يَعْصُونَكَ يَا رَبِّ وَأَنْتَ خَالِقُهُمْ؟ فَأَجَابَهُمْ رَبُّهُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ، وَمَنْ بَعْضُ مَنْ تَرَوْنَهُ لِي طَائِعًا. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الاسترشاد عما لم يعلموه مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَبِّ خَبِّرْنَا- مسألة اسْتِخْبَارٌ مِنْهُمْ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ «١» - وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قال: استشار الْمَلَائِكَةَ فِي خَلْقِ آدَمَ، فَقَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ- وَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أكره عند اللَّهِ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ- (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَكَانَ فِي عِلْمِ الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الْجَنَّةِ، قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخَذَ في خلق آدم عليه السلام قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: مَا اللَّهُ خَالِقٌ خَلْقًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنَّا وَلَا أَعْلَمَ مِنَّا فَابْتُلُوا بِخَلْقِ آدم، وكل خلق مبتلى، كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: ١١] «٢».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ، قال: التَّسْبِيحُ التَّسْبِيحُ «٣» وَالتَّقْدِيسُ الصَّلَاةُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ ناس من الصحابة (ونحن نسبح بحمد وَنُقَدِّسُ لَكَ) قَالَ:
يَقُولُونَ: نُصَلِّي لَكَ. وَقَالَ: مُجَاهِدٌ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، قَالَ: نُعَظِّمُكَ وَنُكَبِّرُكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، قَالَ: لَا نَعْصِي وَلَا نَأْتِي شَيْئًا تَكْرَهُهُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: التَّقْدِيسُ هُوَ التَّعْظِيمُ وَالتَّطْهِيرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ. يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ سبوح: تنزيه لله، وبقولهم قدوس: طهارة وتعظيم له، وكذلك قِيلَ لِلْأَرْضِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُطَهَّرَةَ، فَمَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ إِذًا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِمَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكَ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَدْنَاسِ وَمَا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الْكُفْرِ بِكَ «٤». وَفِي صَحِيحِ

(١) عبارة الطبري: «لا على وجه مسألة التوبيخ».
(٢) الطبري ١/ ٢٤٢. قال أبو جعفر الطبري: وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ على غير يقين علم تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظن. ثم قال الطبري: وقد روي عن قتادة خلاف هذا التأويل وهو ما حدثنا به الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كان الله أعلمهم إذ كَانَ فِي الْأَرْضِ خَلْقٌ أَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدماء.
(٣) أي أن التسبيح المذكور في الآية هو عينه التسبيح المعروف.
(٤) الطبري ١/ ٢٤٨. وكان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده: «سبّوح قدّوس، ربّ الملائكة والروح» روته عائشة وأخرجه مسلم (القرطبي ١/ ٢٧٧).


الصفحة التالية
Icon