وذهب الشافعي فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِقَوْلِهِ عليه السلام: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبٍ نفس»، وقال مالك: الأمر عندنا أنه لَيْسَ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ أَنْ يُكَاتِبَهُ إِذَا سَأَلَهُ ذَلِكَ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ أكره أحداً على أن يكاتب عبده، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة، وقوله تعالى: ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَانَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صِدْقًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَالًا، وَقَالَ بعضهم: حيلة وكسباً، وقوله تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ اخْتَلَفَ المفسرون فيه، فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، وقال آخرون: بل المراد هُوَ النَّصِيبُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أموال الزكاة (وهذا قول الحسن ومقاتل وعبد الرحمن بن زيد ابن أسلم واختاره ابن جرير)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يعينوا في الرقاب، وقد تقدم الحديث: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ» فَذَكَرَ مِنْهُمُ المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر. وعن ابن عباس في الآية ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ قَالَ: ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وقال محمد بن سيرين في الآية: كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يَدَعَ الرَّجُلُ لِمُكَاتَبِهِ طَائِفَةً من مكاتبته، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ الْآيَةَ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَمَةٌ أَرْسَلَهَا تَزْنِي وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً يَأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَهَى الله المؤمنين عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الكريمة فِي شَأْنِ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول) فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَكَانَ يُكْرِهْهُنَّ عَلَى البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم.
(ذِكْرُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ)
قَالَ الْحَافِظُ البزار في مسنده: كَانَتْ جَارِيَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سلول يقال لها (معاذة) يكرهها على الزنا فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ نَزَلَتْ: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ الآية، وقال الأعمش: نَزَلَتْ فِي أَمَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابن سَلُولٍ يُقَالُ لَهَا (مُسَيْكَةُ) كَانَ يُكْرِهُهَا عَلَى الْفُجُورِ وَكَانَتْ لَا بَأْسَ بِهَا فَتَأْبَى، فَأَنْزَلَ الله هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ﴾ الآية، وروى النسائي عن جابر نحوه. وعن الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا مَنْ قُرَيْشٍ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ عِنْدَ (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) أَسِيرًا وَكَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا (مُعَاذَةُ) وَكَانَ الْقُرَشِيُّ الْأَسِيرُ يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً، وَكَانَتْ تَمْتَنِعُ مِنْهُ لِإِسْلَامِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يُكْرِهُهَا على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فَيَطْلُبَ فِدَاءَ وَلَدِهِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾، وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُنْزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبي بْنِ سَلُولٍ) رأس الْمُنَافِقِينَ، وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ تُدْعَى (مُعَاذَةُ) وَكَانَ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ لِيُوَاقِعَهَا إِرَادَةَ الثَّوَابِ مِنْهُ وَالْكَرَامَةِ لَهُ، فَأَقْبَلَتِ الْجَارِيَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَكَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُ بِقَبْضِهَا، فَصَاحَ عَبْدُ الله بن أبي من يعذرنا مِنْ مُحَمَّدٍ يَغْلِبُنَا عَلَى مَمْلُوكَتِنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم هذا، وقول تعالى: ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ، وقوله تعالى: ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ مِنْ خَرَاجِهِنَّ وَمُهُورِهِنَّ وَأَوْلَادِهِنَّ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ»، وقوله تعالى: {وَمَنْ يكرههنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ