الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ أَظْفَارُ الْمَنِيَّةِ وَإِثْبَاتِ الْمَخَالِبِ وَالنَّابِ لِلْكُمَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي فِرَاسٍ الْحَمْدَانِيِّ:

فَلَمَّا اشْتَدَّتِ الْهَيْجَاءُ كُنَّا أَشَدَّ مُخَالِبًا وَأَحَدَّ نَابَا
وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلشَّمَالِ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
وَغَدَاةَ رِيحٍ قَدْ كَشَفْتُ وَقِرَّةٍ إِذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمَامُهَا
وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ إِذَا كَانَ لِلْمُشَبَّهِ فِي الْمَكْنِيَّةِ رَدِيفٌ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِرَدِيفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ نَحْوُ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ، وَقَدْ زِدْنَا أَنَّهَا تَمْثِيلِيَّةٌ أَيْضًا وَالْبَلِيغُ لَا يُفْلِتُ هَاتِهِ الِاسْتِعَارَةَ مَهْمَا تَأْتِ لَهُ وَلَا يَتَكَلَّفُ لَهَا مَهْمَا عَسِرَتْ فَلَيْسَ الْجَوَازُ الْمَذْكُورُ فِي قَرِينَةِ الْمَكْنِيَّةِ إِلَّا جَوَازًا فِي الْجُمْلَةِ أَيْ بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ.
وَهَذَا الَّذِي هُوَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي صُورَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَدْ يَقْطَعُ عَنِ الرَّبْطِ بِالْمَكْنِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُسْتَقِلَّةً (وَذَلِكَ حَيْثُ لَا تَذْكُرُ مَعَهُ لَفَظًا يُرَادُ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ) نَحْوُ أَنْ تَقُولَ فُلَانٌ يَنْقُضُ مَا أَبْرَمَ. وَقَدْ يُرْبَطُ بِالْمَكْنِيَّةِ وَذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَهُ شَيْءٌ أُرِيدَ تَشْبِيهُهُ بِمُشَبَّهٍ بِهِ مُضْمَرٍ كَمَا فِي الْآيَةِ حَيْثُ ذُكِرَ النَّقْضُ مَعَ الْعَهْدِ. وَقَدْ يُرْبَطُ بِمُصَرَّحَةٍ وَذَلِكَ حَيْثُ يُذْكَرُ مَعَ لَفْظِ الْمُشَبَّهِ بِهِ الَّذِي الرَّادِفُ مِنْ تَوَابِعِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ: «إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ حِبَالًا نَحْنُ قَاطِعُوهَا»
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ وَهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ مُتَدَاخِلَةٌ لَا مُتَضَادَّةٌ إِذْ قَدْ يَصِحُّ فِي الْمَوْضِعِ اعْتِبَارَانِ مِنْهَا أَوْ جَمِيعُهَا وَإِنَّمَا التَّقْسِيمُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ الْبَلِيغُ أَوَّلَ النَّظَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ رَدِيفَ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْمَكْنِيَّةِ إِذَا اعْتُبِرَ اسْتِعَارَةً فِي ذَاتِهِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ اعْتِبَارَهُ ذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ رَمْزًا لِلْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ كَالنَّقْضِ فَإِنَّهُ لَمَّا أُرِيدَ بِهِ إِبْطَالُ الْعَهْدِ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَوَادِفِ الْحَبْلِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ إِيذَانُهُ بِالْحَبْلِ سَابِقًا عِنْدَ سَمَاعِ لَفْظِهِ لِسَبْقِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ حَتَّى يَتَأَمَّلَ فِي الْقَرِينَةِ كَفَى ذَلِكَ السَّبْقُ دَلِيلًا وَرَمْزًا عَلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ الْمُضْمَرِ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ الرَّمْزُ لَمْ يَضُرَّ فَهْمُ الِاسْتِعَارَةِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَأَجَابَ عَبْدُ الْحَكِيمِ بِأَنَّ كَوْنَهُ رَادِفًا بَعْدَ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمَّا شُبِّهَ بِهِ الرَّادِفُ وَسُمِّيَ بِهِ صَارَ رَادِفًا ادِّعَائِيًّا وَفِيهِ تَكَلُّفٌ.
وَ (عَهْدَ اللَّهِ) هُوَ مَا عَهِدَ بِهِ أَيْ مَا أَوْصَى بِرَعْيِهِ وَحِفَاظِهِ، وَمَعَانِي الْعَهْدِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرَةٌ وَتَصْرِيفُهُ عُرْفِيٌّ. قَالَ الزَّجَّاجُ: «قَالَ بَعْضُهُمْ مَا أَدْرِي مَا الْعَهْدُ» وَمَرْجِعُ مَعَانِيهِ إِلَى الْمُعَاوَدَةُُِ
حَتَّى تكمل مُدَّة عَادَتهَا، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ انْقِطَاعَهُ لِأَكْثَرِ أَمَدِهِ انْقِطَاعٌ تَامٌّ لَا يُخْشَى بَعْدَهُ رُجُوعُهُ بِخِلَافِ انْقِطَاعِهِ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ يُتَقَصَّى أَثَرُهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِمُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلًا لِهَذَا التَّفْصِيلِ فَقَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ السَّلْكُوتِيُّ (حَتَّى يَطْهُرْنَ) قُرِئَ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ فَتَنْزِلُ الْقِرَاءَتَانِ مَنْزِلَةَ آيَتَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُعَارِضَةً الْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ اقْتِضَاءُ قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ الطُّهْرَ بِمَعْنَى النَّقَاءِ وَاقْتِضَاءُ الْأُخْرَى كَوْنَهُ بِمَعْنَى الْغُسْلِ جُمِعَ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ بِإِعْمَالِ كُلٍّ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ اهـ، وَهَذَا مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ، إِذْ لَمْ يَعْهَدْ عَدَّ الْقِرَاءَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ آيَتَيْنِ حَتَّى يَثْبُتَ التَّعَارُضُ، سَلَّمْنَا لَكِنَّهُمَا وَرَدَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُهُمَا عَلَى مُقَيِّدِهِمَا بِأَنْ نَحْمِلَ الطُّهْرَ بِمَعْنَى النَّقَاءِ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالْغُسْلِ، سَلَّمْنَا الْعُدُولَ عَنْ هَذَا التَّقْيِيدِ فَمَا هُوَ الدَّلِيلُ الَّذِي خَصَّ كُلَّ قِرَاءَةٍ بِحَالَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى أَوْ دُونَ حَالَاتٍ أُخَرَ، فَمَا هَذَا إِلَّا صُنْعٌ بِالْيَدِ، فَإِنْ قُلْتَ لِمَ بَنَوْا دَلِيلَهُمْ عَلَى تَنْزِيلِ الْقِرَاءَتَيْنِ مَنْزِلَةَ الْآيَتَيْنِ وَلَمْ يَبْنُوهُ مِثْلَنَا عَلَى وُجُودِ (يَطْهُرْنَ) وَ (يَطَّهَّرْنَ) فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، قُلْتُ كَأَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ الْوَاقِعَيْنِ فِي الْآيَةِ هُمَا جُزْءَا آيَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّعَارُضِ بَيْنَ جُزْئَيْ آيَةٍ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مُفَسِّرٌ لِلْآخَرِ أَوْ مُقَيِّدٌ لَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأْتُوهُنَّ الْأَمْرُ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ النَّهْيِ مِثْلَ وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [الْمَائِدَة: ٢] عُبِّرَ بِالْإِتْيَانِ هُنَا وَهُوَ شَهِيرٌ فِي التَّكَنِّي بِهِ عَنِ الْوَطْءِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرْبَانِ الْمَنْهِيِّ عَنهُ هُوَ الَّذِي الْمَعْنَى الْكِنَائِيُّ فَقَدْ عُبِّرَ بِالِاعْتِزَالِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالْقِرْبَانِ ثُمَّ قُفِّيَ بِالْإِتْيَانِ وَمَعَ كُلِّ تَعْبِيرٍ فَائِدَةٌ جَدِيدَةٌ وَحُكْمٌ جَدِيدٌ وَهَذَا مِنْ إِبْدَاعِ الْإِيجَازِ فِي الْإِطْنَابِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ حَيْثُ اسْمُ مَكَانٍ مُبْهَمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ مُلَازِمُ الْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَةٍ تُحَدِّدُهُ لِزَوَالِ إِبْهَامِهَا، وَقَدْ أُشْكِلَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الظَّرْفِ عَلَى الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَمَا أَرَى سَبَبَ إِشْكَالِهِ إِلَّا أَنَّ الْمَعْنَى قَدِ اعْتَادَ الْعَرَبُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ سُلُوكَ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالْإِغْمَاضِ وَكَانَ فَهْمُهُ مَوْكُولًا إِلَى فِطَنِهِمْ وَمُعْتَادِ تَعْبِيرِهِمْ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ أَيْ إِلَّا مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَعْتَزِلُوهُنَّ مِنْهُ مُدَّةَ الْحَيْضِ يَعْنِي الْقُبُلَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ (مِنْ) بِمَعْنَى فِي وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [الْأَحْقَاف: ٤] وَقَوْلِهِ: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الْجُمُعَةِ: ٩]، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي رُزَيْنٍ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٩٢]

وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢)
وَهذا كِتابٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ اللَّهُ [الْأَنْعَام: ٩١]، أَيْ وَقُلْ لَهُمُ اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُحَاوَلَةَ فِي شَأْنِهِ مِنِ ادِّعَائِهِمْ نَفِيَ نُزُولِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمِنْ تَبْكِيتِهِمْ بِإِنْزَالِ التَّوْرَاةِ، يَجْعَلُ الْقُرْآنَ كَالْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ، فَأَتَى بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِ تَقْوِيَةً لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ.
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفِيدِ تَمْيِيزَ الْكِتَابِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، وَبِنَاء فعل أَنْزَلْناهُ عَلَى خَبَرِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَهُوَ كِتابٌ الَّذِي هُوَ عَيْنُهُ فِي الْمَعْنَى، لِإِفَادَةِ التَّقْوِيَةِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهَذَا أَنْزَلْنَاهُ.
وَجَعَلَ كِتابٌ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ أَنْزَلْنَا مُسْنَدًا إِلَيْهِ، وَنَصَبَ فِعْلَ أَنْزَلْنَا لِضَمِيرِهِ، لِإِفَادَةِ تَحْقِيقِ إِنْزَالِهِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَجُمْلَةُ: أَنْزَلْناهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَوْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ. ومُبارَكٌ خَبَرٌ ثَانٍ. وَالْمُبَارَكُ اسْمٌ مَفْعُولٌ مِنْ بَارَكَهُ، وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَبَارَكَ فِيهِ، وَبَارَكَ لَهُ، إِذَا جَعَلَ لَهُ الْبَرَكَةَ. وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَنَمَاؤُهُ يُقَالُ: بَارَكَهُ. قَالَ تَعَالَى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النَّمْل: ٨]، وَيُقَالُ: بَارَكَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: وَبارَكَ فِيها [فصلت: ١٠].
وَلَعَلَّ قَوْلَهُمْ (بَارَكَ فِيهِ) إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةً لِلْغَيْرِ فِي زَمَنِهِ أَوْ مَكَانِهِ، وَأَمَّا (بَارَكَهُ) فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا كَانَتِ الْبَرَكَةُ صِفَةً لَهُ، وَ (بَارَكَ
وَالْقَصَصُ: مَصْدَرُ قَصَّ الْأَثَرَ، إِذَا تَوَخَّى مُتَابَعَتَهُ كَيْلَا يُخْطِئَا الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَبْدِ: الْخَضِرُ، وَوُصِفَ بِأَنَّهُ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَشْرِيفًا لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١].
وَعَدَلَ عَنِ الْإِضَافَةِ إِلَى التَّنْكِيرِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مَا يَقْتَضِي تَعْرِيفَهُ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى
أَنَّ هَذَا الْحَالَ الْغَرِيبَ الْعَظِيمَ الَّذِي ذُكِرَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا هُوَ إِلَّا مِنْ أَحْوَالِ عِبَادٍ كَثِيرِينَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.
وَإِيتَاءُ الرَّحْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ جَعَلَ مَرْحُومًا، وَذَلِكَ بِأَنْ رَفَقَ اللَّهُ بِهِ فِي أَحْوَالِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلْنَاهُ سَبَبَ رَحْمَةٍ بِأَنْ صَرَّفَهُ تَصَرُّفًا يَجْلِبُ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ.
وَالْعِلْمُ مِنْ لَدُنِ اللَّهِ: هُوَ الْإِعْلَامُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ.
وَ (عِنْدَ) وَ (لَدُنْ) كِلَاهُمَا حَقِيقَتُهُ اسْمُ مَكَانٍ قَرِيبٍ. وَيُسْتَعْمَلَانِ مَجَازًا فِي اخْتِصَاصِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِمَوْصُوفِهِمَا.
وَ (مِنِ) ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً صَدَرَتْ مِنْ مَكَانِ الْقُرْبِ، أَيِ الشَّرَفِ وَهُوَ قُرْبُ تَشْرِيفٍ بِالِانْتِسَابِ إِلَى اللَّهِ، وَعِلْمًا صَدَرَ مِنْهُ أَيْضًا. وَذَلِكَ أَنَّ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْوَلَايَةِ أَوِ النُّبُوءَةِ رَحْمَةٌ عَزِيزَةٌ، أَوْ مَا أُوتِيهِ مِنَ الْعِلْمِ عَزِيزٌ، فَكَأَنَّهُمَا مِمَّا يُدَّخَرُ عِنْدَ اللَّهِ فِي مَكَانِ الْقُرْبِ التَّشْرِيفِيِّ مِنَ اللَّهِ فَلَا يُعْطَى إِلَّا لِلْمُصْطَفَيْنَ.
وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ مِنْ عِنْدِنا وَبَيْنَ مِنْ لَدُنَّا لِلتَّفَنُّنِ تَفَادِيًا مِنْ إِعَادَةِ الْكَلِمَةِ. وَجُمْلَة قالَ لَهُ مُوسى ابْتِدَاءُ مُحَاوَرَةٍ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) مُجَرَّدَةً عَنِ الْعَاطِفِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: هَلْ أَتَّبِعُكَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ بِقَرِينَةِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَمَلِ نَفْسِ الْمُسْتَفْهِمِ. وَالِاتِّبَاعُ: مَجَازٌ فِي الْمُصَاحَبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النّجم: ٢٨].
وَوَصَفَ الْآلِهَةَ الْمَزْعُومَةَ الْمَفْرُوضَةَ الِاتِّخَاذِ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ
بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ
. وَالْمَقْصُودُ: التَّعْرِيضُ بِالْمُخَاطَبِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ تِلْكَ الْآلِهَةِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَتُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى. وَقَدْ عَلِمَ مِنِ انْتِفَاءِ دَفْعِهِمُ الضُّرَّ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ لِأَنَّ دَوَاعِيَ دَفْعِ الضُّرِّ عَنِ الْمَوْلَى أَقْوَى وَأَهَمُّ، وَلَحَاقُ الْعَارِ بِالْوَلِيِّ فِي عَجْزِهِ عَنْهُ أَشَدُّ.
وَجَاءَ بِوَصْفِ الرَّحْمنِ دُونَ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ [يس: ١٥].
وَالْإِنْقَاذُ: التَّخْلِيصُ مِنْ غَلَبٍ أَوْ كَرْبٍ أَوْ حَيْرَةٍ، أَيْ لَا تَنْفَعُنِي شَفَاعَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِي أَرَادَنِي بِضُرٍّ وَلَا يُنْقِذُونَنِي مِنَ الضُّرِّ إِذَا أَصَابَنِي.
وَإِذْ قَدْ نُفِيَ عَنْ شَفَاعَتِهِمُ النَّفْعُ لِلْمَشْفُوعِ فِيهِ فَقَدْ نُفِيَ عَنْهُمْ أَنْ يَشْفَعُوا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُشَفَّعُ لَا يَشْفَعُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: آتخذ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، لِإِبْطَالِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاءُ مَقْبُولُو الشَّفَاعَةِ. وَإِذْ كَانَتْ شَفَاعَتُهُمْ لَا تَنْفَعُ لِعَجْزِهِمْ وَعَدَمِ مُسَاوَاتِهِمْ لِلَّهِ الَّذِي يَضُرُّ وَيَنْفَعُ فِي صِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ كَانَ انْتِفَاءُ أَنْ يُنْقِذُوا أَوْلَى. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعُدُولُ عَنْ دَلَالَةِ الْفَحْوَى إِلَى دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَصْرِيحٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ أَسَاسُ الصَّلَاحِ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ جَوَابٌ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ. فَحَرْفُ إِذاً جَزَاءٌ لِلْمَنْفِيِّ لَا لِلنَّفْيِ، أَيْ إِنِ اتَّخَذَتُ مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَكُنْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْغَايَةِ مِنَ الْخِطَابِ وَالنَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ. وَهَذَا إِعْلَانٌ لِإِيمَانِهِ وَتَسْجِيلٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ رَبُّهُمْ لَا تِلْكَ الْأَصْنَامِ.
وَأُكِّدَ الْإِعْلَانُ بِتَفْرِيعِ فَاسْمَعُونِ اسْتِدْعَاءً لِتَحْقِيقِ أَسْمَاعِهِمْ إِنْ كَانُوا فِي غَفلَة.
أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: ١٨] لِأَنَّ التَّفْرِيعَ يَقْتَضِي اتِّصَالًا وَارْتِبَاطًا بَيْنَ الْمُفَرَّعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ، كَالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِ لَبِيَدٍ:
أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ خُذِلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا
إِذْ فَرَّعَ تَشْبِيهًا عَلَى تَشْبِيهٍ لِاخْتِلَافِ الْمُشَبَّهِ بِهِمَا.
وَكَلِمَةُ الْعَذابِ كَلَامُ وَعِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَمَعْنَى حَقَّ تَحَقَّقَتْ فِي الْوَاقِعِ، أَيْ كَانَتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ الْمُتَوَعَّدِ بِهَا حَقًّا غَيْرَ كَذِبٍ، فَمَعْنَى حَقَّ هُنَا تَحَقُّقُ، وَحَقُّ كَلِمَةِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ ضِدُّ هَدْيِ اللَّهِ الْآخَرِينَ، وَكَوْنِهِمْ فِي النَّارِ ضِدُّ كَوْنِ
الْآخَرِينَ لَهُمُ الْبُشْرَى، وَتَرْتِيبُ الْمُتَضَادَّيْنِ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ شِبْهِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الْبَقَرَة: ٦، ٧] بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٤، ٥]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ضِدُّ قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وَ (مَنْ) مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَبُو لَهَبٍ وَوَلَدُهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْإِيمَانِ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ. وَالتَّقْدِيرُ: تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَتَكُونُ جُمْلَةُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ تَذْيِيلًا، أَيْ أَنْتَ لَا تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. وَالْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ. وَإِحْدَاهُمَا تَأْكِيدٌ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَبْلَهَا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَلَى نَحْوِ تَكْرِيرِ (أَنْ) فِي قَوْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ اليمانون أنني... إِذْ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ، أَنِّي خَطِيبُهَا
وَالَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَتَبِعَهُ شَارِحُوهُ أَنَّ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ شَرْطِيَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِيهِ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُخَالِفَةٌ لِوَصَايَا الْكِتَابِ أَوْ بِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ. وَلِتَضَمُّنِ يَنْطِقُ مَعْنَى (يَشْهَدُ) عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى).
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ لِلتَّهْدِيدِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى تَعْدِيَةِ يَنْطِقُ بِحَرْفِ (عَلَى) دُونَ زِيَادَةِ:
وَلَكُمْ، إِيثَارًا لِجَانِبِ التَّهْدِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا هَذَا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ خَطَرَ بِبَالِهِمُ السُّؤَالُ: كَيْفَ شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ الْيَوْمَ وَهُمْ قَدْ عَمِلُوا الْأَعْمَالَ فِي الدُّنْيَا، فَأُجِيبُوا بِأَنَّ اللَّهَ كَانَ يَأْمُرُ بِنَسْخِ مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الصُّحُفِ فِي وَقْتِ عَمَلِهِ.
وَإِنْ حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَى كُتُبِ الشَّرِيعَةِ كَانَتْ جُمْلَةُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تَعْلِيلًا لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهَا بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِ النُّطْق بِأَنَّهُ بِالْحَقِّ، أَيْ لِأَنَّ أَعْمَالَكُمْ كَانَتْ مُحْصَاةً مُبَيَّنٌ مَا هُوَ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ كِتَابُهُمْ.
وَالِاسْتِنْسَاخُ: اسْتِفْعَالٌ مِنَ النَّسْخِ.
وَالنَّسَخُ: يُطْلَقُ عَلَى كِتَابِةِ مَا يُكْتَبُ عَلَى مِثَالِ مَكْتُوبٍ آخَرَ قَبْلَهُ. وَيُسَمَّى بِالْمُعَارَضَةِ أَيْضًا. وَظَاهِرُ الْأَسَاسِ أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ مَعْنَى النَّسْخِ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ مَجَازٌ. وَكَلَامُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِهِ كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاءُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي بَابِ النَّسْخِ. وَكَلَامُ الرَّاغِبِ يَحْتَمِلُ الْإِطْلَاقَيْنِ، فَإِذَا دَرَجْتَ عَلَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ فَقَدْ جَعَلْتَ كِتَابَةَ مَكْتُوبٍ عَلَى مِثَالِ مَكْتُوبٍ قَبْلَهُ كَإِزَالَةٍ لِلْمَكْتُوبِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ لِقَصْدِ التَّعْوِيضِ عَنِ الْمَكْتُوبِ الْأَوَّلِ لِمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ أَوْ لِخَشْيَةِ ضَيَاعِ الْأَصْلِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَقُولُ: أَلَسْتُمْ عَرَبًا وَهَلْ يَكُونُ النَّسْخُ إِلَّا مِنْ كِتَابٍ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى كِتَابَةٍ أُنُفٍ لَيْسَتْ عَلَى مِثَالِ كِتَابَةٍ أُخْرَى سَبَقَتْهَا فَكَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي الْأَسَاسِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ مَعَانِي النَّسْخِ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي «الْكَشَّافِ»، فَيَكُونُ لَفْظُ النَّسْخِ مُشْتَرِكًا فِي الْمَعْنَيَيْنِ بَلْ رُبَّمَا كَانَ مَعْنَى
عَنْ تَجْهِيزِ جَيْشِ الْعُسْرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إِلَى قَوْلِهِ:
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التَّوْبَة: ٦٧]، فَهُمْ إِذَا سَمِعُوا الْخِطَابَ علمُوا أَنهم الْمَقْصُود عَلَى نَحْوِ مَا فِي آيَاتِ سُورَةٍ بَرَاءَةٌ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَنَّ سَنَةَ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَدَدٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَيُوَجَّهُ إِلَيْهِ خِطَابٌ كَهَذَا.
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَأَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لِمَا فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى غَفْلَةِ السَّامِعِينَ عَنْ كَوْنِ الْمَالِ لِلَّهِ جَعَلَ النَّاسَ كَالْخَلَائِفِ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مُدَّةً مَا، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا لِذَلِكَ كَمَا يَمْتَثِلُ الْخَازِنُ أَمْرَ صَاحِبِ الْمَالِ إِذَا أَمَرَهُ بِإِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْهُ إِلَى مَنْ يُعِّينُهُ.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي مُسْتَخْلَفِينَ لِلْمُبَالَغِةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ لَا لِلطَّلَبِ لِاسْتِفَادَةِ الطَّلَبِ مِنْ فِعْلِ جَعَلَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِتَأْكِيدِ الطَّلَبِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ تَفْرِيعٌ وَتَسَبُّبٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لِإِفَادَةِ تَعْلِيلِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنْفَقُوا أَعْدَدْنَا لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا.
وَالْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ كَوْنِ الْآيَةِ مَكِّيَّةً: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَيْنِكُمْ وَأَنْفَقُوا، أَيْ سَبَقُوكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ، أَيْ فَاغْتَنَمُوهُ وَتَدَارَكُوا مَا فَاتُوكُمْ بِهِ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ بَعْضُ قومكم.
وَفِي هَذَا إغراء لَهُم بِأَن يماثلوهم.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلَا الْمُضِيِّ فِي قَوْلِهِ: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا مُسْتَعْمَلَانِ فِي مَعْنَى الْمُضَارع للتّنْبِيه عَن إِيقَاع ذَلِك.
[٨]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٨]
وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
ظَاهِرُ اسْتِعْمَالِ أَمْثَالِ قَوْلِهِ: وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا مُسْتَعْمَلًا
وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ دُونَ ذَنْبٍ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَذَلِكَ فِيمَا عَدَا التَّوْبَةِ مِنَ الْكُفْرِ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ فَصَحِيحَةٌ فِي غُفْرَانِ إِثْمِ الْكُفْرِ وَلَوْ بَقِيَ مُتَلَبِّسًا بِبَعْضِ الْكَبَائِرِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ.
وَالذُّنُوبُ الَّتِي تَجِبُ مِنْهَا التَّوْبَةُ هِيَ الْكَبَائِرُ ابْتِدَاءً، وَكَذَلِكَ الصَّغَائِرُ وَتَمْيِيزُ الْكَبَائِرِ مِنَ الصَّغَائِرِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى مَحَلُّهَا أُصُولُ الدِّينِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ وَالْفِقْهُ.
إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَغَفَرَ الصَّغَائِرَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ، أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ [٣٢].
وَلَوْ عَادَ التَّائِبُ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَوْ جَمِيعِهَا مَا عَدَا الْكُفْرَ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ فَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْتَقِضُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ فِي خُصُوصِ الذَّنْبِ الْمَعُودِ إِلَيْهِ وَلَا تَنْتَقِضُ فِيمَا سِوَاهُ. وَأَنَّ الْعَوْدَ مَعْصِيَةٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ:
تَنْتَقِضُ بِالْعَوْدَةِ إِلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ فَتَعُودُ إِلَيْهِ ذُنُوبُهُ وَوَافَقَهُمُ الْبَاقِلَّانِيُّ.
وَلَيْسَ فِي أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَشْهَدُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَالرَّجَاءُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ فِعْلِ عَسى مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعْدِ الصَّادِرِ عَنِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَذَلِكَ التَّائِبُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَنْ يُعْفَى عَنْهُ مَا اقْتَرَفَهُ لِأَنَّ الْعِصْيَانَ قَدْ حَصَلَ وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ عَزْمٌ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى الذَّنْبِ وَلَكِنْ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ النَّدَمِ وَالْخَوْفِ الَّذِي بَعَثَ عَلَى الْعَزْمِ دَلَّ عَلَى زَكَاءِ النَّفْسِ فَجَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ فَذَلِكَ مَعْنَى الرَّجَاءِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ عَسى.
وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا لِكَثْرَةِ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَيُّنِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْعَاصِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ السُّنَّةِ: قَبُولُهَا مَرْجُوٌّ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ سَمْعًا، وَالْمُعْتَزِلَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ عَقْلًا.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ: غُفْرَانُهَا، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي كَفَرَ الْمُخَفَّفِ الْمُتَعَدِّي الَّذِي هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَفْرِ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ السَّتْرِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٦- سُورَةُ الْإِنْسَانِ
سُمِّيَتْ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُورَةُ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ».
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ ألم السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ
[الْإِنْسَانِ: ١].
وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ»
عَلَى تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةِ الْإِنْسَانِ» عِنْدَ ذِكْرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي عِدَادِ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنِ اسْمٍ.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ الدَّهْرِ» فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ.
وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ تُسَمَّى «سُورَةَ الْأَمْشَاجِ»، لِوُقُوعِ لَفْظِ الْأَمْشَاجِ فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ الطُّبَرِسِيُّ: أَنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْأَبْرَارِ»، لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ نَعِيمِ الْأَبْرَارِ وَذَكَرَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلم أره لغيره.
وَتَسْوِيَةُ النَّفْسِ: خَلْقُهَا سَوَاءً، أَيْ غَيْرُ مُتَفَاوِتَةِ الْخَلْقِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ [٧] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ وَمَا فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما بَناها، أَوْ مَا طَحاها، وَما سَوَّاها، إِمَّا مَصْدَرِيَّةٌ يُؤَوَّلُ الْفِعْلُ بَعْدَهَا بِمَصْدَرٍ فَالْقَسَمُ بِأُمُورٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ صِفَاتُ الْفِعْلِ الْإِلَهِيَّةُ وَهِيَ رَفْعُهُ السَّمَاءَ وَطَحْوُهُ الْأَرْضَ وَتَسْوِيَتُهُ الْإِنْسَانَ.
وَعُطِفَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عَلَى سَوَّاها، فَهُوَ مُقْسَمٌ بِهِ، وَفِعْلُ «أَلْهَمَهَا» فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى صِلَةِ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ، وَعُطِفَ بِالْفَاءِ لِأَن الإلهام ناشىء عَنِ التَّسْوِيَةِ، فَضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي «أَلْهَمَهَا» عَائِدٌ إِلَى التَّسْوِيَةِ وَهِيَ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ سَوَّاها وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَا مَوْصُولَةً صَادِقَةً عَلَى فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَجُمْلَةُ بَناها صِلَةُ الْمَوْصُولِ، أَيْ وَالْبِنَاءِ الَّذِي بَنَى السَّمَاءَ، وَالطَّحْوِ الَّذِي طَحَا الْأَرْضَ وَالتَّسْوِيَةِ الَّتِي سَوَّتِ النَّفْسَ.
فَالتَّسْوِيَةُ حَاصِلَةٌ مِنْ وَقْتِ تَمَامِ خِلْقَةِ الْجَنِينِ مِنْ أَوَّلِ أَطْوَارِ الصِّبَا إِذِ التَّسْوِيَةُ تَعْدِيلُ الْخِلْقَةِ وَإِيجَادُ الْقُوَى الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ ثُمَّ تَزْدَادُ كَيْفِيَّةُ الْقُوَى فَيَحْصُلُ الْإِلْهَامُ وَالْإِلْهَامُ: مَصْدَرُ أَلْهَمَ، وَهُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِالْهَمْزَةِ وَلَكِنَّ الْمُجَرَّدَ مِنْهُ مُمَاتٌ وَالْإِلْهَامُ اسْمٌ قَلِيلُ الْوُرُودِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَهْلُ اللُّغَةِ شَاهِدًا لَهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَيُطْلَقُ الْإِلْهَامُ إِطْلَاقًا خَاصًّا عَلَى حُدُوثِ عِلْمٍ فِي النَّفْسِ بِدُونِ تَعْلِيمٍ وَلَا تَجْرِبَةٍ وَلَا تَفْكِيرٍ فَهُوَ عِلْمٌ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ سَوَاءٌ مَا كَانَ مِنْهُ وِجْدَانِيًّا كَالِانْسِيَاقِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ عَن دَلِيل كالتجربيات وَالْأُمُورِ الْفِكْرِيَّةِ والنظرية.
وإيثار هَذَا الْفِعْلِ هُنَا لِيَشْمَلَ جَمِيعَ عُلُومِ الْإِنْسَانِ، قَالَ الرَّاغِبُ: الْإِلْهَامُ: إِيقَاعُ الشَّيْءِ فِي الرُّوعِ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجِهَةِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى اهـ.
وَلِذَلِكَ فَهَذَا اللَّفْظُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ يَكُنْ مِمَّا أَحْيَاهُ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ اسْمٌ دَقِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةِ وَقَلِيلٌ رَوَاجُ أَمْثَالِ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ


الصفحة التالية
Icon