بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ لُقْمَانَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى يُفْهَمُ مِنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [٥٨ ٢٢].
ثُمَّ نَصَّ عَلَى دُخُولِ الْآبَاءِ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ [٥٨ ٢٢]، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ.
وُوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُصَاحَبَةَ بِالْمَعْرُوفِ أَعَمُّ مِنَ الْمُوَادَّةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ إِسْدَاءُ الْمَعْرُوفِ لِمَنْ يَوَدُّهُ وَمَنْ لَا يَوَدُّهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَعَمِّ، فَكَأَنَّ اللَّهَ حَذَّرَ مِنَ الْمَوَدَّةِ الْمُشْعِرَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَالَاةِ بِالْبَاطِنِ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْآبَاءُ وَغَيْرُهُمْ، وَأَمَرَ الْإِنْسَانَ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ لِوَالِدَيْهِ إِلَّا الْمَعْرُوفَ وَفِعْلُ الْمَعْرُوفِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَوَدَّةَ لِأَنَّ الْمَوَدَّةَ مِنْ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ لَا مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ لِذَلِكَ إِذْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ تَصِلَ أُمَّهَا وَهِيَ كَافِرَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قِصَّتَهَا سَبَبٌ لِنُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الْآيَةَ [٦٠ ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الْآيَةَ.
هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَالِدٌ وَلَدَهُ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَةٌ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ دَرَجَاتِ الْأَوْلَادِ بِسَبَبِ صَلَاحِ آبَائِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا فِي دَرَجَةِ الْآبَاءِ مَعَ أَنَّ عَمَلَهُمْ - أَيِ الْأَوْلَادَ - لَمْ يُبَلِّغْهُمْ تِلْكَ


الصفحة التالية
Icon