النفث فى الرّوع
والنفث لغة: قذف الريق القليل، وهو أقل من التفل، كما ذكر الراغب فى مفرداته، ويرى الإمام البغوى أن النفث شبيه بالنفخ، والروع: الخلد والنفس، والمعنى هنا أن ملك الوحى- وهو الروح الأمين، أو الروح القدس- يلقى المعنى من غير أن يراه، ولنتأمل معنى من هذه المعانى التى جاءت عن مثل هذا الطريق، وهذه المرتبة.
قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث فى روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته». وهذا حديث صحيح بشواهده، أخرجه أبو نعيم فى الحلية من حديث أبى أمامة، وفى سنده عفير بن معدان وهو ضعيف وباقى رجاله ثقات، وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد، ونسبه للطبرانى فى الكبير وأعله بعفير بن معدان، لكن له شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم، وآخر من حديث جابر عند ابن ماجة وابن حبان والحاكم كذلك، وأبى نعيم فى الحلية، وله شاهد ثالث من حديث حذيفة عند البزار. فيصح الحديث بها «١».
وهذا المعنى الذى ألقى فى روع النبى صلّى الله عليه وسلم من المعانى العظيمة التى توجه الإنسان وترشده فى أخطر القضايا التى قد تزعجه وتقلقه، والتى تقوم الصراعات الدموية حولها نتيجة الجهل بحقيقتها. إنها قضية الرزق وطلبه، فجبريل عليه السّلام يلقى فى قلب النبى صلّى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة، فالرزق مقسم ولا بدّ أن تصل إلى كل نفس قسمتها، ولن تموت حتى توفى مالها من هذه القسمة، فأما قسمة الرزق فقد جاء ذكرها صريحا فى قول الله تعالى ردا على من زعم لنفسه جدارة التنزيل عليه- أو على عظيم آخر- على مقياس العظمة الذى تخيلوه فى المال الكثير والجاه العريض، حتى يخيل إليهم أن الإنسان لا يكون أهلا لأى مكرمة إلا على أساس حجم ما يملك من هذه، ولو كانت هذه المكرمة وحيا من الله، قال تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا