.
وَالنُّزُلُ: مَا يُقَدَّمُ لِلضَّيْفِ مِنَ الْقِرَى، وَإِطْلَاقُهُ هُنَا تَهَكُّمٌ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الْوَاقِعَة: ٥٦].
الثَّانِي: تَجِبُ كَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَهَذَا جَارٍ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ.
الثَّالِثُ: لَا يَلْزَمُهُ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَقِيلَ: إِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَلَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا يَنْوِ فِيمَا أَرَادَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَمَالِكٍ فِي الْمَشْهُورِ.
وَقِيلَ هِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُلْ. وَنُسِبَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَهُ ابْنُ أَبِي ليلى وَهُوَ عِنْد عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجْشُونِ فِي «الْمَبْسُوطِ».
وَقِيلَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ. وَنُسِبَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَنَسَبَهُ ابْنُ خُوَيْزَ مَنْدَادَ إِلَى مَالِكٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عَنْهُ. وَقِيلَ: طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ فِي الزَّوْجَةِ مُطْلَقًا، وَنُسِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيَكُونُ قَيْدًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي. وَقَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ الْمَاجْشُونِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَعْنِي فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: إِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى مِنْ أَعْدَادِهِ وَإِلَّا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ. وَقِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةٌ فِي الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا دُونَ تَنْوِيَةٍ.
الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِنْ نَوَى بِالْحَرَامِ الظِّهَارَ كَانَ مَا نَوَى فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الثَّلَاثَ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَتْ يَمِينًا وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَإِنْ أَبَاهَا كَانَ مُولِّيًا.
وَتَحْرِيم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَّتَهُ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ تَحْرِيمِ أَحَدٍ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ غَيْرَ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ مَارِيَةَ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَهُ بَلْ هِيَ مَمْلُوكَتُهُ فَحُكْمُ قَوْلِهِ: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ جَارٍ فِي قَضِيَّةِ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ بِلَا فَرْقٍ. وتَحِلَّةَ تَفْعِلَةٌ مِنْ حَلَّلَ جَعَلَ الْفِعْلَ حَلَالًا. وَأَصْلُهُ تَحِلْلَةَ فَأُدْغِمَ اللَّامَانِ وَهُوَ مَصْدَرٌ سَمَاعِيٌّ لِأَنَّ الْهَاءَ فِي آخِرِهِ لَيْسَتْ بِقِيَاسٍ إِذْ لَمْ يُحْذَفْ مِنْهُ حَرْفٌ حَتَّى يُعَوَّضَ عَنْهُ الْهَاءُ مِثْلَ تَزْكِيَةٍ وَلَكِنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ مثل تعلة.
[٣]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ٣]
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ

[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٩]

لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩)
هَذِهِ الْآيَةُ وَقَعَتْ هُنَا مُعْتَرِضَةً. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَتَفَلَّتَ مِنْهُ، أَوْ مِنْ شِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي حِفْظِهِ فَكَانَ يُلَاقِي مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
. قَالَ: جَمْعَهُ فِي صدرك ثمَّ تَقْرَأهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ، أَيْ أَنْ تَقْرَأَهُ»

اهـ.
فَلَمَّا نَزَلَ هَذَا الْوَحْيُ فِي أثْنَاء نزُول السُّورَةِ لِلْغَرَضِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ سُورَةً مُسْتَقِلَّةً كَانَ مُلْحَقًا بِالسُّورَةِ وَوَاقِعًا بَيْنَ الْآيِ الَّتِي نَزَلَ بَيْنَهَا.
فَضَمِيرُ بِهِ
عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا قَرَأْناهُ
، أَيْ إِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ عَنَّا، فَأُسْنِدَتِ الْقِرَاءَةُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَمَعْنَى فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
، أَيْ أَنْصِتْ إِلَى قراءتنا.
فضمير قَرَأْناهُ
رَاجِعٌ إِلَى مَا رَجَعَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي لَا تُحَرِّكْ بِهِ
وَهُوَ الْقُرْآنُ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ، فَيَكُونُ وُقُوعُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِثْلَ وُقُوعِ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٦٤]، وَوُقُوعُ حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى فِي أَثْنَاءِ أَحْكَامِ الزَّوْجَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَة [٢٣٨]. قَالُوا: نزلت هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَيِمَّةِ التَّفْسِيرِ. وَذَكَرَ الْفَخْرُ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
لَيْسَ خِطَابًا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هُوَ خِطَابٌ مَعَ الْإِنْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ
[الْقِيَامَة: ١٣] فَكَانَ ذَلِك للْإنْسَان حا لما يُنَبَّأُ بِقَبَائِحِ أَفْعَالِهِ فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، فَإِذَا أَخَذَ فِي الْقِرَاءَةِ تَلَجْلَجَ لِسَانُهُ فَيُقَالُ لَهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا بِحُكْمِ الْوَعْدِ أَوْ بِحُكْمِ الْحِكْمَةِ أَنْ نَجْمَعَ أَعْمَالَكَ وَأَنْ نَقْرَأَهَا عَلَيْكَ فَإِذَا
وَتَكْرِيرُ لَفْظِ بِهذَا الْبَلَدِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِقَصْدِ تَجْدِيدِ التَّعْجِيبِ. وَلِقَصْدِ تَأْكِيدِ فَتْحِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَالشَّدِيدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَوْزَتِهِمْ.
ووالِدٍ وَقَعَ مُنَكَّرًا فَهُوَ تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ. فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالِدًا عَظِيمًا، وَالرَّاجِحُ عَمَلُ وَالِدٍ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَما وَلَدَ وَالَّذِي يُنَاسِبُ الْقَسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ والِدٍ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ الَّذِي اتَّخَذَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لِإِقَامَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَزَوْجِهِ هَاجَرَ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيم: ٣٥] ثُمَّ قَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إِبْرَاهِيم: ٣٧]. وَإِبْرَاهِيم وَالِدُ سُكَّانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْأَصْلِيِّينَ قَالَ تَعَالَى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الْحَج: ٧٨]، وَلِأَنَّهُ وَالِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَا وَلَدَ مَوْصُولٌ وَصِلَةٌ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي وَلَدَ عَائِدٌ إِلَى والِدٍ وَالْمَقْصُودُ: وَمَا وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالَّذِينَ اقْتَفَوْا هَدْيَهُ فَيَشْمَلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتنبيه للْمُشْرِكين مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: ٦٨].
وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَما وَلَدَ دُونَ (مَنْ) مَعَ أَنَّ (مَنْ) أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي إِرَادَةِ الْعَاقِلِ وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا، فَعَدَلَ عَنْ (مَنْ) لِأَنَّ مَا أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَأُرِيدَ تَفْخِيمُ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ فَجِيءَ لَهُمْ بِالْمَوْصُولِ الشَّدِيدِ الْإِبْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّفْخِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمرَان: ٣٦] يَعْنِي مَوْلُودًا عَجِيبَ الشَّأْنِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ مَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً تَامَّةً بِاتِّفَاقٍ، وَ (مَنْ) لَا تُسْتَعْمَلُ نَكِرَةً تَامَّةً إِلَّا عِنْدَ الْفَارِسِيِّ.


الصفحة التالية
Icon