الجزء التاسع
[تتمة سورة آل عمران]
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا] اعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ عَظِيمَ نِعَمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَفِي أَمْرِ الْجِهَادِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّحْذِيرِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، وَقَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا أَنْفَقُوا عَلَى تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمْوَالًا جَمَعُوهَا بِسَبَبِ الرِّبَا، فَلَعَلَّ ذَلِكَ يَصِيرُ دَاعِيًا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الرِّبَا حَتَّى يَجْمَعُوا الْمَالَ وَيُنْفِقُوهُ عَلَى الْعَسْكَرِ فَيَتَمَكَّنُونَ مِنَ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَفِي قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا جَاءَ الْأَجَلُ وَلَمْ يَكُنِ الْمَدْيُونُ وَاجِدًا لِذَلِكَ الْمَالِ قَالَ زِدْ فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ، ثُمَّ إِذَا حَلَّ الأجل الثاني فعل مثل ذَلِكَ، ثُمَّ إِلَى آجَالٍ كَثِيرَةٍ، فَيَأْخُذُ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمِائَةِ أَضْعَافَهَا فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَضْعافاً مُضاعَفَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: انْتَصَبَ أَضْعافاً عَلَى الْحَالِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
اعْلَمْ أَنَّ اتِّقَاءَ اللَّهِ فِي هَذَا النَّهْيِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ الْفَلَاحَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَكَلَ وَلَمْ يَتَّقِ زَالَ الْفَلَاحُ/ وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الرِّبَا مِنَ الْكَبَائِرِ لَا مِنَ الصَّغَائِرِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ:
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الْبَقَرَةِ: ٢١] وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي الرِّبَا أَيْضًا مَرَّ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ تَكُونُ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ أَزْيَدُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ بِفِسْقِهِ، فَكَيْفَ قَالَ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ.
وَالْجَوَابُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: اتَّقُوا أَنْ تَجْحَدُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا فَتَصِيرُوا كَافِرِينَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَا أُعِدَّتْ إِلَّا لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ سَائِرِ الْآيَاتِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ دَرَكَاتٌ أُعِدَّ بَعْضُهَا لِلْكُفَّارِ وَبَعْضُهَا لِلْفُسَّاقِ فَقَوْلُهُ: النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ إِشَارَةٌ إِلَى تِلْكَ الدَّرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ، وَهَذَا لَا