حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه: أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض:
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿آمِنوا بالله ورسوله﴾ أي: دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو: أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، ﴿وأَنفِقوا﴾ أي: تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، ﴿مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ أي: جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو: جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، ﴿فالذين آمنوا﴾ بالله ورسوله ﴿منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير﴾ لا يُقادر قدره.
سورة الليل
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والليلِ إِذا يغشى﴾ أي: حين يغشى الشمس، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) ﴾ [الشمس: ٤] أو: كل ما يواريه بظلامه. وقال القشيري: إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. ﴿والنهارِ إِذا تَجَلَّى﴾ أي: ظهر وأسفر ووضح، ﴿وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى﴾ أي: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد، وقيل: هما آدم وحواء، و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية. وقُرىء " والذكر والأنثى " وقرىء " الذي خلق الذكر والأنثى ". جواب القسم: ﴿إِنَّ سعيَكم﴾ أي: عملكم ﴿لشتَّى﴾ ؛ لمختلف، جمع شتيت، أي: إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة.
ثم فصّله فقال: ﴿فأّمَّا مَن أعطى﴾ حقوق ماله ﴿واتقى﴾ محارمَ الله التي نهى عنها، ﴿وصدَّق بالحسنى﴾ ؛ بالخصلة الحُسنى، وهي الإيمان، أو بالكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه، ولا يجري على قلبه خاطر شك، ﴿فسَنُيَسِّره لليُسرى﴾ ؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر، كدخول الجنة ومبادئه. قال ابن عطية: معناه: سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً. هـ. يقال: يسَّرَ الفرس، إذا أسرجها وألجمها.
﴿وأمّا مَن بَخِلَ﴾ بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، ﴿واستغنَى﴾ أي: زهد فيما عند الله تعالى، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه، أو: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة،