مَوْضِعَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ إِمَّا زِيَادَةً عَلَيْهِ حَتَّى أَنْسَتْهُمُ الْأَصْلَ وَإِمَّا تَضْلِيلًا وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ.
وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ هُنَا الْأَكَاذِيبُ أَيْ مَا وَضَعَهُ لَهُمُ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّينَ، وَقَدْ قِيلَ الْأَمَانِيُّ الْقِرَاءَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا كَلِمَات يحفظوها وَيَدْرُسُونَهَا لَا يَفْقَهُونَ مِنْهَا مَعْنًى كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ تَقْتَصِرُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى السَّرْدِ دُونَ فَهْمٍ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ حَسَّانٍ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
أَيْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي قُتِلَ فِي آخِرِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمَانِيَّ هُنَا التَّمَنِّيَّاتُ وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ أَيْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فَلَمَّا لَمْ يَنَالُوا الْعِلْمَ ادَّعَوْهُ بَاطِلا فَإِن غي الْعَالِمِ إِذَا اتُّهِمَ بِمِيسَمِ الْعُلَمَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَكَيْفَمَا كَانَ الْمُرَادُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَاتِهِ الْمَعَانِي لَيْسَ مِنْ علم الْكتاب.
[٧٩]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٧٩]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبًا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٧٥] الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ تَحْرِيفٍ مِنْهُمْ عَنْ عَمْدٍ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ سُوءَ الْحَالَةِ، أَوْ رُتِّبَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ اسْتِفْظَاعِ حَالِهِمْ، وَأُعِيدَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا أُجْمِلَ فِي الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِعَادَةَ تَفْصِيلٍ.
وَمَعْنَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ شَيْئًا لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ رُسُلِهِمْ بَلْ يَضَعُونَهُ وَيَبْتَكِرُونَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
بِأَفْوَاهِهِمْ لَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي نفس الْأَمر.
و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُدْخِلَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْوَيْلَ مِنْ كِتَابَةِ الْكِتَابُُِ
فَصَلِّ لِرَبِّكَ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مَرْيَم: ٣٨] أَيْ وَأَبْصِرْ بِهِمْ، فَالتَّقْدِيرُ: وَانْحَرْ لَهُ. وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى إِبْطَالِ نَحْرِ الْمُشْرِكِينَ قُرْبَانًا لِلْأَصْنَامِ فَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَكِّيَّةً فَلَعَلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اقْتَرَبَ وَقْتُ الْحَجِّ وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ عَامٍ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَبَعْدَهَا قد تَرَدَّدَ فِي نَحْرِ هَدَايَاهُ فِي الْحَجِّ بَعْدَ بَعْثَتِهِ، وَهُوَ يَوَدُّ أَنْ يُطْعِمَ الْمَحَاوِيجَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ يَحْضُرُ فِي الْمَوْسِمِ وَيَتَحَرَّجُ مِنْ أَنْ يُشَارِكَ أَهْلَ الشِّرْكِ فِي أَعْمَالِهِمْ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْحَرَ الْهَدْيَ لِلَّهِ وَيُطْعِمَهَا الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا يَمْنَعُكَ نَحْرُهُمْ لِلْأَصْنَامِ أَنْ تَنْحَرَ أَنْتَ نَاوِيًا بِمَا تَنْحَرُهُ أَنَّهُ لِلَّهِ.
وَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، وَكَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ كَانَ النَّحْرُ مُرَادًا بِهِ الضَّحَايَا يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إِنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُرَادٌ بِهِ صَلَاةُ الْعِيدِ،
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ.
وَأَخَذُوا مِنْ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالنَّحْرِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ بِالنَّحْرِ دُونَ الذَّبْحِ مَعَ أَنَّ الضَّأْنَ أَفْضَلُ فِي الضَّحَايَا وَهِيَ لَا تُنْحَرُ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُضَحِّ إِلَّا بِالضَّأْنِ تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ النَّحْرِ وَهُوَ الَّذِي رُوعِيَ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْأَضْحَى يَوْمَ النَّحْرِ وَلِيَشْمَلَ الضَّحَايَا فِي الْبَدَنِ وَالْهَدَايَا فِي الْحَجِّ أَوْ لِيَشْمَلَ الْهَدَايَا الَّتِي عُطِّلَ إِرْسَالُهَا فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَيُرَشِّحُ إِيثَارَ النَّحْرِ رَعْيُ فَاصِلَةِ الرَّاءِ فِي السُّورَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي تَفْسِيرِ «انْحَرْ» تَجْعَلُهُ لفظا غَرِيبا.
[٣]
[سُورَة الْكَوْثَر (١٠٨) : آيَة ٣]
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)
اسْتِئْنَافٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِحَرْفِ إِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ يَكْثُرُ أَنْ يُفِيدَ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢].
وَاشْتِمَالُ الْكَلَامِ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ وَعَلَى ضَمِيرِ غَائِبٍ وَعَلَى لَفْظِ الْأَبْتَرِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ


الصفحة التالية
Icon