قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَعُوضَةً مَنْصُوبَةً بِحَذْفِ الْجَارِّ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَيْنَ بَعُوضَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وقرأ الضحاك وإبراهيم بن [أبي] «١» عبلة: بَعُوضَةٌ بِالرَّفْعِ، قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ وَتَكُونُ صِلَةً لما وَحُذِفَ الْعَائِدُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على الذي هُوَ أَحْسَنُ، وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَا أَنَا بِالَّذِي قائل لك شيئا، أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى: فَما فَوْقَها فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا فَمَا دُونَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ كَمَا إِذَا وُصِفَ رَجُلٌ بِاللُّؤْمِ وَالشُّحِّ فَيَقُولُ السَّامِعُ: نَعَمْ وَهُوَ فَوْقَ ذَلِكَ- يَعْنِي فِيمَا وَصَفْتَ- وَهَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وأبي عبيدة قاله الرَّازِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بعوضة لما سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» وَالثَّانِي: فَمَا فوقها لما هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَحْقَرُ وَلَا أَصْغَرُ مِنَ الْبَعُوضَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ بن دعامة واختيار ابن جرير، فإنه يؤيده مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فما فوقها إلا كتب لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ» «٢» فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَصْغِرُ شَيْئًا يَضْرِبُ بِهِ مَثَلًا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ وَالصِّغَرِ كَالْبَعُوضَةِ، كما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها كما ضَرْبِ الْمَثَلِ بِالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الْحَجِّ: ٧٣] وَقَالَ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٤١] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ. يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٤- ٢٧] وَقَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٧٥]، ثُمَّ قَالَ:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النَّحْلِ: ٧٦] كَمَا قَالَ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ [الرُّومِ: ٢٨]. وَقَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: ٢٩]. وَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ
(٢) أخرجه مسلم (برّ حديث ٤٦، ٤٧، ٤٨).