لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وينفق لديهم وسوسته، إلا من عصم الله كالأنبياء وصلحاء هذه الأمة وهم المرادون بقوله:
(إلا قليلاً) قيل من كل ألف واحد، وفي معنى هذا الاستثناء قوله تعالى سبحانه (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ويؤيده ما ذكرناه قوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا إعتماداً على الظن.
(قال) الله تعالى (اذهب) ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء، وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية بينه وبين ما سوّلته نفسه، أمره بأوامر خمسة القصد بها التهديد والاستدراج لا التكليف، لأنها كلها معاص والله لا يأمر بها؛ والمعنى اذهب منظراً إلى وقت النفخة الأولى مع أن غرضه الإمهال والإنظار إلى النفخة الثانية، وغرضه بذلك طلب أن لا يموت أصلاً لأنه يعلم أنه لا موت بعد النفخة الثانية.
ثم عقب الذهاب بذكر ما جره سوء اختياره فقال (فمن تبعك) وأطاعك (منهم فإن جهنم جزاؤكم) أي إبليس ومن أطاعه، والخطاب للتغليب لأنه تقدم غائب ومخاطب في قوله (فمن تبعك منهم) فغلب المخاطب أو يكون الخطاب مراداً به من خاصة ويكون ذلك على سبيل الالتفات (جزاء موفوراً) أي وافراً مكملاً، يقال وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً فهو وافر فهو مصدر.
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال:
(واستفزز) أي استزعج واستعجل واستزل واستخف (من استطعت) إن تستفزه (منهم) أي من بني آدم، يقال أفزه واستفزه أي أزعجه واستخفه والمعنى استخفهم (بصوتك) داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل هو الوسوسة والغناء واللهو واللعب والمزامير (وأجلب) قال الفراء وأبو عبيدة: من الجلبة والصياح أي صح (عليهم)


الصفحة التالية
Icon