قُلْتُ: لَعَلَّ قَائِلًا يَقُولُ: قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ صِفَةِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِقَوْلِهِ:" فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ «١» "، وَعَنْ جُمْلَةٍ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ بِقَوْلِهِ:" إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا
«٢» " فَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَا مَوْضِعِ إِيمَانِهِمْ، وَلَا يلقيهم في ذنب يؤول إِلَى عَدَمِ الْقَبُولِ «٣»، بَلْ تُزِيلُهُ التَّوْبَةُ وَتَمْحُوهُ الْأَوْبَةُ. وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ آدَمَ عُقُوبَةً لِمَا تَنَاوَلَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ «٤» " بَيَانُهُ. وَأَمَّا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ «٥». ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:" لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِيمَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي تَسَلُّطِهِ تَفْرِيجُ كُرْبَةٍ وَإِزَالَةِ غُمَّةٍ، كَمَا فُعِلَ بِبِلَالٍ، إِذْ أَتَاهُ يهديه كما يهدى الصَّبِيُّ حَتَّى نَامَ، وَنَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَفَزِعُوا وَقَالُوا: مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلَاتِنَا؟ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ" فَفُرِّجَ عَنْهُمْ. (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) أَيِ الضَّالِّينَ الْمُشْرِكِينَ. أَيْ سُلْطَانُهُ عَلَى هَؤُلَاءِ، دَلِيلُهُ" إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ «٦» ". الثَّانِيَةُ- وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْقَلِيلِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا. أَوْ يَقُولَ: عَشَرَةٌ إِلَّا تسعة. وقال أحمد ابن حَنْبَلٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى إِلَّا قَدْرَ النِّصْفِ فَمَا دُونَهُ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ. وَدَلِيلُنَا هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ فِيهَا اسْتِثْنَاءُ" الْغاوِينَ" مِنَ الْعِبَادِ وَالْعِبَادَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْأَقَلِّ مِنَ الْجُمْلَةِ وَاسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ مِنَ الْجُمْلَةِ جَائِزٌ.
[سورة الحجر (١٥): الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)

(١). راجع ج ١ ص ١١ وص ٣٢١ وج ٤ ص ٢٤.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٤٣.
(٣). في ى: العفو
(٤). راجع ج ١ ص ١١ وص ٣٢١ وج ٤ ص ٢٤.
(٥). راجع ج ٤ ص ٢٤٣. [..... ]
(٦). راجع ص ١٧٥ من هذا الجزء.


الصفحة التالية
Icon