سورة «مريم»
نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على مكيتها ما ذكره أبو داود «١»: لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: «إن ثأركم بأرض
الحبشة، فأهدوا إلى النجاشى، وابعثوا إليه رجلين من ذوى رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو ابن أمية الضّمرىّ، وكتب معه إلى النجاشى فقدم على النجاشى، فقرأ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم: كهيعص (١) وقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢). وقرأ إلى قوله تعالى:
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣). وفى السيرة «٢» فقال النجاشىّ: هل معك مما جاء به عبد الله شىء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشى: اقرأه علىّ. قال: فقرأ: كهيعص (١) فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا «٢». فهذا يدل على نزول سورة «مريم» فى مكة وحفظ الصحابة لها قبل ذهابهم إلى الحبشة وهجرتهم إليها فكانت قراءة جعفر لها على النجاشى والقسيسين.
وقد قيل: إن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨). آية مدنية، ذكر ذلك مقاتل «٤» وقيل كذلك: إن قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) آية مدنية. ولكن ليس مع القولين دليل قوىّ مما جعل القرطبى يحكى أنها مكية بإجماع دون أن يستثنى وكذلك الشوكانى فذكر ما أخرجه النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة كهيعص (١) وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة «٥».
(٢) القرطبى ١١/ ٧٣.
(٤) قلائد المرجان فى بيان الناسخ والمنسوخ فى القرآن: مرعى بن يوسف الكرمى ١٣٧.
(٥) فتح القدير ٣/ ٣٢٠.