سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ، مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣).قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ).
هذه الآية وما أشبهها من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ)، وفي كل ما ذكر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دلالة واضحة أن الإيمان ذو حد في نفسه، وأنه ليس كما قالت الحشوية وأصحاب الحديث: إن الطاعات كلها إيمان، ووجه ذلك أن كلا في نفسه قد فهم من هذه الآية أنه محتمل لهذا الخطاب وأنه له؛ فثبت أنه ذو حد في نفسه وهو التصديق بالقلب، وغيره من الطاعات شرائعه، واللَّه أعلم.
وفيما ذكر من قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وما أشبهها من الآي دلالة على أن الإنسان ما يشاهد، وليس كما قال النظام: إن الإنسان إنما هو جسم آخر سوى هذا الإنسان، ولا كما قال الناشئ: إن الإنسان إنما هو جوهر بسيط في هذا الإنسان.
ووجه ذاك: أنه ليس كل أحد يعلم كونه جوهرًا بسيطًا أو جسمًا آخر فيه لطيفًا، وقد فهم الكل من هذه الآيات أنه محتمل للخطاب بها؛ فثبت بما وصفنا أن الإنسان هو ما نشاهده واللَّه أعلم.
وفيه دلالة أن ما يفهم من هذه الآيات من عموم أو خصوص ليس يفهم بظاهر الخطاب؛ ولكن بما توجبه الحكمة، فإن أوجبت عمومها أجروها على عمومها، وإن أوجبت تخصيصها أجروها على ذلك، والذي يدل على ما وصفنا أنه قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)، وهذا مخرجه في الظاهر على العموم، ولكنه لما قال: (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)، معلوم أن الذي كان يلقي بالمودة خاص لا كل المؤمنين، فكان يجب أن يكون مجراها على الخصوص؛ لما بين في سياق هذه الآية، ولكن الحكمة توجب تعميم هذه الآية؛ لأنه لو قال لواحد: (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) كان هذا الخطاب لازمًا للكل بما توجبه الحكمة، أنه إذا علم من أحد عداوته ألا يتخذه وليا،