مِنَ الضَّرْبِ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ فَانْتِصَابُ مَثَلًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ لِلتَّوْكِيدِ لِأَنَّ مَثَلًا مُرَادِفٌ مَصْدَرَ فِعْلِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَالْمعْنَى لَا يستحي أَنْ يُشَبِّهَ بِشَيْءٍ مَا.
وَالْمَثَلُ الْمَثِيلُ وَالْمُشَابِهُ وَغَلَبَ عَلَى مُمَاثَلَةِ هَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا [الْبَقَرَة: ١٧] وَتَقَدَّمَ هُنَاكَ مَعْنَى ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ
وَتَنْكِيرُ مَثَلًا لِلتَّنْوِيعِ بِقَرِينَةِ بَيَانِهِ بِقَوْلِهِ بَعُوضَةً فَما فَوْقَها.
وَمَا إِبْهَامِيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالنَّكِرَةِ فَتُؤَكِّدُ مَعْنَاهَا مِنْ تَنْوِيعٍ أَوْ تَفْخِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ، نَحْوِ لِأَمْرٍ مَا وَأَعْطَاهُ شَيْئًا مَا. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَزِيدَةٌ لِتَكُونَ دَلَالَتُهَا عَلَى التَّأْكِيدِ أَشَدَّ. وَقِيلَ اسْمٌ بِمَعْنَى النَّكِرَةِ الْمُبْهَمَةِ.
وبَعُوضَةً بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ مِنْ قَوْلِهِ: مَثَلًا. وَالْبَعُوضَةُ وَاحِدَةُ الْبَعُوضِ وَهِيَ حَشَرَةٌ صَغِيرَةٌ طَائِرَةٌ ذَاتُ خُرْطُومٍ دَقِيقٍ تَحُومُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِتَمْتَصَّ بِخُرْطُومِهَا مِنْ دَمِهِ غِذَاءً لَهَا، وَتُعْرَفُ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ بِالْخُمُوشِ، وَأَهْلُ تُونِسَ يُسَمُّونَهُ النَّامُوسَ وَاحِدَتُهُ النَّامُوسَةُ وَقَدْ جُعِلَتْ هُنَا مَثَلًا لِشِدَّةِ الضَّعْفِ وَالْحَقَارَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَما فَوْقَها عُطِفَ عَلَى بَعُوضَةً، وَأَصْلُ فَوْقَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعْتَلِي عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ اسْمٌ مُبْهَمٌ فَلِذَلِكَ كَانَ مُلَازِمًا لِلْإِضَافَةِ لِأَنَّهُ تَتَمَيَّزُ جِهَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْجِهَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلْإِضَافَةِ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الْمُتَجَاوِزِ غَيْرَهُ فِي صِفَةٍ تَجَاوُزًا ظَاهِرًا تَشْبِيهًا بِظُهُورِ الشَّيْءِ الْمُعْتَلِي عَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَلٍ عَلَيْهِ، فَفَوْقَ فِي مِثْلِهِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى التَّغَلُّبِ وَالزِّيَادَةِ فِي صِفَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنَ الْمَحَامِدِ أَوْ مِنَ الْمَذَامِّ يُقَالُ: فُلَانٌ خَسِيسٌ وَفَوْقَ الْخَسِيسِ وَفُلَانٌ شُجَاعٌ وَفَوْقَ الشُّجَاعِ، وَتَقُولُ:
أُعْطِيَ فُلَانٌ فَوْقَ حَقِّهِ أَيْ زَائِدًا عَلَى حَقِّهِ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صَالِحٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ أَيْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الْبَعُوضَةِ فِي الْحَقَارَةِ وَمَا هُوَ أَكْبَرُ حَجْمًا. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ،
يَحْتَمِلُ أَقَلَّ مِنَ الشَّوْكَةِ فِي الْأَذَى مِثْلَ نُخْبَةِ النَّمْلَةِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ، أَوْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنَ الشَّوْكَةِ مِثْلُ الْوَخْزِ بِسِكِّينٍ وَهَذَا مِنْ تَصَارِيفِ لَفْظِ فَوْقَ فِي الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ كَانَ لِاخْتِيَارِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُونَ لَفْظِ أَقَلَّ وَدُونَ لَفْظِ أَقْوَى مَثَلًا مَوْقِعٌ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: خَيْرٌ التَّفْضِيلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ فَإِنَّ فِي تَزَوُّجِ الْأَمَةِ الْمُؤْمِنَةِ مَنَافِعَ دِينِيَّةً وَفِي الْحُرَّةِ الْمُشْرِكَةِ مَنَافِعُ دُنْيَوِيَّةٌ وَمَعَانِي الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا الْمُنَافِيَةِ لِلدِّينِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ حِكْمَةِ التَّحْرِيمِ اسْتِئْنَاسًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» حَمْلُ الْأَمَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِمَاءُ اللَّهِ وَعَبِيدُهُ وَأَصْلُهُ مَنْقُولٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي الْحَسَنِ الْجُرْجَانِيِّ كَمَا فِي الْقُرْطُبِيِّ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، أَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ إِذْ قَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُشْرِكَةَ دُونَ الْمُؤْمِنَةِ، وَيُفِيتُ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى شَرَفِ أَقَلِّ أَفْرَادِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ عَلَى أَشْرَفِ أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْآخَرِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْأَمَةِ عَلَى مُطْلَقِ الْمَرْأَةِ، وَلَا إِطْلَاقُ الْعَبْدِ عَلَى الرَّجُلِ إِلَّا مُقَيَّدَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِمْ يَا عَبْدَ اللَّهِ وَيَا أَمَةَ اللَّهِ، وَكَوْنُ النَّاسِ إِمَاءَ اللَّهِ
وَعَبِيدَهُ إِنَّمَا هُوَ نَظَرٌ لِلْحَقَائِقِ لَا لِلِاسْتِعْمَالِ، فَكَيْفَ يَخْرُجُ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ.
وَضَمِيرُ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكَةِ، وَ (لَوْ) وَصْلِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَقْصَى الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ تَفْضِيلِ الْمُشْرِكَةِ، فَالْأَمَةُ الْمُؤْمِنَةُ أَفْضَلُ مِنْهَا حَتَّى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ وَالْوَاوِ الَّتِي قَبْلَهَا وَالْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [الْبَقَرَة: ١٧٠].
وَقَوْلُهُ: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا تَحْرِيمٌ لِتَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْمُشْرِكِ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِحُكْمِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكَافِرِ الْكِتَابِيِّ فَيَكُونُ دَلِيلُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ وَهُوَ إِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ تَلَقَّاهُ الصَّحَابَةُ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى تَضَافُرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠] فَعَلَّقَ النَّهْيَ بِالْكُفْرِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ حِينَئِذٍ الْمُشْرِكِينَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى يُؤْمِنُوا غَايَةٌ لِلنَّهْيِ، وَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إِذَا أَسْلَمَ هُوَ كَانَ أَحَقَّ بِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، قَدْ جَاءُوا إِفْكًا وَزُورًا وَأَنْكَرُوا مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي أَجْيَالِ الْبَشَرِ بِالتَّوَاتُرِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِثْلُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [سبأ: ٣١]. وَمِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مَنْ جَعَلَ هَذَا حِكَايَةً لِقَوْلِ بَعْضِ الْيَهُودِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ مُعَيَّنٌ أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
بَعْضُ الْيَهُودِ
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ الْقُرَظِيُّ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَمِينًا وَأَنَّهُ جَاءَ يُخَاصم النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيءُ «أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَمَا تَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ
. وَعَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ قَائِلَهُ فِنْحَاصُ الْيَهُودِيُّ. وَمَحْمَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَالَهُ جَهْلًا بِمَا فِي كُتُبِهِمْ فَهُوَ مِنْ عَامَّتِهِمْ، أَوْ قَالَهُ لَجَاجًا وَعِنَادًا. وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ هِيَ الَّتِي أَلْجَأَتْ رُوَاتَهَا إِلَى ادِّعَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَعَلَيْهِ يَكُونُ وَقْعُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَوْقِعِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ [الْأَنْعَام: ٨٩] الْآيَةَ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ كَالْمُعْتَرِضَةِ فِي خِلَالِ إِبْطَالِ حِجَاجِ الْمُشْرِكِينَ.
وَحَقِيقَةُ قَدَرُوا عَيَّنُوا الْقَدْرَ وَضَبَطُوهُ أَيْ، عَلِمُوهُ عِلْمًا عَنْ تَحَقُّقٍ.
وَالْقَدْرُ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- مِقْيَاسُ الشَّيْءِ وَضَابِطُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي عِلْمِ الْأَمْرِ بِكُنْهِهِ وَفِي تَدْبِيرِ الْأَمْرِ. يُقَالُ: قَدَرَ الْقَوْمُ أَمْرَهُمْ يَقْدُرُونَهُ- بِضَمِّ الدَّالِّ- فِي الْمُضَارِعِ، أَيْ ضَبَطُوهُ وَدَبَّرُوهُ. وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ: «فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ». وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، أَيْ مَا عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَمَا عَلِمُوا شَأْنَهُ وَتَصَرُّفَاتِهِ حَقَّ الْعِلْمِ بِهَا، فَانْتَصَبَ حَقَّ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ وَهُوَ قَدْرِهِ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ. وَالْأَصْلُ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ قَدْرَهُ الْحَقَّ.
وإِذْ قالُوا ظَرْفٌ، أَيْ مَا قَدَرُوهُ حِينَ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَفَوْا شَأْنًا عَظِيما من شؤون اللَّهِ، وَهُوَ شَأْنُ هَدْيِهِ النَّاسَ وَإِبْلَاغِهِمْ مُرَادَهُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ،
فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهُ (وَكَانَ لَمْ يَنَمْ) : لَا أُوقِظُهُ وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ الْمَاءُ عَلَيْهِ مِثْلَ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ (مُوسَى) نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ (أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ مُيَسِّرٌ أَسْبَابَ الِامْتِثَالِ لِأَوْلِيَائِهِ:
فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا. قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا. فَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قَالَ: رَجَعَا يَقُصَّانِ آثارهما حَتَّى انتهيا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى ثَوْبًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ
... الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: «وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ» اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ، وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلَّذِي سَلَّمَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخَضِرُ يَظُنُّ ذَلِكَ الْمَكَانَ لَا يُوجَدُ بِهِ قَوْمٌ تَحِيَّتُهُمُ السَّلَامُ، إِمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ خَلَاءً وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَأْهُولًا بِأُمَّةٍ لَيْسَتْ تَحِيَّتُهُمُ السَّلَامَ.
وَإِنَّمَا أَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ لِيَكُونَ آيَةً مَشْهُودَةً لِمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَفَتَاهُ زِيَادَةً فِي أَسْبَابِ قُوَّةِ يَقِينِهِمَا، وَلِأَنَّ الْمَكَانَ لَمَّا كَانَ ظَرْفًا لِظُهُورِ مُعْجِزَاتِ عِلْمِ
النُّبُوءَةِ نَاسَبَ أَنْ يُحَفَّ بِهِ مَا هُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ إِكْرَامًا لِنُزَلَاءِ ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَمَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَصَبُّ نَهْرِ الْأُرْدُنِّ فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَإِنَّهُ النَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَمُرُّ بِجَانِبِ الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَقَوْمُهُ. وَكَانَتْ تُسَمَّى عِنْدَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بَحْرَ الْجَلِيلِ، فَإِنَّ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَلَغَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَسِيرِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ رَاجِلًا فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَكَانًا بَعِيدًا جِدًّا.
وَأَرَادَ مُوسَى أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَجَعَلَهُ مِيقَاتًا لَهُ.
وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى شِدَّةِ التَّوْكِيدِ بِالْقَسَمِ مَا رَأَوْا مِنْ تَصْمِيمِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ. وَيُسَمَّى هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ التَّأْكِيدِ ضَرْبًا إِنْكَارِيًّا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فَذَلِكَ وَعْظٌ وَعَظُوا بِهِ الْقَوْمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَا مَنْفَعَةَ تَنْجَرُّ لَهُمْ مِنْ إِيمَانِ الْقَوْمِ وَإِعْلَانٌ لَهُمْ بِالتَّبَرُّؤِ مِنْ عُهْدَةِ بَقَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ النَّظَرَ الْفِكْرِيَّ فِي نُفُوسِ الْقَوْمِ.
والْبَلاغُ اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَبْلَغَ إِذَا أَوْصَلَ خَبَرًا، قَالَ تَعَالَى: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: ٤٨] وَقَالَ: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢]. وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْبَلَاغُ فِي إِيصَالِ الذَّوَاتِ. وَالْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ فِي كَرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ: إِنَّ مِنْهُ مَا هُوَ عَلَى الْبَلَاغِ. يُرِيدُونَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ الْمَكْرِي وَالْمُكْتَرِي.
والْمُبِينُ وَصْفٌ لِلْبَلَاغِ، أَيِ الْبَلَاغِ الْوَاضِحِ دَلَالَةً وَهُوَ الَّذِي لَا إِيهَامَ فِيهِ وَلَا مواربة.
[١٨]
[سُورَة يس (٣٦) : آيَة ١٨]
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
لَمَّا غَلَبَتْهُمُ الْحُجَّةُ من كل جَانب وَبَلَغَ قَوْلُ الرُّسُلِ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس: ١٧] مِنْ نُفُوسِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ مَبَلَغَ الْخَجَلِ وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْ إِخْفَاقِ الْحُجَّةِ وَالِاتِّسَامِ بِمِيسَمِ الْمُكَابَرَةِ وَالْمُنَابَذَةِ لِلَّذِينَ يَبْتَغُونَ نَفْعَهُمُ انْصَرَفُوا إِلَى سَتْرِ خَجَلِهِمْ وَانْفِحَامِهِمْ بِتَلْفِيفِ السَّبَبِ لِرَفْضِ دَعْوَتِهِمْ بِمَا حَسِبُوهُ مُقْنِعًا لِلرُّسُلِ بِتَرْكِ دَعْوَتِهِمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَّعُونَهُ شَيْءٌ خَفِيٌّ لَا قِبَلَ لِغَيْرِ مُخْتَرِعِهِ بِالْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ تَطَيَّرُوا بِهِمْ وَلَحِقَهُمْ مِنْهُم شُؤْم، وَلَا بُد لِلْمَغْلُوبِ مِنْ بَارِدِ الْعُذْرِ.
وَالتَّطَيُّرُ فِي الْأَصْلِ: تَكَلُّفُ مُعْرِفَةِ دَلَالَةِ الطَّيْرِ عَلَى خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ تَعَرُّضِ نَوْعِ الطَّيْرِ وَمِنْ صِفَةِ انْدِفَاعِهِ أَوْ مَجِيئِهِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ حَدَثٍ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي لَحَاقِ شَرٍّ بِهِ فَصَارَ مُرَادِفًا لِلتَّشَاؤُمِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيرَةَ وَإِنَّمَا الطِّيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ»
وَبِهَذَا الْمَعْنَى أُطْلِقَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَيْ قَالُوا: إِنَّا تَشَاءَمْنَا بِكُمْ.
مَعَ التَّهَكُّمِ لِأَنَّهُمْ
يَتَمَنَّوْنَ مَا يَحْجُبُ عَنْهُمْ حَرَّ النَّارِ فَعَبَّرَ عَنْ طَبَقَاتِ النَّارِ بِالظُّلَلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ لَا وَاقِيَ لَهُمْ مِنْ حَرِّ النَّارِ عَلَى نَحْوِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الظُّلَلِ عَلَى الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ وَلِأَنَّ الطَّبَقَاتِ الَّتِي تَحْتَهُمْ مِنَ النَّارِ تَكُونُ ظُلَلًا لِكُفَّارٍ آخَرِينَ لِأَنَّ جَهَنَّمَ دَرَكَاتٌ كَثِيرَةٌ.
ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.
تَذْيِيلٌ لِلتَّهْدِيدِ بِالْوَعِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الزمر: ١٥] الْآيَةَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بِتَقْدِيرِ سُؤَالٍ يَخْطُرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ لِوَصْفِ عَذَابهمْ بِأَنَّهُ ظلل مِنَ النَّارِ من فَوْقهم وظلل مِنْ تَحْتِهِمْ أَنْ يَقُولَ سَائِلُ: مَا يَقَعُ إِعْدَادُ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ فَوَاتِ تَدَارُكِ كُفْرِهِمْ؟ فَأُجِيبَ بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ ذَلِكَ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ لِتَخْوِيفِ اللَّهِ عِبَادَهُ حِينَ يَأْمُرُهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَيُشَرِّعُ لَهُمُ الشَّرَائِعَ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَرُسُلِهِ تَكُونُ ذَلِكَ عَاقِبَتُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ وَعِيدُ اللَّهِ خَبَرًا مِنْهُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا حَقَّقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ وَتَخْوِيفُ اللَّهِ بِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُخَوِّفُهُمْ بِالْإِخْبَارِ بِهِ وَبِوَصْفِهِ، أَمَّا إِذَاقَتُهُمْ إِيَّاهُ فَهِيَ تَحْقِيقٌ لِلْوَعِيدِ.
وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا بِطْرِيقِ الْمُقَابَلَةِ جَعْلُ الْجَنَّةِ لِتَرْغِيبِ عِبَادِهِ فِي التَّقْوَى، إِلَّا أَنَّهُ طَوَى ذِكْرَهُ لِأَنَّ السِّيَاق موعظة لأهل الشِّرْكِ فَاللَّهُ جَعَلَ الْجَنَّةَ وَجَهَنَّمَ إِتْمَامًا لِحِكْمَتِهِ وَمُرَادِهِ مِنْ نِظَامِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَكُونَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجَنَّةَ جَعَلَهَا اللَّهُ مَسْكَنًا لِأَهْلِ النُّفُوسِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ مِثْلَ الرُّسُلِ فَلِذَلِكَ هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ وَهُوَ ظَاهِرُ
حَدِيثِ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفْسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفْسٍ فِي الصَّيْفِ».
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا تُخْلَقُ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيُتَأَوَّلُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَفَ مِنَ الْخُسْرَانِ وَالْعَذَابِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَلَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَنَّ حِكَايَةَ قَوْلِهِمْ: نَمُوتُ وَنَحْيا تَقْتَضِي إِرَادَةَ نَحْيَا بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا يَصْرِفُ عَنْ خُطُورِ هَذَا بِالْبَالِ. وَالْعَطْفُ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي تَرْتِيبًا بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي الْحُصُولِ.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ نَمُوتُ فِي الذِّكْرِ عَلَى وَنَحْيا فِي الْبَيَانِ مَعَ أَنَّ الْمُبَيَّنَ قَوْلُهُمْ مَا هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُبْدَأَ فِي الْبَيَانِ بِذِكْرِ اللَّفْظِ الْمُبَيَّنِ فَيُقَالَ: نَحْيَا وَنَمُوتُ، فَقِيلَ قُدِّمَ نَمُوتُ لِتَتَأَتَّى الْفَاصِلَةُ بِلَفْظِ نَحْيا مَعَ لَفْظِ الدُّنْيا. وَعِنْدِي أَنَّ تَقْدِيمَ فِعْلِ نَمُوتُ عَلَى نَحْيا لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَوْتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَقْرِيرِ أَنَّ الْمَوْتَ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الِاهْتِمَامَ تَأَتِّي طِبَاقَيْنِ بَيْنَ حَيَاتِنَا الدُّنْيَا وَنَمُوتُ ثُمَّ بَيْنَ نَمُوتُ وَنَحْيَا. وَحَصَلَتِ الْفَاصِلَةُ تَبَعًا، وَذَلِكَ أَدْخَلُ فِي بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ فالإشارة بذلك إِلَى قَوْلِهِمْ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ هُوَ الْمُمِيتُ إِذْ لَا دَلِيلَ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ فَقَصَدُوا تَأْكِيدَ مَعْنَى انْحِصَارِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ عِنْدَهُمْ بِالدَّهْرِ. فَالْحَيَاةُ بِتَكْوِينِ الْخِلْقَةِ وَالْمَمَاتِ بِفِعْلِ الدَّهْرِ. فَكَيْفَ يُرْجَى لِمَنْ أَهْلَكَهُ الدَّهْرُ أَنْ يَعُودَ حَيًّا فَالدَّهْرُ هُوَ الزَّمَانُ الْمُسْتَمِرُّ الْمُتَعَاقِبُ لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ.
وَالْمَعْنَى: أَحْيَاؤُنَا يَصِيرُونَ إِلَى الْمَوْتِ بِتَأْثِيرِ الزَّمَانِ، أَيْ حِدْثَانِهِ مِنْ طُولِ مُدَّةٍ يَعْقُبُهَا الْمَوْتُ بِالشَّيْخُوخَةِ، أَوْ مِنْ أَسْبَابٍ تُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَمِنَ الشِّعْرِ الْقَدِيمِ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ قَمِيئَةَ:

رَمَتْنِي بَنَاتُ الدَّهْرِ مِنْ حَيْثُ لَا أَرَى فَمَا بَالُ مَنْ يُرْمَى وَلَيْسَ بِرَامِ
وَلَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَوْ تَأَثَّرَ الزَّمَانُ لَبَقِيَ النَّاسُ أَحْيَاءً كَمَا قَالَ أُسْقُفُ نَجْرَانَ:
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَقَلُّبُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي
فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ بِفِعْلِ الدَّهْرِ فَكَيْفَ يُرْجَى أَنْ يَعُودُوا أَحْيَاءً. وَهَذِهِ كَلِمَاتٌ كَانَتْ تَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِي الْأُمُورِ وَإِنْ كَانُوا
فَأَمَّا قَصْرُ الْأَوَّلِيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْوُجُودِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا قَصْرُ الْآخِرِيَّةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعْنَى الْبَقَاءِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْبَقَاءُ فِي الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ عَرَضَ إِشْكَالُ الْمُتَعَارِضِ بِمَا
وَرَدَ مِنْ بَقَاءِ الْأَرْوَاحِ،
وَحَدِيثُ «أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ لَا يَفْنَى وَأَنَّ الْإِنْسَانَ مِنْهُ يُعَادُ»
. وَرَفْعُ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُجْعَلَ الْقَصْرُ ادِّعَائِيًّا لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَقَاءِ غَيْرِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بَقَاءٌ غَيْرُ وَاجِبٍ بَلْ هُوَ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْجَمْعُ بَيْنَ وَصْفَيِ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ فِيهِ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
والظَّاهِرُ الْأَرْجَحُ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الظُّهُورِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْخَفَاءِ فَيَكُونُ وَصْفُهُ تَعَالَى بِهِ مَجَازًا عَقْلِيًّا، فَإِنَّ إِسْنَادَ الظُّهُورِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ ظُهُورُ أَدِلَّةِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ لِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْاسْتِدْلَالِ وَالتَّدَبُّرِ فِي آيَاتِ الْعَالَمِ فَيَكُونُ الْوَصْفُ جَامِعًا لِصِفَتِهِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ الْوُجُودُ، إِذْ أَدِلَّةُ وُجُودِهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ وَلِصِفَاتِهِ الْأُخْرَى مِمَّا دَلَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ مِنْ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَحَيَاةٍ وَإِرَادَةٍ، وَصِفَاتُ الْأَفْعَالِ مِنَ الْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ كَمَا عَلِمْتَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الْأَوَّلُ عَنِ النَّقْصِ أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهَا تَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقْصِ كَصِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَمُخَالَفَةِ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُهُ الْمُقَابَلَةُ بِالْبَاطِنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنَ الظُّهُورِ، أَيِ الْغَلَبَةِ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الْكَهْف: ٢٠]، فَمَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْغَالِبُ.
وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ مُقَابَلَتَهُ بِ الْباطِنُ إِلَّا عَلَى اعْتِبَارِ مُحَسِّنِ الْإِيهَامِ، وَمَا وَقَعَ
فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ»
فَمَعْنَى فَاءِ التَّفْرِيعِ فِيهِ أَنَّ ظُهُورَهُ تَعَالَى سَبَبٌ فِي انْتِفَاءِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ فَوْقَ اللَّهِ فِي الظُّهُورِ، أَيْ فِي دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَاتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَدَلَالَةُ الْفَاءِ تَفْرِيعٌ لَا تَفْسِيرٌ.
والْباطِنُ الْخَفِيُّ يُقَالُ: بَطَنَ، إِذَا خَفِيَ وَمَصْدَرُهُ بُطُونٌ.
وَمَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِبَاطِنٍ وَصْفُ ذَاتِهِ وَكُنْهِهِ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الْأَنْعَام: ١٠٣].
وَأَبْكاراً لِأَنَّ الثَّيِّبَاتِ لَا يُوصَفْنَ بِأَبْكَارٍ.
وَالْأَبْكَارُ لَا يُوصَفْنَ بِالثَّيِّبَاتِ. قُلْتُ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مُسْلِماتٍ، إِلَى قَوْلِهِ:
سائِحاتٍ مُحَسِّنُ الْكَلَامِ الْمُتَّزِنِ إِذْ يَلْتَئِمُ مِنْ ذَلِكَ بَيْتٌ مِنْ بَحْرِ الرَّمَلِ التَّامِّ:
فَاعِلَتُنْ فَاعِلَتُنْ فَاعِلَتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَاتُنْ فَاعِلَتُنْ
وَوَجْهُ هَذَا التَّفْصِيلِ فِي الزَّوْجَاتِ الْمُقَدَّرَاتِ لِأَنَّ كِلْتَا الصِّفَتَيْنِ مَحَاسِنُهَا عِنْدَ الرِّجَالِ فَالثَّيِّبُ أَرْعَى لِوَاجِبَاتِ الزَّوْجِ وَأَمْيَلُ مَعَ أَهْوَائِهِ وَأَقْوَمُ عَلَى بَيْتِهِ وَأَحْسَنُ لِعَابًا وَأَبْهَى زِينَةً وَأَحْلَى غَنْجًا.
وَالْبِكْرُ أَشَدُّ حَيَاءً وَأَكْثَرَ غِرَارَةً وَدَلَّا وَفِي ذَلِكَ مَجْلَبَةٌ لِلنَّفْسِ، وَالْبِكْرُ لَا تَعْرِفُ رَجُلًا قَبْلَ زَوْجِهَا فَفِي نُفُوسِ الرِّجَالِ خَلْقٌ مِنَ التَّنَافُسِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهَا غَيْرُهُمْ.
فَمَا اعْتَزَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَزِيَّةٍ إِلَّا وَقَدْ أَنْبَأَهَا اللَّهُ بِأَنْ سَيُبْدِلَهُ خَيْرًا مِنْهَا فِي تِلْكَ الْمَزِيَّةِ أَيْضًا.
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ مَعَانِيَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَتَقْدِيمُ وَصْفِ ثَيِّباتٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجْهُنَّ كُنَّ ثَيِّبَاتٍ. وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَلَامَ الْأَشَدَّ مُوَجَّهٌ إِلَى حَفْصَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ وَكَانَتْ حَفْصَةُ مِمَّنْ تَزَوَّجَهُنَّ ثَيِّبَاتٍ وَعَائِشَةُ هِيَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِكْرًا. وَهَذَا التَّعْرِيضُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ التَّأْدِيبِ كَمَا قِيلَ:
«الْحُرُّ تَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ».
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْعِشْرُونَ مِنْ مَغْزَى آدَابِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَمِنْ غرائب الْمسَائِل الأديبة الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً زَعَمَهَا ابْنُ خَالَوِيهِ (١) وَاوًا لَهَا اسْتِعْمَالٌ خَاصٌّ وَلَقَّبَهَا بِوَاوِ الثَّمَانِيَةِ (بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ النُّونِ) وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ ذَكَرُوا مِنْهُمُ الْحَرِيرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ
_________
(١) هُوَ الْحُسَيْن بن أَحْمد بن خالويه بن حمدَان الهمذاني، قَرَأَ بِبَغْدَاد ثمَّ سكن حلب واتصل بِسيف الدولة. وَتُوفِّي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة. وَلم أَقف على تعْيين الْموضع الَّذِي استظهر فِيهِ معنى وَاو الثَّمَانِية.
إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: ١٢- ١٧]. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ كَانَ الْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُّ رَقَبَةٍ وَلَا أَطْعَمَ يَتِيمًا وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَلَا آمَنَ.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا صَدَّقَ.
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ النُّونِ بِالْأَصَالَةِ أَيِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخَفَّفَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أُخْتَ (إِنَّ) هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، أَيْ نَقْضٍ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْمَعْنَى بِذِكْرِ نَقِيضِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: ٥]، وَإِمَّا لِبَيَانِ إِجْمَالٍ فِي النَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهُ نَحْوَ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: ٤٠].
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ لَا يَعْمَلُ إِعْرَابًا فَهُوَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَوْكِيدُ قَوْلِهِ فَلا
صَدَّقَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَ، وَثَانِيهُمَا زِيَادَةُ بَيَانِ مَعْنَى فَلا صَدَّقَ بِأَنَّهُ تَوَلَّى عَمْدًا لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ لَهُ أَحْوَالٌ، وَنَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الِاسْتِدْرَاكِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: ٣٤].
وَالتَّكْذِيبُ: تَكْذِيبُهُ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفَاعِلُ صَدَّقَ وَالْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ ضَمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
ويَتَمَطَّى: يَمْشِي الْمُطَيْطَاءَ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ طَاءٌ مَقْصُورَةٌ وَمَمْدُودَةٌ) وَهِيَ التَّبَخْتُرُ.
وَأَصْلُ يَتَمَطَّى: يَتَمَطَّطُ، أَيْ يَتَمَدَّدُ لِأَنَّ الْمُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَهُنَا انْتَهَى وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَهْمَلَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ مُزْدَهِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي مَصِيرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى

[سُورَة الْبَلَد (٩٠) : الْآيَات ١٨ إِلَى ٢٠]

أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
لَمَّا نَوَّهَ بِالَّذِينَ آمَنُوا أَعَقَبَ التَّنْوِيهَ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَبِشَارَتِهِمْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِإِحْضَارِهِمْ بِصِفَاتِهِمْ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ
إِرَادَةِ التَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ.
والْمَيْمَنَةِ جِهَةُ الْيَمِينِ، فَهِيَ مَفْعَلَةٌ لِلْمَكَانِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِ يَمَنَهُ (فِعْلًا مَاضِيًا) إِذَا كَانَ عَلَى يَمِينِهِ، أَيْ عَلَى جِهَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، أَوْ مَأْخُوذَةٌ مِنْ يَمَنَهُ اللَّهُ يُمْنًا، إِذَا بَارَكَهُ، وَإِحْدَى الْمَادَّتَيْنِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْأُخْرَى، قِيلَ: سُمِّيَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى يَمِينًا وَيُمْنَى لِأَنَّهَا أَعْوَدُ نَفْعًا عَلَى صَاحِبِهَا فِي يُسْرِ أَعْمَالِهِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ بِلَادُ الْيَمَنِ يَمَنًا لِأَنَّهَا عَنْ جِهَةِ يَمِينِ الْوَاقِفِ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ مِنْ بَابِهَا لِأَنَّ بَابَ الْكَعْبَةِ شَرْقِيٌّ، فَالْجِهَةُ الَّتِي عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَعْبَةِ هِيَ الْجَنُوبُ وَهِيَ جِهَةُ بِلَادِ الْيَمَنِ. وَكَانَتْ بِلَادُ الْيَمَنِ مَشْهُورَةً بِالْخَيْرَاتِ فَهِيَ مَيْمُونَةٌ. وَكَانَ جُغْرَافِيُّو الْيُونَانِ يَصِفُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ السَّعِيدَةِ، وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِبَارُهُمْ مَا جَاءَ عَنِ الْيَمِينِ مِنَ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مُبَشِّرًا بِالْخَيْرِ فِي عَقِيدَةِ أَهْلِ الزَّجْرِ وَالْعِيَافَةِ فَالْأَيَامِنُ الْمَيْمُونَةُ قَالَ الْمُرَقِّشُ يُفَنِّدُ ذَلِكَ:
فَإِذا الأشائم كالأيا من وَالْأَيَامِنُ كَالْأَشَائِمْ
وَنَشَأَ عَلَى اعْتِبَارِ عَكْسِ ذَلِكَ تَسْمِيَةُ بِلَادِ الشَّامِ شَأْمًا بِالْهَمْزِ مُشْتَقَّةً مِنَ الشُّؤْمِ لِأَنَّ بِلَادَ الشَّامِ مِنْ جِهَةِ شِمَالِ الدَّاخِلِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَقَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ
بِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَأْمِنَا وَفِي يَمَنِنَا»
وَمَا تَسْمِيَتُهُمْ ضِدَّ الْيَدِ الْيُمْنَى يَسَارًا إِلَّا لِإِبْطَالِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ الشُّؤْمِ فِيهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ جِهَةُ الْيَمِينِ جِهَةً مُكَرَّمَةً تَعَارَفُوا الْجُلُوسَ عَلَى الْيَمِينِ فِي الْمَجَامِعِ كَرَامَةً لِلْجَالِسِ، وَجَعَلُوا ضِدَّهُمْ بِعَكْسِ ذَلِكَ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ فَكَانَ النَّاسُ يَجْلِسُونَ حِينَ انْتَهَى بِهِمُ الْمَجْلِسُ.
وَسُمِّيَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وأَصْحابُ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَة: ٢٧] وَسُمِّيَ أَهْلُ النَّارِ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ وأَصْحابُ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٤١]، فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أَيْ أَصْحَابُ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.


الصفحة التالية
Icon