[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٨٨]

وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
إِمَّا عَطْفٌ عَلَى قَوْله: اسْتَكْبَرْتُمْ [الْبَقَرَة: ٨٧] أَوْ على كَذَّبْتُمْ [الْبَقَرَة: ٨٧] فَيَكُونُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي تَفْسِيرًا لِلِاسْتِكْبَارِ أَيْ يَكُونُ عَلَى تَقْدِيرِ عَطْفِهِ عَلَى كَذَّبْتُمْ مِنْ جُمْلَةِ تَفْصِيلِ الِاسْتِكْبَارِ بِأَنْ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ اسْتِكْبَارَهُمْ أَنْوَاعٌ: تَكْذِيبٌ وَتَقْتِيلٌ وَإِعْرَاضٌ. وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ وَإِبْعَادٌ لَهُمْ عَنْ مَقَامِ الْحُضُورِ فَهُوَ مِنَ الِالْتِفَاتِ الَّذِي نُكْتَتُهُ أَنَّ مَا أُجْرِيَ عَلَى الْمُخَاطَبِ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْفَظَاعَةِ قَدْ أَوْجَبَ إِبْعَادَهُ عَنِ الْبَالِ وَإِعْرَاضَ الْبَالِ عَنْهُ فَيُشَارُ إِلَى هَذَا الْإِبْعَادِ بِخِطَابِهِ بِخِطَابِ الْبُعْدِ فَهُوَ كِنَايَةٌ (١).
وَقَدْ حَسَّنَ الِالْتِفَاتَ أَنَّهُ مُؤْذِنٌ بِانْتِقَالِ الْكَلَامِ إِلَى سُوءِ مُقَابَلَتِهِمْ لِلدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُوَ غَرَضٌ جَدِيدٌ فَإِنَّهُمْ لَمَّا تَحَدَّثَ عَنْهُمْ بِمَا هُوَ من شؤونهم مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ وَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ، وَلَمَّا أُرِيدَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ الْخِطَابُ جَارِيًا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَجْرَى عَلَى الْيَهُودِ ضَمِيرَ الْغَيْبَةِ. عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ عَلَنًا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ أُسْلُوبَ الْخِطَابِ جَرَى عَلَى الْغَيْبَةِ مِنْ مَبْدَأِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ [الْبَقَرَة: ٩٢]. وَالْقُلُوبُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الْأَذْهَانِ عَلَى طَرِيقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي إِطْلَاقِ الْقَلْبِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالْغُلْفُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَغْلَفٍ وَهُوَ الشَّدِيدُ الْغِلَافُ مُشْتَقٌّ مِنْ غَلَّفَهُ إِذَا جَعَلَ لَهُ غِلَافًا وَهُوَ الْوِعَاءُ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَالسَّاتِرُ لَهُ مِنْ وُصُولِ مَا يُكْرَهُ لَهُ.
وَهَذَا كَلَامٌ كَانُوا يَقُولُونَهُ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَدْعُوهُمْ لِلْإِسْلَامِ قَصَدُوا بِهِ التَّهَكُّمَ وَقَطْعَ طَمَعِهِ فِي إِسْلَامِهِمْ وَهُوَ كَقَوْلِ الْمُشْرِكِينَ: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥]. وَفِي الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْأَغْلَفِ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَمَّا لَا يُلَائِمُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْغِلَافِ فَهُمْ يُخَيِّلُونَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْفَهْمِ وَيُرِيدُونَ أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ مِنْ فَهْمِ الضَّلَالَاتِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ مُؤْذِنٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا
_________
(١) قلت نَظِير هَذَا الِالْتِفَات من الْخطاب إِلَى الْغَيْبَة بعد إِجْرَاء صِفَات نقص قَول الشَّاعِر يذم من بخل فِي قَضَاء مُهِمّ:
أَبى لَك كسب الْحَمد رَأْي مقصر وَنَفس أضاق الله بِالْخَيرِ بَاعهَا

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١١١- سُورَةُ الْمَسَدِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ «سُورَةَ تَبَّتْ» وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي «جَامِعِهِ» وَفِي أَكْثَرِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا.
وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَبَعض التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْمَسَدِ». وَاقْتَصَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» عَلَى هَذَيْنِ.
وَسَمَّاهَا جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ «سُورَةَ أَبِي لَهَبٍ» عَلَى تَقْدِيرِ: سُورَةِ ذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ.
وَعَنْوَنَهَا أَبُو حَيَّانَ فِي «تَفْسِيرِهِ»«سُورَةَ اللَّهَبِ» وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.
وَعَنْوَنَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ»«سُورَةَ مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ» وَهُوَ عُنْوَانٌ وَلَيْسَ بِاسْمٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَعُدَّتِ السَّادِسَةَ مِنَ السُّوَرِ نُزُولًا، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّكْوِيرِ.
وَعَدَدُ آيِهَا خَمْسٌ.
رُوِيَ أَنَّ نُزُولَهَا كَانَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِهَا عَلَى مَا
فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الصَّفَا فَنَادَى: «يَا صَبَاحَاهُ» (كَلِمَةٌ يُنَادَى بِهَا لِلْإِنْذَارِ مِنْ عَدُوٍّ يُصَبِّحُ الْقَوْمَ) فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ: إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنِّي أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُمَسِّيكُمْ أَوْ مُصَبِّحُكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟! فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدا


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إِذا هِيَ حثته على الْخَيْر مرّة عصاها وَإِن همّت بشرّ أطاعها