المطيع، وربما عكس الأمر، وقد يوسِّع على المطيع والعاصي تارةً، ويضيِّق عليهما أخرى، يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها، وربما خفي علينا أمرها، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا.. لاختص به المطيع، ولو كان التضييق دليل الإهانة.. لاختص به العاصي، ومن ثمَّ جاء قوله - ﷺ -: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما أعطي الكافر منها شيئًا"؛ أي: فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجًا له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير، توفيرًا لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه، ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه، ولا رضي عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين، أو المغالطة الواضحة.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم أهل الغفلة والخذلان، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ حكمة البسط والقدر، فيزعمون أنَّ مدار البسط هو الشرف والكرامة، ومدار القدر هو الذل والهوان، ولا يدرون أن الأول كثيرًا ما يكون بطريق الاستدراك، والثاني بطريق الابتلاء، ورفع الدرجات حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس، والتضييق منه على آخرين، ومن ثم قال ابن الراوندي:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أعْيَتْ مَذَاهِبُهُ | وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوْقَا |
هَذَا الَّذِيْ تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائرَةً | وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيْرَ زِنْدِيْقَا |