الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى، كما تروجه لدى المؤمنين في الدنيا. ونحو الآية قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)﴾.
١٩ - ثم بيّن السبب الذي أوقعهم في الردى، وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: غلب على عقولهم ﴿الشَّيْطَانُ﴾ بوسوسته وتزيينه ﴿فـ﴾ اتبعوه حتى ﴿أَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ تعالى، فلم يُمكنهم من ذِكر الله واتباع أوامره وترك نواهيه بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم في دركات جهنم، وبئس المصير.
وقرأ الجمهور: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾؛ أي: غلب عليهم، واستعلى واستولى. قال المبرد: استحوذ على الشيء حواه، وأحاط به؛ أي: أحاط بهم من كل جهة، وغلب على نفوسهم، واستولى عليها. وقيل: قوي عليهم. وقيل: جمعهم، يقال: أحوذ الشيء؛ أي: جمعه، وضم بعضه إلى بعض. والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا جمعهم فقد قوي عليهم وغلبهم واستعلى عليم واستولى وأحاط بهم. وتقدمت هذه المادة في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ في سورة النساء، وأنها من حاذ الحمار العانة إذا ساقها وجمعها غالبًا لها، ومنه كان عمر أحوذيًّا نسيج وحده كما سيأتي، وقرأ عمر (١): ﴿استحاذ﴾. أخرجه على الأصل والقياس. واستحوذ: شاذ في القياس، فصيح في الاستعمال. ﴿فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ فهم لا يذكرونه لا بقلوبهم ولا بألسنتهم. وقيل: ﴿فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾؛ أي: أوامره والعمل بطاعته، فلم يذكروا شيئًا من ذلك. وقيل: زواجره في النهي عن معاصيه. و ﴿ذِكْرَ اللَّهِ﴾ مصدر مضاف إلى المفعول؛ أي: كان سببًا بالاستيلاء لنسيانه تعالى، فلم يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم.
﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون الموصوفون بما ذكر من القبائح ﴿حِزْبُ الشَّيْطَانِ﴾؛ أي: جنود الشيطان وأتباعه الساعون فيما أمرهم به. والحزب: الفريق الذي يجمعه مذهب واحد، كما سيأتي. ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾؛ أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه؛ حيث فوتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم.

(١) البحر المحيط.


الصفحة التالية
Icon