أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة والتي تليها نزلتا بمكة، ومعانيها تعين على ذلك، وقد يسأل سائل: لماذا كانت في سورة كلها مدنية، وهي من أواخر السور نزولا؛ نقول إن اللَّه سبحانه وتعالى كان ينزل القرآن الكريم على نبيه تنزيلا وكان عند نزول الآية يكتبها من في حضرته ممن يقرأون ويكتبون وينشرها بين المؤمنين آمرا بوضعها في موضعها من السورة الذي قرر النبي - ﷺ - وضعها فيها، والأمر لله تعالى يأمر نبيه بأن يضعها حيث يأمره جبريل، فالترتيب توقيفي، وليس للنبي - ﷺ -.
وقد اختار الله أن يكون وضعها في آخر سورة براءة؛ ولذلك حكمة نتلمسها، وقد تلمسناها فقلنا إنها جاءت في ختام سورة كلها في النفاق والمنافقين؛ ليتنبه القارئ للقرآن الكريم إلى أن القتال وكشف النفاق رحمة للعالمين.
قال تعالى:
(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسئولٌ منْ أَنفُسِكُمْ) هذه منَّة من اللَّه تعالى مَنَّ بها على العرب إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، ولقد أكد ذلك بـ (اللام) وبـ (قد)، قال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفسِكمْ) وهنا قراءتان إحداهما بضم الفاء والثانية بفتحها (١) والمعنى على الأول منكم لَا من غيركم، والمعنى على الثانية (من أنفَسكم) أي من أعلاكم نسبًا. وبمجموع الآيتين، وكل آية منهما قرآن بذاتها، أنه بعث فيكم رسولا منكم، لَا من غيركم، وهذه منَّة، ومن أعلاكم نسبا وشرفا وهذا شرف للرسالة، والنبيون يبعثون من أعلى الأوساط.
ومهما تكن القراءة التي يقرأ بها، فإن محمدا - ﷺ - دعوة إبراهيم إذ قال اللَّه تعالى عنه في دعائه لربه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو...)، وقد مَنَّ اللَّه تعالى على المؤمنين إذ قال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ...).
________
(١) (من أنْفَسِكم) بفتح الفاء، صحيحة المعنى، غير أنها ليست في العشر المتواترة.