وذكر سبحانه السبب في نزوله مفرقا بقوله تعالى: (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) أي على تمهل وتطاول في المدة، فيحفظوه حفظا بدل أن يلقوا بكتابته على رقاع أو قطع من مواد أخرى كما في الشجر، وهكذا.
و (مُكْثٍ) تتضمن امتداد الزمن امتدادا يمكثون فيه من قراءته وحفظه، وتفهمه، وتعريف غاياته ومراميه، وكان الصحابة كلما جمعوا عدة آيات حفظا وترتيلا، سألوا النبي - ﷺ - عن جملة معانيها إن كانوا لم يفهموها.
ثم قال تعالى: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)، أي نزلناه متدرجا منجما، وآكد نزَّل بالمصدر ليعلموا أنه تنزل بمعانيه وألفاظه، ولعل في هذا ردا على الذين افتروا الكذب، وقالوا إنه نزل بمعناه، والعبارة كيف نزل، ولقد كذبوا في ذلك وأعظموا الفرية، وإن ذلك من افتراء الكفار عليه، ووهن إيمان بعض من ينتسبون للإسلام.
هذا ما ساقه اللَّه تعالى لبيان مقام القرآن وسط آيات اللَّه تعالى، وأنه أعظم آيات اللَّه تعالى في الدلالة على رسالة الرسول، وأدومها، وأتقاها، وبين أن الآيات الحسية قد جاءت في أحوال كثيرة، ولم تنتج إيمانا بل تبعها من الطغاة عتوا واستكبارا، وتوالي المظالم، وبعد هذا البيان قال اللَّه تعالى:
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧)
أمر اللَّه تعالى أن يبين لهم أن إيمانهم وعدم إيمانهم عند اللَّه على سواء، فما يضير القرآن أن يؤمن به الجهال، ولا يرفعه فوق منزلته التي وضعه اللَّه فيها ألا يؤمنون، ويقول الزمخشري في هذا: " أمر النبي - ﷺ - بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن، وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وهم العلماء الذين قرءوا الكتاب، وعلموا ما الوحي وما الشرائع وقد آمنوا به وصدقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم فإذا تلي عليهم خروا سجدا، وسبحوا اللَّه تعظيما لأمره، ولإنجاز ما


الصفحة التالية
Icon