انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] فَأَخْبَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ بِالْأَبْدَانِ لَا يَكُونُ إِيمَانًا دون التصديق بالقلب والإخلاص، ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [الحجرات: ١٤] ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سِرًّا وَعَلَانِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ، ﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾ [الحجرات: ١٤] قرأ أبو عمر (يألتكم) بالألف كقوله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ﴾ [الطُّورِ: ٢١] وَالْآخَرُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: أَلِتَ يَأْلِتُ أَلْتًا وَلَاتَ يَلِيتُ لَيْتًا إِذَا نقص، ﴿مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ [الحجرات: ١٤] أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: ١٤] ثُمَّ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ.
[١٥] فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ [الحجرات: ١٥] لَمْ يَشُكُّوا فِي دِينِهِمْ، ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: ١٥] فِي إِيمَانِهِمْ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَتِ الْأَعْرَابُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ، وَعَرَفَ اللَّهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
[١٦] فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾ [الحجرات: ١٦] وَالتَّعْلِيمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِدِينِكُمْ وَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِيهِ، يَقُولُ أَتُخْبِرُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ [الحجرات: ١٦] أي لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِخْبَارِكُمْ.
[١٧] ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾ [الحجرات: ١٧] أَيْ بِإِسْلَامِكُمْ، ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: ١٧] إِنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ.
[١٨] ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحجرات: ١٨] قرأ ابن كثير بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
[سُورَةُ ق]
[قوله تعالى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ] مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ...
(٥٠) سورة ق [١] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هُوَ مِفْتَاحُ اسمه القدير، والقادر والقاهر والقريب والقابض. ﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: ١] الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ الْكَثِيرِ الخير. واختلفوا في جواب هذا الْقَسَمِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: جَوَابُهُ بَلْ عَجِبُوا وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، مَجَازُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُنَّ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قول. وقيل: قد علمنا.
[٢] ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ﴾ [ق: ٢] مخوف، ﴿مِنْهُمْ﴾ [ق: ٢] يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: ٢] غَرِيبٌ.
[٣] ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ [ق: ٣] نُبْعَثُ، تَرَكَ ذِكْرَ الْبَعْثِ لِدَلَالَةِ الكلام عليه، ﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق: ٣] وَغَيْرُ كَائِنٍ أَيْ يَبْعُدُ أَنْ نُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[٤] قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ﴾ [ق: ٤] أي ما تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَعِظَامِهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَوْتُ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَبْقَى، ﴿وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق: ٤] مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ أَنْ يدس ويتغير، وَقِيلَ: حَفِيظٌ أَيْ حَافِظٌ لِعِدَّتِهِمْ وأسمائهم.
[٥] ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ [ق: ٥] بِالْقُرْآنِ، ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: ٥] مُخْتَلِطٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُلْتَبِسٌ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إِلَّا مُرِجَ أَمْرُهُمْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً


الصفحة التالية
Icon