" وعن بعض الحكماء: ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم؟ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم؟ والعلوم أنواع، وشرفها باعتبار المعلوم، فأفضل العلوم: العلم بالذات العلية، على نعت الكشف والعيان، ثم العلم بالصفات والأسماء، ثم العلم بالأحكام، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه.
﴿واللهُ بما تعملون خبير﴾ تهديد لمَن لم يمتثل الأمر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ، بل هو عينه؛ لأنه العلم النافع، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ، فوجد فُرجة جلس فيها، وإلاّ جلس خلف الحلقة، ولو مع النعال، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب. وإذا قيل لأهل المجلس: تفسَّحوا فليتفسَّحوا، يفسح الله لهم في العلم والعرفان، والأخلاق والوجدان، والمقامات، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه. وإذا قيل: انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة، فانشُزُوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة. ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات، على سبيل الكشف والعيان، درجات، سبعمائة درجة، على العالم صاحب الدليل والبرهان، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة. فالناس أربع طبقات: الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله، ثم العلماء، ثم الصالحون، ثم عامة المؤمنين. والمراد بالأولياء مَن منَّ اللهُ عليه بملاقاة شيخ التربية، حتى دخل مقام الفناء والبقاء، زاح عنه حجاب الكائنات، وأفضى إلى شهود المكوِّن، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون.
قال في " لطائف المنن ": وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل، وكلام رسول الله ﷺ فإنما المراد به النافع، المخمِد للهوى، القامع للنفس، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُاْ﴾ [فاطر: ٢٨]، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، وأمّا عِلم مَن يكوم معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والادخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُشيء على غيرها وهي تحرق نفسها، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر "، ومثَلُ مَن
سورة القارعة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿القارعةُ ما القارعةُ﴾ القرع هو الضرب باعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وهي مبتدأ، خبرها: قوله: (ما القارعةُ) على أنَّ " ما " استفهامية خبر، والقارعة مبتدأ، لا بالعكس؛ لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة " أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. ﴿وما أدراك ما القارعةُ﴾ هو تأكيد لهولها وفضاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، أي: أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ و " أدْرَى " يتعدى إلى مفعولين، علقت عن الثاني بالاستفهام.
ثم بيّن شأنها فقال: ﴿يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ﴾ أي: هي يوم، على أنَّ " يوم " مبني لإضافته إلى الفعل، وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين، والمختار أنه منصوب باذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. والفراش: صِغار الجراد، ويسمى: غوغاء الجراد، وبهذا يوافق قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] وقال أبو عبيدة: الفراش: طير لا بعوض ولا ذباب، والمبثوث: المتفرق. وقال الزجاج:


الصفحة التالية
Icon