يتصدّعون من أجلها؛ إذ ليست كخمر الدوالي، ولا يُنزفون: لا يسكرون سُكْر اصطلام، وإنما يسكرون سُكراً مشوباً بصَحْوٍ، إذا كان الساقي عارفاً ماهراً. وفاكهة؛ حلاوة الشهود، مما يتخيرون، إن شاؤوا بالفكرة والنظرة، وإن شاؤوا بالذِكر والمذاكرة، وكان بعض أشياخنا يقول: خمرة الناس في الحضرة، وخمرتنا في الهدرة، أي: المذاكرة. ولحم طير من علوم الطريقة والشريعة، مما يشتهون منها، وحُورق عِين من أبكار الحقائق، مصونة عن غير أهلها، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء على مجاهدتهم ومكابدتهم. لا يسمعون في جنة المعارف لغواً ولا تأثيماً؛ لتهذيب أخلاق أهلها، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
تُهذّبُ أخلاقَ النَّدامى، فيَهْتدي
بها لطريقه العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَن لا يَعْرف الجودَ كَفّثه
ويحلُمُ عند الغيْظِ مَن لا له حِلم
فلا تسمع من الصوفية إِلا قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا، كما قيل في حقيقة التصوُّف: أخلاقٌ كرام، ظهرت من قوم كرام، في زمن كريم. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين﴾ استفهام تعجيب، تفخيماً لحالهم، وتعظيماً لشأنهم، ثم ذكر نعيمهم فقال: ﴿في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ﴾ والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك له، كأنه خُضِد شوكه، أي: قُطع، أي: ليس هو كسِدر الدنيا، وقيل: مخضود، أي: ثنى إغصانه من كثرة حمله، من خَضَدَ الغصن: إذا ثناه وهو رطب. قال ابن جُبَيْر: ثمرها أعظم من القلال، وثمار الجنة كلها بادية، ليس شيء منها في غلاف. رُوي أنَّ المسلمين نظروا إلى وادٍ بالطائف مخصب، فأعجبهم سِدرها، وقالوا: يا ليت لنا مثله في الجنة، فنزلت، وقال أمية بن أبي الصلت في وصف الجنة:
إنَّ الحَدائِقَ في الجِنان ظَلِيلةٌ
فيها الكواعِبُ، سِدْرُهَا مَخْضُودُ
﴿وطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ الطلح: شجرة الموز، والنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة، وفي جامع العُتْبية عن مالك، قال: بلغني أنّ الطلح المنضود، المذكور في الآية، هو الموز، وهو مما يشبه ثمار الجنة، لقوله تعالى:
سورة الغاشية
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هل أتاك حديثُ الغاشيةِ﴾ أي: قد أتاك، والأحسن: أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه، والتشويق إلى استماعه، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد. والغاشية: الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها، من قوله تعالى: ﴿يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥٥] الخ.
ثم فصّل أحوالَ الناس فيها، فقال: ﴿وجوه يومئذٍ خاشعةٌ﴾، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال: ﴿وجوه يومئذ﴾ أي: يوم إذ غشيت ﴿خاشعة﴾ ؛ ذليلة، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان، و ﴿وجوه﴾ متبدأ، سوّغه التنويع، و (خاشعة) خبر، و ﴿عاملة ناصبة﴾ : خبران آخران، أي: تعمل أعمالاً شاقة في النار، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها، وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها، فهي يومئذ ناصبة منها، ﴿تَصلى﴾ أي: تدخل ﴿ناراً حامية﴾ ؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة، ﴿تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ﴾ أي: من عين ماء متناهية في الحرّ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه، والمراد أصحابها، بدليل قوله: ﴿ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع﴾، وهو نبت يقال لِرَطْبِه: الشَّبرِق على وزن زِبْرج، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته، وهو الضريع، وهم سمٌّ قاتل، وفي الحديث: " الضريع شيء


الصفحة التالية
Icon