قَوْلُهُ تَعَالَى:" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ"" تِلْكَ" مبتدأ، و" أُمَّةٌ" خَبَرٌ،" قَدْ خَلَتْ" نَعْتٌ لِأُمَّةٍ، وَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، وَتَكُونُ" أُمَّةٌ" بَدَلًا مِنْ" تِلْكَ"." لَها مَا كَسَبَتْ"" مَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ أَوْ بِالصِّفَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ." وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ" مِثْلُهُ، يُرِيدُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُضَافُ إِلَيْهِ أَعْمَالٌ وَأَكْسَابٌ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَقْدَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَبِعَدْلِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْآيُ فِي الْقُرْآنِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. فَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ لِأَفْعَالِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خُلِقَتْ لَهُ قُدْرَةً مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، يُدْرِكُ بِهَا الْفَرْقَ بَيْنَ حَرَكَةِ الِاخْتِيَارِ وَحَرَكَةِ الرَّعْشَةِ مَثَلًا، وذلك التمكن هو مناط التكليف. وقالت الْجَبْرِيَّةُ بِنَفْيِ اكْتِسَابِ الْعَبْدِ، وَإِنَّهُ كَالنَّبَاتِ الَّذِي تَصْرِفُهُ الرِّيَاحُ. وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ خِلَافَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ" أَيْ لَا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " أَيْ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ ثقل أخرى، وسيأتي «١».
[سورة البقرة (٢): آية ١٣٥]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا" دَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:" بَلْ مِلَّةَ" أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ: بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ، فَلِهَذَا نُصِبَ الْمِلَّةُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بَلْ نَهْتَدِي بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ صَارَ مَنْصُوبًا. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ:" بَلْ مِلَّةُ" بِالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ بَلِ الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم. و" حَنِيفاً" مَائِلًا عَنِ الْأَدْيَانِ الْمَكْرُوهَةِ إِلَى الْحَقِّ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. أَيْ بَلْ نَتَّبِعُ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَعْنِي، وَالْحَالُ خَطَأٌ، لَا يَجُوزُ جَاءَنِي غُلَامُ هِنْدٍ مُسْرِعَةً. وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيمُ حنيفا لأنه

(١). راجع ج ٧ ص ١٥٧.


الصفحة التالية
Icon