وَكَحَالِ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُمْلَى عَلَى الْجَارِدِ لَهَا، إِذْ تَقُولُ مَثَلًا: ثَوْب، بِسَاط، سَيْف، دُونَ إِعْرَاب، وَمن أعرابها كَانَ مُخْطِئًا. وَلِذَلِكَ نَطَقَ الْقُرَّاءُ بِهَا سَاكِنَةً سُكُونَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَمَا كَانَ مِنْهَا صَحِيحُ الْآخِرِ نُطِقَ بِهِ سَاكِنًا نَحْوَ أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ. وَمَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُرُوفِ مَمْدُودَ الْآخِرِ نُطِقَ بِهِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ أَلِفًا مَقْصُورًا لِأَنَّهَا مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْمُتَهَجَّى بِهَا وَهِيَ فِي حَالَةِ التَّهَجِّي مَقْصُورَةٌ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِأَنَّ التَّهَجِّيَ إِنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا لِتَعْلِيمِ الْمُبْتَدِئِ، وَاسْتِعْمَالُهَا فِي التَّهَجِّي أَكْثَرُ فَوَقَعَتْ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ مَقْصُورَةً لِأَنَّهَا عَلَى نَمَطِ التَّعْدِيدِ أَوْ مَأْخُوذَةً مِنْهُ.
وَلَكِنَّ النَّاسَ قَدْ يَجْعَلُونَ فَاتِحَةَ إِحْدَى السُّوَرِ كَالِاسْمِ لَهَا فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ: كهيعص كَمَا يَجْعَلُونَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ مِنَ الْقَصِيدَةِ اسْمًا لِلْقَصِيدَةِ فَيَقُولُونَ قَرَأْتُ: «قِفَا نَبْكِ» وَ «بَانَتْ سُعَادُ» فَحِينَئِذٍ قَدْ تُعَامَلُ جُمْلَةُ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي تِلْكَ الْفَاتِحَةِ مُعَامَلَةَ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجْرِي عَلَيْهَا مِنَ الْإِعْرَابِ مَا هُوَ لِنَظَائِرِ تِلْكَ الصِّيغَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ فَلَا يُصْرَفُ حَامِيمُ كَمَا قَالَ شُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى الْعَنْسِيُّ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا:

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وَكَمَا قَالَ الْكُمَيْتُ:
قَرَأْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً تَأَوَّلَهَا مِنَّا فَقِيهٌ وَمُعْرِبٌ
وَلَا يعرب كهيعص [مَرْيَم: ١] إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ إِفْرَادًا وَلَا تَرْكِيبًا. وَأَمَّا طسم فيعرب اعتراب الْمُرَكَّبِ الْمَزْجِيِّ نَحْوَ حَضْرَمَوْتَ وَدَارَابَجِرْدَ (١) وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّكَ إِذَا جَعَلْتَ (هُودَ) اسْمَ السُّورَةِ لَمْ تَصْرِفْهَا فَتَقُولُ قَرَأْتُ هُودَ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ قَالَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةٍ سَمَّيْتَهَا بِعَمْرٍو. وَلَكَ فِي الْجَمِيعِ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحِكَايَةِ وَمَوْقِعِ هَاتِهِ الْفَوَاتِحِ مَعَ مَا يَلِيهَا مِنْ حَيْثُ الْإِعْرَابِ، فَإِنْ جَعَلَتْهَا حُرُوفًا لِلتَّهَجِّي تَعْرِيضًا بِالْمُشْرِكِينَ وَتَبْكِيتًا لَهُمْ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا حِينَئِذٍ مَحْكِيَّةٌ وَلَا تَقْبَلُ إِعْرَابًا، لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ أَسْمَاءِ الْأَصْوَاتِ لَا يُقْصَدُ إِلَّا صُدُورُهَا فَدَلَالَتُهَا تُشْبِهُ الدَّلَالَةَ الْعَقْلِيَّةَ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاطِق بهَا يهيّىء السَّامِعَ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِثْلَ سَرْدِ الْأَعْدَادِ الْحِسَابِيَّةِ عَلَى مَنْ يُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ حَاصِلَهَاُُ،
_________
(١) دارابجرد اسْم بَلْدَة بِفَارِس مركبة من دَارا اسْم ملك. واب اسْم المَاء وجرد بِمَعْنى بلد فَهِيَ بِفَتَحَات ثمَّ جِيم مَكْسُورَة.
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْعُمْرَةُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْحَجُّ عَلَى وَجْهِ الْإِدْمَاجِ
تَبْشِيرًا بِأَنَّهُمْ سَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الْحَجِّ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ.
وَالْإِتْمَامُ إِكْمَالُ الشَّيْءِ وَالْإِتْيَانُ عَلَى بَقَايَا مَا بَقِيَ مِنْهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَهُ.
وَمِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِوَصْفِ فِعْلٍ يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلَ وَصْفٍ خَاصٍّ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ الْوَصْفُ كَالْإِتْمَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ أَيْ كَمِّلُوهُ إِنْ شَرَعْتُمْ فِيهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [الْبَقَرَة: ١٨٧] عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ [التَّوْبَة:
٤] وَمِثْلُهُ أَنْ تَقُولَ: أَسْرِعِ السِّيَرَ لِلَّذِي يَسِيرُ سَيْرًا بَطِيئًا، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَجِيءَ الْأَمْرُ بِوَصْفِ الْفِعْلِ مُرَادًا بِهِ تَحْصِيلُ الْفِعْلِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَة: ١٥٠]، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ: أَسْرِعِ السَّيْرَ فَادْعُ لِي فُلَانًا تُخَاطِبُ بِهِ مُخَاطَبًا لَمْ يَشْرَعْ فِي السَّيْرِ بَعْدُ، فَأَنْتَ تَأْمُرُهُ بِإِحْدَاثِ سَيْرٍ سَرِيعٍ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ:
«وَسِّعْ فَمَ الرَّكِيَّةِ، وَقَوْلُهُمْ: وَسِّعْ كُمَّ الْجُبَّةِ وَضَيِّقْ جَيْبَهَا» أَيْ أَوْجِدْهَا كَذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّعْبِيرِ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ وَلَا مَجَازٍ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بِمَجْمُوعِ شَيْئَيْنِ وَهُوَ أَقَلُّ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَطْلُوبُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ابْتِدَاءً هُوَ الْحَدَثُ الَّذِي مِنْهُ مَادَّةُ تِلْكَ الصِّيغَةِ.
وَالْآيَةُ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعْمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، بِمَعْنَى أَلَّا يَكُونَ حَجًّا وَعُمْرَةً مَشُوبَيْنِ بِشَغَبٍ وَفِتْنَةٍ وَاضْطِرَابٍ أَوْ هِيَ أَمْرٌ بِإِكْمَالِهِمَا وَعَدَمِ الرُّجُوعِ عَنْهُمَا بَعْدَ الْإِهْلَالِ بِهِمَا وَلَا يَصُدُّهُمْ عَنْهُمَا شَنَآنُ الْعَدُوِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهِيَ أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِهِمَا تَامَّيْنِ أَيْ مُسْتَكْمِلَيْنِ مَا شُرِعَ فِيهِمَا.
وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَأَنَّ هَذَا التَّحْرِيضَ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ هُنَا هُمَا الصَّرُورَةُ فِي الْحَجِّ وَكَذَا فِي الْعُمْرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا.
وَاللَّامُ فِي (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَهُمَا عِبَادَتَانِ مَشْهُورَتَانِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ مُتَمَيِّزَتَانِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَجْنَاسِ، فَالْحَجُّ هُوَ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لِلْجَمَاعَةِ وَفِيهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ، وَالْعُمْرَةُ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ مُعَيَّنٍ وَهِيَ لِكُلِّ فَرْدٍ بِخُصُوصِهِ.
وَأَصْلُ الْحَجِّ فِي اللُّغَةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا تَكَرُّرُ الْقَصْدِ إِلَى الشَّيْءِ أَوْ كَثْرَةُ قَاصِدِيهِ.
وَعَنِ
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» فِي مَعْنَى شِدَّةِ الِاتِّصَالِ حَتَّى كَأَنَّ أَحَدَهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ فِي الِانْفِصَالِ وَالْقَطِيعَةِ: لَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْكَ قَالَ النَّابِغَةُ:
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي فَقَوْلُهُ: فِي شَيْءٍ تَصْرِيحٌ بِعُمُومِ النَّفْيِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِرَفْعِ احْتِمَالِ تَأْوِيلِ نَفْيِ الِاتِّصَالِ بِأَغْلَبِ الْأَحْوَالِ فَالْمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَى اللَّهِ، وَهَذَا يُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُنَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْحَالُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ تَرْوِيجَهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاء: ١٤٤، ١٤٥].
وَقِيلَ: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً دَلَّتْ عَلَى النَّهْيِ عَنْ وَلَايَةِ الْكَافِرِينَ مُطْلَقًا: كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الْمَائِدَة: ٥١]- وَقَوْلِهِ- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ
[الْمَائِدَة: ٥٧] وَإِلَى هَذَا الْوَجْهِ مَالَ الْفَخْرُ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ بِمَعْنَى ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْآيَةُ نَهْيٌ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاعْتِبَارِ الْقَيْدِ أَوْ مُطْلَقًا، وَالْمُوَالَاةُ تَكُونُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبِالظَّاهِرِ فَقَطْ، وَتَعْتَوِرُهَا أَحْوَالٌ تَتْبَعُهَا أَحْكَامٌ، وَقَدِ اسْتَخْلَصْتُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَحْوَالٍ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَّخِذَ الْمُسْلِمُ جَمَاعَةَ الْكُفْرِ، أَوْ طَائِفَتَهُ، أَوْلِيَاءَ لَهُ فِي بَاطِنِ أَمْرِهِ، مَيْلًا إِلَى كُفْرِهِمْ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ كُفْرٌ، وَهِيَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ،
وَفِي حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَائِلًا قَالَ فِي مَجْلِسِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ»، فَقَالَ آخَرُ: «ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَقَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ» فَقَالَ الْقَائِلُ
وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ.
وَالْبَثُّ: النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤].
وَوَصَفَ الرِّجَالَ، وَهُوَ جَمْعٌ، بِكَثِيرٍ، وَهُوَ مُفْرد، لأنّ كثير يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٤٦]. وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لدلَالَة وصف الرجل بِهِ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.
شُرُوعٌ فِي التَّشْرِيعِ الْمَقْصُودِ مِنَ السُّورَةِ، وَأُعِيدَ فِعْلُ اتَّقُوا: لِأَنَّ هَذِهِ التَّقْوَى مَأْمُورٌ بِهَا الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُمْ قَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَشْعُرُونَ بِهَا،
وَهِيَ التَّسَاهُلُ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْأَيْتَامِ.
وَاسْتَحْضَرَ اسْمَ اللَّهِ الْعَلَمَ هُنَا دُونَ ضَمِيرٍ يَعُودُ إِلَى رَبِّكُمْ لِإِدْخَالِ الرَّوْعِ فِي ضَمَائِرِ السَّامِعِينَ. لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ إِيثَارُ الْمَهَابَةِ بِخِلَافِ مَقَامِ قَوْلِهِ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فَهُوَ مَقَامُ ترغيب. وَمعنى تَسائَلُونَ بِهِ يَسْأَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهِ فِي الْقَسَمِ فَالْمُسَايَلَةُ بِهِ تُؤْذِنُ بِمُنْتَهَى الْعَظَمَةِ، فَكَيْفَ لَا تَتَّقُونَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور تسائلون- بِتَشْدِيدِ السِّينِ- لِإِدْغَامِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ تَاءُ التَّفَاعُلِ فِي السِّينِ، لِقُرْبِ الْمَخْرَجِ وَاتِّحَادِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْهَمْسُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَعَاصِمٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: تَسَاءَلُونَ- بِتَخْفِيفِ السِّينِ- عَلَى أَنَّ تَاءَ الِافْتِعَالِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا.
وَالْأَرْحامَ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ- بِالْجَرِّ- عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ. فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ يَكُونُ الْأَرْحَامَ مَأْمُورًا بِتَقْوَاهَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ اتِّقَائِهَا، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ اتِّقَاءِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ
الْمُرَادُ بِهِ التَّفْضِيلُ فَأَصْلُ وَزْنِهِ أَفْعَلُ، فَخُفِّفَ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ قَلْبِ حَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ.
جَمْعُهُ أَخْيَارٌ، أَيْ وَالصُّلْحُ فِي ذَاتِهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ. وَالْحَمْلُ عَلَى كَوْنِهِ تَفْضِيلًا يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ هُوَ النُّشُوزُ وَالْإِعْرَاضُ. ، وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَعْنًى.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى شِدَّةِ التَّرْغِيبِ فِي هَذَا الصُّلْحِ بِمُؤَكِّدَاتٍ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ الْمَصْدَرُ الْمُؤَكِّدُ فِي قَوْلِهِ: صُلْحاً، وَالْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى فِعْلِ سَجِيَّةٍ.
وَمَعْنَى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ مُلَازَمَةُ الشُّحِّ لِلنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ حَاضِرٌ لَدَيْهَا. وَلِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْجِبِلَّةِ بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَجْهُولِ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي بِنَاءِ كُلِّ فِعْلٍ غَيْرِ مَعْلُومِ الْفَاعِلِ لِلْمَجْهُولِ، كَقَوْلِهِمْ: شُغِفَ بِفُلَانَةٍ، وَاضْطُرَّ إِلَى كَذَا. فَ «الشُّحَّ» مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِ «أُحْضِرَتْ» لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ أَعْطَى.
وَأَصْلُ الشُّحِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْبُخْلُ بِالْمَالِ،
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ
شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى»

، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْحَشْر: ٩] وَيُطْلَقُ عَلَى حِرْصِ النَّفْسِ عَلَى الْحُقُوقِ وَقِلَّةِ التَّسَامُحِ فِيهَا، وَمِنْهُ الْمُشَاحَّةُ، وَعَكْسُهُ السَّمَاحَةُ فِي الْأَمْرَيْنِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صُلْحَ الْمَالِ، وَهُوَ الْفِدْيَةُ. فَالشُّحُّ هُوَ شُحُّ الْمَالِ، وَتَعْقِيبُ قَوْلِهِ: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ بِقَوْلِهِ: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي مَوْعِظَةٍ أَوْ نَحْوِهَا: وَمَا إِخَالُكَ تَفْعَلُ، لِقَصْدِ التَّحْرِيضِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الشُّحِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ: مِنَ الْمُشَاحَّةِ، وَعَدَمِ التَّسَاهُلِ، وَصُعُوبَةِ الشَّكَائِمِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنَ الصُّلْحِ صُلْحَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْقِيبِهِ بِهِ تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُتَلَبِّسِينَ بِهَذِهِ الْمُشَاحَّةِ الْحَائِلَةِ دُونَ الْمُصَالَحَةِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبُخْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨٠]. وَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ ذَمُّ الشُّحِّ بِالْمَالِ، وَذَمُّ مَنْ لَا سَمَاحَةَ فِيهِ، فَكَانَ هَذَا التَّعْقِيبُ تَنْفِيرًا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمَانِعَةِ مِنَ السَّمَاحَةِ وَالصُّلْحِ، وَلِذَلِكَ ذُيِّلَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً لِمَا فِيهِ مِنَ
كَالْعَطِيَّةِ لِيُشِيرَ إِلَى فَرْطِ ثَوَابِهِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَى كَفَّارَةٌ لَهُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ عَنْهُ ذُنُوبًا عَظِيمَةً، لِأَجْلِ مَا فِي هَذَا الْعَفْوِ مِنْ جَلْبِ الْقُلُوبِ وَإِزَالَةِ الْإِحَنِ وَاسْتِبْقَاءِ نُفُوسِ وَأَعْضَاءِ الْأُمَّةِ.
وَعَادَ فَحَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ اللَّهِ فَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ بِالْحُكْمِ وَإِبْطَالَ الْعَمَلِ بِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ شُرِعَ لِحَكَمٍ عَظِيمَةٍ: مِنْهَا الزَّجْرُ، وَمِنْهَا جَبْرُ خَاطِرِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَمِنْهَا التَّفَادِي مِنْ تَرَصُّدِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ لِلِانْتِقَامِ مِنَ الْمُعْتَدِينَ أَوْ مِنْ أَقْوَامِهِمْ. فَإِبْطَالُ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ يُعَطِّلُ هَذِهِ الْمَصَالِحَ، وَهُوَ ظُلْمٌ، لِأَنَّهُ غَمْصٌ لِحَقِّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ أَوْ وَلَيِّهِ. وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنِ الْجَانِي فَيُحَقِّقُ جَمِيعَ الْمَصَالِحِ وَيَزِيدُ مَصْلَحَةَ التَّحَابُبِ لِأَنَّهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَقَدْ تَغْشَى غَبَاوَةُ حُكَّامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَفْهَامِهِمْ فَيَجْعَلُوا إِبْطَالَ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ، فَهَذَا وَجْهُ إِعَادَةِ التَّحْذِيرِ عَقِبَ اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ. وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ. وَبِهِ يَتَعَيَّنُ رُجُوعُ هَذَا التَّحْذِيرِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ سَابِقِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الْكَافِرُونَ لِأَنَّ الظُّلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ فَيَكُونُ هَذَا مُؤَكِّدًا لِلَّذِي فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجَوْرُ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ وَصْفِ الظُّلْمِ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كافرون ظَالِمُونَ.
[٤٦، ٤٧]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٤٦ إِلَى ٤٧]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
وَتَشْمَلُ الْأَرْضُ الْبَحْرَ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الدَّابَّةِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سَرِيَّةِ سَيْفِ الْبَحْرِ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ.
وَالْمُمَاثَلَةُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ التَّشَابُهُ فِي فُصُولِ الْحَقَائِقِ وَالْخَاصَّاتِ الَّتِي تُمَيِّزُ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَهِيَ النُّظُمُ الْفِطْرِيَّةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا أَنْوَاعَ الْمَخْلُوقَاتِ. فَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ تُمَاثِلُ الْأَنَاسِيَّ فِي أَنَّهَا خُلِقَتْ عَلَى طَبِيعَةٍ تَشْتَرِكُ فِيهَا أَفْرَادُ أَنْوَاعِهَا وَأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مُعْطَاةٌ حَيَاةً مُقَدَّرَةً مَعَ تَقْدِيرِ أَرْزَاقِهَا وَوِلَادَتِهَا وَشَبَابِهَا وَهِرَمِهَا، وَلَهَا نُظُمٌ لَا تَسْتَطِيعُ تَبْدِيلَهَا.
وَلَيْسَتِ الْمُمَاثَلَةُ بِرَاجِعَةٍ إِلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهَا لَا تُمَاثِلُ الْإِنْسَانَ فِي التَّفْكِيرِ وَالْحَضَارَةِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنَ الْفِكْرِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ. وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ الْإِنْسَانِ نِظَامُ دَوْلَةٍ وَلَا شَرَائِعُ وَلَا رُسُلٌ تُرْسَلُ إِلَيْهِنَّ لِانْعِدَامِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ فِيهِنَّ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُوصَفَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاء: ٤٤] فَذَلِكَ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي الْعَجْمَاوَاتِ حِينَ نَرَاهَا بَهِجَةً عِنْدَ حُصُولِ مَا يُلَائِمُهَا فَنَرَاهَا مَرِحَةً فَرِحَةً. وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَا سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهَا مِنَ النِّعْمَةِ وَهِيَ لَا تَفْقَهُ أَصْلَهَا وَلَكِنَّهَا تُحِسُّ بِأَثَرِهَا فَتَبْتَهِجُ، وَلِأَنَّ فِي كُلَّ نَوْعٍ مِنْهَا خَصَائِصَ لَهَا دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ مِنْ جِنْسِهِ وَالْمَقْصِدُ مِنْ هَذَا صَرْفُ الْأَفْهَامِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِنِظَامِ الْخَلْقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ نَوْعٍ، وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَمْثالُكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَجُمْلَةُ: مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ مُعْتَرِضَةٌ لِبَيَانِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ. فَالْكِتَابُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَكْتُوبِ، وَهُوَ الْمُكَنَّى عَنْهُ بِالْقَلَمِ الْمُرَادِ بِهِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى، وَفْقِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الْأَنْعَام: ١٢].
وَقِيلَ الْكِتَابُ الْقُرْآن. وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ بِالْغَرَضِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، فَقَدْ أَوْرَدَ كَيْفَ يَشْتَمِلُ الْقُرْآنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ بَسَطَ فَخْرُ الدِّينِ بَيَانَ ذَلِكَ لِاخْتِيَارِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي «الْمُوَافَقَاتِ».
وَالتَّفْرِيطُ: التَّرْكُ وَالْإِهْمَالُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانَهُ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها [الْأَنْعَام: ٣١].
وَالشَّيْءُ هُوَ الْمَوْجُودُ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَحْوَالُ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ فَشَمِلَ أَحْوَالَ الدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ فَإِنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُقَدَّرَةٌ عِنْدِهِ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِهِ تَعَالَى.
فَقَدْ أَشْعَرَتْ مُجَادَلَتُهُمْ صَالِحًا فِي أَمْرِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ التَّعَقُّلَ فِي الْمُجَادَلَةِ أَخَذَ يَدُبُّ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ غَلْوَاءَهُمْ فِي الْمُكَابَرَةِ أَخَذَتْ تَقْصُرُ، وَأَنَّ قَنَاةَ بِأْسِهِمْ ابْتَدَأَتْ تَلِينُ، لِلْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَ جَوَابِ قَوْمٍ نُوحٍ وَقَوْمِ هُودٍ، وَبَيْنَ جَوَابِ قَوْمِ صَالِحٍ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَمْهَلَهُمُ اللَّهُ وَمَادَّهُمْ لِيَنْظُرُوا وَيُفَكِّرُوا فِيمَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ نبئهم وَلِيَزِنُوا أَمْرَهُمْ، وَجَعَلَ لَهُمُ الِانْكِفَافَ عَنْ مَسِّ النَّاقَةِ بِسُوءٍ عَلَامَةً عَلَى امْتِدَادِ الْإِمْهَالِ لِأَنَّ انْكِفَافَهُمْ ذَلِكَ عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّ نُفُوسَهُمْ لَمْ تُحْنِقْ عَلَى رَسُولِهِمْ، فَرَجَاؤُهُ إِيمَانَهُمْ مُسْتَمِرٌّ، وَالْإِمْهَالُ لَهُمْ أَقْطَعُ لِعُذْرِهِمْ، وَأَنْهَضُ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ اللَّهُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ إِكْرَامًا لِنَبِيِّهِمُ الْحَرِيصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنُوحٍ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ [هود: ٣٦].
وَجُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ إِلَخْ، هِيَ مِنْ مَقُولِ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ فِيهِ بِالدَّعْوَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ طُوِيَ هُنَا جَوَابُ قَوْمِهِ وَسُؤَالُهُمْ إِيَّاهُ آيَةً كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ سُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الشُّعَرَاءِ، فَفِي سُورَةِ هُودٍ [٦١، ٦٢] : قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا الْآيَةَ. وَفِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٥٣- ١٥٥] : قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ الْآيَة.
فَجُمْلَةُ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: اعْبُدُوا اللَّهَ، أَيِ اعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَكُمْ آيَةً عَلَى تَصْدِيقِي فِيمَا بَلَّغْتُ لَكُمْ، وَعَلَى انْفِرَادِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَوْلُهُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ النَّاقَةَ كَانَتْ حَاضِرَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ لِأَنَّهَا نَفْسُ الْآيَةِ.
وَجُمْلَةُ: وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً فَتَكُونُ صِلَةً ثَانِيَةً.
وَالْقَوْلُ فِي الْفِعْلَيْنِ مِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ- وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كَالْقَوْلِ فِي مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً.
وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ فِي وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لِلِاهْتِمَامِ بِنَفْيِ هَذَا النَّصْرِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى عَجْزِ تِلْكَ الْآلِهَةِ لِأَنَّ مَنْ يُقَصِّرُ فِي نَصْرِ غَيْرِهِ لَا يُقَصِّرُ فِي نَصْرِ نَفْسِهِ لَوْ قَدَرَ.
وَالْمَعْنَى: أَنْ الْأَصْنَامَ لَا يَنْصُرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَهُمْ إِذَا احْتَاجُوا لِنَصْرِهِمْ وَلَا يَنْصُرُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنْ رَامَ أَحَدٌ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصْرِ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَخَيَّلُونَ أَنْ تَقُومَ بِهَا الْأَصْنَامُ مَقْصُودٌ مِنْهُ تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى انْتِفَاءِ مَقْدِرَةِ الْأَصْنَامِ عَلَى نَفْعِهِمْ، إِذْ كَانَ النَّصْرُ أَشَدَّ مَرْغُوبٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ غارات وقتال وتراث، فَالِانْتِصَارُ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ لَدَيْهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [يس:
٧٤، ٧٥] وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مَرْيَم: ٨١، ٨٢]، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ «أَعْلُ هُبْلُ» - وَقَالَ أَيْضًا- «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ» وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْبِشَارَةِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَيُغْلَبُونَ قَالَ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمرَان: ١٢] وَأَنَّهُمْ سَيَمْحَقُونَ الْأَصْنَامَ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ الذب عَنْهَا.
[١٩٣]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٩٣]
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئاً [الْأَعْرَاف: ١٩١] زِيَادَةً فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ بِذِكْرِ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الشِّرْكِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ سَخَافَةِ الْعُقُولِ وَوَهَنِ الدَّلِيلِ، بَعْدَ ذِكْرِ مَا هُوَ كَافٍ لِتَزْيِيفِهِ.
فَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْمَرْفُوعِ فِي وَإِنْ تَدْعُوهُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مَعَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ الْمَنْصُوبِ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَمَا عَادَ
وَفِي ذِكْرِ خِلالَكُمْ مَا يَصْلُحُ لِتَشْبِيهِ اسْتِقْرَائِهِمُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَفْرَادَ بِتَغَلْغُلِ الرَّوَاحِلِ فِي خِلَالِ الطُّرُقِ وَالشِّعَابِ.
وَالْخِلَالُ: جَمْعُ خَلَلٍ بِالتَّحْرِيكِ. وَهُوَ الْفُرْجَةُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِمَعْنَى بَيْنَكُمْ تَشْبِيهًا لِجَمَاعَاتِ الْجَيْشِ بِالْأَجْزَاءِ الْمُتَفَرِّقَةِ.
وَكتب كلمة ولَأَوْضَعُوا فِي الْمُصْحَفِ- بِأَلِفٍ بَعْدَ هَمْزَةِ أَوْضَعُوا- الَّتِي فِي اللَّامْ أَلِفْ بِحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ اللَّامِ أَلِفَانِ فَأَشْبَهَتِ اللَّامْ أَلِفْ لَا النَّافِيَةَ لِفِعْلِ أَوْضَعُوا وَلَا يُنْطَقُ بِالْأَلِفِ الثَّانِيَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَلَا يَقَعُ الْتِبَاسٌ فِي أَلْفَاظِ الْآيَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَتْحَةَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَلْسِنَةِ تُكْتَبُ أَلِفًا. وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «يُحْتَمَلُ أَنْ تُمْطَلَ حَرَكَةُ اللَّامِ فَتَحْدُثُ أَلِفٌ بَيْنَ اللَّامِ وَالْهَمْزَةِ الَّتِي مِنْ أَوْضَعَ، وَقِيلَ:
ذَلِكَ لِخُشُونَةِ هِجَاءِ الْأَوَّلِينَ»
، يَعْنِي لِعَدَمِ تَهْذِيبِ الرَّسْمِ عِنْدَ الْأَقْدَمِينَ مِنَ الْعَرَبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ كَتَبُوا لَأَذْبَحَنَّهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢١] قُلْتُ: وَكَتَبُوا لَأُعَذِّبَنَّهُ [النَّمْل: ٢١] بِلَامْ أَلِفْ لَا غَيْرَ وَهِيَ بِلَصْقِ كَلِمَةِ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النَّمْل: ٢١]، وَلَا فِي نَحْو
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا [الْإِسْرَاء: ٧٣] فَلَا أَرَاهُمْ كَتَبُوا أَلِفًا بَعْدَ اللَّامْ أَلِفْ فِيمَا كَتَبُوهَا فِيهِ إِلَّا لِمَقْصِدٍ، وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ مَفْتُوحَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا هَمْزَةُ قَطْعٍ.
وَجُمْلَةُ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ [التَّوْبَة:
٤٦] الْعَائِدِ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التَّوْبَة: ٤٥] الْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَبَغَى يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى طَلَبَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٨٣]. وَعُدِّيَ يَبْغُونَكُمُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ هُنَا عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَصْلُهُ يَبْغُونَ لَكُمُ الْفِتْنَةَ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي فِعْلِ بَغَى بِمَعْنَى طَلَبَ.
وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ الْأُمُورِ وَفَسَادُ الرَّأْيِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ
فَمَعْنَى لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ خَائِفٌ، أَيْ هُمْ بِمَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَكْرُوهٌ يُخَافُ مِنْ إِصَابَةِ مِثْلِهِ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَهْجِسُ فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِنَ الْأَعْدَاءِ هَجْسًا مِنْ جِبِلَّةِ تَأَثُّرِ النُّفُوسِ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ بَوَادِرِ الْمَخَافَةِ، فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ حَالَهُمْ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْأَحْوَالِ بِنَظَرِ الْيَقِينِ سَلِيمًا مِنَ التَّأَثُّرِ بِالْمَظَاهِرِ، فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخَافَ، وَلِذَلِكَ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَاقِبَةِ مَا يَتَوَجَّسُونَ مِنْهُ خِيفَةً، فَالْخَوْفُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْآيَةِ يُقَدَّرُ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ غَيْرُهُمْ لَا مَحَالَةَ، أَيْ لَا خَوْفٌ يَخَافُهُ خَائِفٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذَا اعْتَرَاهُمُ الْخَوْفُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَشِعَ عَنْهُمْ وَتَحُلَّ السَّكِينَةُ مَحَلَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَة: ٢٥، ٢٦]، وَقَالَ لِمُوسَى: لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى [طه: ٧٧]، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَكَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَدْعُو اللَّهَ بِالنَّصْرِ وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ
وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»
. ثُمَّ خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [الْقَمَر: ٤٥].
وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الْآيَةُ تَغَيَّرَ الْأُسْلُوبُ فِي قَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فَأَسْنَدَ فِيهِ الْحُزْنَ الْمَنْفِيَّ إِلَى ضَمِيرِ أَوْلِياءَ اللَّهِ مَعَ الِابْتِدَاءِ بِهِ، وَإِيرَادِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ مُسْنَدًا مُفِيدًا تَقَوِّي الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْحُزْنَ هُوَ انْكِسَارُ النَّفْسِ مِنْ إِثْرِ حُصُولِ الْمَكْرُوهِ عِنْدَهَا فَهُوَ لَا تُوجَدُ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ، وَالْخَوْفُ يَكُونُ قَبْلَ حُصُولِهِ، ثُمَّ هُمْ وَإِنْ كَانُوا يَحْزَنُونَ لِمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ أُمُورٍ فِي الدُّنْيَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنَّا لِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُنُونَ»
فَذَلِكَ حُزْنٌ وِجْدَانِيٌّ لَا يَسْتَقِرُّ بَلْ يَزُولُ بِالصَّبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمُ الْحُزْنُ الدَّائِمُ وَهُوَ حَزْنُ
الْمَذَلَّةِ وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ وَزَوَالِ دَيْنِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ نَفْيِ الْحُزْنِ عَنْهُمْ بِإِدْخَالِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى تَرْكِيبٍ مُفِيدٍ لِتَقَوِّيِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لِأَنَّ جُمْلَةَ: هُمْ يَحْزَنُونَ يُفِيدُ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا تَقَوِّي الْحُكْمِ الْحَاصِلِ بِالْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ، فَالْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ لَهُمْ خَوْفٌ مُتَمَكِّنٌ ثَابِتٌ يَبْقَى فِيهِمْ وَلَا يَجِدُونَ تَخَلُّصًا مِنْهُ.
وَعَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الرُّؤْيَا عَلَى سُجُودِ الْكَوَاكِبِ وَالنَّيِّرَيْنِ لَهُ، وَقَدْ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- تَأْوِيلَ تِلْكَ بِإِخْوَتِهِ وَأَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجِ أَبِيهِ وَهِيَ خَالَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَعَلِمَ مِنْ تَمْثِيلِهِمْ فِي الرُّؤْيَا أَنَّهُمْ حِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ يَكُونُ أُخُوَتُهُ قَدْ نَالُوا النُّبُوءَةَ، وَبِذَلِكَ عَلِمَ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَى إِخْوَتِهِ وَعَلَى زَوْجِ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السّلام- بالصديقية إِذا كَانَت زَوْجَة نبيء. فَالْمُرَادُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ خاصتهم وهم أنباؤه وَزَوْجُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِعْطَاءُ الْمُلْكِ فَإِتْمَامِهَا عَلَى آلِ يَعْقُوبَ هُوَ أَنْ زَادَهُمْ عَلَى مَا أَعْطَاهُمْ مِنَ الْفَضْلِ نِعْمَةَ قَرَابَةِ الْمَلِكِ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ آلِهِ جَمِيعَ قَرَابَتِهِ.
وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ تَذْكِيرٌ لَهُ بِنِعَمٍ سَابِقَةٍ، وَلَيْسَ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ النُّبُوءَةَ فَالتَّشْبِيهُ تَامٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ الْمُلْكَ فَالتَّشْبِيهُ فِي إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَجَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- أَبَوَيْنِ لَهُ لِأَنَّ لَهُمَا وِلَادَةً عَلَيْهِ، فَهُمَا أَبَوَاهُ
الْأَعْلَيَانِ بِقَرِينَةِ الْمقَام
كَقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»
. وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ بِتَمْجِيدِ هَذِهِ النِّعَمِ، وَأَنَّهَا كَائِنَةٌ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَعَلِمُهُ هُوَ عِلْمُهُ بِالنُّفُوسِ الصَّالِحَةِ لِهَذِهِ الْفَضَائِلِ، لِأَنَّهُ خَلَقَهَا لِقَبُولِ ذَلِكَ فَعَلِمُهُ بِهَا سَابِقٌ، وَحِكْمَتُهُ وَضْعُ النِّعَمِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُنَاسِبَةِ.
وَتَصْدِيرُ الْجُمْلَةِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ لَا لِلتَّأْكِيدِ إِذْ لَا يَشُكُّ يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي عِلْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ. وَالِاهْتِمَامُ ذَرِيعَةٌ إِلَى إِفَادَةِ التَّعْلِيلِ. وَالتَّفْرِيعُ فِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَتَأَهُّلُهُ لِمِثْلِ تِلْكَ الْفَضَائِل.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِوُقُوعِ مَدْخُولِهَا فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِحَرْفِ هَلْ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَحَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَوَقَعَ جَرُّهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَالْمَعْنَى: هَلْ تُغْنُونَ عَنَّا شَيْئًا.
وَجَوَابُ الْمُسْتَكْبِرِينَ اعْتِذَارٌ عَنْ تَغْرِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَا قَصَدُوا بِهِ تَوْرِيطَ أَتْبَاعِهِمْ كَيْفَ وَقَدْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا، أَيْ لَوْ كُنَّا نَافِعِينَ لَنَفَعْنَا أَنْفُسَنَا. وَهَذَا الْجَوَابُ جَارٍ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ الْعِتَابِيِّ إِذْ لَمْ يُجِيبُوهُمْ بِأَنَّا لَا نَمْلِكُ لَكُمْ غناء وَلَكِن ابتدأوا بِالِاعْتِذَارِ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُمْ نَحْوَهُمْ فِي الدُّنْيَا عِلْمًا بِأَنَّ الضُّعَفَاءَ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لَهُمْ غَنَاءً مِنَ الْعَذَابِ.
وَجُمْلَةُ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مِنْ كَلَامِ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا. وَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَبْيِينٌ عَنْ سُؤَالٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ يَسْتَفْتُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَيَصْبِرُونَ أَمْ يَجْزِعُونَ تَطَلُّبًا لِلْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، فَأَرَادُوا تَأْيِيسَهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: لَا يُفِيدُنَا جَزَعٌ وَلَا صَبْرٌ، فَلَا نَجَاةَ مِنَ الْعَذَابِ. فَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكُ شَامِلٌ لِلْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُجَابِينَ، جَمَعُوا أَنْفُسَهُمْ إِتْمَامًا لِلِاعْتِذَارِ عَنْ تَوْرِيطِهِمْ.
وَالْجَزَعُ: حُزْنٌ مَشُوبٌ بِاضْطِرَابٍ، وَالصَّبْرُ تَقَدَّمَ.
وَجُمْلَةُ مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، أَيْ حَيْثُ لَا مَحِيصَ وَلَا نَجَاةَ فَسَوَاءٌ الْجَزَعُ وَالصَّبْرُ.
وَالْمَحِيصُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ كَالْمَغِيبِ وَالْمَشِيبِ وَهُوَ النَّجَاةُ. يُقَال: حَاصَ عَنْهُ، أَيْ نَجَا مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ حَاصَ أَيْضًا، أَيْ مَا لَنَا مَلْجَأٌ وَمَكَانٌ ننجو فِيهِ.
وَقَدْ عُدِّيَ فِعْلُ يَجْحَدُونَ بِالْبَاءِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى يَكْفُرُونَ، وَتَكُونُ الْبَاءُ لِتَوْكِيدِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ مثل وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [سُورَة الْمَائِدَة: ٦]. وَتَقْدِيمُ «بِنِعْمَةِ اللَّهِ» عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ يَجْحَدُونَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٧٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
عَطْفٌ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِبَدِيعِ الصُّنْعِ فِي خَلْقِ النَّسْلِ إِذْ جُعِلَ مُقَارَنًا لِلتَّأَنُّسِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِذْ جَعَلَ النَّسْلَ مِنْهُمَا وَلَمْ يَجْعَلْهُ مُفَارِقًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.
وَجَعَلَ النَّسْلَ مَعْرُوفًا مُتَّصِلًا بِأُصُولِهِ بِمَا أُلْهِمَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ دَاعِيَةِ حِفْظِ النَّسَبِ، فَهِيَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ [٢١] : وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. فَجَعَلَهَا آيَةً تَنْطَوِي عَلَى آيَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الصُّنْعُ نِعَمًا كَثِيرَةً، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.
وَالْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرَتَيْهَا الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ.
وَاللَّامُ فِي جَعَلَ لَكُمْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ جَعَلَ إِلَى ثَانٍ.
وَمَعْنَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ مِنْ نَوْعِكُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [سُورَة النُّور: ٢١] أَيْ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ بِالْبُيُوتِ، وَقَوْلِهِ: رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [سُورَة آل عمرَان: ١٦٤] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [سُورَة الْبَقَرَة: ٨٥].
وَالْحَشْرُ: جَمْعُ النَّاسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَشْيَهُمْ عُدِّيَ الْحَشْرُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (يَمْشُونَ. وَقَدْ فَهِمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ فسألوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَرَقُّ تَحَمُّلًا لِصَلَابَةِ الْأَرْضِ مِنَ الرِّجْلِ.
وَهَذَا جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْجُرْمِ، لِأَنَّهُمْ رَوَّجُوا الضَّلَالَةَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَوَسَمُوا الْحَقَّ بِسِمَاتِ الضَّلَالِ فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ حُوِّلَتْ وُجُوهُهُمْ أَعْضَاءَ مَشْيٍ عِوَضًا عَنِ الْأَرْجُلِ. ثُمَّ كَانُوا عُمْياً وَبُكْماً جَزَاءَ أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى الْقُرْآنِ، وصُمًّا جَزَاءَ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصّلت: ٥]. وَقَالَ عَنْهُمْ: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه:
١٢٥- ١٢٦]، وَقَالَ عَنْهُمْ: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الْإِسْرَاء:
٧٢] أَيْ مَنْ كَانَ أَعْمَى عَنِ الْحَقِّ فَهُوَ فِي الْحَشْرِ يَكُونُ مَحْرُومًا مِنْ مُتْعَةِ النَّظَرِ. وَهَذِهِ حَالَتُهُمْ عِنْدَ الْحَشْرِ.
وَالْمَأْوَى مَحَلُّ الْأَوْيِ، أَيِ النُّزُولِ بِالْمَأْوَى. أَيِ الْمَنْزِلِ وَالْمَقَرِّ.
وَخَبَتِ النَّارُ خُبُوًا وَخَبْوًا. نَقَصَ لَهِيبُهَا.
وَالسَّعِيرُ: لَهَبُ النَّارِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَعْرِ النَّارِ إِذَا هُيِّجَ وَقُودُهَا. وَقَدْ جَرَى الْوَصْفُ فِيهِ عَلَى التَّذْكِيرِ تَبَعًا لِتَذْكِيرِ اللَّهَبِ. وَالْمَعْنَى: زِدْنَاهُمْ لَهَبًا فِيهَا.
وَفِي قَوْلِهِ: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً إِشْكَالٌ لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تَخْبُو. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [الْبَقَرَة: ٨٦]. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنَّارِ قَالَ تَعَالَى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: ٢٤] فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ زَالَ اللَّهَبُ الَّذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادَوْا كَمَا كَانُوا فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ.
إِذْ لَا فَرْقَ فِي فِعْلِ الْإِلْقَاءِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُبَاشِرًا أَوْ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ. وَيَجُوزُ جَعْلَ الضَّمِيرَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَائِدَيْنِ إِلَى التَّابُوتِ وَلَا لَبْسَ فِي ذَلِكَ.
وَجَزْمُ يَأْخُذْهُ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ عَلَى طَرِيقَةِ جَزْمِ قَوْلِهِ يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه: ٢٨] الْمُتَقَدَّمِ آنِفًا.
وَالْعَدُوُّ: فِرْعَوْنُ، فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ لِأَنَّهُ انْتَحَلَ لِنَفْسِهِ الْإِلَهِيَّةِ، وَعَدُوُ مُوسَى تَقْدِيرًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهُوَ عَدْوُهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ لِأَنَّهُ اعْتَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبْنَائِهِمْ.
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَوْحَيْنا أَيْ حِينَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا كَانَ بِهِ سَلَامَتُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَحِينَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ محبّة لتحصل الرقّة لِوَاجِدِهِ فِي الْيَمِّ، فَيَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَيَتَّخِذُهُ وَلَدًا كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ [الْقَصَص: ٩] لِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ غِلْمَانِ إِسْرَائِيلَ وَلَيْسَ مِنْ أَبْنَاءِ الْقِبْطِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ.
وَإِلْقَاءُ الْمَحَبَّةِ مَجَازٌ فِي تَعَلُّقِ الْمُحِبَّةِ بِهِ، أَيْ خَلْقُ الْمَحَبَّةِ فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ بِدُونِ سَبَبٍ عَادِيٍّ حَتَّى كَأَنَّهُ وُضِعَ بِالْيَدِ لَا مُقْتَضًى لَهُ فِي الْعَادَةِ.
وَوَصْفُ الْمَحَبَّةِ بِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ لِعَدَمِ ابْتِدَاءِ أَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ الْعُرْفِيَّةِ مِنَ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ، أَلَا تَرَى قَوْلَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [الْقَصَص: ٩] مَعَ قَوْلهَا: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [الْقَصَص: ٩]، فَكَانَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا قَبْلَ أَنْ يَنْفَعَهَا وَقَبْلَ اتِّخَاذِهِ وَلَدًا.

[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١٤]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤)
هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ [الْحَج: ٩] وَقَوْلِهِ: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الْحَج: ١١]. فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، وَقَدِ اقْتُصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ ثَوَابِ
الْآخِرَةِ دُونَ ذِكْرِ حَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِعَدَمِ أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ لَدَيْهِمْ وَلَا فِي نَظَرِ الدِّينِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْحَج: ٨] إِلَى هُنَا، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُلْتَئِمِ مِنْهَا الْغَرَضُ. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِعْلُ اللَّهِ مَا يُرِيدُ هُوَ إِيجَادُ أَسْبَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي سُنَّةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَتَبْيِينِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَتَرْتِيبِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَذَلِكَ لَا يُحِيطُ بِتَفَاصِيلِهِ إِلَّا الله تَعَالَى.
[١٥]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ١٥]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ غَامِضٌ، وَمُفَادُهَا كَذَلِكَ. وَلْنَبْدَأْ بِبَيَانِ مَوْقِعِهَا ثُمَّ نُتْبِعُهُ بِبَيَانِ مَعْنَاهَا فَإِنَّ بَيْنَ مَوْقِعِهَا وَمَعْنَاهَا اتِّصَالًا.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إِلَى آخِرِهِ مُجْمَلَةٌ تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالنَّدْبَ بِحَسَبِ مَا يَعْرِضُ مِنْ حَالِ الْمَأْمُورِ بِإِنْكَاحِهِمْ: فَإِنْ كَانُوا مَظِنَّةَ الْوُقُوعِ فِي مَضَارٍّ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا كَانَ إِنْكَاحُهُمْ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِنْكَاحُهُمْ مُسْتَحَبٌّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُنْدَبُ. وَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ ضَعِيفٌ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ مَظِنَّةَ تَرَدُّدٍ فِي إِبَاحَةِ تَزْوِيجِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ إِلَخْ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ عُمُومَ الْأَيَامَى وَالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ يُثِيرُ سُؤَالَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْمَوَالِي أَنْ يَكُونُ الرَّاغِبُ فِي تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ الْأَيِّمِ فَقِيرًا فَهَل يردهُ الْوَلِيّ، وَأَنْ يكون سيد العَبْد فَقِيرًا لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى زَوْجِهِ، وَكَذَلِكَ سَيِّدُ الْأَمَةِ يَخْطُبُهَا رَجُلٌ فَقِيرٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَجَاءَ هَذَا لِبَيَانِ إِرَادَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَحْوَالِ. وَوَعَدَ اللَّهُ الْمُتَزَوِّجَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِنْ كَانَ فَقِيرًا أَنْ يُغْنِيَهُ اللَّهُ، وَإِغْنَاؤُهُ تَيْسِيرُ الْغِنَى إِلَيْهِ إِنْ كَانَ حُرًّا وَتَوْسِعَةُ الْمَالِ عَلَى مَوْلَاهُ إِنْ كَانَ عَبْدًا فَلَا عُذْرَ لِلْوَلِيِّ وَلَا لِلْمَوْلَى أَنْ يَرَدَّ خِطْبَتَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
وَإِغْنَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ تَوْفِيقُ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ الَّتِي اعْتَادُوهَا مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهِ سَعْيُهُمُ الْخَاص من مُقَارنَة الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُفِيدُ سَعْيَهُمْ نَجَاحًا وَتِجَارَتَهُمْ رَبَاحًا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُمْ مُؤْنَةَ مَا يَزِيدُهُ التَّزَوُّجُ مِنْ نَفَقَاتِهِمْ.
وَصِفَةُ اللَّهِ «الْوَاسِعُ» مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ وَسِعَ بِاعْتِبَار أَنه وصف مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالسَّعَةِ هُوَ إِحْسَانُهُ. قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: وَالسَّعَةُ تُضَافُ مَرَّةً إِلَى الْعِلْمِ إِذَا اتَّسَعَ وَأَحَاطَ بِالْمَعْلُومَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَتُضَافُ مَرَّةً إِلَى الْإِحْسَانِ وَبَذْلِ النِّعَمِ، وَكَيْفَمَا قُدِّرَ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ
نَزَلَ فَالْوَاسِعُ الْمُطْلَقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ إِنْ نَظَرَ إِلَى عِلْمِهِ فَلَا سَاحِلَ لِبَحْرِ مَعْلُومَاتِهِ وَإِنْ نَظَرَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ فَلَا نِهَايَةَ لِمَقْدُورَاتِهِ اهـ.
وَالَّذِي يُؤْخَذُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ وَصْفَ الْوَاسِعِ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ سَعَةُ الْفَضْلِ وَالنِّعْمَةِ، وَلِذَلِكَ يُقْرَنُ بِوَصْفِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ قَالَ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١)
طس.
تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تَعْرِيضٌ بِالتَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُؤْتَلِفٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ. وَتَقَدَّمَ مَا فِي أَمْثَالِهَا مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي حَاوَلَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَوِّلِينَ.
وَيَجِيءُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ مُقْتَضَبَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقَالَ فِي حُرُوفِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ: طس مُقْتَضَبٌ مِنْ طَاءِ اسْمِهِ تَعَالَى اللَّطِيفِ، وَمِنْ سِينِ اسْمِهِ تَعَالَى السَّمِيعِ. وَأَنَّ الْمَقْصُود الْقسم بهاذين الِاسْمَيْنِ، أَيْ وَاللَّطِيفِ وَالسَّمِيعِ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ.
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ.
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي صَدْرِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَخَالَفَتْ آيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ سَابِقَتَهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِذِكْرِ اسْمِ الْقُرْآنِ وَبِعَطْفِ وَكِتابٍ عَلَى الْقُرْآنِ وَبِتَنْكِيرِ كِتابٍ.
فَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ الْقُرْآنِ فَلِأَنَّهُ عَلَمٌ لِلْكِتَابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ وَالْهَدْيِ.
وَهَذَا الْعَلَمُ يُرَادِفُ الْكِتَابَ الْمُعَرَّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ الْمَجْعُولِ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ اسْمَ الْقُرْآنِ أَدْخَلُ فِي التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ مَنْقُولٌ. وَأَمَّا الْكِتَابُ فَعَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَكِتابٍ مُبِينٍ الْقُرْآنُ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِتَفْسِيرِهِ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِلتَّفَصِّي مِنْ إِشْكَالِ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ التَّفَصِّيَ مِنْ ذَلِكَ حَاصِلٌ بِأَنَّ عَطْفَ إِحْدَى صِفَتَيْنِ عَلَى أُخْرَى كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ. وَلِمَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنَ الْقُرْآنِ وكِتابٍ مُبِينٍ شَائِبَةُ الْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ بِاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَالثَّانِي بِوَصْفِهِ بِ مُبِينٍ، كَانَ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ رَاجِعًا إِلَى عَطْفِ الصِّفَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤْتَ بِالثَّانِي بَدَلًا، لِأَنَّ الْعَطْفَ أَعْلَقُ بِاسْتِقْلَالِ كِلَا الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي الْكَلَامِ بِخِلَافِ الْبَدَلِ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ سُورَةِ الْحِجْرِ [١] تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ فَإِنَّ قُرْآنٍ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فِي مَعْنَى عَطْفِ الْبَيَانِ مِنَ الْكِتابِ وَلَكِنَّهُ عَطْفٌ لِقَصْدِ جَمْعِهِمَا بِإِضَافَةِ آياتُ إِلَيْهِمَا.
وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نِيَّتَهِمْ فِي إِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ جَعَلُوا إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ عُدَّةً لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ بِأَخَارَةٍ فَيَجِدُونَ أَنَفْسَهُمْ مُتَعَرِّضِينَ لِفَوَائِدِ ذَلِكَ النَّصْرِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِقُرْبِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ حِينَ دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ أَمْرُهُ فِي ازْدِيَادٍ.
وَتَأْكِيدُ جُمْلَةِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِ الْجَوَابِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ، وَهُوَ يَقْتَضِي تَحْقِيقَ وُقُوعِ الْأَمْرَيْنِ.
فَفِيهِ وَعْدٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَاصِرُ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَائِلُونَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ حَصَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ ذَلِكَ مِنْ كَانَ حَيًّا مِنْ هَذَا الْفَرِيقِ، وَهُوَ قَوْلٌ يُرِيدُونَ بِهِ نَيْلَ رُتْبَةِ السَّابِقِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَسُهَيْلَ ابْن عَمْرٍو، وَجَمَاعَةً مِنْ وُجُوهِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى بَابِ عُمَرَ يَنْتَظِرُونَ الْإِذْنَ لَهُمْ، وَكَانَ عَلَى الْبَابِ بِلَالٌ وَسَلْمَانُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ أَنْ يَدْخُلَ سَلْمَانُ وَبِلَالٌ وَعَمَّارٌ فَتَمَعَّرَتْ وُجُوهُ الْبَقِيَّةِ فَقَالَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: «لَمْ تَتَمَعَّرْ وُجُوهُكُمْ، دُعُوا وَدُعِينَا فَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأَنَا وَلَئِنْ حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى بَابِ عُمَرَ لَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ».
وَقَوْلُهُ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ تَذْيِيلٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ إِنْكَارًا عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَقَوْلَهُمْ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، لأَنهم قَالُوا قَوْلهم ذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنْ يَرُوجَ كَذِبُهُمْ وَنِفَاقُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، فَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مُتَضَمِّنًا أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلَيْهِمُ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَصْدِ إِسْمَاعِهِمْ هَذَا الْخِطَابَ فَإِنَّهُمْ يَحْضُرُونَ مَجَالِسَ النَّبِيءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَمِعُونَ مَا يُنَزَّلُ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا يُتْلَى مِنْهُ بَعْدَ نُزُولِهِ، فَيَشْعُرُونَ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمَائِرِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا وَجَّهَ اللَّهُ بِهِ الْخِطَابَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ التَّقْرِيرِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ إِنْبَائِهِ بِأَحْوَالِ الْمُلْتَبِسِينَ بِالنِّفَاقِ. وَهَذَا الْأُسْلُوبُ شَائِعٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ وَكَثِيرًا مَا يَلْتَبِسُ بِالْإِنْكَارِيِّ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إِلَّا الْمَقَامُ، أَيْ فَلَا تُصَدِّقْ مَقَالَهُمْ.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [ص: ٧٢]. وَذِكْرُ التَّسْوِيَةِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِي جَانِبِ النَّسْلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ أَصْلَهُ كَذَلِكَ، فَالْكَلَامُ إِيجَازٌ.
وَإِضَافَةُ الرُّوحِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِذَلِكَ السِّرِّ الْعَجِيبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَكْوِينَهُ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، فَالْإِضَافَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْمَخْلُوقَاتِ اخْتِصَاصًا بِاللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ.
وَالنَّفْخُ: تَمْثِيلٌ لِسَرَيَانِ اللَّطِيفَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ مَعَ سُرْعَةِ الْإِيدَاعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٢٩].
وَالِانْتِقَالُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمُ الْتِفَاتٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَجَعْلَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْمُخَاطَبِينَ فَلَمَّا انْتَهَضَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْمَصْنُوعَاتِ المتحدث عَنْهُم بطرِيق الْغَيْبَةِ الشَّامِلِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ نَاسَبَ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَى الْحَاضِرِينَ بِنَقْلِ الْكَلَامِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّهُ آثَرُ بِالِامْتِنَانِ وَأَسْعَدُ بِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالتَّوْبِيخِ فِي قَوْلِهِ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ.
وَالِامْتِنَانُ بِقُوَى الْحَوَاسِّ وَقُوَى الْعَقْلِ أَقْوَى مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْخَلْقِ وَتَسْوِيَتِهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَوَاسِّ وَالْإِدْرَاكِ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ فَهُوَ مَحْسُوسٌ بِخِلَافِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْوِيمِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ فِي آثَارِهِ.
وَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يُقَالَ: وَجَعَلَكُمْ سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ عَالِمِينَ إِلَى جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْرَقُ فِي الْفَصَاحَةِ، وَلِمَا تُؤْذِنُ بِهِ اللَّامُ مِنْ زِيَادَةِ الْمِنَّةِ فِي هَذَا الْجَعْلِ إِذْ كَانَ جَعْلًا لِفَائِدَتِهِمْ وَلِأَجْلِهِمْ، وَلِمَا فِي تَعْلِيقِ الْأَجْنَاسِ مِنَ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ بِفِعْلِ الْجَعْلِ مِنَ الرَّوْعَةِ وَالْجَلَالِ فِي تَمَكُّنِ التَّصَرُّفِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْأَفْئِدَةَ أَجْمَعُ مِنْ كَلِمَةِ عَاقِلِينَ لِأَنَّ الْفُؤَادَ يَشْمَلُ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ كُلَّهَا وَالْعَقْلُ بَعْضٌ مِنْهَا.
وَأَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ، وَجَمَعَ الْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ النَّاسِ. وَتَقْدِيمُ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ الَخْ اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ: ٣٦] وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: ٣٩] وَتَكُونُ ضَمَائِرُ الْخِطَابِ مُوَجَّهَةً إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وكافرين. وَعَلِيهِ فَيكون قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً الَخْ مُسْتَثْنًى مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ، أَيْ مَا أَمْوَالُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْكُمْ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا ثَنَاءً عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ مَنْ آمَنَ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ جَدِيرُونَ بِمَا يَرِدُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَقَدَّمَتِ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥] وَغَيْرِهِ. وَوِزَانُ هَذَا الْمَعْنَى وِزَانُ قَوْلِهِ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ إِلَى قَوْلِهِ: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمرَان: ١٩٨] الْآيَة.
والضِّعْفِ الْمُضَاعَفُ الْمُكَرَّرُ فَيَصْدُقُ بِالْمُكَرَّرِ مَرَّةً وَأَكْثَرَ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»
وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦١].
وَإِضَافَةُ جَزاءُ إِلَى الضِّعْفِ إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، أَيِ الْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ الْمُضَاعَفَةُ لِأَعْمَالِهِمْ، أَيْ لِمَا تَسْتَحِقُّهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكُنِّيَ عَنِ التَّقْرِيبِ بِمُضَاعَفَةِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ كَرَامَةِ الْمَجْزِيِّ عِنْدَ اللَّهِ، أَي أُولَئِكَ الَّذين يَقْرُبُونَ زُلْفَى فَيُجْزَوْنَ جَزَاءَ الضِّعْفِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لَا عَلَى وَفْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَالِاسْتِدْرَاكُ وَرَدَ عَلَى جَمِيعِ مَا أَفَادَهُ كَلَامُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ وَالْفَخْرِ الْكَاذِبِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ لَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ بِحَالٍ، فَإِنَّ مِنْ أَمْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ صَدَقَاتٍ وَنَفَقَاتٍ، وَمِنْ أَوْلَادِهِمْ أَعْوَانًا عَلَى الْبِرِّ وَمُجَاهِدِينَ وَدَاعِينَ لِآبَائِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما عَمِلُوا تَحْتَمِلُ السَّبَبِيَّةَ فَتَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَا هُوَ الْمُضَاعَفُ وَهُوَ مَا يُنَاسِبُ السَّبَبَ مِنَ الصَّالِحَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَن: ٦٠]، وَتَحْتَمِلُ الْعِوَضَ فَيَكُونُ «مَا عَمِلُوا» هُوَ الْمُجَازَى عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ:
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ الْمُنْقَطِعَةِ تَهَكُّمِيٌّ وَلَيْسَ إِنْكَارِيًا لِأَنَّ تَفْرِيعَ أَمْرِ التَّعْجِيزِ عَلَيْهِ يُعَيِّنُ أَنَّهُ تَهَكُّمِيٌّ. فَالْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَكَانَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَصَّعَّدُوا إِنِ اسْتَطَاعُوا فِي أَسْبَابِ السَّمَاوَاتِ لِيُخْبَرُوا حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ فَيَتَكَلَّمُوا عَنْ عِلْمٍ فِي كُنْهِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ وَفِي إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَعَدَمِهِ وَفِي صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ ضِدِّهِ وَلِيَفْتَحُوا خَزَائِنَ الرَّحْمَةِ فَيُفِيضُوا مِنْهَا عَلَى مَنْ يُعْجِبُهُمْ وَيَحْرِمُوا مَنْ لَا يَرْمُقُونَهُ بِعَيْنِ اسْتِحْسَانٍ.
وَالْأَمْرُ فِي فَلْيَرْتَقُوا لِلتَّعْجِيزِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ [الْحَج: ١٥].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَسْبابِ لِعَهْدِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّ لِكُلِّ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ أَسْبَابًا يُصْعَدُ بِهَا إِلَيْهِ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَقَوْلِ الْأَعْشَى:
فَلَوْ كُنْتَ فِي حِبِّ ثَمَانِينَ قَامَةً وَرُقِّيتَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَالسَّبَبُ: الْحَبْلُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الصَّاعِدُ إِلَى النَّخْلَةِ لِلْجِذَاذِ، فَإِنْ جُعِلَ مِنْ حَبْلَيْنِ
وَوُصِلَ بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ بِحِبَالٍ مُعْتَرِضَةٍ مَشْدُودَةٍ أَوْ بِأَعْوَادٍ بَيْنَ الْحَبْلَيْنِ مَضْفُورٍ عَلَيْهَا جَنْبَتَا الْحَبْلَيْنِ فَهُوَ السُّلَّمُ. وَحَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْأَسْبَابِ حَتَّى كَأَنَّهَا ظُرُوفٌ مُحِيطَة بالمرتقين.
[١١]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ١١]
جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [ص: ٣] الْآيَةَ أُرِيدَ بِهِ وَصْلُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلَهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: ٢] وَتَلَاهُ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ الْآيَةَ. فَلَمَّا تَقَضَّى الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْ عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ وَمَا لِذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ ثُنِيَ الْعِنَانُ إِلَى
وُوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ أَنَّهُ امْتِنَانٌ بِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَرَعَاتِ النَّافِعَةِ بِحَسْبِ مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَات، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ فِي التِّجَارَةِ وَيَرْكَبُونَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا قَالَ
النَّابِغَةُ يَصِفُ الْفُرَاتَ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ
وَالْجَمْعُ بَيْنَ السَّفَرِ بِالْإِبِلِ وَالسِّفْرِ بِالْفُلْكِ جَمْعٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، وَقَدِيمًا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْفُلْكِ وَلَمْ يَقُلْ: وَفِي الْفُلْكِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: ٦٥] لمزاوجة وَالْمُشَاكَلَةِ مَعَ وَعَلَيْها، وَإِنَّمَا أُعِيدَ حِرَفُ (عَلَى) فِي الْفُلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ وَكَانَ ذِكْرُ وَعَلَيْها كَالتَّوْطِئَةِ لَهَا فَجَاءَتْ عَلَى مِثَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ لرعاية على الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي السِّيَاقِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْأَنْعامَ مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِفِعْلِهِ مِنَ الْمَجْرُورِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمُنْعِمِ بِهَا لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ.
[٨١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٨١]
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: ٧٩] أَيِ اللَّهُ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُتَعَدَّدِ الِامْتِنَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: ٦١]، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: ٦٤]، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [غَافِر: ٦٧]، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: ٧٩]، فَإِنَّ تِلْكَ ذُكِرَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ تَذْكِيرًا
كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، فَظَهَرَتِ
الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَصْفِهِمْ بِالْعَشَا وَبَيْنَ مَا فِي هَذَا الِانْتِقَالِ لِوَصْفِهِمْ بِالصُّمِّ الْعُمْيِ.
وَعَطْفُ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فِيهِ مَعْنَى التَّذْيِيلِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنَ الصُّمِّ وَالْعُمْيِ بِاعْتِبَارِ انْفِرَادِهِمَا، وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّمَمَ وَالْعَمَى لَمَّا كَانَا مَجَازَيْنِ قَدْ يَكُونُ تَعَلُّقُهُمَا بِالْمَسْمُوعِ وَالْمُبْصَرِ جُزْئِيًّا فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ فَكَانَ الْوَصْفُ بِالْكَوْنِ فِي الضَّلَالِ الْمُبِينِ تَنْبِيهًا عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الصَّمَمِ وَالْعَمَى أبين ضلالا.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ [الزخرف: ٤٠] إِلَى آخِرِهَا الْمُتَضَمِّنَةِ إِيمَاء إِلَى التأييس مِنَ اهْتِدَائِهِمْ، وَالصَّرِيحَةِ فِي تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شِدَّةِ الْحِرْصِ فِي دَعْوَتِهِمْ، فَجَاءَ هُنَا تَحْقِيقُ وَعْدٍ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَمَعْنَاهُ: الْوَعْدُ بِإِظْهَارِ الدِّينِ إِنْ كَانَ فِي حَيَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَوَعِيدُهُمْ بِالْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَلِأَجْلِ الْوَفَاءِ بِهَذَيْنَ الْغَرَضَيْنِ ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَمْرَانِ: الِانْتِقَامُ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي حَيَاة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالْمُفَرَّعُ هُوَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ، فَمُرَادٌ مِنْهُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَ (إِمَّا) كَلِمَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ أَصْلُهُمَا (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ وَ (مَا) زَائِدَةٌ بَعْدَ (إِنْ)، وَأُدْغِمَتْ نُونُ (إِنْ) فِي الْمِيمِ مِنْ حَرْفِ (مَا)، وَزِيَادَةُ (مَا) لِلتَّأْكِيدِ، وَيَكْثُرُ اتِّصَالُ فِعْلِ الشَّرْطِ بَعْدَ (إِنِ) الْمَزِيدَةِ بَعْدَهَا (مَا) بِنُونِ التَّوْكِيدِ زِيَادَةً فِي التَّأْكِيدِ، وَيَكْتُبُونَهَا بِهَمْزَةٍ وَمِيمٍ وَأَلِفٍ تَبَعًا لِحَالَةِ النُّطْقِ بِهَا.
وَالذَّهَابُ بِهِ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ لِلتَّوَفِّي بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُفَارَقَةٌ لِلْأَحْيَاءِ فَالْإِمَاتَةُ كَالِانْتِقَالِ بِهِ، أَيْ تَغْيِيبِهِ وَلِذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنِ الْمَوْتِ بِالِانْتِقَالِ.
وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بَعْدَ وَفَاتِكَ.
خِلَافَكَ أَوْ إِلَى خِلَافِكَ فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَنَزَلَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ
[الحجرات: ١، ٢].
فَهَذِهِ الْآيَةُ تَوْطِئَةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ وَنِدَائِهِ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ بَعْثِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَقَتَلَتْ بَنُو عَامِرٍ رِجَالَ السَّرِيَّةِ إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ نَجَوْا فَلَقُوا رجلَيْنِ من بَين سُلَيْمٍ فَسَأَلُوهُمَا عَنْ نِسْبَتِهِمَا فَاعْتَزَيَا إِلَى بَنِي عَامِرٍ ظَنًّا مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الِاعْتِزَاءَ أَنْجَى لَهُمَا مِنْ شَرٍّ تَوَقَّعَاهُ لِأَنَّ بَنِي عَامِرٍ أَعَزُّ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فَقَتَلُوا النَّفَرَ الثَّلَاثَةَ وَسَلَبُوهُمَا ثُمَّ أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ: «بِئْسَمَا صَنَعْتُمْ كَانَا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَالسَّلْبُ مَا كَسَوْتُهُمَا» أَيْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى السَّلْبَ فَعَرَّفَهُ بِأَنَّهُ كَسَاهُمَا إِيَّاهُ وَكَانَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ عَلَامَةً عَلَى الْإِسْلَامِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَوَادَّهُمَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا الْآيَةَ، أَيْ لَا تَعْمَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ فِي التَّصَرُّفِ مِنَ الْأُمَّةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَسْتَأْمِرُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَكُونُ الْقِصَّةُ جَرَتْ قُبَيْلَ قِصَّةِ بَنِي تَمِيمٍ فَقُرِنَتْ آيَتَاهُمَا فِي النُّزُولِ.
وَهُنَالِكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى فِي سَبَبِ نُزُولِهَا لَا تُنَاسِبُ مَوْقِعَ الْآيَةِ مَعَ الْآيَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فَهِيَ عَامَّةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ أَحْوَالِ التَّقَدُّمِ الْمُرَادِ.
وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ مُقَدَّمَةً عَلَى تَوْبِيخِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ حِينَ نادوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ لِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ مُمَارَاةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَارْتِفَاعَ أَصْوَاتِهِمَا كَانَتْ فِي قَضِيَّةِ بَنِي تَمِيمٍ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيء الْآيَةَ، لِأَنَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُظْوَةِ، أَيْ جَعَلَ إِبْرَامَ الْعَمَلِ بِدُونِ أَمْرِهِ كَإِبْرَامِهِ بِدُونِ أَمْرِ
اللَّهِ حَقِيقٌ بِالتَّهَيُّبِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يُخْفَضَ الصَّوْتُ لَدَيْهِ.
وَالْخَلْقُ أَصْلُهُ: إِيجَادُ ذَاتٍ بِشَكْلٍ مَقْصُودٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي إِيجَادِ الذَّوَاتِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى إِيجَادِ الْمَعَانِي الَّتِي تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فِي التَّمَيُّزِ وَالْوُضُوحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: ١٧].
فَإِطْلَاقُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وشَيْءٍ مَعْنَاهُ مَوْجُودٌ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، أَيْ خَلَقْنَا كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ جِوَاهِرُهَا وَأَعْرَاضُهَا بِقَدَرٍ.
وَالْقَدَرُ: بِتَحْرِيكِ الدَّالِ مُرَادِفُ الْقَدْرِ بِسُكُونِهَا وَهُوَ تَحْدِيدُ الْأُمُورِ وَضَبْطُهَا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ خَلْقَ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ مُصَاحِبٌ لِقَوَانِينٍ جَارِيَةٍ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٨] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وَمِمَّا يَشْمَلُهُ عُمُومُ كُلِّ شَيْءٍ خَلْقُ جَهَنَّمَ لِلْعَذَابِ.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الْحجر: ٨٥، ٨٦] وَقَوْلُهُ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ
[الدُّخان: ٣٨- ٤٠] فَتَرَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَشْبَاهَهَا تُعَقِّبُ ذِكْرَ كَوْنِ الْخَلْقِ كُلِّهِ لِحِكْمَةٍ بِذِكْرِ السَّاعَةِ وَيَوْمِ الْجَزَاءِ.
فَهَذَا وَجْهُ تَعْقِيبِ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالْعِقَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِالتَّذْيِيلِ بِقَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: ٤٣] وَسَيَقُولُ: وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ
[الْقَمَر: ٥١].
فَالْبَاءُ فِي بِقَدَرٍ لِلْمُلَابَسَةِ، وَالْمَجْرُورُ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ خَلَقْناهُ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِذَاتِهِ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِهِ بَلْهَ تَأْكِيدَهُ بَلِ الْمَقْصُودُ إِظْهَارُ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي الْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٨] وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ.
تَعَارُضَ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، فَلَوْ حَصَلَ لِأَحَدٍ يَقِينٌ بِالتَّعْجِيلِ إِلَى النَّعِيمِ لَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَيَاتُهُ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ كَحَيَاةِ الْأَنْبِيَاءِ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يُحْمَلُ حَالُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ فِي قَوْلِهِ:
جَرْيًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادٍ وَحَالُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبِ يَوْمَ مُوتَةَ وَقَدِ اقْتَحَمَ صَفَّ الْمُشْرِكِينَ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ:
لكنني أسأَل الرحمان مَغْفِرَةً وَضَرْبَةَ ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
الْمُتَقَدِّمَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مَضْمُونَةُ الْجَزَاءِ الْأَحْسَنِ وَالْمَغْفِرَةِ التَّامَّةِ.
وَعَلَى الثَّانِي يُحْمَلُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: «مِنْ أَحَبِّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ
اللَّهُ لِقَاءَهُ»

إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ. وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَلَكِ الْمَوْت: «فَالْآن».
[٧]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٧]
وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧)
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْقَوْلَيْنِ قُصِدَ بِهِ تَحَدِّيهِمْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلِيَاءً لِلَّهِ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مَعْذِرَةً لَهُمْ مِنْ عَدَمِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ زِيَادَةُ الْكَشْفِ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَة: ١٨] وَإِثْبَاتِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ بِتَحَقُقِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْعُقُودِ [١٨].
وَالْبَاءُ فِي بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سَبَبِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ يَتَمَنَّوْنَهُ الْمَنْفِيِ فَمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ هُوَ سَبَبُ انْتِفَاءِ تَمَنِّيهِمُ الْمَوْتَ أَلْقَى فِي نُفُوسِهِمُ الْخَوْفَ مِمَّا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَكَانَ سَبَبُ صَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِتَقَدُمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ بِنَخْلَةَ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَأَنَّهُ اسْتَمَعَ فَرِيقٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَى قِرَاءَتِهِ فَرَجَعُوا إِلَى طَائِفَتِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: ١] وَأَنْزَلَ الله على نبيئه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ
[الْجِنِّ: ١].
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ بَعْدَ سَفَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ يَطْلُبُ النُّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، أَيْ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَسَنَةِ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْأَرْبَعِينَ فِي نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَعْرَافِ وَقَبْلَ يس.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى عد آيها ثمانا وَعِشْرِينَ.
أَغْرَاضُهَا
إِثْبَاتُ كَرَامَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دَعْوَتَهُ بَلَغَتْ إِلَى جِنْسِ الْجِنِّ وَإِفْهَامِهِمْ فَهْمَ مَعَانٍ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَمَعُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَهْمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَعِلْمِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ.
وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ مَا يُعْبَدُ مِنَ الْجِنِّ.
وَإِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَبُلُوغِ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَى غَيْرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ.
وَإِثْبَاتُ أَنَّ لِلَّهِ خَلْقًا يُدْعَوْنَ الْجِنَّ وَأَنَّهُمْ أَصْنَافٌ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ بِمَرَاتِبَ، وتضليل الَّذين يتقولون عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُفْلِتُونَ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَعَجُّبُهُمْ مِنَ الْإِصَابَةِ بِرُجُومِ الشُّهُبِ الْمَانِعَةِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْمَنْعِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِي شَأْنِ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ لِشِرْكِهِمْ وَلِمَنْعِهِمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَإِنْذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَأَلُّبِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَاوَلَتِهِمْ مِنْهُ الْعُدُولَ عَنِ الطَّعْنِ فِي دينهم.
[١- ٢]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٨٤- سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
سُمِّيَتْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ: «سُورَةُ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ».
فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ أَبِي سَلَمَةَ: «أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَرَأَ بِهِمْ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فَسَجَدَ فِيهَا فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا»
. فَضَمِيرُ «فِيهَا» عَائِدٌ إِلَى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: ١] بِتَأْوِيلِ السُّورَةِ، وَبِذَلِكَ عَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَكَذَلِكَ سَمَّاهَا فِي «الْإِتْقَانِ».
وسماها الْمُفَسِّرُونَ وَكُتَّابُ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ الِانْشِقَاقِ» بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا سُمِّيَتِ السُّورَةُ السَّابِقَةُ «سُورَةَ التَّطْفِيفِ» وَ «سُورَةَ انْشَقَّتْ» اخْتِصَارًا.
وَذَكَرَهَا الْجَعْبَرِيُّ فِي «نَظْمِهِ» فِي تَعْدَادِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ بِلَفْظِ «كَدْحٍ» فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ اسْمٌ لِلسُّورَةِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ لِغَيْرِهِ.
وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّور ذَوَات أَكثر مِنِ اسْمٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ وَالثَمَانِينَ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْفِطَارِ وَقَبْلَ سُورَةِ الرُّومِ.
وَعَدَّ آيِهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ أَهْلُ الْعَدَدِ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ ثَلَاثًا وَعشْرين.
أغراضها
ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَحُلُولِ يَوْمِ الْبَعْثِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ أَهْلِ نَعِيمٍ وَأهل شقاء.


الصفحة التالية
Icon