سورة الرحمن
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿الرحمنُ علَّمَ القرآنَ﴾ عدّد في هذه الصورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نِعمه الدينية والدنيوية، الأنفسية والآفاقية، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها، وبدأ بتعليم القرآن؛ لأنه أعظمها شأناً، وأرفعها مكاناً، كيف لا وهو مدار السعادة الدينية والدنيوية؟ وإسناد تعليم القرآن إلى اسم " الرَّحْمَان " للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها.
ثم ثنَّى بنعمة الإيمان، فقال: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ أي: جنس الإنسان، أو آدم، أو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بخلقه: إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. ﴿علَّمه البيانَ﴾ وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن؛ ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلك، كثَّرك بعد قِلَّة، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكر إحسانه؟.
في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله مِن أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الذين أجرموا﴾ ؛ كفروا، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم، ﴿كانوا من الذين آمنوا﴾ كعمَّار وصُهيب وخبَّاب وبِلال ﴿يضحكون﴾ استهزاء بهم، ﴿وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون﴾ ؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل: جاء عليٌّ في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، وقالوا: أترون هذا الأصلع؟ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية على هذا مدنية، ﴿وإِذا انقلبوا إلى أهلهم﴾ أي: إذا رجع الكفار إلى منازلهم ﴿انقلبوا فاكهين﴾، متلذذين بذكرهم بالسوء، أو متعجبين، وقرأ حفص: ﴿فكهين﴾ بالقصر، أي: أشرين أو فرحين، وقال الفراء: هما سواء كطاعن وطعن.
﴿وإِذا رَأَوهم﴾ أي: رأى الكافرون المؤمنين ﴿قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون﴾ أي: مخدوعون، أي: خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا العاجل بالآجل، والحقيقة بالخيال، وهذا عين الضلال، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال، قال تعالى: ﴿وما أُرسلوا عليهم حافظين﴾ أي: وما أرسل الكفّار على المسلمين، يحفظون أعمالهم، ويرقبون أحوالهم. والجملة حال، أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم، مهيمنين على أعمالهم، يشهدون برُشدهم وضلالهم، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.
﴿فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون﴾، حين يرونهم مغلولين أذلاء، قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار، وهم ﴿على الأرائك﴾ آمنون، ووجه ذلك: أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم، وقال كعب: بين الجنة والنار كُوَىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه، دليله: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٥٥] فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً. ﴿على الأرائك ينظرون﴾ حال، أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال، وقيل: يُفتح إلى الكفار باب إلى