سورة «المدثر»
ومع روضة أخرى من رياض الذكر الحكيم مع سورة «المدثر»، والتى نزلت بعد سورة «المزمل» وهى مكية فى قول الجميع «١»، وهى ست وخمسون آية، والمدثر هو:
الذى قد تدثر بثيابه، أى تغشى بها ونام، وجاء فى سبب نزولها ما جاء فى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وكان يحدث، فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم- وهو يحدث عن فترة الوحى: «فبينما أنا أمشى سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء جالسا على كرسى بين السماء والأرض، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«فجئثت منه فرقا- أى ذعرت وخفت «٢»
- فرجعت فقلت: زملونى زملونى، فدثرونى فأنزل الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)».
ثم تتابع الوحى والخطاب «٣» فى هذه السورة الكريمة- كما كان فى السورة السابقة سورة المزمل فيه ملاطفة، إذ ناداه الكريم سبحانه بحاله، وعبر عنه بصفته ولم يقل:
يا محمد، ويا فلان؛ ليستشعر اللين ومثل ذلك فى الأساليب قول النبى صلّى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه إذ نام فى المسجد: «قم أبا تراب»، وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها، فسقط رداؤه، وأصابه ترابه، أخرجه مسلم. وهذه الملاطفة كان لها وقعها الكريم، وهى عنصر من عناصر التكوين النفسى لمواجهة التحديات الخطيرة فى تلك الفترة فالمشركون يكيدون كيدا، ويقفون فى طريق الدعوة، ويحاولون تشويه شخصية النبى صلّى الله عليه وسلم لدى من لا يعرفه من القادمين إلى
مكة، ويتعرضون بالأذى للنبى صلّى الله عليه وسلم ولمن آمن معه فكان- كما سبق أن ذكرنا مع سورة المزمل- البناء والتدعيم من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
ويستمر هذا العطاء الكريم فى هذه السورة الكريمة ففي المزمل قال الله لرسوله:
«قم»، وفى المدثر قال له أيضا: «قم»، ولكن القيام السابق فى المزمل قيام الليل لبناء النفس وتقويتها فى حسن وقوفها بين يدى الله فى صلاة خاشعة، وفى المدثر قيام بهذه النفسية القوية لمواجهة الناس بالإنذار مع استمرار التدعيم والتقوية لاستمرار عناد

(١) القرطبى ١٩/ ٥٩.
(٢) القاموس المحيط ١/ ١٦٩.
(٣) القرطبى ١٩/ ٦٠.


الصفحة التالية
Icon