﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] يقول اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَذِهِ الْآيَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، يَقُولُ الْعَبْدُ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦ - ٧] يَقُولُ اللَّهُ: (فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي ما سأل) »، صحيح (١).
[سورة البقرة]
[قوله تعالى الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ]
(٢) سورة البقرة [١] ﴿الم﴾ [البقرة: ١] قَالَ الشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ: الم وَسَائِرُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وَهِيَ سِرُّ الْقُرْآنِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِظَاهِرِهَا وَنَكِلُ الْعِلْمَ فِيهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفَائِدَةُ ذِكْرِهَا طَلَبُ الْإِيمَانِ بِهَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: فِي كُلِّ كِتَابٍ سر وسر الله فِي الْقُرْآنِ أَوَائِلُ السُّوَرِ، وَقَالَ علي: إن لِكُلِّ كِتَابٍ صَفْوَةٌ وَصَفْوَةُ هَذَا الكتاب حروف التهجي.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: هِيَ مَعْلُومَةُ الْمَعَانِي، فَقِيلَ: كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ كَمَا قَالَ ابن عباس في ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] الْكَافُ مِنْ كَافِي وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيمٍ وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ، وقيل في ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] أَنَا اللَّهُ الْمَلِكُ الصَّادِقُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فِي الم: الْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ اللَّطِيفِ وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ الْمَجِيدِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُهُ وَالْمِيمُ مُلْكُهُ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه قال: معنى ﴿الم﴾ [البقرة: ١] أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَمَعْنَى المص أنا الله أعلم وأفصل، ومعنى ﴿الر﴾ [يونس: ١] أَنَا اللَّهُ أَرَى، وَمَعْنَى ﴿المر﴾ [الرعد: ١] أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ حَرْفًا مِنْ كَلِمَةٍ تُرِيدُهَا كقولهم:
قلت لها قفي فقالت لي قَافْ (٢)
أَيْ: وَقَفْتُ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: هِيَ أَسْمَاءُ الله تعالى مقطعة لو أحسن النَّاسُ تَأْلِيفَهَا لَعَلِمُوا اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: ﴿المر﴾ [الرعد: ١] و: ﴿حم﴾ [غافر: ١] و: ﴿ن﴾ [القلم: ١] فيكون الرَّحْمَنَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا إِلَّا أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى وَصْلِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ الْحُرُوفُ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَائِلَ إذا قال قرأت ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] عَرَفَ السَّامِعُ أَنَّهُ قَرَأَ السُّورَةَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِالمص، وَرُوِيَ عَنِ ابن عباس: أَنَّهَا أَقْسَامٌ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّمَا أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ لِشَرَفِهَا وفضلها لأنها مباني كتبه المنزلة ومبادئ أسمائه الحسنى.
[٢] قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ٢] أَيْ: هَذَا الْكِتَابُ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وأصل الكتاب الضم والجمع، وَسُمِّيَ الْكِتَابُ كِتَابًا لِأَنَّهُ جَمْعُ حرف إلى أحرف.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ من عند الله وَأَنَّهُ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ: لَا ترتابوا فيه.
قوله تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] أَيْ: هُوَ هُدًى، أَيْ: رُشْدٌ وَبَيَانٌ لِأَهْلِ التَّقْوَى، وَقِيلَ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: هَادِيًا، تقديره، لا ريب فيه فِي هِدَايَتِهِ لِلْمُتَّقِينَ، وَالْهُدَى مَا يَهْتَدِي بِهِ الْإِنْسَانُ. لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ: للمؤمنين، قال ابن عباس: الْمُتَّقِي مَنْ يَتَّقِي الشِّرْكَ وَالْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاتِّقَاءِ، وأصله الحجز بين شيئين، وَمِنْهُ يُقَالُ: اتَّقَى بِتُرْسِهِ أَيْ: جَعَلَهُ حَاجِزًا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ ما يقصده. فَكَأَنَّ الْمُتَّقِي يَجْعَلُ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ وَالِاجْتِنَابَ عَمَّا نَهَاهُ حَاجِزًا بينه وبين العذاب وَتَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ تَشْرِيفٌ لَهُمْ أو لأنهم هم المنتفعون بِالْهُدَى.
[٣] : قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٣] موضع (الذين)
_________
(١) رواه مسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة رقم (٣٩٥) ١ / ٢٩٦، والمصنف في شرح السنة ٣ / ٤٧.
(٢) هذا الرجز للوليد بن عقبة انظر تفسير الطبري ١ / ٢١٢.


الصفحة التالية
Icon