بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الْجِنِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا
فِيهِ إِثْبَاتُ سَمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ وَإِعْجَابِهِمْ بِهِ، وَهِدَايَتِهِمْ بِهَدْيِهِ، وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ. وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ بِذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَةِ «الْأَحْقَافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [٤٦ ٢٩]، وَفِي آيَةِ «الْأَحْقَافِ» بَيَانٌ لِمَا قَامَ بِهِ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ بَعْدَ سَمَاعِهِمُ الْقُرْآنَ، بِأَنَّهُمْ لَمَّا قُضِيَ سَمَاعُهُمْ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.
وَفِيهَا: بَيَانُ أَنَّهُمْ عَالِمُونَ بِكِتَابِ مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَقَدْ شَهِدُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، كَمَا جَاءَ هُنَا قَوْلُهُ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا
وَالشَّطَطُ: الْبَعِيدُ الْمُفْرِطُ فِي الْبُعْدِ، قَالَ عَنْتَرَةُ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
شَطَّتْ مَزَارُ الْعَاشِقِينَ فَأَصْبَحَتْ | عِسِرًا عَلَى طُلَّابِهَا ابْنَةُ مَخْرَمِ |
حَلَّتْ بِأَرْضِ الزَّائِرِينَ فَأَصْبَحَتْ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا لِغَيْرِهِ:
شَطَّ الْمَزَارُ بِجَذْوِي وَانْتَهَى الْأَمَلُ
فَفِي كِلَا الْبَيْتَيْنِ الشَّطَطُ: الْإِفْرَاطُ فِي الْبُعْدِ، إِذْ فِي الْأَوَّلِ قَالَ: فَأَصْبَحَتْ عَسِرًا عَلَى طُلَّابِهَا، وَفِي الثَّانِي قَالَ: وَانْتَهَى الْأَمَلُ، وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطَطِ الْبُعْدُ الْخَاصُّ،