بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ عَبَسَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى
سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَشْغُولًا بِدَعْوَةِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأَتَاهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ رَجُلٌ أَعْمَى، وَقَالَ: " أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ وَمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا يَرْجُوهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ، فَعَبَسَ وَتَوَلَّى عَنْهُ مُنْصَرِفًا، لِمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى مَا نَصُّهُ: عَبَّرَ تَعَالَى عَنْ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ - الَّذِي هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ - بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ النَّاسُ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [٤٩ ١١].
وَالْجَوَابُ: هُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مِنْ أَنَّ السِّرَّ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِلَفْظِ " الْأَعْمَى " ; لِلْإِشْعَارِ بِعُذْرِهِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى قَطْعِ كَلَامِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَرَى مَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ مَعَ صَنَادِيدِ الْكُفَّارِ لَمَا قَطَعَ كَلَامَهُ. اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَعْمَى لَا يَرَى، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ وَبِسَمَاعِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِقْدَامِهِ عَلَى مُقَاطَعَتِهِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَعْصِيَةً، فَكَيْفَ يُعَاتَبُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فَكَلَامُهُ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْذُورًا لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ، فَلَيْسَ مَعْذُورًا لِإِمْكَانِ سَمَاعِهِ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بِوَصْفِهِ لِيُوجِبَ الْعَطْفَ عَلَيْهِ وَالرِّفْقَ بِهِ.
وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ -: أَنَّ كَلَامَ الرَّازِيِّ لَيْسَ بَعِيدًا عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَاتَبَهُ لِعَدَمِ رِفْقِهِ بِهِ. وَمُرَاعَاةِ حَالَةِ عَمَاهُ.
فِعْلَيْهِ، يَكُونُ ذِكْرُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنْ بَابِ التَّعْرِيضِ بِغَيْرِهِ مِنْ أُولَئِكَ الصَّنَادِيدِ وَسَادَةِ الْقَوْمِ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ